هناك فنون وثقافات أخري..الغرب المغرور نوفمبر 2006

محمد المهدى

نشرت مجلة معرفة الفنون (conn aissance des arts) الفرنسية قبيل انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 1981 لقاءات مع الأربعة الكبار الذين دارت بينهم المعركة الحامية..

المحـتــوي

نشرت مجلة معرفة الفنون (conn aissance des arts) الفرنسية قبيل انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 1981 لقاءات مع الأربعة الكبار الذين دارت بينهم المعركة الحامية.. انتهت التصفية إلي اثنين منهم، وانتهت تصفية التصفية إلي ميتران كما نعلم.. الأربعة الكبار هم: ديستان، وميتران، وشيراك، ومارشيه.. ونوع اللقاء كان لطرح آرائهم الفنية وكيفية تذوقهم لفنون الحضارات، والملاحظة الأولي حول هذه اللقاءات هي حديث رجل السياسة الفرنسي يمينيا كان أو يساريا عن الفن بتعمق واهتمام وجدية وفهم.. يدعو للإعجاب بقوم، والأسف علي حال آخرين.. والملاحظة الثانية هي إجماع الأربعة علي إدراك قيمة فنون الحضارات الأخري خارج النطاق الغربي أو النموذج الإغريقي. وإن لم يمنع ذلك بعض اللمحات التمييزية عند البعض.. قد ترتفع لتذكر بالريادة الفنية الفرنسية.. أو قد تهبط لتلمح بضعف قيمة بعض فنون الآخرين. في هذا المجال لا يمكن أن ننسي المفكر الفرنسي الذي قيل إنه نزل أيضًا معركة الانتخابات. لا يمكن أن ننسي «روجيه جارودي» وما طرحه حول فنون الآخرين في كتابه الشهير (من أجل حوار بين الحضارات) (pour un dialogue, des civilisations) تعرفت علي هذا المفكر الكبير عن قرب عند زيارته للكويت عام 1985. روح إنسانية بسيطة تألفك من أول جملة ترحيب تلقيها، وتألفها بعمق من أول رد يكشف جوانبها السمحة دون وجل أو تصور لحواجز. ولم يكن ذلك بغريب فجارودي هو المبادرة، المعروف بتأليف هذا الكتاب في سبعينيات القرن الماضي، وقبل اعتناقه الإسلام. كان يردد وعن يقين الدارس الفاحص المقارن.. «الغرب حدث». لم يكن يقصد في انفعال الغائية فكرية لحضارة الغرب، ولكن يقصد إثارة تساؤل مبطن بعيد الغور بالعمق الفلسفي، بعيد النظرة بالبعد التاريخي. ماذا سيبقي من الغرب؟ تعرفت أيضًا في هذه الفترة علي صديق المفكر جارودي المحامي الدكتور فرنسيس لامان Francis Lamand (كان آنذاك المستشار الثقافي للسفارة الفرنسية) وربطتني به علاقة صداقة وثيقة وأهداني كتابه الذي يعد أيضًا أول مبادرة لمعرفة الإسلام والمسلمين في فرنسا (الإسلام في فرنسا) (Lصislam en France) صدر عام 1986 بعقلية واعية موضوعية، وبعمق دارس جاد، وقلب محب. بعد عودته لفرنسا تولي الدفاع عن جارودي أمام القضاء بعد الحملة الصهيونية الشرسة لتشكيكه في المحرقة اليهودية. عقدة ماراثون تتتابع بل تتسارع الأحداث في لهاث كجزء من خلل المنظومة الغربية لتثبت بادئ ذي بدء وجهة نظر جارودي، وأن ما تبينه وقرره منذ أكثر من ثلاثة عقود يتطامن في جنون ككرة الثلج مخترقًا متغافلاً عن الخصوصية الدينية، أو القومية أو العرقية، أو الثقافية، وبغير بديل يطمئن ويجعلنا نقرر أن الغرب ليس بحدث. يري المؤلف حوار الحضارات بناء متكاملاً متداخلاً، ولا يراه حديثًا بين كتل منفصلة متجاذبة أو متنافرة. وأكتفي هنا بالحديث عن رافد من روافد الحضارة. أو نستمع إلي حوار الفنون من بين أحاديث الحضارات كما قدمه جارودي. يعرف هذا الرافد عند أهل التخصص بالتفسير الجمالي للتاريخ. اعتمد في بدء ظهوره علي تمييز كل ما هو إغريقي أو روماني، وانتهي في قمته إلي تتويج كل ما هو أوروبي أو غربي. يقول «هيجل» إن تطور الفن هو حركة تحقيق الذات في سير التاريخ أو محاولة لتبين الفكر أو العقل. بدأت في الفنون القديمة أي فنون الشرق القديم بالمرحلة الرمزية، مرحلة تتغلب فيها المادة علي الفكر وبالتالي يقتصر الإبداع علي فنون العمارة. وفي مرحلة الوسط أي مرحلة الفن الكلاسيكي. تتعادل المادة مع الفكر يتم بينهما امتزاج وتواؤم. هذه المرحلة تمثلها الفنون النحتية اليونانية والرومانية. وتأتي المرحلة الثالثة الرومانتيكية. يعود فيها الإخلال بالتوازن بين المادة والفكر، ولكن هذه المرة لصالح الفكر. الفكر يعلو شأنًا علي المادة، وتصبح المادة عديمة القيمة إلي جوار ما يقدمه الفكر.. مرحلة الارتقاء العظمي. مرحلة الذروة، ولا يمثلها في رأيه سوي الإبداع الأوروبي. وأفضل ما أبدعه فيها كان فن التصوير. خرجت من نظرية هيجل عدة أفرع فكرية. كانت جميعها تعتز وتميز كل ما هو أوروبي، وتركز علي كل ما هو إغريقي. يعود الفضل في اكتشاف أبعاده لعصر النهضة الأوروبية. أي القرن الخامس عشر. لم يأخذ الإنصاف درجة جعل الحضارة الغربية مركز الدائرة أو منطقة الجذب، تجمع ميزات الحضارات الأخري، لم يأخذ الإنصاف درجة جعل الحضارات الأخري درجات في سلم التدرج تقيم بجهدها لبناته لتصل إلي قمة الحضارة الغربية، لم يأخذ الإنصاف درجة جعل حضارة الغرب منسوجة بخيوط ولو خفية من صنع الحضارات الأخري. الحضارة الغربية في رأي هذه الجماعة الشديدة العنصرية متميزة، منفردة بذاتها ولذاتها. لم تأخذ لتكاملها وكمالها من أحد ولا تعطي لقصور الآخرين عن إدراكها لأحد. وحينما بدأ الغرب ينظم عقده الاقتصادي من ثروات العالم تأكد له الخبل بذاته، ولكن كانت ذروة العظمة التي وصل إليها في تصوره، هي أيضًا مصدر كشف البلاء الذي أصيب به. تبين من أعلي أن السفح مليء بثروات، إنها ليست مجرد ثروات، إنها تراث يعود لأبعد وأبعد من ذاته المتعجرفة، تراث يعيش في السفح في تواضع، تراث لا يعرف قيمة نفسه لأنه ببساطة لا يجعلها بطريقة الأوروبي مصدره الأول والأخير في المعرفة والقياس. بدأ الغرب يعيش مأساة الدكتور (فاوست)، العالم الذي نقب في العلوم والفنون، الذي شرق وغرب في المراجع بحثًا عن الحقيقة.. ولكن دون نتيجة. عقد صفقة مع الشيطان وخسر الرهان وخسر نفسه. عقدة (فاوست) في كتاب «روجيه جارودي» هي العمود الفقري الذي اكتسي بالمأساة. عقدة الإنسان المتفرد المعتز بهذه الفردية، بدأت بمقولة (بروتا غوراس).. إن الإنسان مقياس الأشياء كلها. وانتهت إلي مقولة (ديكارت).. أنا أفكر إذن أنا موجود. يقول جارودي في كتابه (إن فاوست هو الرمز المأساوي لثقافتنا، ومنذ أواخر القرن ال 16 حدد كروستوفر مارلو في التاريخ المفجع للدكتور فاوست شعار الحضارة الجديدة.. برأسك القوي يا «فاوست» كن إلهًا. سيد العناصر كافة وربها. هذا الشاعر سبق بنصف قرن وعد ديكارت بعلم يجعلنا سادة الطبيعة

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions