على الطـريقـة اليهـودية ..تجديد الخطاب الديني! يوليو 2009

ليلى إبراهيم أبو المجد

ترددت فى الآونة الأخيرة، فى كافة وسائل الإعلام العربي، سواء المرئى أو المسموع أو المقروء، الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، ولقد رأى البعض أنها ضرورة نظراً لربط الغرب بين الإرهاب وجمود الخطاب الدينى الإسلامي. لكن مع تزايد الهجوم المحموم على شخص النبى محمد (ص) وعلى صحابته (رض)، ومع تزايد حملات التشكيك فى السنة النبوية، يتبين أن الهدف من وراء الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى أبعد مما يذهب معظمنا.



المحـتــوي

ترددت فى الآونة الأخيرة، فى كافة وسائل الإعلام العربي، سواء المرئى أو المسموع أو المقروء، الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، ولقد رأى البعض أنها ضرورة نظراً لربط الغرب بين الإرهاب وجمود الخطاب الدينى الإسلامي. لكن مع تزايد الهجوم المحموم على شخص النبى محمد (ص) وعلى صحابته (رض)، ومع تزايد حملات التشكيك فى السنة النبوية، يتبين أن الهدف من وراء الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى أبعد مما يذهب معظمنا.
ويبدو لي، بحكم التخصص فى الشريعة اليهودية والفقه اليهودي، أن الهدف من وراء هذه الدعوة هو : أن نفعل بالكتاب والسنة ما فعله بنو إسرائيل بموسى عليه السلام وبشريعته، وهنا يتبادر السؤال: ماذا فعل بنو إسرائيل بشريعة موسى عليه السلام وبصاحبها؟
لقد دفن بنو إسرائيل موسى عليه السلام ودفنوا شريعته معه. فقد نظروا للتوراة وما فيها على أنها شريعة تناسب مجتمعا قبليا رعويا، ولا تصلح ولا تتناسب مع الحياة المدنية والمستجدات التى طرأت على حياتهم بعد استقرارهم فى أرض كنعان، (وهذا ما يروج الآن بالنسبة للشريعة الإسلامية والسنة النبوية). لكنهم لم يشعروا بالحاجة الماسة إلى تجديد الخطاب الدينى إلا عندما قام الملك نبوخذ نصر ملك بابل فى القرن الخامس (ق.م) بتهجير بنى إسرائيل إلى بابل، وهو ما يعرف فى التاريخ اليهودى بالسبى البابلي، فقد حدثت لهم هناك صدمة حضارية، إذ وجدوا أنفسهم فجأة فى مجتمع بلغ قمة التحضر سياسياً واقتصاديا واجتماعيا ودينياً، هذا من ناحية. ومن ناحية أخري، شعروا أن هذا التهجير عقاب من الرب لهم، لذلك راح علماء الدين يجددون شريعة موسى (ع) واتخذوا من تشريعات بلاد الرافدين نموذجاً وقدوة. وبدأت أولى لبنات الدين الجديد الذى أطلقوا عليه اسم الدين اليهودى (دت يهوديت) على أرض بابل، ووضعت تشريعات هذا الدين فى كتاب يسمى «المشنا»، ومن معانى هذا الاسم: الإعادة أو التكرار أو التثنية!
ويبدو أن فى اختيار هذا الاسم دلالة على أن دينهم الجديد الذى وضعوه هو تثنية لشريعة موسى (ع)، أى أنه بديل لها، وهناك بعض الأدلة على ذلك.
فقد ميز علماء الدين اليهودى فى كتابهم هذا بين شريعتين أو دينين: (دت موشيه) أى دين موسى (ع)، و (دت يهوديت) الديانة اليهودية، وفى حين حصروا «دين موسي» فى أحكام الطهارة والنجاسة وإخراج العشور والوفاء بالنذور، جعلوا الديانة اليهودية تشمل جميع أوجه الحياة والمعاملات وآداب السلوك.(1)
لم يكتف علماء الدين اليهودي، الذين وضعوا المشنا بهذا، بل لقد قسموا أنساب اليهود، وجعلوا نسب الكهنة يأتى على رأس تلك الأنساب العشرة التى وضعوها، ثم يليه نسب لاوي، أى أنهم جعلوا أنفسهم وهم من ينتسبون لهارون (ع) أعلى ممن ينتسب لموسى (ع)،(2) أى جعلوا أنفسهم وكتابهم فى الصدارة، ثم يليهم موسى وشريعته.
وعندما تأثر علماء اليهود بفكرة الخلاص عند البابليين والفرس، تصوروه خلاصاً مادياً وليس روحياً، كما فى الزرادشتية، وجعلوا المخلص مسيحاً أى ممسوحاً بالزيت المقدس، (إذ كانت عادة مسح الملوك والكهنة بالزيت المقدس شائعة بين شعوب الشرق الأدنى القديم)، ولم يتخيلوه من سبط لاوي، أى لم ينسبوه لموسى عليه السلام، ولكن تصوروه ملكاً من نسل داود وسليمان أى من سبط يهوذا، وتم تأويل بعض فقرات العهد القديم وتفسيرها على أنها تشير إلى المسيح المخلص منها (التكوين: 49/10)، (إشعياء: 11/1-9).
فعل علماء اليهودية الشيء نفسه عند تحديد مكان العبادة، فلم يتأسوا بموسى (ع) إذ كان الوحى يتنزل عليه فى «خيمة الاجتماع»، بل أرادوا أن تكون لهم دور عبادة مثل معابد بلاد الرافدين ومصر.(3) لذلك تأسوا بسليمان وبالمعبد الذى بناه للرب، على الرغم من أن بيت الرب الذى بناه سليمان كان نصف مساحة القصر الذى بناه لنفسه (الملوك الأول: 6/1 ، 7/1). ورغم أن سليمان قد بنى بزعمهم دوراً لعبادة الآلهة الوثنية التى كانت تعبدها زوجاته أيضاً، فبنى بيتاً لـ«كموش» وثن الموآبيين، ولـ«مولك» وثن بنى عمون، وكانت نساؤه الغريبات توقد وتذبح لآلهتهن (الملوك الأول: 11/7- 8).
ما هو النموذج الذى اقتدوا به عند وضع الشريعة اليهودية؟
لقد ذكرت فيما سبق، أن علماء اليهود اضطروا إلى التجديد أثناء فترة التهجير فى بابل فى القرن الخامس (ق.م)، للرد على أسئلة اليهود واستفساراتهم عن المستجدات التى طرأت على حياتهم واستفساراتهم عن المعتقدات الغريبة التى يؤمن بها سكان بلاد الرافدين، وأسوق مثلاً الملائكة.(4) فلم تتحدث كتب التوراة عن طبيعة الملائكة أو هيئتهم أو وظيفتهم، بينما صوّر سكان بلاد الرافدين على جدران معابدهم وقصورهم كائنات خرافية تحرس الشجرة المقدسة التى هى مزيج من نخلة ونبات مخروطي، وجعلوها تحف بالشجرة من اليمين ومن الشمال، وجعلوا لها رأس إنسان أو نسر، وجعلوها ذوات أجنحة ضخمة، فبدأ اليهود فى بابل يستفسرون عن الملائكة الوارد ذكرها بالعهد القديم، هل كانت على هذه الهيئة التى عليها الكائنات التى تحرس معابد بابل؟ وما طبيعتهم هل خلقت من نور أم من نار أم من طين؟ ومتى خلقت؟ أى فى أى يوم من أيام الخلق الستة خلقت الملائكة؟ وما وظيفتهم؟ وما علاقتهم ببعضهم البعض؟ وما علاقتهم بالبشر؟ وما علاقتهم بالرب أو بعرش الرب؟ ومن هم الملائكة المقربون؟ وهل للملائكة أسماء ولماذا؟ ومن هو الملك الذى زار إبراهيم (ع) وبشره بإسحق، ومن هو الملك الذى قبض روح موسى عليه السلام؟ وغيرها من الأسئلة التى كان على علماء الدين أن يجيبوا عنها، واضطروا فى إجاباتهم للاستعانة بما هو موجود ومصور فى بلاد الرافدين، لكى يستكملوا المعلومات الكثيرة التى سكت النص عنها أو لم يجدوا إجابة مقنعة لها فى نص التوراة.


وذكر التلمود وكتب التفاسير اليهودية (المدراشيم) أن علماء اليهود أخذوا أسماء الملائكة من البابليين، أما المعبد من حيث تصميمه وبنائه وطقوس الخدمة والطهارة والحج فلقد استكملوها من الكهنوت المصرى القديم وشغلت حيزاً كبيراً من كتابهم الدينى الذى وضعوه، أى كتاب «المشنا» الذى بدأت إرهاصاته فى القرن الخامس (ق.م) فى بابل، وتبلور فى ستة أجزاء بالقرن الثالث الميلادى فى فلسطين. فالمشنا عمل جماعى لم يقم به فرد، ولكنه جهد علماء كثر على مدى عدة قرون، ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل وجد علماء اليهود الذين جاءوا بعد ذلك، بين القرنين الرابع والسابع الميلاديين، أن هذا الكتاب صعب وغير مفهوم، فلقد ماتت لغته العبرية إضافة لكونه يعتمد الإيجاز لدرجة الغموض، فراحوا يشرحون هذا الكتاب بلغتهم التى يتحدثونها وهى الآرامية، وجاء الشرح بمثابة تسجيل حى لحلقات الدرس والنقاش التى قامت على أساس الكتاب بمدارس بابل الدينية ومدارس فلسطين. لذلك ظهر تلمودان: أحدهما بابلى نسبة لمدارس بابل وهو الأكبر حجماً والذى استمر العمل فيه فترة أطول، والثانى أورشليمى نسبة لمدارس فلسطين وهو أقل حجماً، وانتهى العمل فيه بعد فترة قصيرة من البداية. لذلك عندما يذكر اسم «تلمود» فقط، يقصد به التلمود البابلي.
لم تتوقف مسيرة تجديد الخطاب الدينى عند وضع كتاب «المشنا» ثم شرحه بعد ذلك، ففى نهاية القرن الثامن الميلادي، تعرضت اليهودية لاختبار صعب، فقد تلقت ضربة فى مقتل، وجاءت الضربة من الداخل، وكانت بمثابة الدافع الحقيقى لتجديد الخطاب الدينى مرة ثانية.
فى القرن الثامن الميلادي، كان الإسلام انتشر من المحيط الهندى إلى المحيط الأطلسي، وبدأ تدوين التراث الإسلامي، وخشى علماء المسلمين على القرآن الكريم من اللحن بعد دخول الكثير من أهل الأمصار المفتوحة فى الإسلام، وبدأ الاهتمام بضبط القرآن وعجمه، كما تميز القرن الثامن الميلادى بنشاط علم الكلام عند المسلمين الذى ظهر دفاعاً عن الإسلام ضد هجوم الفلاسفة. وسط هذه الظروف، انشق عنان بن داود وهو من علماء اليهودية، نتيجة خلافات بينه وبين العلماء على الزعامة الدينية فى بابل، أى على منصب «رأس الجالوت» وكان أحق المرشحين له، ورغم ذلك تخطوه وعينوا أخاه الأصغر، فانشق عليهم واتخذ لنفسه مذهباً عرف باسم المذهب «القرائي» وأعلن أنه يؤمن بأسفار موسى الخمسة وأسفار الأنبياء الذين جاءوا بعده فقط، ويرفض كتابى المشنا والتلمود، ويبدو من موقف عنان هذا تأثره بالمعتزلة وموقفهم من الحديث النبوى الشريف، فأهم ما كان يميز المعتزلة فيما يتصل بأصول الدين، عدم الأخذ بالروايات، والتحرج من اعتبارها مصدراً أساسياً للتشريع الإسلامي، وكانت حجتهم فى ذلك أن كتاب الله، القرآن، يستغنى بنفسه عن التكملة بشيء آخر فقد جاء فيه «ما فرطنا فى الكتاب من شيء».(5) ووقفوا من المرويات الشفوية الإسلامية موقف الحذر الشديد. ويبدو أن عنان بن داود قد أخذ وجهة نظر المعتزلة، وكان الأمر سهلاً أمام عنان فمرويات التلمود لا ترتفع أبداً بسند متصل إلى موسى أو الأنبياء (ع) من بعده، وتتناقض تناقضا صارخاً فيما بينها، وفيما بينها وبين التوراة.
ما زاد خطورة الحركة القرائية بالنسبة لليهودية هو تبحر عنان بن داود زعيم القرائية فى التلمود وكثرة رجوعه لنصوصه بقصد تفنيده وهدمه، وأنه اتخذ من الشريعة الإسلامية نموذجاً فى كل الأمور التى سكت عنها نص التوراة، الأمر الذى جعل اليهودية القرائية تبدو، وكأنها فرقة إسلامية أكثر منها فرقة يهودية. فقد اهتم القراءون (القرائيم) بأسفار موسى عليه السلام ووضعوها فى منزلة القرآن، وراحوا يحاكون علماء المسلمين فى رؤيتهم للقرآن (وحياً)، وبدأت محاولات ضبط ونقط العهد القديم ووضع علامات النبر والتنغيم التى تبلورت فى طبرية بفلسطين فى القرن العاشر الميلادى على يد عائلة بن آشر، وهم من القرائين.


ظهور الحاجة إلى تجديد الخطاب الدينى مرة أخري

وسط هذه الظروف العصيبة، واحتدام الصراع بين القرائين وعلماء اليهودية الذين أصبحوا يعرفون بـ«الربانيين»، ومع تكفير رئيس كل طائفة للأخرى وتحريم التعامل معها، ومع تقرب القرائين من الحكام المسلمين، ومع نظرة المسلمين للربانيين، بتأثير الطائفة القرائية، على أنهم قد حرفوا شريعة موسى (ع)، بل لقد نظروا إليهم على أنهم خارجون على شريعة موسي، كان لزاما على الربانيين الدفاع عن أنفسهم والإتيان بدليل على أن شريعتهم، أى المشنا والتلمود، ترتقى إلى موسى فبدأوا الدفاع عن شريعتهم بوضع سلسلة لرواة الشريعة، ووصلوها بموسى واستهلوها: «تلقى موسى التوراة من سيناء وسلمها ليشوع، ويشوع للشيوخ، والشيوخ للأنبياء، والأنبياء سلموها لرجال المجمع الدينى الكبير»، ونسبوا إلى كل راو منهم من الصفات والأقوال المأثورة والأمثال بحيث يبدو وكأنه راو ثقة، وأطلقوا على هذه السلسلة اسم «الآباء» (آفوت) وأدرجوها ضمن أبواب التلمود، رغم أنها لا تنتمى للتلمود من حيث مادتها أو تأريخها، فلقد وضعت تلك المادة بعد ظهور عنان بن داود أى فى القرن التاسع الميلادي، على الأرجح.

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions