الاستبداد المـرض المـزمن للأمة



 بعد مرور مائة عام ونيف على وفاة الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، ما زالت صرخته المدوية تتردد  حاملة معها الكثير من الخيبة والأسف على مرور الزمن واستمرار الأوضاع. وكان تمنى الكواكبى قبل مغادرة الحياة، أن ينساه الناس بعد سنوات عدة لأن صيرورة التطور البشرى ستغير أساليبها السياسية والفكرية نحو الأفضل ويتم بالتالى تجاوز الاستبداد بمختلف أشكاله إلى نوع متطور من الحياة العامة القائمة على ما أسماه بالديمقراطية الدستورية التى تحكم مختلف أوجه الحياة وتدفع بالمجتمعات إلى تطوير علمها ومعارفها ومكتسباتها وتشكل الأساس للخروج من دائرة الانحطاط. ولم يرد فى خلده أن بعد كل هذه السنوات، سيكون الاستبداد قد تطور وأعيد إنتاجه على نحو أكثر صلابة، وحيث يتم استلهام آخر ابتكارات الحداثة لزيادة الرقابة على المجتمعات والفتك بها إن هى عبرت عن الرغبة السلمية بالتحرر.
 تهدف هذه المقالة إلى التوقف عند الحديث بدايةً عن الاستقطابات السياسية المختلفة والمتناقضة أحيانا كثيرة، والتى تقع على الفكر النهضوى فتجعله هزيلاً أحياناً أو تحوله إلى لغة شعاراتية ممجوجة تخدم فيما تخدم استمرارية الانغلاق الفكرى والتقوقع الأيديولوجى والبحث الدائم عن جمل سهلة من التاريخ تساعد على تجاوز حراجة ما فى موقع وظرف تاريخى ما. ونتوقف عند موقع العلوم الإنسانية لدى الكواكبي، من حيث إنها علوم متشعبة تدرس الدين والفكر الدينى كما تدرس أية ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو حضارية أو غيرها، من دون مقدسات مُرّهبة وباعثة على التنصل من تحكيم العقل والمنطق. ومن خلال استعراض أفكار الكواكبي، سأتطرق إلى إسقاطات المفاهيم الحداثية واستخداماتها وعلاقته بالفكر الغربى ومثاقفته. ولكن، وكتمهيد، أستعيد تاريخه الشخصى تثبيتاً لوقائع اختلف عليها المؤرخون حتى يومنا هذا.


عبد الرحمن الكواكبي،حياة قصيرة:

ولد عبد الرحمن الكواكبى فى حلب عام 1854 ودرس فى أنطاكية قبل أن ينتقل إلى المدرسة الكواكبية فى حلب والتى كان يديرها والده حيث تعلم العربية والتركية والفارسية وتعمق فى مبادئ الدين واللغة. وأبدى يافعاً اهتمامات سياسية حيث كان قارئاً نهما للكتب والصحف. مما ساعد فى تكوين شخصيته الفكرية وتعزيز إرادته بالانتقال من الذاتى إلى العام. فبدأ الكتابة فى الصحافة منذ عامه الثانى بعد العشرين، وبدأ محرراً فى جريدة الفرات الرسمية ثم أنشأ جريدة الشهباء وهى أول جريدة عربية خاصة صدرت فى حلب لتتوقف بعد خمسة عشر عدداً بأمر من الوالى العثماني. وفى عام 1869 أنشأ جريدة اعتدال ليتم تعطيلها أيضاً من قبل الوالى لما احتوته من فكر تحريضى ضد الاستبداد العثماني. واستمر بالكتابة فى الصحف وتنقل بين مناصب عدة حاولت من خلالها السلطة احتواءه واستمالته، وبعد تزايد الضغوط عليه استقال ليتفرغ لتسجيل شكاوى المواطنين ورفعها إلى الباب العالى من خلال مكتب للمحاماة افتتحه فى حلب، مما جعله قريباً من أحوال الناس ولامس معاناتهم. وبعد أن ضاقت به سبل الحياة والتعبير فى بلده، وبعد أن ألقى القبض عليه مراراً وسجن وحكم عليه بالإعدام قبل أن تتم تبرئته، غادر حلب سنة 1899 إلى مصر سراً. وفى القاهرة اجتمع إلى أصدقاء من السوريين لجأوا قبله، فكان اللقاء مع رشيد رضا ومحمد كرد على وإبراهيم سليم النجار وطاهر الجزائرى وعبد القادر المغربى ورفيق العظم وعبد الحميد الزهراوى وغيرهم. ولقد استفاد من تمتع مصر حينه بقسط من حرية التعبير وانفتاحها على الثقافة الأوربية. ولقد عالج مسألة الاستبداد والحكم المطلق من خلال كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» وحاول أن يتخيل مجتمعاً إسلامياً من خلال مؤتمر يبحث حال المسلمين ودينهم، فكان كتابه الثانى «أم القري». وأثناء مكوثه فى مصر كتب العديد من المقالات السياسية وقام فى عام 1901 برحلة وصل فيها إلى بلاد الهند وطاف الجزيرة العربية ، وزار الحبشة والسودان وزنجبار وسواحل إفريقيا الشرقية وسواحل المحيط الهندي. ودرس من خلالها أحوال الناس والثقافات والأرض وثرواتها، فصحت تسميته: الرحالة ك. وبعد نهاية هذه الرحلة التى دامت أشهراً ستة خط كتاباً لم تمهله المنية لطباعته واختفى مع ما اختفى من كتب بعد وفاته مسموماً عام 1902 على أيدى عملاء السلطان عبد الحميد، والذين سرقوا ما احتواه منزله فى القاهرة من كتب ومخطوطات ويعرف منها كتابا «صحائف قريش» و«العظمة لله». ويذكر أحد أصحابه، والذى كان يوقع مقالاته باسم «نديم الكواكبي» واسمه عبد المسيح الأنطاكي، فى عام 1905 وفى مقدمة طبعة جديدة من «طبائع الاستبداد» بأنه سينشر لاحقاً كتابين للكواكبى الأول: «أمراض المسلمين والأدوية الشافية لها؟» والثاني: «أحسن ما كان فى أسباب العمران». ويتحدث رشيد رضا عن كتاب للكواكبى اسمه «ماذا أصابنا؟ وكيف السلامة؟».
 نشأ الكواكبى فى حلب عندما كانت ولاية فى السلطنة العثمانية المريضة التى دخلت فى طور الانحلال، بعد أن تراكمت ديونُها واستفحل الفسادُ فيها. وقد عانت حلب ما عانته أجزاءُ السلطنة الأخرى من الظلم والفساد، فى ظلّ سلطانٍ تمسّك بمركزية الإدارة، وحوّل الجيش عن وظيفته الأساسية، من الدفاع عن السلطنة إلى الدفاع عن أمنه الشخصي، مستعيناً على ذلك بشبكةٍ من الجاسوسيّة الأخطبوطية، وبفرض رقابة مشدّدة على المطبوعات. بعد مجيء روّاد النهضة الأوائل، ظهر الكواكبى ليدفع قُدُماً مشاريعَ من سبقوه فى محاولة التأثير فى السلطة السياسية، وتطوير المجتمع - ثقافياً - ليعى دورَه فى النهضة والتقدم، فكان الكواكبى محصلةَ اطّلاع المفكرين العرب على الفكر الغربى وتمكنهم من التراث العربي- الإسلامي. وفضلاً عما سبق، نجد عوامل شخصية تكوّن بعضُها من خلال معاناة الكواكبى فى أثناء صدامه مع الولاة المستبدين وأعوانِهم من المنافقين.


 الاستقطابات السياسية وتداعياتها:

 من خلال افتقاد الممارسة السياسية العربية المعاصرة فى أغلب الأحيان لأدوات ناجعة فى تحفيز التفكير والمراجعة، حاولت جميع الأحزاب الفاعلة على المسرح السياسى العربى أن تبحث لها عن مرجعية تدعم من خلالها أطرها الأيديولوجية أو تعتقد بأنها من خلالها تستطيع الوصول إلى فئات كانت لها محايدة. وإن إيراد حالة الرجوع إلى فكر عبد الرحمن الكواكبى تنفع كمثال صريح وطريف أحياناً لهذه الظاهرة التى ما فتئت تُميز أسلوبية فى البحث عن مشروعية سياسية لدى هذا المفكر أو ذاك، حاملة معها تناقضاتها اللامنطقية.
 فجزء من الشيوعيين السوريين، قام بإضافة صورة كبيرة للكواكبى فى صدر قاعة مؤتمراته إلى جانب كارل ماركس ولينين والقائد الوطنى السورى يوسف العظمة الذى قتل فى يوم دخول الفرنسيين إلى دمشق دفاعاً عنها سنة 1920. فنرى هنا الربط بين الشخصيات المذكورة على مبدأ التكامل بين الفكرى والروحى والوطني. ولا تخلو بعض الأدبيات الحديثة للشيوعيين السوريين من إضاءات تتعلق فيما يخص الكواكبى بموضوعى فصل الدين عن الدولة والمعيشة الاشتراكية التى اعتبر أن المجتمع لم يصل بعد إلى مرحلة النضوج للتأسيس الصحيح لها.
 أما فيما يتعلق بفصل الدين عن الدولة، فلقد أثار هذا الجانب أيضاً من فكر الكواكبى انتباه الأحزاب السورية التى حملت لواء العلمانية من السوريين القوميين إلى البعث العربي. ويعتز السوريون القوميون بالوصف الذى أطلقه زعيمهم أنطون سعادة حين ذكر بأنه يعتبر « أن الثورة الفكرية السورية ابتدأت بابتداء حملة عبد الرحمن الكواكبي، وأن كل من اطلع على كتابه قرأ ولا شك عبارة بهذا المعنى : دعونا ندبر شؤوننا الدنيوية ونترك الأديان تحكم فى الآخرة فقط».
ومن ناحيتهم، اعتبر القوميون العرب بمختلف أشكالهم ما قبل الإسلاموية، أن الكواكبى صاحب ريادة فى ترسيخ الفكرة القومية من خلال دعوته إلى عودة الخلافة إلى العرب ونبذه عملية التتريك التى تأثرت بها المجتمعات العربية خصوصاً فى المراحل الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية.
 وقام بدورهم أصحاب الاتجاهات الدينية المعتدلة وذوو الخطاب الدينى التنويرى بجذبه إليهم معتمدين خطابه فى إعادة صياغة بعض مواقفهم. وذلك من خلال التركيز على مراجعته المعمقة لأمراض المسلمين وسبل الخروج من الأزمات التى تعصف بالنظرة المعاصرة للتفكير الإسلامي. مستندين فى ذلك على أن الإصلاح الدينى لا يعنى إصلاح الدين وإنما هو إصلاح فى النظرة إلى الدين والتعامل معه وبه. ويُشدد أصحاب هذا التيار على أن الفكر النهضوى أكد على السلف الصالح والأسس العقائدية للدين منزهاً إياها مما اعتراها من طفيليات سياسية واستبدادية فكراً وممارسة. ويرفض هذا التيار فكرة أن الكواكبى كان صاحب «العلمنة المؤمنة» وينزعون عنه ريادة فكرة فصل الدين عن الدولة.
 وتستمر الخلافات بين من يقول بعلمانيته ومن يقول بسلفيته، ففى إحدى الندوات، احتج أحد الباحثين  على تسمية الكواكبى بالإمام منوهاً بأنه من رموز العلمانية النهضوية، ودينياً، ليس بذى درجة فقهية تمنحه هذا اللقب. فكان جواب أحد رجال الدين رافضاً أن تكون صفة الإمامة وقفاً على رجال الدين والفقهاء، أى صفة دينية، بل هى صفة مدنية تطلق على كل من يكون رائداً فى مجاله، كما استخدمها العرب من قبل فى صيغ عديدة مثل إمام النحاة وإمام البلاغة.
 هناك أيضا رغبة لدى الباحثين المعاصرين فى إيجاد مرجعية فكرية عربية وإسلامية لمفاهيم كونية كحقوق الإنسان مثلاً. فأغلب  الأعمال الغربية تمنح وبشكل قاطع، دورا أساسا لفكر عصر الأنوار الأوربى فى تكوين مفهوم حقوق الإنسان لدى مفكرى العرب والمسلمين، وباستثناء قلة، فإن الباحثين فى الغرب يفسرون ظاهرة تكون الوعى بحقوق الإنسان عبر دخول الأفكار التقدمية الأوربية المترجمة. فكانت الحاجة للعودة إلى مفكرين كالكواكبى للإجابة على السؤال الآتى : هل حقوق الإنسان نبتة غريبة جرت زراعتها فى الشرق، أم أنها ظاهرة ذات صدى كونى متواجدة فى الإطار الحضارى للمنطقة أيضاً؟
 إذاً، تعددت الاستقطابات ويمكن اعتبارها ظاهرة إيجابية من ناحية أنها تُشير إلى رغبة شاملة للتبصر فى فكر نهضوى تنويرى ديمقراطي، ولكنها من جهة أخري، تدل وبقلق، على ضعف عملية إعادة الإنتاج الفكرى العربى وتشبثه بأطياف الماضى مهما كانت إيجابية الوقع. إنها بالمجمل، محاولات نجحت فى أحيان، وفى أحيان أخرى انجرفت نحو مجرد الرغبة فى الاستئثار الفكرى والبحث عن شرعية مفقودة.
 ولمعرفة الأفكار الأساسية التى قامت عليها الاستقطابات السياسية الحديثة، يتوجب التوقف عند بعضها بقراءة  معاصرة وانتقائية فيما يخص المشاكل الأهم التى تعترض طريق التطور والنهضة حتى أيامنا هذه.
 

الحريات الأساسية والاستبداد:

«و لما كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من الناس من أهم الأمور، أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات مستثنية القذف فقط، ورأت أن تحمل مضرة الفوضى فى ذلك خير من التحديد، لأنه لا ضامن للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلة من حديد يخنقون بها عدوتهم الطبيعية أى الحرية (...)». فالحرية إذاً، ليست كما تسرده النفوس المتسلطة، واجبة الارتباط بالمسؤولية، كون هذه الكلمة الأخيرة تحمل بالقاموس المستبد، كل قيود الحرية ومعوقاتها، بل وكل ما يُنشيء ضررها. فحتى الفوضى الناجمة عن الحرية محمودة وليست بحاجة إلى قيود.
 وكان المرض المشخص والذى أصاب كل أوجه الحياة بالنسبة للكواكبى هو الاستبداد.  «(...) ويكفى هنا الإشارة إلى أن صفة الاستبداد، كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذى تولّى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضاً الحاكم الفرد المقيَّد المنتخب متى كان غير مسؤول، وتشمل حكومة الجمع ولو منتخباً؛ لأنَّ الاشتراك فى الرّأى لا يدفع الاستبداد، وإنَّما قد يعدّله الاختلاف نوعاً، وقد يكون عند الاتّفاق أضرّ من استبداد الفرد. ويشمل أيضاً الحكومة الدّستورية المُفرَّقة فيها بالكُلِّيَّة قوة التشريع عن قوة التنفيذ وعن قوة المراقبة؛ لأن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط فى المسؤولية، فيكون المنفذون مسؤولين لدى المُشَرِّعين، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمة، تلك الأمة التى تعرف أنَّها صاحبة الشأن كله، وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب». وقد اعتبر أن «أشد مراتب الاستبداد التى يُتعوَّذ بها من الشّيطان هى حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. ولنا أن نقول كلّما قلَّ وَصْفٌ منْ هذه الأوصاف؛ خفَّ الاستبداد إلى أنْ ينتهى بالحاكم المنتخب المؤقت المسؤول فعلاً. وكذلك يخف الاستبداد كلّما قل عدد نفوس الرعية، وقل الارتباط بالأملاك الثابتة، وقل التّفاوت فى الثّروة وكلّما ترقَّى الشّعب فى المعارف. (...) والحكومة من أى نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد؛ ما لم تكن تحت المراقبة الشَّديدة والاحتساب الّذى لا تسامح فيه، كما جرى فى صدر الإسلام فى ما نُقِم على عثمان، ثم على عليّ رضى الله عنهما، وكما جرى فى عهد هذه الجمهورية الحاضرة فى فرنسا فى مسائل النّياشين وبناما ودريفوس. ومن الأمور المقرَّرة طبيعةً وتاريخاً أنه؛ ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفى خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمة، والجنود المنظمة». وما يميز هذا الخطاب، التنبه المبكر لمسألة سيطرة الأجهزة العسكرية على الحياة المدنية بمفهومها الحديث. فبالرغم من أن هذه الآفة، على حد قول الكواكبي، لازمت العرب والمسلمين بشكل شبه دائم، ولكنها طورت نفسها من خلال إدماج الحداثة فى الذهنية العسكريتارية. فالجندية «تُفسد أخلاق الأمة؛ حيثُ تعلِمها الشراسة والطاعة العمياء والاتكال، وتُميت النّشاط وفكرة الاستقلال، وتُكلف الأمة الإنفاق الذى لا يطاق؛ وكل ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم : استبداد الحكومات القائدة لتلك القوة من جهة، واستبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أخري». فما هى أهم المفاهيم الحداثية المرتبطة بروح العصر وبالتغيرات الهامة التى عرفها العالم فى نهاية القرن التاسع عشر؟


 المفاهيم الحداثية واستعمالاتها :

 لقد اعتبر عبد الرحمن الكواكبى أن «ليس لنا مدرسة أعظم من التاريخ الطبيعي، ولا برهان أقوى من الاستقراء فى كل شؤون الأمة». واستعاض عن الغيبيات الملازمة لأصحاب الفكر التقليدى بتوجه علمى استقرائى يبحث فيما يبحث عن أسباب التخلف والانهزام فى التاريخ مستلهماً دروسه من دون أن يجتر قانعاً فى تاريخ أمجاد وانتصارات ما فتئ يرسخ فى ذهنية فاسدة. ولقد واجه كما غيره من نهضويى القرن التاسع عشر مثل جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، حالة تاريخية عنوانها الرئيسى تقدم أوربا وتقهقر حال العرب والمسلمين فى العالم، فكان الأساس فى الإصلاح بالنسبة لهم هو الاعتراف بحقيقة أن الانحطاط الداخلى واقع وهناك حاجة ماسة للبحث عن مخرج من هذا المأزق التاريخى لاستعادة السيطرة على المصير الذاتي. وتميز عن معاصريه وعن الكثيرين مما أتوا بعده، برفضه المطلق لفكرة المستبد المستنير أو العادل. وانطلق فى كتاباته للتعمق فى مشروع أساسى يقوم عليه فكره وهو فصل الدين عن الدولة. ولقد اختلف محللو خطابه الدينى والسياسى على هذه النقطة. فمن القول بأنه رائد هذه الفكرة عربياً وإسلامياً إلى القول بأنه لم يتطرق إلى هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد.
 ولكن قراءة متمعنة للكواكبى تدعم أصحاب فكرة الريادة فى فصل الدين عن الدولة لأنه نادى بإلغاء الدولة الدينية كدولة سياسية. وعند دعوته لعودة الخلافة إلى العرب، فهو يعتبر أنها تمثيل للرابط الدينى حيث تنحصر مهام الخليفة فى حل المسائل الدينية ويقول فى ذلك: «يجب على الخاصة منا أن يعلّموا العامة التمييز بين الدين والدولة، لأن هذا التمييز أصبح من أعظم مقتضيات الزمان والمكان اللذين نحن فيهما. فإذا لم يدرك عامتنا كان الخطر محيطاً أبداً بخاصتنا» .  وأضاف: «لو سألت عامتنا اليوم عنه لوجدتهم يعتقدون أن الدين لا يقوم إلا بالدولة. والدولة لا تقوم إلا بالدين، وأنهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، وهذا خطأ مبين». وأوضح الكواكبى معالم الخطأ بالقول : «الغرض المقصود من الدولة والغاية التى تسعى الدولة إليها فى زماننا هذا هى غاية دنيوية محضة، وأعنى بها تأمين الناس على أرواحهم وأغراضهم وأموالهم، وسن الشرائع العادلة لهم وإنفاذها فيهم. وأما الدين، فالغاية المقصودة منه واحدة على اختلاف الزمان والمكان وهى صلاح فى هذه الدنيا حتى يدخلوا جنات النعيم فى الآخرة».
 توقف الكواكبى عند مبدأ حداثى آخر حول ضرورة فصل السلطات داخل جهاز الدولة لتجنب أن تتحول السلطات إذا اجتمعت إلى مصدر استبداد وظلم،  فيتساءل : «هل تجمع سلطتين أو أكثر فى شخص واحد؟ أم تخصص كل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بها بإتقان؟ ولا إتقان إلا بالاختصاص ولذلك لا يجوز الجمع منعا لاستفحال السلطة». لقد طرح أيضاً موقفاً من تطوير أساليب العمل السياسى يعبر عن وعى عميق لمفهوم الديمقراطية وحتمية التحول إلى النظام البرلمانى الحر، انطلاقاً من التنبيه إلى عدم جواز العودة بالتفكير إلى الماضى المجيد والحلم بإعادة إنتاجه والاستعاضة عنه بحاضر أكثر واقعية وتعبيراً عن متطلبات العصر السياسية. وتعتبر جمعية أم القرى التى تخيلها هى تعبير صريح عن رغبته بوجود مؤسسات يتبادل ضمنها أهل العلم الآراء ويعملون على الاجتهاد والتفسير بأسلوب جماعى منتج. وهو يعتبر بأن مجرد قيام مثل هذه الجمعية هو من أعظم تلك المبشرات، خصوصاً إن وفقت بتأسيس جمعية قانونية منتظمة، لأن الجمعيات المنتظمة يتسنى لها الثبات على مشروعها عمراً طويلاً يفى بما لا يفى به عمر الواحد الفرد وتأتى بأعمالها كلها بعزائم صادقة لا يفسدها التردد. إنه بهذا يخطو خطوة كبيرة باتجاه توضيح أهمية المؤسسة فى نهوض الأمة.


دور العلوم الإنسانية فى دعم فكرة الحرية وترسيخ حقوق الإنسان :

 المستبد يعرف بأنه ليس بمقدوره السيطرة والتعسف إلا فى حالة كانت فيها  «الرعية حمقاء تتخبط فى ظلامة جهل».  وبالتالي، فألدّ أعداء المستبد كما يرى الكواكبى هم العاملون فى العلوم وليس كلها، فالمستبد » لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التى بعضها يقوّم اللسان وأكثرها هذلٌ وهذيان يضيع به الزمان، نعم؛ لا يخاف علم اللغة إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية، أو سحر بيان يحلُّ عقد الجيوش؛ لأنه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيراً من أمثال: الكميت وحسان أو مونتيسكيو وشيللر. وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلِّقة بالمعاد، المختصة ما بين الإنسان وربه، لاعتقاده أنّها لا ترفع غباوةً ولا تزيل غشاوة، إنما يتلهّى بها المتهوِّسون للعلم، حتى إذا ضاع فيها عمرهم، وامتلأت بها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور، فصاروا لا يرون علماً غير علمهم، فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يُؤمن شرُّ السّكران إذا خمر. على أنه إذا نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام، لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامها فى تأييد أمره ومجاراة هواه فى مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم، ويسد أفواههم بلقيماتٍ من مائدة الاستبداد؛ وكذلك لا يخاف من العلوم الصناعية محضاً؛ لأن أهلها يكونون مسالمين صغار النفوس، صغار الهمم، يشتريها المستبد بقليل من المال والإعزاز، ولا يخاف من الماديين، لأن أكثرهم مبتلون بإيثار النّفس، ولا من الرياضيين؛ لأن غالبهم قصار النظر».
 المستبد يخشى من العلوم الإنسانية التى تستمر مهمشة حتى يومنا هذا فى كل الفضاءات العربية والإسلامية «مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصّل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التى تكبر النفوس، وتوسّع العقول، وتعرّف الإنسان ما هى حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ». ونحن نلاحظ فى الجملة الأخيرة المبادئ الأساسية لمفهوم حقوق الإنسان كما ترسخت من خلال الإعلان العالمى لحقوق الإنسان سنة 1948.  ويمارس المستبد قمعه وتهميشه للناشطين فى هذه الحقول وخصوصاً المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة. والخلاصة : « أن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين».
 كما يبغض المستبد العلم لنتائجه؛ يبغضه أيضاً لذاته، لأن «للعلم سلطاناً أقوى من كل سلطان، فلا بد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علماً. ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوق عليه فكراً، فإذا اضطُرَّ لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبى المتصاغر المتملق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله (فاز المتملقون ) وهذه طبيعة كل المتكبرين، بل فى غالب الناس، وعليها مبنى ثنائهم على كل من يكون مسكيناً خاملاً لا ُيرجى لخيرٍ ولا لشرٍّ. وينتج مما تقدم أن بين الاستبداد والعلم حرباً دائمة وطراداً مستمراً: يسعى العلماء فى تنوير العقول، ويجتهد المستبد فى إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا. والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان؛ فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها فى إطفاء نور العلم، وحصر الرعية فى حالك الجهل. والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحياناً فى مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم فى تنوير أفكار النّاس، والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام - عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء والنبلاء-  تقلبوا فى البلاد وماتوا غرباء».


 كيف النظر إلى الغرب :

وعى الكواكبى مسألة التأخر والتقدم من خلال المقارنة التى أجراها بين أوضاع الشرق وأوضاع الغرب، وكان فى ذلك يسير على خطى من سبقه من رواد النهضة العربية الذين تأثروا بما سمى بـ «صدمة» الاحتكاك بالغرب، وأدرك بأن سير المجتمعات الإسلامية على طريق «الترقي» يتطلب الانفتاح الحضارى على «الآخر» المتقدم والاقتباس المشروط منه على قاعدة التفاعل الإيجابى والنقد البناء.  ويقر الكواكبى بأن الغرب، بالرغم من ماديته و«تدابيره القاسية ونزعته إلى الاستباحة»، قد نال «المراد أو بعضه من تحرير الأفكار وتهذيب الأخلاق وجعل الإنسان إنساناً».
لم يتمكن الكواكبى من السفر إلى أوربا ولم يتمكن أيضاً من اللغات الفرنسية أو الإنكليزية، ولكنه أبدى معرفة عميقة بالنتاج الفكرى الذى عرفه الغرب إبان انبعاث النهضة الأوربية، ويتأتى ذلك من خلال الترجمات التركية لأمهات الكتب من قبل بعض المتنورين الأتراك مثل نامق كمال، ولكن أيضاً، تعرف الكواكبى من خلال صداقته لعائلات إيطالية كانت مقيمة فى حلب إلى نتاجات فيلسوفهم الكبير، فيتورى ألفييري.
ولقد تبنى فى نظرته إلى الغرب تفكيراً عقلانياً ميز عصر النهضة العربية، حيث أيّد ليبرالية الطبقة الوسطى فى أوروبا، مطالباً بحكومة دستورية، وبتحديد سلطة الحكومة، وتأمين حرية الفرد؛ لكن ذلك تم استناداً إلى أسس عقليّة من منطلق إسلامي. لقد حاكم الكواكبى الاستبداد استناداً إلى تراث العرب فى الحرية، وإلى مايطالب به الإسلام، وإلى ما لاحظه فى الفكر الغربي. فهو، بعد أن اقتنع عقلياً بالأفكار القادمة من الغرب، راح يبحث عن جذور دينية لقناعاته. ورأيُهُ القائل أن صلاح الحاكم والحكم من صلاح الرعيّة، إنما يؤكّد منطلقَه الإسلامى الذى يصدر عن حديث:  (كما تكونوا يولّى عليكم). ومع ذلك فإنه كثيراً مايورد دلائله من العقل والنقل معاً. وهو لايمانع من الأخذ عن الغرب، مع الإبقاء على الخصوصية العربية الإسلاميّة، وعدم التقليد الأعمي، لا للغرب ولا للتراث. فهى ليست مسألة استعارة بل استيعاب لما يطرحه الآخر، والتصرف وفق الواقع الذى نعايشه، والذى علينا أن ننطلق منـه لإصلاح الممارسة الدينية وتحسين التربية وإشاعة العلم لمقاومة الاستبداد. ولقد توقف عند علم السياسة كونه علماً غربياً بامتياز، واعتبر أن الغربيين «قد توسَّعوا فى هذا العلم وألفوا فيه كثيراً وأشبعوه تفصيلاً، حتى إنهم أفردوا بعض مباحثه فى التّأليف بمجلدات ضخمة، وقد ميزوا مباحثه إلى سياسة عمومية، وسياسة خارجية، وسياسة إدارية، وسياسة اقتصادية، وسياسة حقوقية، إلخ. وقسموا كلاً منها إلى أبواب شتَّى وأصول وفروع». وبمقابل ذلك، تأخر الشرقيون عن فهم هذا العلم والتعامل معه بعقلية عصرية عدا بعض الاستثناءات التى حددها بالأسماء. فمن الأتراك، أشار إلى أحمد جودة باشا، وكمال بك، وسليمان باشا، وحسن فهمى باشا، ومن العرب القليلون والمقلّون مثل : رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وأحمد فارس شدياق، وسليم البستاني، والمبعوث المدني. وعلى خطى الطهطاوي، الذى كان أول من تنبه إلى ضرورة الاهتمام بنشر التربية السياسية على نطاق واسع فى المجتمع كى يعرف الناس حقوقهم وواجباتهم، أعار الكواكبى اهتماماً خاصاً لمسألة التعريف بعلم السياسة بوصفه علم «إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة»، وعرّفه بأنه علم «واسع جداً ينقسم إلى فنون كثيرة ومباحث دقيقة.. قلما يوجد إنسان لا يحتك فيه».
و من جهة أخري، فقد تطرق الكواكبى إلى المقارنة الوصفية  والتى اعتبرها البعض جلداً للذات ولكننا نستطيع أن نتبين من خلالها رغبة تحريضية لمراجعة الذات الشرقية. فهو يقول إن «الغربيين يستحلفون أميرهم على الصداقة فى خدمته لهم والتزام القانون. والسلطان الشرقى يستحلف الرعية على الانقياد والطاعة! الغربيون يَمنّون على ملوكهم بما يرتزقون من فضلاتهم، والأمراء الشرقيون يتكرَّمون على من شاءوا بإجراء أموالهم عليهم صدقات ! الغربى يعتبر نفسه مالكاً لجزءٍ مشاع من وطنه، والشرقيّ يعتبر نفسه وأولاده وما فى يديه ملكاً لأميره! الغربى له على أميره حقوق، وليس عليه حقوق؛ والشرقى عليه لأميره حقوق وليس له حقوق! الغربيون يضعون قانوناً لأميرهم يسرى عليه، والشرقيون يسيرون على قانون مشيئة أمرائهم! الغربيون قضاؤهم وقدرهم من الله؛ والشرقيون قضاؤهم وقدرهم ما يصدر من بين شفتى المستعبدين! الشرقى سريع التصديق، والغربى ينفى ولا يثبت حتى يرى ويلمس. الشرقى أكثر ما يغار على الفروج كأنَّ شرفه كلّه مستودَعٌ فيها، والغربى أكثر ما يغار على حريته واستقلاله! الشرقى حريصٌ على الدين والرياء فيه، والغربى حريصٌ على القوة والعزّ والمزيد فيهما! والخلاصة: أنَّ الشرقى ابن الماضى والخيال، والغربى ابن المستقبل والجد!
 يعتقد الكواكبى بأن «العوام هم قوة المستبد. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم، فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم، فيثنون على رفعته؛ ويغرى بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف فى أموالهم، يقولون كريماً، وإذا قتل منهم ولم يُمثَّل، يعتبرونه رحيماً؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة. والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون طبعاً لغير منافعهم، كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، وعند ذلك لا بد للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال». فهو إذاً فى توصيفه هذا، يبحث عن دور لنخبة مثقفة منظمة تحاول أن تُحدث تغييراً من خلال التأثير على الرأى العام.
 يعتبر عبد الرحمن الكواكبي، من فئة المثقفين الحداثيين التى راحت تظهر بين صفوف رجال الدين والفكر مع انطلاق المشاريع الإصلاحية التحديثية فى مركز السلطنة العثمانية وعدد من ولاياتها العربية وحصول مباينة بين العلم والدين، وهى فئة أُتيحت لها فرصة تملك العلوم العقلية، عن طريق قنوات عديدة، لكنها بقيت مهمشة من قبل السلطة وبالتالى حُرمت من النفوذ الفعلى داخل السلطنة العثمانية.
وقد طرح الكواكبى أمام هذه الفئة الحديثة من رجال الدين مهمة تنويرية تمثّلت فى نشر الوعى بين الناس بضرورة التغيير من خلال الإصلاح وتصفية الفساد، وذلك بغية بلوغ الترقي. فالواقع، أن مسألة الوعى ونشره بين صفوف العامة وتنوير العقول ورفع الضغط عنها احتلت مكانة رئيسة فى العمارة الفكرية التى أقامها الكواكبي، إذ يشدد كثيراً على أن دور «العلماء العاملين» يتمثّل فى القضاء «على جهالة الأمة» ، بوصفها واحدة من قوتين هائلتين مهولتين، إلى جانب «الجنود المنظمة»، فى خدمة الحكومة الاستبدادية، وذلك من خلال نشر العلوم التى «توسع العقول وتعرّف الإنسان ما هو الإنسان وما هى حقوقه »، والتى تشمل علوم الحياة مثل «الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية »، معتبراً بأن هذه العلوم بالذات، التى «أخذت تنمو فى الغرب وترقت وظهر لها ثمرات عظيمة فى كافة الشئون المادية والأدبية »، هى التى «ترتعد» فرائص المستبد منها. ورأى الكواكبى بأن المعركة الرئيسة بين الاستبداد وبين العلماء الطامحين إلى التغيير تدور حول كسب عامة الناس، فالعوام، وكما ذكر، «صبية أيتام نيّام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم إخوتهم الراشدون إن أيقظوهم هبّوا وإن دعوهم لبّوا»، والعوام هم «أولئك الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا، وهم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا». ولهذا السبب، يسعى العلماء إلى «نشر العلم» بين الناس، بينما يجتهد المستبد «فى إطفاء نوره»، والطرفان يتجاذبان العوام. فالمستبد ليس من غرضه «أن تتنّور الرعية بالعلم»، وهو لذلك يطارد رجال العلم وينكّل بهم، بحيث أن «السعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره». وفى هذا الصدد ، انتقد الكواكبى بشدة بعض رجال الدين الذين يصوّرون للأمة بأن حياتها البائسة «قضاء جاء من السماء فلا مرد له بغير الصبر والرضاء»، كما انتقد من أسماهم ب «الأعاظم» الذين يضللون الأمة من خلال تصوير أنفسهم بأنهم «أطباء للمرض ويهتمون بإزالته ومتحمسون لإنقاذ الأمة من تلك الملمة».
 وفى سياق دعوته الإصلاحية، اعتبر الكواكبى بأن ممارسة الانتقاد فى مجال الاعتقاد الدينى هو من مهمة صعبة مطروحة أمام العلماء، وذلك لأن هذا النوع من العمل الفكرى هو «شديد الوقع والصدع على التائهين فى الوهلة الأولى لأن الآراء الاعتقادية مؤسسة غالباً على الوراثة والتقليد دون الاستدلال والتحقيق وجارية على التعاند دون التقانع». ومما يزيد من صعوبة هذه المهمة، فى رأيه، أن المصلح، أو الراغب فى الإصلاح، يتهيب التصريح بما يفكر به «لغلبة الجهل على الناس واستفحال أمر المدلسين». وأدرك الكواكبى بأن فئة العلماء المنورين كانت فى حاجة إلى أداة كى تضطلع بمهامها التنويرية فى المجتمع، وتصوّر بأن تتخذ هذه الأداة شكل جمعية تعليمية تربوية مستقلة لا «تكون تابعة أو مرتبطة بحكومة مخصوصة»، ولا تنسب إلى مذهب محدد من مذاهب الإسلام مطلقاً، بل تنبثق ، كما تخيّل فى كتابه «أم القري»، عن مؤتمر عام يشارك فيه ممثلون عن هذه الفئة.
ولدى تطرقه إلى أسباب تأخر المجتمعات الإسلامية، أجمل الكواكبى هذه الأسباب حينما خاطب قومه بقوله: «يا قوم هوّن الله مصابكم، تشكون من الجهل ولا تنفقون على التعليم نصف ما تصرفون على التدخين، تشكون من الحكام وهم اليوم منكم فلا تسعون فى إصلاحهم، تشكون فقد الرابطة ولكم روابط من وجوه لا تفكرون فى إحكامها، تشكون الفقر ولا سبب له غير الكسل، هل ترجون الصلاح وأنتم يخادع بعضكم بعضاً ولا تخدعون إلا أنفسكم، ترضون بأدنى المعيشة عجزاً تسمونه قناعة، وتهملون شؤونكم تهاوناً تسمونه توكلاً، تموهون عن جهلكم الأسباب بقضاء الله وتدفعون عار المسببات بعطفها على القدر، ألا والله ما هذا شأن البشر». والواقع أن الكواكبي، الذى رفض إرجاع واقع المسلمين البائس إلى القضاء والقدر، بقى مصراً على ربط التأخر بأسباب نابعة من داخل المجتمعات الإسلامية وليس من خارجها وعلى تحميل المسلمين أنفسهم مسؤولية الأوضاع التى يعيشونها، حيث تمنى أن «يعرف الشرقيون أنهم هم المتسببون لما هم فيه، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار».
لقد أرجع الكواكبى أسباب التأخر أيضاً إلى الفساد الذى عمّ أوجه الحياة الاجتماعية الثلاثة المترابطة فيما بينها، فى تصوّره، ترابطاً عضوياً، وهى السياسة والدين والأخلاق. ففى حقل السياسة، ركّز الكواكبى على فقدان الحرية، التى عرّفها «بأن يكون الإنسان مختاراً فى قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم»، واعتبرها «اعز شيء على الإنسان بعد حياته، وأن بفقدانها تفقد الآمال وتبطل الأعمال وتموت النفوس وتتعطل الشرائع وتختل القوانين»، وربط فقدان الحرية بالاستبداد، الذى عرّفه بأنه «تصرف فرد أو جمع فى حقوق قوم بلا خوف تبعة» وهو «صفة للحكومة المطلقة العنان التى تتصرف فى شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين»، ورأى فى هذا الاستبداد أصلاً لكل فساد، إذ هو «يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده (و) يغالب المجد فيفسده ويقيم مقامه التمجد». وتكمن الخطورة فى الاستبداد فى أنه يتحوّل فى ظل الحكومة التى تمارسه إلى ممارسة عامة، حيث تكون الحكومة المستبدة «مستبدة فى كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطى إلى الفراش إلى كناس الشوارع». وقد أقام الكواكبى علاقة وثيقة بين سيادة الاستبداد وبين سيطرة الجهل على الأمة، معتبراً أن العوام «هم قوت المستبد وقوته بهم، عليهم يصول وبهم على غيرهم يطول». وخلص إلى أن الاستبداد قد أفسد الدين «فى أهم قسميه أى الأخلاق»، بينما لم يمس العبادات لأنها «تلائمه فى الأكثر»، الأمر الذى جعل الأديان تبقى «فى الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات فلا تفيد فى تطهير النفوس شيئا»، وجعل المسلمين الخاضعين للاستبداد يشغلون أنفسهم «بالسعادة الآخروية»، ويبعدون عن فكرهم «أن الدنيا عنوان الآخرة».


هل العودة إلى فكر الكواكبى  ..مُجدية فى هذا العصر؟

الإجابة على هذا السؤال تكون حتماً بالإيجاب رغم ما يمكن أن يعترضها من نقد، فمراجعة ختامية للأفكار التى وردت فى هذه الدراسة تبين مدى معاصرة هذا الفكر وحداثته. فبالرغم من أنه يمكن القول بأن الكواكبى كان سلفياً، مثله مثل غيره من رواد الإصلاح الديني، إلا أن سلفيته كانت وظيفية بمعنى من المعاني، لكونها هدفت إلى إضفاء نوع من المشروعية على توجهه الإصلاحى عبر الرجوع إلى نموذج «مثالي» أقامه السلف فى بدايات الإسلام، أى فى عهد النبى محمد والخلفاء الراشدين الأربعة. وقد أطلق الكواكبى على هذا النموذج الإسلامى «المثالي» للحكم والحياة اسم «الإسلامية»، تمييزاً له عن الإسلام كدين وعقيدة.
غير أن شعور الكواكبى بالحاجة إلى الاستناد إلى نموذج من الماضى لا يعنى بأنه كان ماضوياً، خصوصاً أنه عبر فى كل ما كتبه تقريباً عن توجه نحو المستقبل، فحذر قومه من خطر التقليد والتبعية للأسلاف وخاطبهم بقوله: «أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع وشرف القدوة، مبتلون بداء التقليد والتبعية فى كل فكر وعمل وبداء الحرص على كل عتيق: فلماذا تقلدون أجدادكم فى الخرافات والأمور السافلات ولا تقلدونهم فى محامدهم؟»، وأكد أكثر من مرة بأن رهانه هو على «الناشئة» من الشباب، الذين يمثلون «شباب اليوم رجال الغد شباب الفكر رجال الجد»، وقد توجه إلى هؤلاء الشباب ودعاهم إلى الكد وبذل الجهد من أجل أن يحيوا «حياة رضية يتسنى فيها لكل منكم أن يكون سلطاناً مستقلاً فى شؤونه لا يحكمه غير الحق وشريكاً أميناً لقومه يقاسمهم ويقاسمونه الشقاء والهناء وولداً باراً لوطنه لا يبخل عليه بجزء من فكره ووقته ومحباً للإنسانية يعمل على أن خير الناس أنفعهم للناس».
وفى ميدان الإصلاح السياسي، وباستناده إلى تجارب الحكم الديمقراطى فى الغرب، ركز الكواكبى على ضرورة قيام أنظمة دستورية برلمانية فى المجتمعات الإسلامية على قاعدة الانتخاب الحر والفصل بين السلطات، فانطلق من أن الإنسان الغربى قد نجح فى الزمن الأخير فى التوصل إلى «قواعد أساسية» فى باب تقرير شكل الحكومة، «تضافر عليها العقل والتجريب وحصحص فيها الحق اليقين، فصارت بعد من المقررات الإجماعية عند الأمم المترقية». ووضع الكواكبى على رأس هذه القواعد قاعدة تقييد الحكومة بقانون «موافق لرغائب الأمة»، يضعه «جمع منتخب من الأمة»، ويتيح لها فرصة «التصرف فى مراتب العظمة ورواتب المال»، ويجعلها مسؤولة «عن تقرير النفقات العامة» والإشراف على «إعداد المنعة»، ويعطيها حق «السيطرة على الحكومة ومساءلتها». وبالإضافة إلى هذه القاعدة، أشار الكواكبى إلى ضرورة انحصار السلطة فى القانون «إلا فى ظروف مخصوصة مؤقتة»، ومساواة الجميع أمام القانون الذى هو أحكام «تتساوى لديها كل طبقات الناس وله سلطان نافذ قاهر»، وإناطة مسؤولية إقامة العدل بالقضاة «المصون وجدانهم من كل مؤثر، والذين يتمتعون باستقلالية تامة»، وعدم تدخل الحكومة فى أمر الدين «ما لم تنتهك حرمته»، وعدم جواز الجمع بين وظائف السياسة والدين والتعليم «منعاً لاستفحال السلطة»، وتوزيع الأعمال والوظائف بحسب الكفاءة، وضبط إنفاق الحكومة ومنعها من التفاخر «بالتزيينات غير المفيدة مادياً» و«إلزامها بالاعتدال المتناسب مع الثروة».
والواقع، أن الكواكبى قد ذهب، فى دعوته المسلمين إلى تبنى نموذج الحكومات الدستورية العادلة القائمة على الفصل بين السلطات وعلى ضمان الاستقلال الشخصى لمواطنيها، إلى حد اعتبار أن تلك الحكومات تجعل الإنسان يعيش فى وطنه «المعيشة التى تشبه فى بعض الوجوه ما وعدته الأديان لأهل السعادة فى الجنان»، مؤكداً بأن أنفع ما بلغه الترقى فى البشر هو «إحكامهم أصول الحكومات المنتظمة وبناؤهم سداً متيناً فى وجه الاستبداد، وذلك بجعلهم لا قوة فوق الشرع ولا نفوذ لغير الشرع»، وبجعلهم قوة التشريع «فى يد الأمة»، وبجعلهم المحاكم «تحاكم السلطان والصعلوك على السواء وتكاد تحاكى فى عدالتها المحكمة الكبرى الإلهية»، وبجعلهم مأمورى الحكومة «القائمين بالأعمال العمومية لا سبيل لهم على تعدى حدود وظائفهم، كأنهم ملائكة لا يعصون أمراً» وبجعلهم الأمة «يقظة ساهرة على مراقبة سير حكومتها لا تغفل ولا تتسامح». ففى نظره  ليست الأمة «ركام مخلوقات نامية، أو جمعية عبيد لمالك متغلب»، بل هى «جمع بينهم روابط جنس ولغة ووطن وحقوق مشتركة»، أما الحكومة، فهى ليست أكثر من «وكالة سياسية تقام من قبل الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العامة» بحيث تضمن الأملاك العامة وتكفل الحقوق العمومية للجميع «على التساوى والشيوع».
ولقد وجدنا بأن الكواكبى قد حذر من الخلط بين حقلى السياسة والدين، ورأى بأن السلطة الدينية والسلطة السياسية لم تتحدا فى الإسلام إلا فى عهود الخلفاء الراشدين، مؤكداً بأنه لا يوجد فى «الإسلامية» نفوذ دينى مطلقاً «فى غير مسائل إقامة الدين». كما حذر من مخاطر «الاتجار» بالدين واستغلاله فى إذكاء النزعات الطائفية والتفرقة الدينية، واستشهد، فى هذا الصدد، بالأمم الغربية وبخاصة فى «اوستريا وأميركا»، التى «هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطنى دون الديني، والوفاق الجنسى (القومي) دون المذهبي، والارتباط  السياسى دون الإداري»، داعياً قومه العرب من المسلمين والمسيحيين إلى الاقتداء بهذه الأمم: «دعونا ندبِّر حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم فى الأخرى فقط. دعونا نجتمع على كلماتٍ سواء، ألا وهي: فلتحى الأمة، فليحى الوطن، فلنحى طلقاء أعزّاء».
إن التوقف عند فكر عبد الرحمن الكواكبى فى هذه المرحلة بالذات يدخل فى محاولة تسخير السوسيولوجيا التاريخية لفائدة التأصيل العلمى والواعى لمفاهيم التنوير والإصلاح فى مناخ صعب يصل حد العداء إما رسمياً  أو اجتماعياً لأسباب مركبة يتداخل فيها الدينى بالثقافى بالجاهلي. وإن تهميش الحوار الفكرى هو مسبب أساسى لانحدار الأمة.
ما زلنا اليوم نعيش فى ظروف ليست ببعيدة جداً عما أشار إليه. فالاستبداد وإن تطورت أدواته فهو مازال يرتع فى ربوع العديد من الدول ومجتمعاته. والظلامية فى بعض من الفكر والممارسة الدينية  ما زالت تمارس ضغطا» على الإبداع والفكر والتعبير.
هناك سؤال ملح يواجه قارئى رواد النهضة فى ظل السلطنة العثمانية: ما هو السر فى أن يكون متاحاً للمثقف آنذاك تلك الحرية فى إعادة النظر فى محرمات غير قابلة للنقاش الآن ومنحهم حق الشك بكل شيء وإعمال العقل؟
 وبغض النظر عن التجاذبات الفكرية التى تشكل مشهداً إيجابياً فى مسرح الحياة السياسية والحياة الثقافية، فإن فكر عبد الرحمن الكواكبى غنى ودسم يدعو إلى مائدته كل صاحب فكر حر ومستنير. إن ميراثه ما زال يحظى بالاهتمام من خلال حساسيته لموضوع الديمقراطية وهجومه الفكرى على مفهوم السلطة المطلقة بحثاً عن مشروع مجتمع مدنى كما يذكر جمال باروت. وهو يشير دائما إلى دور المثقفين (الخاصة) فى نشر الوعى وقيادة المجتمع عبر تأسيسى نخبة واعية تؤثر وتتأثر فى ومن المجتمع (العامة). إن الكواكبى وفى بحثه عن طليعة تقود الأمة بالفكر وبالحكمة والعلم والمعرفة بعيداً عن كل أشكال التشويش والمداهنة يتوجه إلينا قائلاً : «ما بال الزمان يضن علينا برجال ينبهون الناس ويرفعون الالتباس ويفكرون بحزم ويعملون بعزم ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون».



لـم يرد فـى خـلده
أن بعد كل هـذه السـنوات،
سيكون الاستبداد قد تطور وأعيد إنتاجه عـلى
نحو أكثـر صلابة


قراءة متمعنـة للكواكبى
تدعم أصحاب فكرة الريادة فى فصل الدين
عن الدولة لأنه نادى بإلغاء الدولة
الدينية كدولة سـياسية



كـان الأساس فى الإصلاح
بالنسبة لهم هـو الاعتراف بحقيقـة أن
الانحطـاط الداخـلى واقع



الغربيون يستحلفون
أميرهم على الصداقة فى خـدمته
لهم والتزام القانون والسلطان الشرقى
يسـتحلف الرعية على الانقياد
والطاعـة!

هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة