في معارض الفنانة تحية حليم ..هيكل وكلام في الحضارة والفن أبريل 2004

حلمى التونى

يوم الاثنين 15 مارس الماضي، افتتح الأستاذ محمد حسنين هيكل معرضًا للوحات الفنانة الراحلة تحية حليم أقامته الجامعة الأمريكية بالقاهرة. والأستاذ هيكل هو

المحـتــوي

يوم الاثنين 15 مارس الماضي، افتتح الأستاذ محمد حسنين هيكل معرضًا للوحات الفنانة الراحلة تحية حليم أقامته الجامعة الأمريكية بالقاهرة. والأستاذ هيكل هو الذي بدأ تقليدًا حضاريا رفيعًا، بأن يكون للمؤسسات الصحفية مجموعة من المقتنيات الفنية تشهد علي تحضرها واهتمامها واحتضانها للفنون. تكلم الأستاذ هيكل عن الحضارة والفن ورسم «بالكلمات» صورة لفنانة ترسم «بالخطوط والألوان» حلمي التوني اسمحوا أولا أن أجيب علي سؤال ربما خطر علي بال أحد من كرام الحضور في هذا اللقاء، وهو: لماذا أنا الآن هنا؟ - داخل إطار يبدو بعيدا عن «موطني» الطبيعي، باعتباري كائنا عاش عمره، ومارس عمله وسط مواقع الصحافة - وقرب مواقع السياسة. * ولاختصار الطريق إلي إجابة واضحة، فقد أقول من البداية أنني واحد من الذين يعتقدون أن «الفن» هو الأب الحقيقي للثقافة في كافة مجالاتها، ثم إن الفنون التشكيلية هي الحلقة الرئيسية في قصة الصعود المدهش - علي سلم الحضارة الإنسانية. * دعونا نتذكر أن الإنسان البدائي الأول رسم خطا قبل أن يكتب حرفا، ونقش حجرا قبل أن يصوغ عبارة، وشكل طينا قبل أن يبسط ورقة، ووضع بقعة لون قبل أن يغرس بذرة زرع، ونفخ في بوصة قبل أن يدير عجلة. وحين احتاج الإنسان البدائي أن يتخذ لنفسه مأمنا، فقد كان في ذلك يستهدي بالخطوط قائمة ونائمة - تعطيه حتي في عمق المغارة والكهف ما يصلح أن يكون مأوي أو مسكنا.
دعونا نستعيد أنه عندما توصل الإنسان إلي فكرة الأبجدية، فقد كانت تلك في الواقع محاولة لرسم الأصوات والإشارات علي شكل خطوط وعلامات، وكانت الأبجدية وسيلة الإنسان إلي تجسيد خياله، ووسيلته إلي تنظيم فكره، ووسيلته إلي توسيع مجال نظره، ووسيلته إلي تخزين وتبويب دائرة معارفه، ووسيلته إلي مد أفق مداركه بما فيها مقدرته علي التصور الخلاق الذي يتمثل ويستوعب ملكات البشر ومواردهم وقدراتهم وإرادتهم، بحيث يملكون فرصة الحلم هذه اللحظة، وإمكانية تحقيق الحلم في اللحظة التالية. * وعندما استطاعت الكلمة أن تحافظ وتختزن المعارف والمشاعر والطموحات، فقد كان ذلك مدخل الإنسان إلي الفلسفة - وكانت الفلسفة بدورها مدخله إلي العلوم، وكانت العلوم هي التي فتحت الأبواب للتكنولوچيا، وكذلك سقطت القيود وتلاشت المستحيلات. * وحين تعددت الجماعات والشعوب والأمم، وتفرعت اللغات وتواصلت الثقافات تدفق المجري الواسع العميق لشراكة إنسانية واحدة، صبت فيه كل جماعة أفضل ما عندها، وما وجده غيرها صالحا له - وتلاحقت العصور حتي وصلنا إلي حيث نحن الآن من حضارة إنسانية واحدة مشتركة وفياضة لمن يستطيع بلوغ تخومها في عالم يعرف كل سكانه ما يجري في كل أركانه في نفس الوقت. * وكذلك فإننا وفي وحدة الحضارة الإنسانية نستطيع أن نري بوضوح تلك العلاقة الوثيقة بين «الفن» (الشكل والخط والحفر والنحت واللون والمعمار وغيرها) - وبين «الكلمة» بتعريفها البشري وليس السماوي باعتبارها (الأبجدية والحرف والكتاب والجريدة والإنترنت). كان التشوق إلي التعبير هو البداية، ومن التعبير إلي المعني، ومن المعني إلي القيمة، ومن القيمة إلي الرقي، ولاتزال الأشواق غالبة. * وكان الإعلام مكتوبا بالحرف أولا، ومنطوقا بالصوت ثانيا، ومتوهجا باللون ثالثا - أهم وسائل وأدوات ذلك التواصل الثقافي والتدفق الحضاري. ومع أن تباين مطالب المجتمعات وتعارضها وتصادمها أحيانا - وضع السلطة السياسية في بلدان عديدة علي طريق صدام مع مسئولية التعبير والمعني والقيمة والرقي - إلا أن مسار التقدم الحضاري ظل قادرا علي فتح مسالكه ومعابره، بصرف النظر عن العقبات والتضحيات. * في هذا الإطار الأوسع فلعله من المعقول أن يسعي كاتب صحفي قضي حياته مع الحرف إلي الحفاوة بفنانة أعطت حياتها بالكامل للفن، وأن يكون ذلك في إحدي القاعات الشهيرة لجامعة كبيرة، لكي نلتقي الليلة هنا في محبة «تحية حليم»، وليس تذكارا لها، لأن التذكر يرتبط باستعادة غياب، وأما المحبة فحضور مضيء وكذلك «تحية حليم». * وفي مناسبات مماثلة، فمن المعتاد أن يقول أي متكلم أنه يتشرف بأن يكون بين المدعوين، وفي بعض المرات يكون إبداء هذا الشعور نوعا من المجاملة، والمجاملة تختلف عن النفاق لأن الناس - في العادة - يجاملون حين يتعاطفون، ومع ذلك فإن شرف المشاركة معكم في محبة «تحية حليم» ليس مجاملة بالنسبة لي، وإنما داعيه أكثر نفاذا وعمقا من المجاملة مهما بلغت رقتها. * سوف يتحدث غيري من العارفين هذه الليلة - باستفاضة أكثر، وعلم أدق عن شخصية «تحية حليم» - وعن مدرستها في الإيحاء والتأثير - وعن تجربتها الإنسانية والشخصية. وفيما يتعلق بي فإنني لا أستطيع أن أكون ناقدا ولا شارحا، لأني من اللحظة الأولي وجدت نفسي صديقا ل «تحية»، مأخوذا بالحس أكثر من الدرس، ومنجذبا إلي العمل من أول نظرة، ومشدودا إلي ذلك المزيج الجميل الغامض في أفكارها وتكويناتها ولمساتها، وكلها تشير وتومئ وتوحي دون أن تعترف وتبوح وتفشي - وكلها تتدفق لونا ونغما وهمسا - ولكن في تحفظ وجلال وكبرياء. * كثيرا ما جاءت «تحية» إلي مكتبي تحدثني عن خواطرها وأحوالها، وكثيرا ما ذهبت إلي مرسمها أتابع ما تفعل، وأحثها علي زيادة، ومن سوء الحظ أنها في السنوات الأخيرة من عمرها - توقفت عن الرسم، لأن أعصاب يديها لحقها التهاب جمد أصابعها معظم الوقت. وسواء جاءت «تحية» إلي مكتبي أو ذهبت أنا إلي مرسمها، فقد كانت في كل الأحوال نفس المخلوقة المندهشة بكل شيء، والمطمئنة الخائفة في نَفَسْ واحد، والمتوجسة بالمفاجأة حتي حين لا تكون هناك مفاجأة، وكنت أرحب بها حين ألقاها بوصفها «الفنانة الحائرة بين القطط المقيمة والعصافير المسافرة». * وكان ذلك الوصف حقيقيا للمشهد الأكثر ألفة في حياتها، فحيث كانت «تحية» تعيش أو تعمل، كانت القطط حولها تشاركها بيتها، وهو مرسمها كذلك. وعند نافذة الغرفة التي تعمل فيها كانت هناك شرفة عريضة

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions