السـبي البابلي.. دراســــة تاريخيــة فــي اســـتراتيجيات الـغــــزو يونية 2003

ليلى إبراهيم أبو المجد

ا أعاد الاحتلال الأنجلو أمريكي للعراق إلي الأذهان سجل تاريخ الاستعمار والإمبراطوريات في منطقة الشرق الأدني القديم، وكأنه قد كُتب علي الأجيال العربية التي

المحـتــوي

ا أعاد الاحتلال الأنجلو أمريكي للعراق إلي الأذهان سجل تاريخ الاستعمار والإمبراطوريات في منطقة الشرق الأدني القديم، وكأنه قد كُتب علي الأجيال العربية التي ولدت بعد مرحلة الاستقلال أن تتجرع مرارة الاحتلال عقابًا لها علي عدم الاستفادة من دروس التاريخ، فمن لم يقرأ التاريخ كُتب عليه أن يعيده، ومن لم يكن فاعلاً يصبح مفعولاً به. وقد ظلت هذه المنطقة هدفًا استراتيجيا لكل الإمبراطوريات والدول الاستعمارية التي ظهرت منذ القدم، وسنتناول هنا الإمبراطورية الآشورية والبابلية ثم الفارسية 538ق.م، والاستعمار الأنجلو أمريكي (2003م). وسنحاول في السطور التالية أن نقارن المخططات الاستعمارية التي تبنتها تلك الإمبراطوريات القديمة(1) والمخطط الأنجلو أمريكي في غزو واحتلال العراق. كما سنقارن بين دور بني إسرائيل في مخططات الإمبراطوريات القديمة، ودور اليهود في المخطط الأنجلو أمريكي. فنظرًا لأهمية موقع أرض كنعان (فلسطين) الاستراتيجي بالنسبة للإمبراطوريات القديمة وللاستعمار الحديث، فهي تشكل مع مصر أوسط نقطة في العالم. فإذا شبهنا مصر بثمرة فإن فلسطين بمثابة عنق الثمرة، لذلك ما أن تفرض إمبراطورية ما سيطرتها علي بلاد فارس والعراق والهلال الخصيب حتي تقوم بتأمين طريق الوصول إلي البحر الأبيض المتوسط وإلي مصر. ولا تكتفي باحتلال تلك المنطقة، بل تقوم بتهجير سكان فلسطين، وتوطينهم في مناطق أخري وجلب سكان آخرين تابعين للإمبراطورية أو المستعمر وتوطينهم في أرض كنعان، وهو ما يعرف بخلخلة التركيبة السكانية، وقد تكرر هذا كثيرًا في التاريخ القديم والحديث علي يد الإمبراطورية الآشورية، فالسبي الآشوري علي يد «شلما نصر» سنة 722ق.م ما هو إلا تهجير لسكان السامرة من بني إسرائيل في شمال فلسطين إلي آشور وميديا وشمال سوريا، وتوطين مجموعات سكانية من شمال سوريا وبابل وعيلام مكانهم. ثم تكرر أيضًا علي يد الإمبراطورية البابلية، فالسبي البابلي الذي قام به «نبوخذ نصر» 586ق.م هو تهجير لبني إسرائيل سكان أورشليم وإقليم يهوذا إلي بابل، أما الإمبراطورية الفارسية فقامت بالتهجير العكسي، أي هجَّرت السكان من كافة أنحاء الإمبراطورية (سفر عزرا 1/1) إلي أرض كنعان تحت اسم (العودة من السبي) وذلك من أجل خلخلة التركيبة السكانية التي كانت موجودة والتي قاومت هذا «الغازي المعتدي» الذي وصف نفسه بأنه «عائد» فالإصحاح 4 ـ 6 من سفر عزرا يعكس الصعوبات الإدارية التي تواجه سياسة إدخال عناصر سكانية جديدة وديانات مركزية في منطقة ما، حيث يوجد سكان مستقرون ذوو علاقات وسلطات ذاتية منذ أمد بعيد. ويعكس التوتر والصراع رد الفعل البغيض الذي قوبل به هؤلاء «الغازون ـ العائدون». وقد كان آخر مخططات التهجير في منطقة فلسطين هو ما قام به الاستعمار البريطاني أثناء الانتداب وهو يشبه المخطط الفارسي الذي قام به «قورش». فلقد تعاون الاستعمار البريطاني مع الصهيونية عن طريق وعد بلفور (1917م) وقام بتوطين سكان تابعين للإمبريالية من كافة أنحاء العالم، في فلسطين تحت اسم «العودة إلي أرض الآباء» وقام هؤلاء «العائدون» بترويع سكان فلسطين الآمنين وإرهابهم وإجبارهم علي مغادرة فلسطين. ومفهوم «العودة» مفهوم أيديولوجي أساسي في سياسة التهجير وإعادة التوطين منذ عصر الإمبراطوريات القديمة، وهو محاولة إيجاد صلة دينية قديمة تربط هؤلاء المهجَّرين بتلك الأرض الغريبة. وسنناقشه بتفصيل أكثر في موضع آخر ونبدأ بأول المخططات الاستعمارية وهو: 1 ـ التهجير والتوطين: تذكر النصوص والآثار أن الخطط الاستعمارية للسيطرة علي السكان اعتمدت سياسة التهجير والتوطين وكانت مظهرًا شائعًا في كل حروب مصر القديمة وبابل والعالم الحثي منذ بدايات الألف الثانية قبل الميلاد، وقد قام بها جيش آشور في القرن السابع ق.م واعتبرت قاعدة للسياسة الاستعمارية البابلية والفارسية بعد انهيار آشور بوقت طويل. وهناك عدة أسباب جعلت الآشوريين يعمدون إلي هذا التغيير في البنية السكانية في الإمبراطورية وهي: أ ـ تدمير التركيب الاجتماعي في المناطق المفتوحة، وخلق كيانات مفككة وتابعة ومخلصة للإمبراطورية الآشورية (وهو ما تنويه أمريكا وبدأت تنفيذه بقوة السلاح لرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط عبارة عن كيانات مفككة، متناحرة مخلصة فقط لأمريكا). ب ـ استخدم الآشوريون التهجير كعقاب للمواطنين علي المقاومة أو الثورة، كما استخدم للقضاء علي المنافسين المحتملين أو علي إمكانيات المقاومة والعصيان (وهو ما تخطط إسرائيل للقيام به مع الفلسطينيين وسنعرضه لاحقًا). ج ـ استخدم الآشوريون التهجير وإعادة التوطين كمكافأة للسكان ضد حكامهم، فالتهجير كما عرضه (سفر الملوك الثاني 18/28 ـ 33) عُرض ليس كعقاب بل كمكافأة علي عدم مقاومة السلطة الآشورية. وبالفعل فقد ذهبت بعض النصوص إلي حد وصف الآشوريين بأنهم يتصرفون نيابة عن الشعب، ويرعون مصالحه ويحمونه وينقذونه من طغيان حكامه. فلم يوعَد المهجَّرون بالأرض والرخاء عندما يعيد الآشوريون توطينهم فحسب، بل وُعدوا أيضًا بالدعم ضد السكان المحليين، الذين نظروا إليهم بالطبع علي أنهم متطفلون ومغتصبون. (وهذا لا يختلف كثيرًا مع ما فعلته أمريكا مع أكراد العراق عندما سمحت لهم بدخول كركوك، وسمحت لهم بطرد سكانها العرب واحتلال مساكنهم، كمكافأة للأكراد علي موقفهم من صدام حسين وتسهيل مهمة أمريكا في احتلال العراق، ولا يختلف موقف الشعب العراقي من الأكراد ومن شخوص المعارضة العراقية التي تحاول أمريكا فرضها علي الشعب العراقي وتوليتها زمام الأمور، لا يختلف كثيرًا عن موقف السكان المحليين في الإمبراطورية الآشورية). د ـ استهدفت سياسة التوطين إيجاد جماعات تعتمد علي السلطة الآشورية ضمن الشعوب المحكومة، وبذلك تضمن أن تظل مخلصة لها، لذلك انحصرت في مجموعة من العسكريين والزعماء السياسيين والنخبة... (وهو ما فعلته أمريكا منذ حرب الخليج الأولي فقد احتضنت المعارضة العراقية وراعت عند اختيارها أن تضم عسكريين وسياسيين (متطلعين إلي الحكم) ونخبة ممن يمكن الاعتماد عليهم في إدارة البلاد في عراق ما بعد الحرب). هـ ـ كان

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions