قــل لـى كيـف تنظـــر ..روايـة مـــن الأدب التــرگــــى الحـــديث نوفمبر 2002

ناصر الرباط

الإعلام كله اليوم، مكتوب ومرئى ومسموع وأثيرى، مليء بالتحليلات والدراسات والآراء عن التقارب والتضاد فى الماضى والحاضر ما بين الغرب والشرق، ما بين النظام

المحـتــوي

الإعلام كله اليوم، مكتوب ومرئى ومسموع وأثيرى، مليء بالتحليلات والدراسات والآراء عن التقارب والتضاد فى الماضى والحاضر ما بين الغرب والشرق، ما بين النظام العلمانى الغربى والنظام الدينى الإسلامى، ما بين الثقافة الغربية العملية والعلمية والثقافة الشرقية الروحية والشاعرية، وما بين التحرر والانطلاق والفردانية من جهة والتزمت والانغلاق والانصياع لإرادة فوق ـ فردية من جهة أخرى. كل هذه التضادات تضادات حدية، بعضها صحيح تاريخياً وبعضها مركب ومصنوع أو متخيل ومهول أمره لغايات سياسية غالبًا. ولكنها كلها تحدد علاقة الطرفين ـ أى الغرب والعالم الإسلامى ـ ببعضهما البعض وتضفى عليها نكهة مرة يزيدها مرارة كونها تطبق كل يوم على أرض الواقع فى التحالفات الدولية والعمليات العسكرية أو «التخريبية الإرهابية» والتفجيرات والاغتيالات والغارات الجوية والاعتقالات التى تنبع من قبول هذه التضادات الحدية كحقيقة تاريخية ومبدئية وكواقع معاش وحتمى، ولعلها كذلك. ولكن التاريخ، وعاء التجارب الإنسانية الواسع والدائم، لا يحب التضادات الحدية الثابتة بين الشعوب والأقوام والثقافات والحضارات، فهو يقوضها على أوهامها كلما شمخت راسخة متباهية، ويفت من اكتمال هيئتها كلما استمرأت ثباتها وديمومتها لكى يفتق حدودها ويجعل التشابه والتكامل والاندياح المتبادل بين الثقافات المختلفة، متحابة كانت أو متباغضة، معيار حركته وعلامة تدفقه وعنوان واقعه. فالثقافات تتعارف وتتقاطع وتتبادل التأثير باستمرار. ولعل هذه هى حقيقة التاريخ الأولية والدائمة التى تطغى عليها أى حقيقة أخرى. ولا يوجد أصلاً تضاد كامل بين الحضارات أو الثقافات فى التاريخ، اللهم إلا تلك التى لم تتعارف وتتقاطع بسبب من بعد المسافة واستحالة المواصلات، وبالتالى لا يمكنها أن تكون متضادة تعريفًا وواقعًا. أما تلك الحضارات التى تعارفت وتعايشت وتحاربت وتصالحت وتقاطعت وتبادلت المعرفة والسلع والناس والأفكار ـ والحضارتان الإسلامية والغربية على رأسها ـ فهى بحكم تقاطعها فى الزمان والمكان والعقائد لم تتمكن من المحافظة على وهم تضادها إلا فى اللحظات العويصة عندما كانت هويتها وكينونتها مهددتين بالذوبان والاختفاء، وحتى فى تلك اللحظات القصيرة لم يكن التضاد الحدى أكثر من وهم سطحى استعمله المؤججون العقائديون من ساسة ومنظِّرين وعسكريين فى كلا الطرفين للمحافظة على امتيازاتهم بسبب من كونهم قد ابتدأوا يصدقون رسالة النقاء العرقى والحضارى التى لفقوها أساسًا لأنها أسهل على التصديق أو لأنهم اقتفوا خطى مفكرين سياسيين أكثر منهم فاشية وانغلاقًا وعدوا شعوبهم بالنصر والسؤدد والسيطرة، وفى غالب الأحوال لم يجلبوا لها سوى الدمار والخراب وسوء السمعة. ولكنى اليوم لست بصدد تحليل تاريخى للعلاقة بين الشرق والغرب وإن كنت أود أن أتخذ من هذه العلاقة الطويلة ودائمة التغير والمتعثرة عمومًا مدخلاً لتقديم الرواية الرائعة للقاص التركى الأشهر أورهان باموك، «اسمى القرمزي» (My Name is Red) التى ظهرت طبعتها الأمريكية الأولى قبل أقل من شهر من هجمات الحادى عشر من أيلول على واشنطن ونيويورك، تلك الهجمات التى يبدو أنها عمقت من التضاد المستشرى ما بين الشرق المسلم والعربى بوجه خاص، والغرب التكنولوجى والعلمانى سياسياً وحقوقياً، وإن كان لايزال ثقافياً مسيحياً ـ يهودياً. لا أعلم بسبب من إقامتى فى الولايات المتحدة فيما لو كانت هذه الرواية قد ترجمت للعربية وإن كنت أرجو ذلك لأجل قراء العربية ولأجل تدفق الحوار الثقافى فى العالم الإسلامى وخارجه، هذا الحوار الذى تراجع الدور العربى فى قيادته وإذكائه تراجعًا كبيرًا فى العقدين الأخيرين، بحيث أصبحت الثقافة العربية هامشية فعلاً ليس فقط على الصعيد العالمى، وهذا هاجس كبير ولكنه مفهوم تاريخياً، ولكن أيضًا على الصعيد الإسلامى والآسيوى ـ الأفريقى والعالمثالتى، أى الدوائر الثقافية الثلاث التى تنتمى لها الثقافة العربية والتى يمكنها نظرياً أن تكون فى مركز العقد منها. أورهان باموك اليوم هو الروائى الأكثر شهرة فى تركيا وواحد من أكثر الروائيين شهرة فى أوروبا، التى يشعر هو نفسه بالانتماء الحضارى لها كما غالبية مواطنيه العلمانيين أكثر من انتمائه لتراث بلاده المسلم والإمبراطورى العثمانى وإن كان يشعر بالفخر تجاه إنجازات هذه الامبراطورية. وقد ترجمت كتبه الستة كلها إلى العديد من اللغات الأوروبية وهو ما يؤمن له الشهرة العالمية التى أصبحت فى عصرنا المعولم دليل التفوق الأوحد. وهو فى النصف الثانى من العقد الرابع من عمره ومن مواليد استنبول، المدينة التى تختزل فى موقعها وناسها وتاريخها كل العقد المتشابكة فى العلاقة ما بين الشرق والغرب على مر أكثر من ألفى سنة منذ أن كانت بيزنطة الإغريقية إلى أن أصبحت القسطنطينية البيزنطية المسيحية فاستنبول العثمانية المسلمة وفى المائة سنة الأخيرة مدينة عالمية، علمانية، تنام على البوسفور فوق حدود حضارية وسياسية فقدت أهميتها الاستراتيجية، وتنسج من ذكرياتها الامبراطورية العظيمة أحلامًا تهدهد فيها نفسها وتبعد عن مخيلتها هواجس المعاصرة، والهوية والانتماء والإسلام السياسى والعنجهية الأوروبية التى ترفض أن تنسى لها دورها كعاصمة العثمانيين الذين هددوا قلب أوروبا لأكثر من ثلاثة قرون وتضمها لاتحادها العلمانى القوى. وباموك ملتصق بمدينته، لا يطيق الابتعاد عنها لفترة طويلة كما صرح فى أكثر من محاضرة، وهو يقيم فى واحد من أكثر أحيائها تشبعًا بالماضى العالمى الذى طبع المدينة بطابعها المتميز، حى «جاشنكير» الذى يهرول نازلاً من «بيرا» الحى الأوروبى التقليدى خارج حدود العاصمة الامبراطورية، إلى البوسفور، عصب الحياة التجارية والفاصل التقليدى بين أوروبا وآسيا. ولعل تعلق باموك بمدينته هو أكثر العناصر تأثيرًا فى كتابته الروائية، فالمدينة هى خلفية سرده كله، وشوارعها وأزقتها وأحياؤها وممراتها المائية تشكل الأبطال الثابتين فى كل رواياته التاريخية والمعاصرة. ولعل خلفيته التعليمية كمعمار، وإن كان لم يعمل قط بالعمارة، قد جعلت من تعامله السردى مع المدينة أكثر

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions