الانتحار..تاريخ و فلسفة و تراث!
يناير 2006
قبــــل الحرب العالمية الأولي كان الدوق الروسي أبركسين Apraxin (ملتي مليردير) يتردد علي (نيس) و(مونت كارلو)، كان لا ينتقل إلي أي مكان إلا بصحبة أربعة
المحـتــوي
قبــــل الحرب العالمية الأولي كان الدوق الروسي أبركسين Apraxin (ملتي مليردير) يتردد علي (نيس) و(مونت كارلو)، كان لا ينتقل إلي أي مكان إلا بصحبة أربعة من العازفين.
وحينما ترك روسيا كان يقضي شهورًا طويلة في (الكوت دازير)، بدأت تصاحبه حالة من الكآبة، كما كانت الموسيقي المصاحبة له تزيد من إحساسه بالغربة، وتدفع به إلي فكرة الانتحار. خصص الدوق اثنين آخرين لمصاحبته ومنعه من محاولة تنفيذ الفكرة، وبعد أن مرت الأزمة تلتها حالة من البكاء شبه دائمة. أراد الصاحبان ذات مرة أن يزيلا عن سيدهما الهموم فمزجا له كوكتيلاً خاصًا من الكونياك، واليكير، والشمبانيا، وأشبعاه بالسكر. وبعد عشر أو خمسة عشر كأسًا من هذا الخليط الجهنمي ذهب الدوق في غيبوبة سعيدة، وانتظرا يقظة سيدهما.. ولكنه لم يستيقظ أبداً.. ولا يعرف أحد هل مات بسبب الكوكتيل، أم بسبب رصاصة ذهبية اخترقت رأسه.
حالة الدوق أبركسين هذه كانت تعتبر في نظر العصور الوسطي نوعًا من انتصار قوي الشر لا يستحق الدوق بسببها إلا الإدانة، وفي القرن 19 كانت ستعتبر حالة من حالات الجنون. وفي مرحلة متأخرة من نفس القرن كانت ستعتبر نوعًا من الاضطراب الاجتماعي. أما في نهايته فكان (دور كايم) أبو علم الاجتماع الحديث سيعتبرها حالة طبيعية، فمن الممكن أن يقدم الإنسان السليم العقل لأسباب بالنسبة له منطقية علي الانتحار، وبالتالي اعتبرت محاولات الانتحار ظاهرة اجتماعية.
واليوم نري أن المفاهيم الفلسفية، وعلم النفس يعتبران الانتحار ظاهرة نفسية اجتماعية بدرجات متفاوتة، وبالمقاييس الحديث ستكون حالة الدوق ممثلة لعدة أشياء، إما الكآبة، أو الأنانية، أو الهوس، أو الوسوسة، أو الاندفاع، أو عدم التسليم بالقدرية، أو الانهيار. ومحاولات الانتحار ستكون إما نوعًا من التظاهر، أو الأنانية، أو المرض، أو التصرف اللاشعوري.. أو العدمية.
وتذكر الدراسات الاجتماعية الغربية أن ظاهرة الانتحار ترتبط بالمجتمعات المتطورة، أو المجتمعات الصناعية وعلي رأسها الأوروبية. وتوحي هذه الدراسات بشكل مباشر بأن دول العالم الثالث أو دول الشرق (المتخلف) لا تعرف هذه الظاهرة لأن الفرد فيها راكد العقل، متبلد العاطفة في غفلة عن مساءلة نفسه عن معني الوجود والعدم، ولا تنتهي به تساؤلاته إلي الإقدام علي التخلص من حياته.
وإذا تذكرنا أن أعتي الثورات في الشرق كانت أو في الغرب، قامت علي يد شعوب لم تكن لا صناعية ولا حديثة، وكان الفرد فيها لا يحكمه منطق العقل الراكد، أو العاطفة المتبلدة، فهذا يعني أن هناك شيئًا آخر يدفع الأوروبي إلي الانفراد بهذه الظاهرة، شيء في تراثه تزداد حدته كلما صعدنا من جنوب القارة الأوروبية إلي شمالها. وهو تراث مقاييسه تختلف عن مقاييس الانتحار الاستشهادي، وليس التطرفي أو التدميري.
ولنبدأ بقراءة بعض الأرقام، وندخل منها إلي التراث الأوروبي مع ظاهرة الانتحار. الإحصائيات الرسمية تقول إن ألف شخص ينتحرون يوميا في العالم. وأن ألفين يخفقون في محاولة الانتحار. وهذا معناه أن هناك 365 ألفًا تنتهي حياتهم سنويا بالانتحار. وضعف هذا العدد يحاول، ولو نجح لارتفع العدد لأكثر من مليون منتحر سنويا.
ونسأل لماذا نري في المجر عدد ضحايا الانتحار ستة أضعاف عددهم في إيطاليا، و14 ضعف عددهم في المكسيك؟ ولماذا يبلغ عدد المنتحرين في ألمانيا 15 ضعف عددهم في اليونان؟ ولماذا يزداد العدد في الدانمارك، وألمانيا، والنمسا، وفنلندا، والسويد، ويقل في إسبانيا، والبرتغال؟
محاولة بحث هذه الظاهرة استغرقت الكثير من الجهد والوقت، ولكن الأرقام في ارتفاع والنتائج غير قاطعة، والغموض يزداد.
الغموض يدور حول تساؤلات كثيرة أولها: لماذا يقدم إنسان علي إنهاء حياته بنفسه؟ كيف يصل إلي حالة تمكنه من القيام بهذا العمل؟ كيف يواجه لحظة الموت بيده؟
ثم تبقي أسئلة أخري يطرحها العلماء.. هل أصبح الإقدام علي الانتحار أسهل في زماننا عن الأزمنة الماضية؟ هل بعض الحالات يمكن تبريرها علميا؟ هل يقبل الطبيب المعالج، أو يتغاضي في بعض الحالات عن إقدام مريضه علي الانتحار؟
ثم يبقي سؤال المشرع.. هل من حق الفرد قانونًا أن ينهي حياته بنفسه؟
في فرنسا مثلاً تسجل الإحصائيات الرسمية 10000 «عشرة آلاف» منتحر في العالم.
ولكن الحقيقة تقول إنهم يتجاوزون 15000 «خمسة عشر ألفاً». وتؤكد دراسة أجريت عام 1972 أن الرقم سيتجاوز الضعف كل عقد من الزمان. أي يتجاوز ضحايا حوادث المرور، يضاف لذلك أن حوادث محاولات الانتحار تتراوح ما بين 150000 «مائة وخمسين ألفاً» و200000 «مائتي ألف» وأنها إذا نجحت سيرتفع العدد إلي 220 ألفًا في العام.
وتعلن منظمة الصحة العالمية أن أرقام فرنسا متواضعة بالنسبة لدول أخري، وأن إحصائياتها الرسمية تسجل محاولة انتحار في العالم كل أربع دقائق، وتضيف المنظمة أن الإحصائيات الرسمية للدول غير دقيقة، أو غير مكتملة لعدة أسباب:
أولها: أن المحيطين بالشخص المنتحر عادة يشعرون بالخجل، أو الضعف، أو الذنب ويحاولون إخفاءه.
ثانيا: التحريم الديني للانتحار يجعله عملاً غير مقبول لا يصح التصريح به.
ثالثًا: عادة ما يراعي الطبيب مشاعر العائلة، فلا يذكر رسميا أسباب الوفاة الحقيقية.
وقد حدث عام 1970م أن شخصًا قبل اتهامه بقتل أمه، بدلاً من التصريح بأنها انتحرت. واضطرته الظروف بعد ذلك إلي كشف الحقيقة.
وتقول الإحصائيات أيضًا إن نصف عدد المنتحرين يكونون في حالة يأس، ولكن هذا اليأس الذي يصل إلي حد الإقدام علي الموت لا يلاحظه عادة المحيطون بالشخص اليائس. أو علي الأقل لا يحسنون تقدير عواقب يأسه. وأن غالبية المنتحرين كانوا يعلنون عن رغباتهم في الانتحار، ولكن قولهم لم يؤخذ بمأخذ الجد.
وتقول دراسة أخري، إن أكثر من نصف المنتحرين كانوا يستشيرون طبيبًا قبل الانتحار بثلاثة أشهر. وأن ربعهم كان يستشير طبيبًا نفسيا، وعادة ما تكون إجابة الطبيب «لا تشغل بالك.. بسيطة». ويعطيه فيتامينًا، أو حبوبًا مهدئة، وغالبًا ما تكون هذه الحبوب المهدئة هي الطريق السهل للانتحار.
وقدم