سارة برنار في أمريكــا
مارس 2007
يلتقي الشاب فيجارو بسيدة الكونت صدفة، بعد طول انقطاع في طرقات أشبيلية المظلمة، ويشكو كل منهما همه. الكونت يريد الزواج من فتاة تسكن المنزل المقابل.. يراها
المحـتــوي
يلتقي الشاب فيجارو بسيدة الكونت صدفة، بعد طول انقطاع في طرقات أشبيلية المظلمة، ويشكو كل منهما همه. الكونت يريد الزواج من فتاة تسكن المنزل المقابل.. يراها من النافذة ولكن لا يعلم عنها شيئا. وفيجارو ابن البلد الفقير الذكي المثقف لا يجد فرصته. ويسأل السيد تابعه السابق ماذا تعمل هذه الأيام ؟.. لقد طردت من عملي لأنهم يشكون في أمري، فأنا أكتب في الصحف، وأكتب المسرحيات والسادة يريدون تابعا مستكينا.. أنت منهم وأنت تعرفهم.. إنني أعمل الآن حلاقا. ويضحك السيد ويقول لفيجارو إن لديه عملا له، وهو تدبير الزواج من هذه الفتاة التي تسكن في المنزل المقابل. ويقول فيجارو إنه يعرف أمر هذا المنزل، والفتاة هي روزين.. يتيمة مسكينة واقعة في براثن عجوز، متصابٍ، تولي إنباتها وتربيتها وحينما أينعت يريد قطفها.. يريد الزواج منها. ويستطيع فيجارو بذكائه وحيله إنقاذ الفتاة وتزويجها من الكونت.. ولكن تبدأ مشكلة فيجارو نفسه، لقد أحب الفتاة سيزان تابعة السيدة روزين التي تزوجها الكونت ولكنه يعرف من حبيبته أن الكونت لا يهمد عن مطاردة الفتيات... لقد طمع السيد في حبيبة فيجارو، وبالتالي جاء دوره لينال نصيبا من ألاعيب فيجارو. جعل السيدة تقابل الكونت في ملابس خادمتها، فيطارحها الغرام، ثم يري الكونت الخادمة التي تلبس ملابس سيدتها تقابل «فيجارو» فيشك في زوجته. ويكشف فيجارو أمام الجميع اللعبة.. لعبة الذكاء، أو البطولة الفردية، في حل المشاكل... ويهمد الكونت.
هذه هي مسرحية أو أوبرا «زواج فيجارو» أو «حلاق أشبيلية» التي كتبها «بومارشيه» قبيل الثورة الفرنسية إسقاطا من قصة تدور أحداثها في إسبانيا علي الوضع في فرنسا... ابن البلد الذي يحل المشاكل بالحيل والذكاء، والبطولة الفردية. وبثت إحدي محطات التليفزيون ذات مرة إعلانًا يعرض في مقدمته لمحة من هذه الأوبرا، ثم ينتقل إلي عرض لتصنيع سيارات الفيات الإيطالية، بصورة آلية تماما، دون تدخل من عمال، أو مهندسين، أو موظفين. وكأنه يقول إن هناك «فيجارو» جديدا في هذا العصر.. هو العلم.. هو شريحة السليكون، أو السر في التصنيع الآلي الكامل.
شريحة السليكون المعدنية لها مواصفات علمية خاصة، لا يتعدي حجمها عقله الإصبع لكنها تستطيع أن تقوم مقام غرفة كاملة من أجهزة الكمبيوتر البدائي. ويقال إن لوح السليكون سيؤدي في المستقبل إلي الاستغناء الكامل عن رجال الرياضيات أو المحاسبين، والمراجعين وسعره غير مرتفع، تستطيع أن تحصل علي لوح به خمسة آلاف معلومة بدولار واحد.
وعندما ظهر النول الآلي في القرن التاسع عشر أضرب العمال، بل قاموا بعمليات تخريب لهذه الشياطين التي التهمت أرزاقهم. وانتهي الأمر إلي المصالحة بين الإنسان والآلة. وفي العصر الحديث تحاول نقابات العمال أن تهيئ نفسها لمستقبل أسوأ من مستقبل النول الآلي. يقول اقتراح إن الدولة تستطيع أن تقدم معاشا مناسبا لكل صاحب خبرة كل حسب مستواه، ويقام لذلك صندوق خاص يمول من فارق الربح الهائل الذي ستحصل عليه الصناعة من استخدام لوح السليكون. وهذا معناه أن العمال سيصبحون عاطلين بالميراث من الدولة. وبالتالي سيصبح تعبير العمل اليدوي شرفا غير ملائم. وسيصبح من يريد عملا خاملا عليه بالدراسات العلمية أو العملية. وستصبح الدراسات النظرية اكثر إرهاقا. وسيهجر كما نأمل حاليا - ولكن في غير حينه - طلبة القسم الأدبي في الثانوية العامة، إلي القسم العلمي بحثا عن راحة البال.. وسيصبح.. وسيصبح.
ولكن للوح السليكون مهمة أخري اكثر خطورة. إنك تستطيع أن تزرعه في جسم الإنسان لصغر حجمه دون أن يدري. ويصبح بالتالي رقيبا عليه أينما سار أو قام أو نام، يسجل خطواته وأحاديثه وينقلها إلي جهاز استقبال. ولك أن تتصور أي الأنظمة ستسارع إلي الإكثار من إنتاج هذه الألواح السحرية... وما هي النتائج ؟
لوح السليكون كما قلت هو «فيجارو» هذا العصر. هو البطولة الفردية لهذا العصر. يحل المشاكل وحده، بذكائه وألاعيبه وحيله. الفارق أن حيل السليكون معدة ومهيأة لكل الاحتمالات، ورغم أنه من صنع الإنسان فإنه من الصعب علي الإنسان طعنه بالسيف، أو القضاء علي بطولته بقرار إداري، أو أمر اعتقال، أو محاكمة «ثورية». ولكن يمكن احتكاره وادي السليكون بولاية كاليفورنيا. أما فيجارو القديم فإنه إذا تجاوز حدوده من الطرافة والذكاء إلي الجدل والتحدي لسيده، فإنه يستطيع أن يلغيه بتوقيعه، أو يعجنه بحقده. وهذا ما دعا الإنسان لاكتشاف البطولة الجماعية في المنظومة الاشتراكية. فيجارو.. وفيجارو.. وفيجارو.. وهكذا.
ولكن ماذا عن فيجارو الجديد؟ ماذا عن شريحة السليكون؟ لقد انتج فيجارو الكبير فيجارو الصغير، وصار الصغير كبيرا، بل أكبر، ووقف الابن يتحدي الأب. وكأننا عدنا إلي أيام البطولة الفردية. ولكنها ليست بطولة اللحم والعظم، إنما بطولة اللوح والسلك.
ونعرف الممثلة «سارة برنار» Sarah, Bernhardt. قرأت مؤخرا تفاصيل رحلتها إلي أمريكا، حدث هذا منذ أكثر من قرن وربع بالضبط عام 1880. أي في زمان عبادة البطولة الفردية في السياسة والأدب والفن والاقتصاد.. و.. زمان بقايا الفيجارو وكتاب «كارليل» الأبطال، وتفسيره التاريخ بكل طوله وعرضه وعمقه علي أساس من البطولة الفردية. قصة سارة في أمريكا تجري في زمن تحولات مفصلية تحمل ملمحا مبكرا للنهج الأوروبي الهادئ الوقور، مفارقا وناقدا للنهج الأمريكي السطحي العجول.
دعوة أمريكية
يبدأ السيناريو كما جاء في مذكراتها عندما عرض عليها رجل أعمال يدعي جاريت Jarrett، مشروع رحلة فنية إلي أمريكا لتقديم عروضها المسرحية الشهيرة «باللغة الفرنسية». مقابل خمسة آلاف فرنك، بالإضافة إلي نصف دخل الحفلات الذي قدر بخمسة عشر ألف فرنك، مع ألف فرنك أسبوعيا لتكاليف الفنادق. ولها الحق في اختيار العروض والممثلين المشاركين.
وتقبل سارة. فيبلغها رجل الأعمال ببقية التفاصيل قائلا: «ليس هذا كل شيء، لقد خصص لك قطار خاص لرحلاتك الفنية داخل أمريكا يشمل العديد من الغرف والملاحق مع صالون به بيانو خاص. ولك في هذا القطار