هَـــوَس العبقــرية!الحياة السـرية لمــاري كوري يوليو 2009

بـاربـارا جـولد ســميث

فى العشرين من إبريل سنة 1995، وفى باريس فى شارع سوفلو Soufflot امتداد بساط أبيض بطول الشارع لينتهى أمام البانثيون Pantheon (مقبرة العظماء) الذى كان مكسوًا بالألوان الثلاثة ( ألوان العلم الفرنسي) من القبة وحتى الرصيف. وعلى أنغام المرسليزيه (النشيد القومى الفرنسي) كان الحرس الجمهورى يسير على هذا البساط الأبيض. وكانت الآلاف الموجودة على جانبى الشارع ساكنة على غير العادة، وكان البعض ينثر الزهور عند مرور الموكب الذى كان يتكون من: أعضاء هيئة التدريس بمعهد كورى فى المقدمة يتبعهم طلاب المرحلة الثانوية من باريس، وكان الطلاب يرفعون لوحة طولها أربعة أقدام عليها الأحرف الإغريقية ألفا وبيتا وجاما بالألوان الزرقاء والبيضاء والحمراء.



المحـتــوي

فى العشرين من إبريل سنة 1995، وفى باريس فى شارع سوفلو Soufflot امتداد بساط أبيض بطول الشارع لينتهى أمام البانثيون Pantheon (مقبرة العظماء) الذى كان مكسوًا بالألوان الثلاثة ( ألوان العلم الفرنسي) من القبة وحتى الرصيف. وعلى أنغام المرسليزيه (النشيد القومى الفرنسي) كان الحرس الجمهورى يسير على هذا البساط الأبيض. وكانت الآلاف الموجودة على جانبى الشارع ساكنة على غير العادة، وكان البعض ينثر الزهور عند مرور الموكب الذى كان يتكون من: أعضاء هيئة التدريس بمعهد كورى فى المقدمة يتبعهم طلاب المرحلة الثانوية من باريس، وكان الطلاب يرفعون لوحة طولها أربعة أقدام عليها الأحرف الإغريقية ألفا وبيتا وجاما بالألوان الزرقاء والبيضاء والحمراء.
وعند اقتراب الموكب من البانثيون انتشر الطلاب وتطلعوا إلى المنطقة المقامة تحت القبة الكبرى والتى جلس إليها بعض الوجهاء وعلى رأسهم الرئيس فرنسوا ميتران. وعلى الرغم من أنه كان يعانى من مرض السرطان الذى اشتد عليه فى الأسابيع الأخيرة من فترة رئاسته التى امتدت أربعة عشر عامًا، إلا أنه قرر أن يكرس خطابه الأخير على رمز المرأة الفرنسية فى إشارة دراماتيكية حيث قرر أن يوارى رماد مدام كورى وزوجها بيير فى البانثيون، وبذلك جعل من ماري(ماريا سالومى سكلادوفسكا)
كورى أول امرأة تدفن فى البانثيون لما قدمته من إنجازات. وهكذا تم إخراج رماد آل كورى من مقابرهم بضاحية سيو Sceax ليدفنوا بجوار بعض الخالدين أمثال أونورى جبرائيل ريكونيه وچان چاك روسو وإميل زولا وفيكتور هوجو وفولتير ( فرانسوا مارى آرو) وجين بايتيس بيرين وبل لانجفين.
وكان لينج ڤاليسا - رئيس جمهورية بولندا الموطن الأصلى لمدام كورى - يجلس بجوار ميتران. وكانت أسرتا العالمين مارى وبيير موجودين كذلك وهم ابنتها إيف وأولاد ابنتها المتوفاة أيرين وزوجها فريدريك جوليو -كوري- هيلين لا نجفن - جوليو، وبيير جوليو وكلاهما من العلماء البارزين.
كان أول المتحدثين فى الحفل بيير - جيلس دى جين مدير المدرسة الصناعية للفيزياء والكيمياء بمنطقة باريس (EPCI). وهو المكان الذى اكتشفت فيه مارى وبيير ظاهرة النشاط الإشعاعى وعنصرى البولونيوم والراديوم، حيث قال، «إن آل كورى يمثلون الذاكرة الجماعية للأمة الفرنسية وروعة التضحية بالنفس». ثم تحدث لينح فاليسا عن الأصل البولندى لمدام كورى ووصفها بالبطلة الوطنية لكل من بولندا وفرنسا. عندئذ نهض الرئيس ميتران وقال:
«إن نقل رماد بيير ومارى كورى لأكثر الأماكن قدسية بالنسبة لنا ليس مجرد عمل للذكري، بل هو تأكيد على إيمان فرنسا بالعلم وبالبحث العلمى وعلى احترامنا للعلماء الذين نخلدهم هنا، وعلى تقديرنا لعزيمتهم ولحياتهم. واحتفالنا اليوم هو عمل متعمد من جانبنا للسيدة الأولى فى تاريخنا المشرف. وهى رمز آخر يحوز انتباه أمتنا ومثال على نضال سيدة قررت أن تفرض قدراتها فى مجتمع يحتفظ بقدراته واكتشافاته الذهبية والمسئولية العامة للرجال فقط»
كان من الممكن قراءة ما هو مكتوب على واجهة البانثيون فوق رأس الرئيس ميتران أثناء إلقاء خطابه، وكانت كالآتي: «إلى الرجال العظماء من بلد ممكن» وهى كلمات بادية السخرية.
وبعد هذه الكلمات دوت عاصفة هائلة من التصفيق من الجموع التى ملأت الشوارع. كانت رغبة بيير كورى المتواضع أن يدفن فى سيو لأنه كان يكره تمامًا الشهرة والاحتفالات، ومن المؤكد أنه كان سيكره ما حدث فى ذلك اليوم. وسواء رغب آل كورى فى ذلك أم لا، وبالأخص مدام كوري، فقد تم تخليدهما. وقد أصبحت مدام كورى اليوم مثلاً أعلى لكل الأعمار وإلهامًا للنساء اللاتى يرون فيها تحقيق أحلامهن وطموحاتهن.


وقد كنت هناك

وعندما كنت فى سن المراهقة، كنت أضع صورة لمدام كورى وهى جالسة تحت شجرة دردار تحتضن ابنتها إيف ذات العامين وأيرين ذات الأعوام التسعة، وذلك بجوار صور لأحد أعمال فان جوخ (ليلة ملأى بالنجوم) وبطاقة لعبة البولينج مساء يوم الجمعة. ولا أدرى لماذا كنت مشدودة إلى هذه الصورة، والأمر لم يكن بالقطع يتعلق بالعلم. وكانت مدام كورى ملهمتي، ومثل أى ملهمة أخرى فإنك لا تدرى بالضبط سبب كل هذا التقديس. ربما أكون قد أنست لهذه الصورة حيث وجدت مارى بحضنها الدافيء لابنتيها، وكانت أمى فى ذلك الوقت بعيدة ترقد فى أحد المستشفيات مصابة إصابة خطيرة فى حادث سيارة. من يدري؟
لم يكن بتلك الصورة أى من الوجوه المبتسمة عادة. كان يبدو على ثلاثتهن الحزن. لم أكن أعرف وقتها السبب، لكنى أعرف الآن. وكنت قد وضعت تحت هذه الصورة مقطعين لمدام كوري: » لا شيء يرهب فى الحياة، وهى فقط لنفهمها» و «من المهم أن نصنع حلمًا من الحياة وأن نصنع واقعًا من الحلم». ولم أكتشف أن بيركورى هو الذى كتب المقطع الأخير وليست مارى إلا أثناء بحثى لكتابة هذا الكتاب.
وفى كل الأحوال لا شك أن حياة مدام كورى كانت ملهمة فى الواقع، فقد كانت نادرة كوحيد القرن فى مجال العلم. جاءت من أسرة بولندية فقيرة وعملت لثمانى سنوات لتقتصد النقود لتدرس فى السوربون. وتغلبت على صعاب تفوق الخيال. وفى سنة 1893 كانت مارى كورى أول سيدة تحصل على درجة علمية ثانية فى الرياضيات. وكانت أول سيدة تحصل على منصب أستاذ فى السوربون وأول سيدة لا تحصل فقط على جائزة نوبل واحدة بل اثنتين، الأولى فى الفيزياء بمشاركة زوجها وهنرى بيكيريل لاكتشافهم ظاهرة النشاط الإشعاعي، أما الثانية فجاءت بعد ثمانى سنوات فى الكيمياء ( لفصلها لعنصرى البولنيوم والراديوم). وهى أول سيدة يتم انتخابها فى الأكاديمية الفرنسية للطب التى كان عمرها 224 سنة وقتها. وبالإضافة للنجاح المذهل فى عملها فقد تمكنت من تربية ابنتيها وحدها معظم الوقت حتى حصلتا على تعليم جيد وفى الوقت نفسه أصبحتا قويتين جسمانيًا ومستقلين.
هذه هى الحقائق التى تحولت إلى أسطورة رومانسية نسجت لتلائم ما يعتقده وما يتخيله كثير من الناس - الصحفيون والعلماء والأطباء ودعاة حقوق المرأة ورجال الأعمال ورجال الصناعة وحتى مدام كورى نفسها. ويتذكرها الناس مثل جان دارك فى العلم. وتحمل شوارع باريس اسمها واسم زوجها بيير، كما أن ورقة العمل فئة 500 فرنك (أصبحت الآن من اهتمامات هواة جمع النقود وكتذكار) كانت تحمل صورتها ومعملها الكوخ البائس) وبعض المناظر من حياتها.
وصورتها على طوابع البريد والعملة المعدنية. وكان يطلق على السيارات التى عدلت لتحمل معدات الأشعة السينية باسم «كورى الصغيرة» أو «Les ptites Curie» كما شارك فى صنع هذه الأسطورة الأفلام شبه الوثائقية والأفلام العادية. ولقد كنت مذهولة عندما شاهدت جرير جارسون فى دور مارى وولتر بيدجون فى دور زوجها بيير فى فيلم مدام كورى سنة 1943. ومازلت أتذكر وجها من مثلث دور مارى وهو يتصبب عرقًا عندما كانت تقوم بتحريك وعاء يغلى بالخام. ولن أنسى ما حييت منظر بيير ومارى فى ظلمات الليل وهما يدخلان إلى المعمل ليشاهدا بقعة الضوء الخافت تتوهج فى قاع أحد الأطباق. صاحت مارى حينئذ بينما كانت دموعها تنهال على خديها، «اوه بيير، هل هذا ممكن؟ هل هذا هو الشيء؟» نعم لقد كان هو هذا الشيء ــ الراديوم.
مرت بعد ذلك سنوات عديدة منذ كنت الفتاة الساذجة الملهمة ببطلة هوليوود، والتى تمثل النساء وتاريخ الوقت الذى عشن فيه الآن فوق كل ذلك الموضوع الأساسى فى كتاباتى. لماذا تستسلم بعض النساء لأقدارهن بينما تهرب أخريات أو يتلقفن حول العقبات؟ كيف أثر المجتمع والأسرة فى طموحاتهن؟ ولماذا تبحث بعض النساء عن الاستقلالية بينما تفضل الأخريات الامتثال لما هو مقدر لهن؟ وعلى أى الأوتار عزفت مدام كوري، وعلى الأخص بالنسبة للنساء؟ كانت كل هذه الأسئلة جزءا من أمور كثيرة حيرتنى.
وما يشغلنى الآن بولع يقع فى المسافة ما بين الخيال والواقع. وربما مازالت مدام كورى الأسطورة أشهر امرأة عالمة فى العالم. ويعتبر الراديوم اكتشاف مدام كورى المذهل، وقد حظى باهتمام مهول فى معالجة السرطان من خلال أشعته. لكن فى الواقع، هل هذا صحيح، وهل كان ذلك هو مساهمتها الكبرى فى العلم؟ لاشك أنه على مدار القرن الماضى تحولت سيرة حياة مدام كورى إلى قمة الكمال، لكن وراء هذه الصورة كانت هناك امرأة حقيقية. إنها الشخصية التى أرغب فى تتبعها.
بـــاربــارا

 


للاستزادة:
Barbara Goldsmith, Obsesasive Genius: The Inner World of Marie Curie, W. W. Norton, 2005

 

 

هوس العبقرية، الحياة السرية لمارى كوري
باربارا جولد سميث
دار العين للنشر
القاهرة 2009

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions