حدث في مارس 1944 الميلاد والموت.. والكاتب الذي اختفي
مارس 2004
أنطوان دي سانت اكزبيري Antoine, De, Saint-Exupery 1900/1944 أديب فرنسي عمل طيارًا وربطه عمله بالأرض حينما كان يراها من طائرته مجردة. وبالناس حينما ابتعد
المحـتــوي
أنطوان دي سانت اكزبيري Antoine, De, Saint-Exupery 1900/1944 أديب فرنسي عمل طيارًا وربطه عمله بالأرض حينما كان يراها من طائرته مجردة. وبالناس حينما ابتعد عنهم فازداد شوقا وارتباطًا بهم. وبالصحراء لأنها هيأت له السكون والصمت ومواجهة الموت في سلام. يتغذي بالشجاعة من وحدة الكون والإيمان. تعرض للموت عدة مرات، وكان في كل مرة لا يفكر إلا في إعادة الكرة حينما تكتب له النجاة. ولكن في مارس عام 1944 لم يعاود الكرة لأنه لم تكتب له النجاة من رحلة استكشافية فوق أرض الجزائر. وذكر منذ فترة أنه عثر علي بقايا طائرة علي ساحل فرنسا المتوسطي، يعتقد أنها كانت للأديب أكزبيري.
من أعماله (بريد الجنوب) 1929، (طيران الليل) 1931، (أرض البشر) 1939 وكانت آخر أعماله التي نشرت من بعد اختفائه (القلعة) 1948، انفرد أكزبيري بكتابة قصة رسم صورها بنفسه يعزي فيه الصغار، ويلوم فيها الكبار محاولا تنمية قدرات ومدارك وحس الكبار حتي يصبح في مقدورهم فهم عالم الصغار. اسم القصة (الأمير الصغير) نشرت عام 1943 وأعتقد أنها جديرة بأن نقدمها للصغار في زمن إفساد الصغار، وللكبار في ذكري مرور 60 عاما علي اختفاء صاحبها.
كان بيكاسو يقول إنه يتمني أن يرسم كما يرسم الأطفال، بمعني أن يرسم بذهنية وتلقائية الأطفال، وهناك كما يقول (اكزبيري) عالمان. عالم الصغار وعالم الكبار. وإذا أمكن للبشرية أن تدون تاريخ عالم الكبار فإنها رغم كل تقدم لا تستطيع أن تدون تاريخ عالم الصغار، فمشكلة البدء تشابه مشكلة النهاية من حيث الغموض. ورغم أن الميلاد أقل غموضا لأنه يسير مع النمو إلي التفتح والوضوح بمفهوم الكبار، ولكن لا ندري كيف يحسه أو يصفه الذين يولدون. ولا يمكن بالطبع معرفة ذلك، فكما أن لحظات الموت غير ممكنة التدوين، فإن الميلاد والطفولة لا يمكن تدوينها في حينها لنقص طاقات الإدراك، وأدوات التعبير عند الصغار بمفهوم الكبار.
ونعرف عدة مذاهب فلسفية للتاريخ اعتبرت في غالبيتها التاريخ، والتأريخ علما، ولكنا نجد (برتراند راسل) يعتبر التاريخ والتأريخ فنا. فعلي المؤرخ في رأيه أن يقرأ، ويقرأ في المرحلة المراد الكتابة عنها. ثم يطرح جانبا مراجعه ويبدأ في الصياغة بعد تمثل المرحلة. وهذا ما انتهجه تقريبا عدة أدباء الآن منهم (أمين معلوف) و(رضوي عاشور). وتعتبر هذه الطريقة هي أفضل ما وصلنا إليه للآن لتمثل حالة الطفولة في التفكير والتعبير.
لحظة الموت
عاني (اكزبيري) من المشكلتين معا حينما أراد كتابة قصته الفريدة والوحيدة للأطفال والكبار معا... (الأمير الصغير)
المشكلة الأولي هي التفكير وفيها الداء برمزية الحوار الطفولي بما يجسم درامية الخيوط الخفية بين الصغار والكبار. والثانية وفيها الدواء وهي التعبير بالرسم المصاحب لكل صفحة من صفحات القصة بما يعقد عروة جميلة بين الأمير الصغير والطيار الضائع في الصحراء.
فإذا كان الأول يمثل لحظة البدء بكل معجزاتها، ونقائها، وبساطتها، ووصولها إلي الأعماق والحقيقة في أقل الكلمات، فإن الثاني يمثل لحظة النهاية أو الموت الذي يواجهه طيار هبط اضطراريا في صحراء خالية، بذهنية الكبار... من ذكريات معقدة، واضطراب، وخوف، وتتبع للألم الجسدي حينما تأتي اللحظة الحاسمة.. لحظة الموت.
كان (اكزبيري) بارعا ولو أنها كلمة لا تناسب المقام حينما صور لنا هذه اللحظة في قصة أخري أخذ عليها الجائزة الكبري للأكاديمية الفرنسية هي قصة (أرض البشر). تحكي واقعا عاشه الكاتب حينما اضطر إلي الهبوط مع زميله في صحراء عرف بعد نجاته أنها صحراء ليبيا.. «ولم أعد أكتشف أي شيء في نفسي، اللهم إلا جفافا عظيما في القلب. أنا علي وشك الموت ولكن لا أعرف اليأس، وحتي الألم لا أعرفه. وإني لآسف علي ذلك فإني أعتقد أن الألم لو أتي لكان حلوًا كالماء، فإن المرء يرثي عندئذ لنفسه، ويشكو إلي نفسه كما لو كان يشكو لصديق عزيز، ولكن لم يعد لي في الدنيا صديق».
نلاحظ في العبارة قدرا من التسليم ينمو في عبارة أخري صاغها في لحظة أقرب للموت من الأخري فيقول «وسرت مرة أخري أمام حقيقة لا أفهمها. اعتقدت أني هالك وأني وصلت إلي أقصي درجات اليأس، ولكن ما كدت أستسلم لمصيري حتي عرفت السلام. ويبدو أن الإنسان يكتشف نفسه في تلك اللحظات، ويصبح صديقا لنفسه، ولا يعود هناك شيء يستطيع التغلب علي ذلك الشعور بالكمال الذي يرضي فينا حاجة ضرورية لم نكن نشعر بها من قبل».
تعرض (اكزبيري) للموت مرتين. الأولي في صحراء ليبيا، والثانية في جواتيمالا. وأعطته هذه اللحظات العصيبة تجارب أخري عديدة، وإحساسا صوفيا بدور الإنسان أمام الخطر. فلحظة الميلاد في نظره بسيطة، ولحظة الكبر بسيطة. بل ولحظة الموت بسيطة ما دامت تصل الإنسان بنسيج الأخوة البشرية، وبهذه الأرض التي يراها من طائرته بلا نقاب، وبلا شرايين الطرق الخادعة حين الاقتراب منها.
لحظة الموت في الصحراء لا تعني شيئا ما دامت تعطي للوجود كل معني وهي خير من موته في قطار الضواحي الذي يحمل الرجال كل صباح إلي أعمالهم بلا معني وكأنه يردد قول الشاعر الرقيق الراحل صلاح عبد الصبور:
أعطيك ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارة
لقاء يوم واحد من بكارة
لحظة البكارة والنقاء أين توجد؟
في نهاية قصة (أرض البشر) يلتقي الكاتب في قطار بعمال بولنديين يتم ترحيلهم من فرنسا إلي بولندا، ويري بين هذه الأكوام البشرية البائسة الغافلة، طفلا (كأنه فاكهة مذهبة ).. (هذا وجه موسيقي، هذا موزار الطفل، هذه هدية جميلة من الحياة. وإن الأمراء الصغار الذين كنا نسمع عنهم في الأساطير لا يختلفون عنه في شيء. فماذا يصبح هذا الطفل لو وجد الرعاية والتثقيف؟.. ما يعذبني هو موزار الصريع في كل فرد من هؤلاء الناس. وليس هناك إلا الأرواح لو هبت علي الصلصال لاستطاعت أن تخلق الإنسان».
كتب اكزبيري قصة (أرض البشر) عام 1939، وقصة (الأمير الصغير) عام 1943. اكتشف بها لحظة النقاء في لحظة البدء والطفولة.. لحظة تشابه في طاقتها وعفويتها كافة استهانة الإنسان بالموت نفسه، وكان طبيعيا أن يوجه الكاتب قصته للأطفال، فقد كتبها ورسمها لهم. وإن كان أمله وهدفه أيضا أن تمس