في غابـة الفكـر.. الأسـد الأمـريكي والفيل الأوروبـي! نوفمبر 2004

محمد المهدى

هناك أسطورة أفريقية تقول إن الأسد (الشاطر) كان يستعرض قوته في كل مكان.. وحينما دعا الحيوانات لاجتماع دفع الإتاوة اليومية لم يحضر الفيل (العاقل) الذي

المحـتــوي

هناك أسطورة أفريقية تقول إن الأسد (الشاطر) كان يستعرض قوته في كل مكان.. وحينما دعا الحيوانات لاجتماع دفع الإتاوة اليومية لم يحضر الفيل (العاقل) الذي يحفظ سيرة الإنسان والأجيال عبر الزمان. ثار الأسد وقال: إذا كان الفيل يختال بخرطومه فأنا أستطيع أن أقطعه بقضمة واحدة.. وإذا كان معجبا بثقل قدمه فأنا أستطيع أن أشلها بطعنة من مخالبي.. وإذا كان واثقا لضخامته فأنا أستطيع أن أجره من ذيله إلي الأرض. تطورت الأحداث والتقي الأسد والفيل. هجم الأسد علي خرطوم الفيل بأنيابه فلم تنغرز في لحمه. وهجم علي قدمه الضخمة بمخالبه فلم تصل إلا لسطح جلده.. وتقدم أخيرا إلي ذيل الفيل في محاولة لجره وإذلاله فتحرك الفيل في وقار وجر معه الأسد.. فر الأسد لاعنا ساخطا. ضحكت الحيوانات وتوقفت عن دفع الإتاوة. أهل أوروبا يشبهون علاقتهم بأمريكا بعلاقة الأسد بالفيل. الصداقة قائمة في أمور السياسة والاقتصاد، أما الثقافة فموضوع آخر. يستعرض فيه الأسد الأمريكي، ويتوقر الفيل الأوروبي، ولأن الصداقة لابد أن تستمر بينهما، ولأن القوة لا تحل عقدة الثقافة عند الأمريكي، لذلك لجأ إلي أمرين... إما الاستهانة، أو السخرية من المنجزات التي تذكر بالأصول الأوروبية، أو خلق قاعدة ثقافية أو مبدأ فلسفي يناقش الواقع الحاضر تحت شعار البحث عن الحلول العملية، أو الاهتمام بالعلوم العلمية التي باتت تتحكم في مقدرات العالم الحديث. وعقدة النقص هذه هي التي جعلت الفيل الفرنسي (ديجول) يرفض الاتجاهات الأمريكية من السياسة الدولية، إلي نشرة الأخبار الإنجليزية.. وكان يعتبر الإنجليز في جزيرتهم ملحقين بالأمريكيين طالما أصروا علي الانعزال في جزيرة تعتبر نفسها الأصل وأوروبا هي الفرع. كان يعتبر الإنجليز مصابين بعقدة العظمة. رفضوا الالتحاق بأوروبا، ولكن تحت شعار وهم السطوة الثقافية علي أمريكا، قبلوا أن يكونوا ذيلا لأمريكا. وكان تاريخ إنجلترا يدرس في المدارس الأمريكية كمادة مستقلة إلي أواخر القرن 19 رغم مرور أكثر من مائة عام علي استقلال أمريكا عن إنجلترا. وفي أوائل القرن العشرين بدأ الوعي القومي الأمريكي في تدريس التاريخ، وإن ظلت السطوة الثقافية لإنجلترا، إلي أن لجأ الأمريكيون إلي الحلول الخاصة، وهي الاستهانة بالماضي، أو خلق نمط خاص يعتمد فقط علي الحاضر، وإن ظل الفيل الأوروبي متوقرا واثقا. والاستهانة بالتاريخ أو محاولة التخلص من الماضي صاحبت بعض الثورات. الثورة الفرنسية أرادت التخلص من التاريخ السابق، وكذلك الثورة الروسية،وعدلت الأولي عن موقفها، وانتهت دراسة التاريخ في فرنسا إلي موضوعية جاءت في تقرير عام 1902 عن تدريس التاريخ يقول: «أن يكتسب التلميذ بصيرة في الحكم علي أمته نتيجة لمقارنة أحوالها بأحوال غيرها من الدول. وأن يعلمه أن يولي الأمم الأخري ما هي جديرة به من الاحترام، وأن يوسع أفقه العقلي. وأخيرا يوضح له عن طريق العلم بأحوال بلاده، وأحوال العالم واجباته كفرنسي وكإنسان». وعدلت الدولة السوفيتية عن عزل التاريخ عن التلاميذ عام 1933 وقبلت مبدأ العودة لدراسة التاريخ وتدريسه بالتسلسل عوضا عن المجردات التي كانت تدرس من خلال علم الاجتماع. وتعرض التاريخ لهزة أخري أيام هتلر وموسيليني. وفي نفس العام الذي عادت فيه روسيا إلي التاريخ المتسلسل عام 1933، وازن هتلر منطقه قائلا: إن الموضوعية هي أحد الأوهام العديدة التي تنطوي عليها الليبرالية، إننا لا نعالج التاريخ مجردين عن الهوي، ولكننا سنعالجه كألمان. إننا لا يعنينا السرد للحقائق الموضوعية. إننا نكتب تاريخا للألمان. أما موسيليني فقد ألغي تدريس التاريخ من أساسه إلي حين كتابة التاريخ علي الصورة الرومانية. وأعجبت هذه النتيجة كل الدكتاتوريات. علم التاريخ كان دائما موضع نزاع، اعتبره البعض أبا للعلوم. وأقدم العلوم. وقال آخرون إن ملاحظة حشرة وهي تتحرك تعطي من الحكمة أكثر مما يعطي التاريخ اليوناني والروماني القديم. وتخوف منه البعض، أو احترس في تدريسه، أو في محاولة تزويد الأطفال ثم الشباب بأحداثه. طالب البعض بجعله مادة حية يتولاها المؤرخ الخلاق. ووصلوا به إلي حد التركيب الدرامي، أو الروائي، كما يقدمه الآن الروائي أمين معلوف، أو الروائية رضوي عاشور. وفي الستينيات من القرن الماضي نشر عالم الرياضيات المعروف (برتراند راسل) بحثا مهما لا يعتبر فيه التاريخ علما بل فنا. علي المؤرخ أن يقرأ ويقرأ كل ما تصل إليه معارفه حول الفترة المراد تقديمها، ثم يستبعد المصادر ويبدأ في الكتابة معتمدا علي إحياء وحيثيات الحدث الذي نسجت خيوطه في ذهنه. التبسيط علي الطريقة الأمريكية وفـي أبريل عام 1980 دعيت لندوة هامـة عقدتهـا مجـلة هستـوريا (HISTORIA) الفرنسية في باريس بمناسبة صدور العدد 400 تحت عنوان (الفرنسيون وتعليم التاريخ). ودارت في مجملها حول الصراع بين المزاج الأوروبي أو الفيل الأوروبي الوقور، والمزاج الأمريكي أو الأسد الأمريكي المتهور في غابة الفكر الغربي. شارك فيها بالمناقشة تسعة علماء تاريخ، مع اثنين من وزراء التعليم السابقين هما (إدجار فور EDGAR FAURE) و (ميشيل دبريه MICHEL DEBRE تولي سابقا رئاسة الوزراء). مع مشاركة وزير التعليم آنذاك (كريستان بولاك CHRISTIAN BEULLAC). وعدد آخر كبير من رجال الفكر والثقافة، والمناصب الرسمية، والسفراء ورجال التعليم. سجل الندوة التليفزيون، وعدة إذاعات، وعدد كبير من الصحفيين. ويكفي أن أذكر أن عدد الوقوف فقط في القاعة بلغ 200 مشارك. أدار الندوة المؤرخ المعروف (آلان ديكو ALAIN DECAUX) وله سلسلة دراسات تاريخية هامة منشورة، أو تليفزيونية درامية. كان السبب في عقد الندوة، أو السبب المباشر الذي فجر الأزمة برنامجًا تليفزيونيا أذيع من محطة أوروبا رقم (1) دار فيه حوار مع طلبة تتراوح أعمارهم ما بين 12 إلي 15 حول معلومات أولية عن التاريخ الفرنسي.. سأل المذيع: * هل تعرف من هي جان دارك؟ نعم... إنها امرأة كانت... لا أعرف. * وحرب الجزائر هل سمعت عنها؟ لا * ألا تعرف كانت ضد من؟ كانت الجزائر ضد... لا أعرف. * اذكر لنا معركة انتصر

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions