الاستبداد المـرض المـزمن للأمة يونية 2009

سلام الكـواكبى

 بعد مرور مائة عام ونيف على وفاة الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، ما زالت صرخته المدوية تتردد  حاملة معها الكثير من الخيبة والأسف على مرور الزمن واستمرار الأوضاع. وكان تمنى الكواكبى قبل مغادرة الحياة، أن ينساه الناس بعد سنوات عدة لأن صيرورة التطور البشرى ستغير أساليبها السياسية والفكرية نحو الأفضل ويتم بالتالى تجاوز الاستبداد بمختلف أشكاله إلى نوع متطور من الحياة العامة القائمة على ما أسماه بالديمقراطية الدستورية التى تحكم مختلف أوجه الحياة وتدفع بالمجتمعات إلى تطوير علمها ومعارفها ومكتسباتها وتشكل الأساس للخروج من دائرة الانحطاط. ولم يرد فى خلده أن بعد كل هذه السنوات، سيكون الاستبداد قد تطور وأعيد إنتاجه على نحو أكثر صلابة، وحيث يتم استلهام آخر ابتكارات الحداثة لزيادة الرقابة على المجتمعات والفتك بها إن هى عبرت عن الرغبة السلمية بالتحرر.



المحـتــوي

 بعد مرور مائة عام ونيف على وفاة الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، ما زالت صرخته المدوية تتردد  حاملة معها الكثير من الخيبة والأسف على مرور الزمن واستمرار الأوضاع. وكان تمنى الكواكبى قبل مغادرة الحياة، أن ينساه الناس بعد سنوات عدة لأن صيرورة التطور البشرى ستغير أساليبها السياسية والفكرية نحو الأفضل ويتم بالتالى تجاوز الاستبداد بمختلف أشكاله إلى نوع متطور من الحياة العامة القائمة على ما أسماه بالديمقراطية الدستورية التى تحكم مختلف أوجه الحياة وتدفع بالمجتمعات إلى تطوير علمها ومعارفها ومكتسباتها وتشكل الأساس للخروج من دائرة الانحطاط. ولم يرد فى خلده أن بعد كل هذه السنوات، سيكون الاستبداد قد تطور وأعيد إنتاجه على نحو أكثر صلابة، وحيث يتم استلهام آخر ابتكارات الحداثة لزيادة الرقابة على المجتمعات والفتك بها إن هى عبرت عن الرغبة السلمية بالتحرر.
 تهدف هذه المقالة إلى التوقف عند الحديث بدايةً عن الاستقطابات السياسية المختلفة والمتناقضة أحيانا كثيرة، والتى تقع على الفكر النهضوى فتجعله هزيلاً أحياناً أو تحوله إلى لغة شعاراتية ممجوجة تخدم فيما تخدم استمرارية الانغلاق الفكرى والتقوقع الأيديولوجى والبحث الدائم عن جمل سهلة من التاريخ تساعد على تجاوز حراجة ما فى موقع وظرف تاريخى ما. ونتوقف عند موقع العلوم الإنسانية لدى الكواكبي، من حيث إنها علوم متشعبة تدرس الدين والفكر الدينى كما تدرس أية ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو حضارية أو غيرها، من دون مقدسات مُرّهبة وباعثة على التنصل من تحكيم العقل والمنطق. ومن خلال استعراض أفكار الكواكبي، سأتطرق إلى إسقاطات المفاهيم الحداثية واستخداماتها وعلاقته بالفكر الغربى ومثاقفته. ولكن، وكتمهيد، أستعيد تاريخه الشخصى تثبيتاً لوقائع اختلف عليها المؤرخون حتى يومنا هذا.


عبد الرحمن الكواكبي،حياة قصيرة:

ولد عبد الرحمن الكواكبى فى حلب عام 1854 ودرس فى أنطاكية قبل أن ينتقل إلى المدرسة الكواكبية فى حلب والتى كان يديرها والده حيث تعلم العربية والتركية والفارسية وتعمق فى مبادئ الدين واللغة. وأبدى يافعاً اهتمامات سياسية حيث كان قارئاً نهما للكتب والصحف. مما ساعد فى تكوين شخصيته الفكرية وتعزيز إرادته بالانتقال من الذاتى إلى العام. فبدأ الكتابة فى الصحافة منذ عامه الثانى بعد العشرين، وبدأ محرراً فى جريدة الفرات الرسمية ثم أنشأ جريدة الشهباء وهى أول جريدة عربية خاصة صدرت فى حلب لتتوقف بعد خمسة عشر عدداً بأمر من الوالى العثماني. وفى عام 1869 أنشأ جريدة اعتدال ليتم تعطيلها أيضاً من قبل الوالى لما احتوته من فكر تحريضى ضد الاستبداد العثماني. واستمر بالكتابة فى الصحف وتنقل بين مناصب عدة حاولت من خلالها السلطة احتواءه واستمالته، وبعد تزايد الضغوط عليه استقال ليتفرغ لتسجيل شكاوى المواطنين ورفعها إلى الباب العالى من خلال مكتب للمحاماة افتتحه فى حلب، مما جعله قريباً من أحوال الناس ولامس معاناتهم. وبعد أن ضاقت به سبل الحياة والتعبير فى بلده، وبعد أن ألقى القبض عليه مراراً وسجن وحكم عليه بالإعدام قبل أن تتم تبرئته، غادر حلب سنة 1899 إلى مصر سراً. وفى القاهرة اجتمع إلى أصدقاء من السوريين لجأوا قبله، فكان اللقاء مع رشيد رضا ومحمد كرد على وإبراهيم سليم النجار وطاهر الجزائرى وعبد القادر المغربى ورفيق العظم وعبد الحميد الزهراوى وغيرهم. ولقد استفاد من تمتع مصر حينه بقسط من حرية التعبير وانفتاحها على الثقافة الأوربية. ولقد عالج مسألة الاستبداد والحكم المطلق من خلال كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» وحاول أن يتخيل مجتمعاً إسلامياً من خلال مؤتمر يبحث حال المسلمين ودينهم، فكان كتابه الثانى «أم القري». وأثناء مكوثه فى مصر كتب العديد من المقالات السياسية وقام فى عام 1901 برحلة وصل فيها إلى بلاد الهند وطاف الجزيرة العربية ، وزار الحبشة والسودان وزنجبار وسواحل إفريقيا الشرقية وسواحل المحيط الهندي. ودرس من خلالها أحوال الناس والثقافات والأرض وثرواتها، فصحت تسميته: الرحالة ك. وبعد نهاية هذه الرحلة التى دامت أشهراً ستة خط كتاباً لم تمهله المنية لطباعته واختفى مع ما اختفى من كتب بعد وفاته مسموماً عام 1902 على أيدى عملاء السلطان عبد الحميد، والذين سرقوا ما احتواه منزله فى القاهرة من كتب ومخطوطات ويعرف منها كتابا «صحائف قريش» و«العظمة لله». ويذكر أحد أصحابه، والذى كان يوقع مقالاته باسم «نديم الكواكبي» واسمه عبد المسيح الأنطاكي، فى عام 1905 وفى مقدمة طبعة جديدة من «طبائع الاستبداد» بأنه سينشر لاحقاً كتابين للكواكبى الأول: «أمراض المسلمين والأدوية الشافية لها؟» والثاني: «أحسن ما كان فى أسباب العمران». ويتحدث رشيد رضا عن كتاب للكواكبى اسمه «ماذا أصابنا؟ وكيف السلامة؟».
 نشأ الكواكبى فى حلب عندما كانت ولاية فى السلطنة العثمانية المريضة التى دخلت فى طور الانحلال، بعد أن تراكمت ديونُها واستفحل الفسادُ فيها. وقد عانت حلب ما عانته أجزاءُ السلطنة الأخرى من الظلم والفساد، فى ظلّ سلطانٍ تمسّك بمركزية الإدارة، وحوّل الجيش عن وظيفته الأساسية، من الدفاع عن السلطنة إلى الدفاع عن أمنه الشخصي، مستعيناً على ذلك بشبكةٍ من الجاسوسيّة الأخطبوطية، وبفرض رقابة مشدّدة على المطبوعات. بعد مجيء روّاد النهضة الأوائل، ظهر الكواكبى ليدفع قُدُماً مشاريعَ من سبقوه فى محاولة التأثير فى السلطة السياسية، وتطوير المجتمع - ثقافياً - ليعى دورَه فى النهضة والتقدم، فكان الكواكبى محصلةَ اطّلاع المفكرين العرب على الفكر الغربى وتمكنهم من التراث العربي- الإسلامي. وفضلاً عما سبق، نجد عوامل شخصية تكوّن بعضُها من خلال معاناة الكواكبى فى أثناء صدامه مع الولاة المستبدين وأعوانِهم من المنافقين.

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions