الأنفلــــونزا الكبـــــرى :قصـــــة الجائحــــة
يوليو 2009
ترفع منظمة الصحة العالمية درجة التحذير من انتشار أنفلونزا الخنازير إلى الدرجة السادسة. وتنتشر مقالات على الإنترنت تقول بأنه «لا وباء هناك». وأن المسألة كلها صنعتها شركات الأدوية. وتعلن وزارة الصحة فى مصر عن وصول عدد الإصابات بأنفلونزا الخنازير إلى 17 (حتى كتابة هذه السطور). الأمر الذى يمثل خطرًا، أخذا فى الاعتبار أن وباء أنفلونزا الطيور كان قد استوطن مصر والتى سجلت أعلى معدل للوفيات بسبب هذا المرض فى العالم.
المحـتــوي
ترفع منظمة الصحة العالمية درجة التحذير من انتشار أنفلونزا الخنازير إلى الدرجة السادسة. وتنتشر مقالات على الإنترنت تقول بأنه «لا وباء هناك». وأن المسألة كلها صنعتها شركات الأدوية. وتعلن وزارة الصحة فى مصر عن وصول عدد الإصابات بأنفلونزا الخنازير إلى 17 (حتى كتابة هذه السطور). الأمر الذى يمثل خطرًا، أخذا فى الاعتبار أن وباء أنفلونزا الطيور كان قد استوطن مصر والتى سجلت أعلى معدل للوفيات بسبب هذا المرض فى العالم.
فى أرشيف «وجهات نظر» مقال نشر فى عدد أغسطس 2004 يلخص القصة الملحمية التى كتبها جون بارى عن هذا الوباء، عندما تفشى ما بين عامى 1918 و1919 واستحق أن يوصف بأنه الوباء الأكثر فتكًا فى التاريخ.
(المحـرر)
[ 1 ]
رواية «جون باري» عن وباء الأنفلونزا الذى تفشى ما بين عامى 1918 و 1919. وقتل من البشر أكثر مما قتلتهم بنادق وحراب الحرب العالمية الأولي، رواية رائعة مفعمة بالحياة زاخرة بالمعلومات ويتعين أن تثير اهتمامًا غير عادى فى عام ظهور نوع فتاك من «أنفلونزا الطيور» ينتقل إلى البشر ويتفشى فى شرق آسيا وقد يكون على وشك اجتياح العالم على نطاق واسع كما فعل سلفه «وباء 1918». فى ذلك العام، لم يكن أحد يعرف سبب الوباء، الأمر الذى أدى إلى فشل جهود إيجاد الدواء. أما اليوم فإن المشتغلين بالطب، وكذلك هيئات الصحة العامة، فى وضع استعداد أفضل كثيرًا عما كان عليه الحال عام 1918. إنهم يعرفون الآن طرق تحصين الإنسان ضد فيروس الأنفلونزا. رغم ذلك، ومع كل الخبرات والمهارات المتراكمة، يظل الشك قائمًا فى قدرة المؤسسـة العلاجية المعاصرة على تقديم المصل الضروري، فى التوقيت الصحيح، وبالقدر الكافي، لإحباط زحف أمراض وموت مشابه لما حدث قبل 86 عامًا.
يروى «باري» قصة الوباء فى فصول تبحر عبر أزمنة بعيدة وقريبة، وتفاصيل مثيرة لذكريات بداية تفشى الأنفلونزا فى ولايات أمريكية. يتعرض للمحاولات المعملية والجهود الحثيثة، وإن فشلت، لمجموعة من الأطباء الأمريكيين سعت إلى العثور على الجرثومة المسببة للمرض، بهدف إيجاد المصل المضاد للوباء الذى خمد فى نهاية المطاف وانحسر نتيجة عوامل خاصة بالدورة الطبيعية للجرثومة وتطورها، والعلاقة الأزلية ما بين الكائنات الحية والبيئة وارتفاع مستويات المقاومة داخل خلايا الدم عند الإنسان، والتغير المهم المفاجئ للمورثات، والذى يجرد الفيروس من خاصيته المميتة.
خمد الوباء لأسباب لم تكن مفهومة زمن تفشيه، ودون أى تدخل طبى يعترض عملية التفاعل الطبيعى بين الفيروس الطفيلى وجسم الإنسان. لكن رواية «باري» تستفيد من الاكتشافات العلمية اللاحقة، وتستند إلى فهمه المتجدد المثير للإعجاب والذى يضفى تفردًا و«هيبة» على الصور التى يرسمها لـ «ديناميكية» العدوى والوباء، ووظيفة الفيروس ومحاولة الأطباء ومسئولى الصحة العامة مواجهة الخراب والتعامل مع الموقف. يرصد «باري» الأخطاء ويبدى تقديره لـ «الجهد» ويعيد بناء دورة العدوى وطبيعة الوباء فى ضوء مستويات الفهم العلمى الحالية، ويقول إنه احتاج لكى ينجز كتاب «الأنفلونزا الكبري» إلى 7 سنوات، وهى ضعف الفترة التى توقعها لإنجازه، وإن بعض أسباب «التأخير» تعود إلى توسعه فى فصول الكتاب عندما قرر دراسة الأوضاع المؤسفة لصناعة الدواء الأمريكية قبل العام 1918 كى يتوصل إلى فهم أفضل للموقف الذى كان على العلماء والأطباء مواجهته عندما تفشى وباء الأنفلونزا فى ذلك العام. ويشير بارى إلى سبب آخر يكمن فى صعوبة الحصول على مادة مفيدة عن الوباء ويقول: «كان من السهل تتبع حكايات الموت. لكن اهتمامى الأكبر انصب على حكايات أولئك الذين حاولوا ممارسة بعض سيطرة على الأحداث. وكل من فعل ذلك كان فى عجلة من أمره، وفى حالة ارتباك شديدة إلى درجة أن أحدًا لم ينتبه إلى ضرورة تدوين الأحداث وحفظها فى سجلات».
السجلات هى ـ بلا شك ـ أول ما ينهار تحت وطأة تفشى الوباء. وظنى إن عاملاً آخر له تأثيره فى هذا السياق ويتمثل فى وجود أسباب خاصة تدفع الذين نجوا من الوباء إلى قمع ذكريات معاناتهم. وهذا العامل يفسر ـ فى اعتقادى ـ ندرة الأرقام فى الذاكرتين العامة والخاصة عن وباء أنفلونزا عام 1918، رغم ضخامة الإحصاء الذى سجل حوالى 675 ألف حالة وفاة فى الولايات المتحدة، وما بين 20 إلى 50 مليون حالة حول العالم، معظمها فى الأسابيع الاثنى عشر الأخيرة لعام 1918. إن كل من عاش تلك الأسابيع الأخيرة، وإلى أن دار الوباء دورته، خاض تجربة الخوف من الموت أو من السقوط مريضًا، أو عانى معاناة حادة مع المرض. لقد كنت من هؤلاء الناجين لكننى لا أتذكر شيئًا إذ كان عمرى وقتها 13 شهرًا عندما سقطت أمى صريعة المرض فى شيكاغو. كانت حاملاً فى شقيقتى التى وضعتها فى الرابع عشر من ديسمبر 8191، قبل موعد ولادتها بأسابيع. أصبت، ووالدي، بالأنفلونزا، وكان والدى خريجًا جامعيا مفلسًا وجد نفسه، وأمي، وحيدين فى مدينة مشلولة وبلا أقرباء أو عون خارجى. لم يسجل والدى معاناتهما فى كتاب. ولم أسمعهما يتحدثان ـ فيما بعد ـ عما تبقى لديهما من ذكريات. بدت التجربة الأكثر رعبًا فى حياتهما وكأنها تعرضت لمحو ذاتى منظم لكى يبقى ما جرى بالفعل، وصراعهما من أجل البقاء، مجهولاً بالنسبة لى. لكننى علمت من كتاب «باري» أن وباء الأنفلونزا كان أقل فتكًا فى شيكاغو مع حلول شهر ديسمبر عام 1918 ، عما كان عليه بداية تفشيه داخل معسكرات الجيش بالساحل الشرقى والمدن القريبة. «أصيب الشرق والجنوب بالوباء مبكرًا وبقوة أعنف من تلك التى أصابت الساحل الغربى.. وفى وسط البلاد كانت المعاناة قليلة». وهذا يفسر لى نجاة والدتي، وكذلك شقيقتي، رغم أن الأشهر الستة الأولى من عمرها كانت محفوفة بالمخاطر. وعندما لجأت أسرتى خلال الصيف إلى مسقط رأس أبى فى مزرعته بكندا، أنقذت الشمس المشرقة، ورعاية جدتي، أمى وشقيقتى من أهوال شهر ديسمبر. انزوت الأهوال بعيدًا فى زوايا النسيان وبقيت النهايات السعيدة تعاد وتروى دون ذكر لتفاصيل آلام الوحدة والخوف واليأس والمعاناة.
لدى كل من عانى وشفى من وباء الأنفلونزا ذكريات مشابهة مقموعة. ويرى «باري» أن كتاب الصحافة والدراما فى العشرينيات لم يذكروا إلا القليل عن معاناة البشر أيام الوباء. وأذكر أن الشخص الوحيد الذى تحدث معى عنه، فى المحيط الذى تربيت فيه، كان صبيا مات والده فى معسكر للجيش. وما نقلته إليه أمه لم يكن فيه الكثير عن وباء الأنفلونزا بقدر ما فيه عن الحرب التى اعتبرتها سبب وفاة زوجها. الجديد عند «باري» هو عثوره على ما يشبه رواية يوميات تسجل حالة الإصابة بالوباء فى كتاب بعنوان «فرس شاحب.. فارس شاحب» نشرته «كاترين آن بورتر» عام 1939، وكانت نفسها ضحية المرض. وينقل «باري» عن «بورتر» قولها: «... راحت تغرق وتغرق فى ظلمات عميقة. رقدت كحجرة فى قاع الحياة مدركة أنها لم تعد ترى أو تسمع أو تتكلم. لم تعد تشعر بأعضاء جسدها. انسحبت إلى نقطة بعيدة عن اهتمامات البشر ولم تتبين سوى لحظة احتراق وحشية فى بؤرة من كينونتها لعلها شكلت الدافع الوحيد وراء إرادة عنيدة لكى تقاوم الانهيار دون حراك أو مساعدة أو خطة...». هذه المشاعر تبدو زائفة بالنسبة لى فقد أصبت، فى الخمسينيات، بالتهاب رئوى (وهو القاتل الفعلى لمعظم ضحايا وباء الأنفلونزا). وربما شعرت وقتها بـ «قاع ظلمات وانسحابات» بورتر. لكننى لم أشعر بتلك «الإرادة المشتعلة» للحياة. فى المقابل، وبفضل «البنسلين» أصابنى الشحوب ورقدت فى حالة إغماء وصحوت فى اليوم التالى خائر القوى بدرجة لم أعرفها من قبل.
آلام الحمى تعقبها حالة إغماء، وبعدها إما أن نشفى أو نموت. وأظن أن هذا هو ما خبره معظم ضحايا وباء الأنفلونزا ما بين عامى 1918 ـ 1919. لا يوجد الكثير لكى يقال ويذكر. ولا يقول كتاب «باري» الكثير عن كيف كان الحال عند الإصابة بالأنفلونزا الوبائية فى تلك الفترة. لكنه، وبصياغات أدبية غير عادية، وبراعة مثيرة للإعجاب فى عرضه لكل جديد فى علم الأوبئة، يقوم بعملية تنشيط قوية للذاكرة المعاصرة فى وقت قويت فيه التهديدات من أشكال جديدة لفيروس أنفلونزا مميت ظهر ويثير قلق المختصين والعامة على نطاق واسع.