الانتحار..تاريخ و فلسفة و تراث!



قبــــل الحرب العالمية الأولي كان الدوق الروسي أبركسين Apraxin (ملتي مليردير) يتردد علي (نيس) و(مونت كارلو)، كان لا ينتقل إلي أي مكان إلا بصحبة أربعة من العازفين. وحينما ترك روسيا كان يقضي شهورًا طويلة في (الكوت دازير)، بدأت تصاحبه حالة من الكآبة، كما كانت الموسيقي المصاحبة له تزيد من إحساسه بالغربة، وتدفع به إلي فكرة الانتحار. خصص الدوق اثنين آخرين لمصاحبته ومنعه من محاولة تنفيذ الفكرة، وبعد أن مرت الأزمة تلتها حالة من البكاء شبه دائمة. أراد الصاحبان ذات مرة أن يزيلا عن سيدهما الهموم فمزجا له كوكتيلاً خاصًا من الكونياك، واليكير، والشمبانيا، وأشبعاه بالسكر. وبعد عشر أو خمسة عشر كأسًا من هذا الخليط الجهنمي ذهب الدوق في غيبوبة سعيدة، وانتظرا يقظة سيدهما.. ولكنه لم يستيقظ أبداً.. ولا يعرف أحد هل مات بسبب الكوكتيل، أم بسبب رصاصة ذهبية اخترقت رأسه. حالة الدوق أبركسين هذه كانت تعتبر في نظر العصور الوسطي نوعًا من انتصار قوي الشر لا يستحق الدوق بسببها إلا الإدانة، وفي القرن 19 كانت ستعتبر حالة من حالات الجنون. وفي مرحلة متأخرة من نفس القرن كانت ستعتبر نوعًا من الاضطراب الاجتماعي. أما في نهايته فكان (دور كايم) أبو علم الاجتماع الحديث سيعتبرها حالة طبيعية، فمن الممكن أن يقدم الإنسان السليم العقل لأسباب بالنسبة له منطقية علي الانتحار، وبالتالي اعتبرت محاولات الانتحار ظاهرة اجتماعية. واليوم نري أن المفاهيم الفلسفية، وعلم النفس يعتبران الانتحار ظاهرة نفسية اجتماعية بدرجات متفاوتة، وبالمقاييس الحديث ستكون حالة الدوق ممثلة لعدة أشياء، إما الكآبة، أو الأنانية، أو الهوس، أو الوسوسة، أو الاندفاع، أو عدم التسليم بالقدرية، أو الانهيار. ومحاولات الانتحار ستكون إما نوعًا من التظاهر، أو الأنانية، أو المرض، أو التصرف اللاشعوري.. أو العدمية. وتذكر الدراسات الاجتماعية الغربية أن ظاهرة الانتحار ترتبط بالمجتمعات المتطورة، أو المجتمعات الصناعية وعلي رأسها الأوروبية. وتوحي هذه الدراسات بشكل مباشر بأن دول العالم الثالث أو دول الشرق (المتخلف) لا تعرف هذه الظاهرة لأن الفرد فيها راكد العقل، متبلد العاطفة في غفلة عن مساءلة نفسه عن معني الوجود والعدم، ولا تنتهي به تساؤلاته إلي الإقدام علي التخلص من حياته. وإذا تذكرنا أن أعتي الثورات في الشرق كانت أو في الغرب، قامت علي يد شعوب لم تكن لا صناعية ولا حديثة، وكان الفرد فيها لا يحكمه منطق العقل الراكد، أو العاطفة المتبلدة، فهذا يعني أن هناك شيئًا آخر يدفع الأوروبي إلي الانفراد بهذه الظاهرة، شيء في تراثه تزداد حدته كلما صعدنا من جنوب القارة الأوروبية إلي شمالها. وهو تراث مقاييسه تختلف عن مقاييس الانتحار الاستشهادي، وليس التطرفي أو التدميري. ولنبدأ بقراءة بعض الأرقام، وندخل منها إلي التراث الأوروبي مع ظاهرة الانتحار. الإحصائيات الرسمية تقول إن ألف شخص ينتحرون يوميا في العالم. وأن ألفين يخفقون في محاولة الانتحار. وهذا معناه أن هناك 365 ألفًا تنتهي حياتهم سنويا بالانتحار. وضعف هذا العدد يحاول، ولو نجح لارتفع العدد لأكثر من مليون منتحر سنويا. ونسأل لماذا نري في المجر عدد ضحايا الانتحار ستة أضعاف عددهم في إيطاليا، و14 ضعف عددهم في المكسيك؟ ولماذا يبلغ عدد المنتحرين في ألمانيا 15 ضعف عددهم في اليونان؟ ولماذا يزداد العدد في الدانمارك، وألمانيا، والنمسا، وفنلندا، والسويد، ويقل في إسبانيا، والبرتغال؟ محاولة بحث هذه الظاهرة استغرقت الكثير من الجهد والوقت، ولكن الأرقام في ارتفاع والنتائج غير قاطعة، والغموض يزداد. الغموض يدور حول تساؤلات كثيرة أولها: لماذا يقدم إنسان علي إنهاء حياته بنفسه؟ كيف يصل إلي حالة تمكنه من القيام بهذا العمل؟ كيف يواجه لحظة الموت بيده؟ ثم تبقي أسئلة أخري يطرحها العلماء.. هل أصبح الإقدام علي الانتحار أسهل في زماننا عن الأزمنة الماضية؟ هل بعض الحالات يمكن تبريرها علميا؟ هل يقبل الطبيب المعالج، أو يتغاضي في بعض الحالات عن إقدام مريضه علي الانتحار؟ ثم يبقي سؤال المشرع.. هل من حق الفرد قانونًا أن ينهي حياته بنفسه؟ في فرنسا مثلاً تسجل الإحصائيات الرسمية 10000 «عشرة آلاف» منتحر في العالم. ولكن الحقيقة تقول إنهم يتجاوزون 15000 «خمسة عشر ألفاً». وتؤكد دراسة أجريت عام 1972 أن الرقم سيتجاوز الضعف كل عقد من الزمان. أي يتجاوز ضحايا حوادث المرور، يضاف لذلك أن حوادث محاولات الانتحار تتراوح ما بين 150000 «مائة وخمسين ألفاً» و200000 «مائتي ألف» وأنها إذا نجحت سيرتفع العدد إلي 220 ألفًا في العام. وتعلن منظمة الصحة العالمية أن أرقام فرنسا متواضعة بالنسبة لدول أخري، وأن إحصائياتها الرسمية تسجل محاولة انتحار في العالم كل أربع دقائق، وتضيف المنظمة أن الإحصائيات الرسمية للدول غير دقيقة، أو غير مكتملة لعدة أسباب: أولها: أن المحيطين بالشخص المنتحر عادة يشعرون بالخجل، أو الضعف، أو الذنب ويحاولون إخفاءه. ثانيا: التحريم الديني للانتحار يجعله عملاً غير مقبول لا يصح التصريح به. ثالثًا: عادة ما يراعي الطبيب مشاعر العائلة، فلا يذكر رسميا أسباب الوفاة الحقيقية. وقد حدث عام 1970م أن شخصًا قبل اتهامه بقتل أمه، بدلاً من التصريح بأنها انتحرت. واضطرته الظروف بعد ذلك إلي كشف الحقيقة.
وتقول الإحصائيات أيضًا إن نصف عدد المنتحرين يكونون في حالة يأس، ولكن هذا اليأس الذي يصل إلي حد الإقدام علي الموت لا يلاحظه عادة المحيطون بالشخص اليائس. أو علي الأقل لا يحسنون تقدير عواقب يأسه. وأن غالبية المنتحرين كانوا يعلنون عن رغباتهم في الانتحار، ولكن قولهم لم يؤخذ بمأخذ الجد. وتقول دراسة أخري، إن أكثر من نصف المنتحرين كانوا يستشيرون طبيبًا قبل الانتحار بثلاثة أشهر. وأن ربعهم كان يستشير طبيبًا نفسيا، وعادة ما تكون إجابة الطبيب «لا تشغل بالك.. بسيطة». ويعطيه فيتامينًا، أو حبوبًا مهدئة، وغالبًا ما تكون هذه الحبوب المهدئة هي الطريق السهل للانتحار. وقدم العالم الدكتور نلسن سنسبري Nelson Sainspary نتائج دراسة ميدانية علي 250 حالة انتحار، فقال إن ثلاثة أرباع هذا العدد كان يتردد علي الطبيب قبل الانتحار بشهر، وأن ربعهم كان يتردد علي الطبيب قبل الانتحار بأسبوع، وأن 210 «مائتين وعشرة» منهم كانوا في حالة يأس تام، وأسباب حالة اليأس وضعها في المستويات الآتية: المجتمع الصناعي، حياة المدينة، التمزق بين عدة عقائد أو ديانات، فقدان معني الحياة، التمزق الاجتماعي في الحياة العصرية، التوتر الوظيفي، الإحباط الجنسي، الاضطراب الاجتماعي، حالات الحب اليائس. الانتحار في تراث الغرب وتأمل ظاهرة الانتحار في الحضارات القديمة لا يمكن تناوله بنفس منطق العصر، فالنسبية المكانية، والزمانية تلعب دورًا هامًا في تحديد مظاهر الحياة.. من عقائد، وعادات، وتقاليد، ومواجهة أزمات.. وما كان مباحًا عند شعب تجده محرمًا عن آخر.. فالمصريون القدماء اعتبروا قتل القطة جريمة يعاقب عليها بالإعدام لقدسيتها. وعند شعوب أخري القطة غرفة خالية من الممكن أن تستأجرها الأرواح الشريرة. وكان الأسبرطيون وأهل سادوم (يسبقون) عصرنا في إباحة السرقة بمهارة، وأباحت شعوب أخري الزني، أو الإجهاض، أو قتل الأطفال. والشعوب التي كونت أوروبا الوسطي والشمالية كان لها موقف متفرد من الانتحار. عند شعوب (الغال) كانت لحظة الموت هي لحظة الغناء بفرح، ولحظة الميلاد هي لحظة البكاء بحزن. ولماذا البكاء علي ميت سيدخل عالم الشباب؟ و لماذا الفرح لمولود سيدخل عالمًا مهددًا بالشيخوخة والعجز؟ وتقول إحدي أساطيرهم إن ملكات الموت يطفن بالعالم وينتظرها البشر لمنحها القلب والحب. وعند شعوب (الهانز) و(الوندال)، و(القوط) وغيرهم.. الشيخوخة عذاب، وانتظار، وقلق، والإسراع إلي الموت بعد أن ذهب الشباب أمر طبيعي. وقلق الانتظار وحده كان كفيلاً بدفع بعض كبار السن ممن يتمتعون بصحة جيدة إلي إلقاء أنفسهم من فوق صخرة عالية أعدت لذلك، يكفي فقط أن يعد الواحد منهم وليمة يجمع فيها الأهل والأصدقاء ويستأذنهم في الرحيل. وعند شعوب (الغال) أيضًا انتحار رئيس القبيلة، أو كبير العائلة مسألة منطقية، لأنه يمثل شباب الجماعة، وشيخوخته شيخوخة لهم، وانتحاره فيه تجديد لشباب العائلة أو القبيلة بإعطاء فرصة لقيادة جديدة عفية. ولكن كان من اللياقة أيضًا أن يصحب معه زوجاته وخدمه في رحلة السعادة، وسيئ الحظ أو من ينسي، أو يتناسي ويصل إلي سن الشيخوخة فيسقط عاجزًا، أو مريضًا. تسمي ميتته بميتة النساء العجائز حيث مصيرهن التمرغ في الأوحال الأبدية داخل مغارات مليئة بالأقذار، والحيوانات السامة. أما من يموت منتحرًا فقد وعد بالحياة الأبدية. ولكن ليست القاعدة بشديدة الصرامة ففيها بعض المرونة والاستثناء. فقد يحدث أن الشخص الذي يستوجب انتحاره مشغولاً ببعض الأعمال الأرضية الواجبة الإنجاز، في هذه الحالة يباح له أن يبحث عن بديل، أو قريب لأداء واجب الانتحار عنه، وعند وجود البديل كان يحضر مع أصدقائه ويعلن وسط جمع من الشهود عن دفع ثمن موته منتحرًا، ويقوم بتوزيع المبلغ كهدية تناسب رحيله، ويبدأ حفل الموت بإقامة الولائم، وينتهي باستلقاء المحتفي به أو (سعيد الحظ) فوق سلاحه لينتقل من وليمة واحتفال دنيوي، إلي وليمة واحتفال أخروي.
والموت في المعارك عند هذه الشعوب شرف يحمل صاحبه مباشرة إلي الجنة. وعند الجرمان كانت هناك فرقة انتحارية من صفوة الجنود المشاة مقسمة إلي مئات ولذلك عرفت بالمائة. وهذه التسمية صارت شعارًا للفخر والانتحار. وقمة العار عند هذه الجماعة هو ترك الجندي لسلاحه، وعقيدتهم تمنع هؤلاء الجنود من ارتياد الحفلات، أو المشاركة في المجلس العام، ومن النادر أن يحاول أحد هؤلاء الجنود الفرار من لحظات الخطر، والانتحار بديل مباح خير من الوقوع في الأسر أو تلقي الهزيمة. وتحكي قصص أبطالهم انتحار العديد من زعمائهم بعد الهزيمة، أو مخافة الوقوع في الأسر. الموت بالنسبة لهذه الشعوب ليس سوي انتهاء للحياة الأرضية، واستمرار لحياة أخري يمارسون فيها كافة مظاهر الحياة الدنيوية من حسنات وموبقات، يلتقون بالأصدقاء ويتمتعون بالملذات، ويمارسون السلطة والسلطان دون حساب. وكان المفروض أن تكون محاولة الهروب من عار الدنيا، أو هزيمة البشر طبقًا لهذا المنطلق غير ممكنة، ولكنهم استكملوا عقيدتهم بتحويل جنازة الرئيس أو الزعيم إلي حفل دموي، فليس من الحكمة أو الخلاص أن يمس الزعيم الجديد ما خلفه القديم. والنار تقوم بترحيل كل بقايا الميت من ملابس، وأسلحة، وأحصنة، وعبيد، وزوجات، وأيضًا المخلصين من الأحباء. والخروج عن هذه القاعدة كان يجلب العار للفرد والأسرة، ويثير السخط العام. وهنا تستدعي الذاكرة لوحات (موت ساردانابال) لزعيم الرومانسية (ديلاكروا) رسمها عام 1827م. أراد بها تصوير (احتضار مستبد شرقي). تقدم اللوحة سردانابال مسترخيا علي سريره الوثير يتابع في هدوء العبيد والأتباع من حوله وهم يذبحون نساءه وجواريه العاريات. وربط ديلاكروا هذه العادة بالشرق فقط يدل علي أنه لم يطلع علي التقاليد (الغالية) أو (الجرمانية) التي مارست أيضًا الاستبداد لآخر رمق. الانتحار في حالات معينة عند هذه الشعوب كان واجبًا لا يقبل النقاش. ودخول العالم الآخر عندهم لا يعني فقدان الشخصية، أو الذاكرة، أو الأصدقاء، فالأعمال والعلاقات هناك طبيعية، والقوانين موضوعة تحدد السلطان لأصحابه كما كانوا علي الأرض، ومن الطبيعي أن يقترض البعض المال في الدنيا ليعد برده في الآخرة، واعتقدت بعض الشعوب بأن لقاء الخالق لا يكون إلا بالتضحية بالحياة الأرضية. المسيحية والانتحار وأخذ المسيحيون الأوائل بهذا المفهوم، وكان اختيارهم هذا نوعًا من الانتحار يسعي إليه المسيحي بإرادة خالصة واعتقاد راسخ، وأعلنت الكنيسة الكاثوليكية قداسة بعض الأشخاص الذين قاموا بدور الجلاد لأنفسهم. القديس (فرانسوا) فرش الأرض بالفحم المشتعل ونام فوقه، القديس (راديجون) سكب سيلاً من الزيت المغلي علي جروحه، القديس (مارتينيان) وضع أقدامه في النار، القديس (دومينيك) غرس أسنانًا معدنية في جلده، القديس (باخوم) وطئ الأشواك بأقدام عارية. وجماعات المسيحيين الأوائل كانوا يثقبون أقدامهم وأيديهم بمسامير كبيرة من الحديد، ويتركون أنفسهم للموت، اقتداء بالسيد المسيح الذي قدم في نظرهم التضحية الكبري. وقال بعض آباء الكنيسة الأوائل إن المسيح مات منتحرًا فقد اختار التضحية الجسدية أو الدنيوية من عدة حلول، ومنح دمه (لأبيه) ليخلص العالم. وطرح القديس (توما الاكويني) نفس السؤال. كيف يحدث أن يموت (ابن الله) الذي لا تحد إرادته دون أن تكون هذه رغبته الصادقة؟ وحددت المسيحية منذ ظهورها هدفًا واضحًا لا يتحقق إلا خارج الحياة الأرضية. وقرر المسيحي الصادق أن الحياة عقبة، لا تعطي إلا النفع القليل، والتخلص منها تخلص من حياة زائفة زائلة، وسعي إلي ملكوت السماء، واستمع إلي قول القديس (اجناس) حينما قدم إلي ساحة الأسود «دعوني أنعم مع هذه الأسود، إنني أتمني أن تكون أكثر قسوة مما هي عليه، ولو أنها لم تحاول أن تقضي علي حياتي فإنني سأستثيرها، وأجبرها علي ذلك بالقوة». ورفض المسيحي الهرب من جلاديه. ونقرأ في تاريخ هذه الفترة قول أحد حكام الرومان لمجموعة من المسيحيين الذين أحاطوا به وأعلنوا الاستشهاد: هيا اشنقوا أنفسكم. أو اغرقوا أنفسكم.. خلصوا القضاة. ويقول المؤرخ (جيبون): كان الاستشهاد علامة ذلك الزمان «كان البعض يسرع إلي العمادة حتي يقدم فورًا إلي الموت أو الانتحار».
ورغبة في الاستشهاد وصل التطرف ببعض المسيحيين إلي حد أنهم كانوا ينتظرون المارة في الطرقات الخالية، ويطلبون منهم بالتهديد أن يخلصوهم من الحياة حتي ينعموا بالشهادة. ويذكر العارفون بالمسيحية أن الانتحار لم يأت له تحريم قاطع لا في العهد القديم، ولا في العهد الجديد، والقديس (أوغسطين) نفسه يعترف بهذه الحقيقة ضمنًا في محاولة استبعادها فيقول: «إذا كان الانتحار مباحًا للتخلص من الخطايا، فالأمر يحتاج أن نعد صفًا بكل من يتم تعميده حديثًا». بدأ القديس (أوغسطين) في القرن الرابع الميلادي يعارض ظاهرة الانتحار وأعلن أن الحياة منحة من الله، وأن محاولة ردها خطيئة.. والقتل هو القتل.. وأعلنت الكنيسة أن الانتحار جريمة. وبين القرنين الرابع والخامس قلت ظاهرة الانتحار المسيحي، ولكنها انتشرت داخل الأديرة بسبب الاضطراب والبؤس والكبت، بل أيضًا فقد الإيمان. وفي العصور الوسطي ظهر انتحار آخر لأسباب الحادية تعتقد بقدرة الشيطان علي تلبس بعض الناس. والخلاص لا يكون إلا بالهروب إلي العالم الآخر. ولكن لم يقلل من محاولات الانتحار إلا مساندة السلطة المدنية للسلطة الدينية. فاتخذت بعض التشريعات لمواجهة هذه الظاهرة، منها محاكمة جثة المنتحر وتعليقها من رجليها في مشنقة قبل دفنها، ومنها سحل الجثة في الطرقات والميادين. وإذا كانت حالة الجثة لا تسمح بتنفيذ حكم المحكمة كانوا يحضرون تمثالاً وينفذون فيه الحكم. والمقصود هو إهانة أسرة المنتحر، والنيل من شرفه. وإذا حدث أن دفنت الجثة قبل المحاكمة كان يتم إخراجها واستكمال الإجراءات القانونية، ووضعت بعض جثث المنتحرين في براميل إلي حد التعفن. وفي روسيا كانت وصية المنتحر غير معترف بها. وفي مناطق أخري كانت الكنيسة تقوم بحرق منزل المنتحر في احتفال عام. وظل منظر سحل جثث المنتحرين مألوفًا في إنجلترا بأمر القانون إلي القرن التاسع عشر. كما اعتبر المنتحر خائنًا فتصادر أمواله وتدخل في أملاك التاج. وظل معمولاً بهذا القانون إلي عام 1870م. وفي سويسرا كان المنتحر بخنجر تغرس في رأسه قطعة خشب ثم يزرع الخنجر مكانها، ومن ينتحر غرقًا تلقي جثته في النهر. أما المنتحر شنقًا فإنه يقطع أمام القساوسة إلي قطع وتلقي طعامًا للكلاب. العودة لتراث الانتحار قبل عصر النهضة الأوروبية، أي قبل القرن الخامس عشر كان موقف الكنيسة والدولة واضحًا تجاه ظاهرة الانتحار، ولكن النهضة أعادت إلي الأذهان مناقشة الوجود، والعدم بمنطق آخر غير المنطق الديني، وبدأت بشائر القلق من سطوة السلطة السياسية في يد الملك، والسلطة الاقتصادية في يد الإقطاعي، والسلطة الدينية في يد الكنيسة، وجدوي مواجهة الضغوط أو الهروب بالانتحار. وظهر عصر الفلاسفة أو منطق العقل، وترددت كلمات الحرية بتنويعات مختلفة تنشد جميعًا احترام حرية الإنسان وإرادته في أن يبقي علي حياته أو ينهيها بطريقته الخاصة. وجد (شبنهور) أن الانتحار هو الدواء الوحيد لمواجهة لعنات الحياة. وانتحر (فيرتر) الرومانسي بعد أن عاني الآلام علي يد مؤلفه (جوته). وكتب (فولتير)، و(روسو) وغيرهما بحماس حول هذا المنطق عشقًا أو تطرفًا في البحث عن حرية الإنسان وحقه في تحديد مصيره. هذا الاتجاه كان يعني أن عصر العقل قد سحب سلطان وسيرة الكنيسة علي العقول بلا رجعة، دون أن يقدم بديلاً يكفي أو يحمي الفرد بإجابة شافية في تساؤله عن جدوي الوجود، ومعني العدم.. في تساؤله علي مستوي آخر عن جدوي النضال، أو مواجهة عصر الصناعة، وسيطرة القلة، وتشرد الكثرة، الكل باطل، أو بلا معني، لا الفرد، ولا الأسرة، ولا الجماعة، ولا الدولة، ولا العقل بمستطيع أن يمنع ضربات القدر. القدر أو المقدر ممن؟ هنا ينتهي الفرد إلي فراغ قاتل. انتهي الغربي إلي أحد طريقين. إما أن يطرح جانبًا هذه التساؤلات، ويكتفي بالمقياس المادي، أو العلمي كما فعلت الكثرة، وإما الانتحار كما فعلت القلة.. وربما انتحار لا أخلاقي. لقد قام شاب من استكهولم لا تنقصه الصحة، أو المال، ولا يعرف عنه الاضطراب النفسي أو العقلي أو الاجتماعي. قام بقطع رقبة طفل كان يلعب أمام دكان والده، وعندما قدم الشاب للمحاكمة قال للقاضي: «إنني اعترف بجريمتي ولا أحاول تبريرها وأرجوك ألا تحاول ذلك، وإلا ستكون غير عادل. لقد درست الحياة والموت، ووجدت السلام في الموت، وبحثت عن طريقة للخروج للحياة، ولكن بعد تفكير عميق وجدت أن إيماني يمنعني من الانتحار!! وأن الوسيلة الوحيدة للوصول إلي هدفي هو ارتكاب جريمة. وأرجو أن تكون الطريقة التي ستقررها لمعاقبتي تشفع لي عند الخالق لما ارتكبت من جرم». وقد سيق هذا الشاب إلي الإعدام وهو يغني هادئًا، وتلقي الموت بفرح أثار دهشة الجميع. ونسأل: هل ألهمت هذه الواقعة الحقيقية الكاتب (البير كامي) قصته (الغريب)؟ وفي تراث الفكر الغربي القريب نعيد التساؤل.. هل مات البير كامي نفسه منتحرًا؟ وفي تراث الفكر الغربي البعيد نسأل.. هل كان موت سقراط انتحارًا؟ وتتردد يوميا في صحف الغرب حالات الانتحار، وتتنوع في أسبابها وأساليبها وأهدافها.. إن صح أن للانتحار أهدافًا.. انتحار الحب، أو العفة، أو العظمة، أو الخجل، أو الفشل، أو التضحية، أو الوفاء، أو الخبل، أو الخسارة، أو الإدمان، أو الأزمات السياسية، أو السجن.. أو.. أو.. والغالبية تدر حول الشعور بعدمية الحياة. الانتحار إذن في تراث الغرب، وفي أساطير شعوبه شيء مقبول ومعقول إن لم يكن يتعلق بقضية الشرف، أو العظمة، أو العدمية، فهل يتعلق بالعادات وبالعقيدة التي كانت لا تري في العالم الآخر مواجهة بالحساب ثم بالعقاب، ولكن امتداداً لكافة مظاهر الحياة الدنيوية في ديكور جديد؟ وقد نري في أساطير الشرق كما في أساطير الغرب العالم الآخر امتدادًا لعالم الأرض. ولكن في الشرق امتدادًا كان يقتضي مراجعة الإنسان لنفسه، وسلوكه تجاه الآخرين حتي تكون صفحته نقية، أو شبه نقية في لحظـات الحساب. وقد تختلف صورة العالم الآخر بين أساطير المصريين القدماء، وأساطير بلاد الرافدين، ولكن الحساب والعقاب قائمان.
وأصاب الغرب تغيير مؤقت علي يد المسيحية فأخذ الانتحار صورة مثالية أو قل مرضية. ولكن ما لبثت المسيحية أن تحولت في الغرب إلي مسيحية غربية، فلم نصل القرن الرابع أو الخامس إلا وبدأت محاربة هذه النزعة ولكن لحساب سلطان الكنيسة الغربية، وبدأ الغرب يعود تدريجيا إلي الفراغ داخل الفرد. ومع تعقد مشاكل المجتمع، ومظاهر الظلم في العصور الوسطي، وحلول عصر النهضة الذي تخلص بخطوات سريعة بالقياس التاريخي من سلطة الكنيسة، واستبدالها بسلطة الفلسفة والعقل بدأت دعوة الرفض المطلق للعالم الآخر قائلين إن الأساطير صورته بطريقة غير معقولة ساذجة، وأن الكنيسة صورته بطريقة ميتافيزيقية لصالحها. مع مسيرة هذه الخطوت وقع العقل في الفراغ، وصار الموت لغزًا، هذا اللغز أعاد دوران العجلة وإرجاعها إلي نقطة البدء.. إلي تراث يبيح الانتحار، ولكن لأسباب مختلفة، التخلص من الحياة، تخلص من غليان العقل ومنطقه القاسي وقياسه الذي لا يرحم. وهو قياس من الصعب عليه أن يفهم معني الموت الاســــتشهادي الآن في صــورة انتحار.

الإحصائيات الرسمية تقول إن ألف شخص ينتحرون يوميا في العالم. وأن ألفين يخفقون في محاولة الانتحار. وهذا معناه أن هناك 365 ألفًا تنتهي حياتهم سنويا بالانتحار. وضعف هذا العدد يحاول، ولو نجح لارتفع العدد لأكثر من مليون منتحر سنويا.

ظل منظر سحل جثث المنتحرين مألوفًا في إنجلترا بأمر القانون إلي القرن التاسع عشر. كما اعتبر المنتحر خائنًا فتصادر أمواله وتدخل في أملاك التاج. وظل معمولاً بهذا القانون إلي عام 1870م.

صنـــاعة غربيـــة عند شعوب (الهانز) و(الوندال) و(القوط) الشيخـــوخة عـــذاب، وقلـــق، والإسراع إلي الموت بعد ذهاب الشــباب أمر طبيعي
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة