صـنــــاعــة الـقــــرار الأمريكــي ـ الآن يوليو 2003

محمد حسنين هيكل

أولا:إمبراطــــورية قطـــاع خــــــاص! تظل الإمبراطورية الأمريكية قضية أساسية تستدعي البحث والدرس، وبعدها فإن ما جري ويجري في العراق طوال الأسابيع

المحـتــوي

أولا:إمبراطــــورية قطـــاع خــــــاص! تظل الإمبراطورية الأمريكية قضية أساسية تستدعي البحث والدرس، وبعدها فإن ما جري ويجري في العراق طوال الأسابيع الأخيرة ــ عملية ممارسة لقوة هذه الإمبراطورية تثير الألم والوجع، وسوف تظل كذلك حتي يجيء الأوان ويتمالك العالم أعصابه وإرادته ــ لكنه بدون البحث والدرس في القضية الأساسية فأي تناول للممارسات سطحى، وكل وصفة لعلاجها مهدئ، يداري عِللها ولا يداويها! وعليه فإن الوقوف أمام المشروع الإمبراطوري الأمريكي سواء في ذلك نظرياته المتطورة مع الوسائل الحديثة، أو رجاله المتغيرون مع العصور المستجدة ــ هو الذي يشرح ما جري ويجري في العراق (وربما في غيره)، ويكشف كيف جاء رجال من أمثال «ريتشارد تشيني» (نائب الرئيس الأمريكي الحالي)، و«دونالد رامسفيلد» (وزير الدفاع ومهندس حملة العراق)، و«بول وولفويتز» (مساعد وزير الدفاع) و«ريتشارد بيرل» (رئيس لجنة سياسات الدفاع السابق) ــ فأمسكوا بمفاتيح القرار الأمريكى، ثم فتحوا الأبواب علي آخرها واحتلوا واحدة من أغلي العواصم، وأغناها إسهاما في الثقافة العربية الإسلامية، وأبرزها تأثيرا في المحيط الحضاري الإنساني الأوسع والأكبر. وليس أشد إثارة للملل في الفكر العربي المعاصر من هؤلاء الذين ينسبون كل وقائع التاريخ إلي تدبير المؤامرة ــ غير أولئك الذين يتوهمون أن الإمبراطورية مبرة خيرية، وأن مطالب الهيمنة دعوة هداية ورُشد تشع من البيت الأبيض الأمريكى، أو من وزارة الدفاع (البنتاجون) ــ أو من مقار الشركات العملاقة ــ أو من مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية ابتداء من «مجلس العلاقات الخارجية» في نيويورك وحتي مؤسسة «راند» في كاليفورنيا. وداعي الملل أن أصحاب نظرية التاريخ المتآمر، ومعهم أنصار نظرية الهيمنة العذراء ــ كلاهما يثير الغبار والدخان من حول واقع الحال، ومجمله أن العلاقات الدولية صراعات قوى، ومصالح تمارس فعلها بالنار، وتندفع إلي سباق الحياة بأقصي سرعة يسمح بها العقل والعلم، وهي تجرب فرض إرادتها بكل الوسائل ــ علنا وسرا ــ إقناعا وقسرا ــ حربا مكشوفة أو تربصا في الظلام. وهنا فإن التاريخ يصعب ــ جُزافا ــ اعتباره مــؤامرة مســتمرة، لكنــه في اللحظـة نفسها يصعب ــ إطلاقا ــ اعتباره فردوسا للأطهار! والواقع أن تاريخ الإمبراطوريات يكشف أشياءً، كما أن تجربة هذه الإمبراطورية الأمريكية تضيف إلي الكشف القديم أشياءً أكثر، لأن هذه الأخيرة ظاهرة مستجدة، كما أن صُنَّاعها طراز مختلف عمن سبقوهم علي نفس الطريق، فلم يحدث من قبل أن اختلطت المشروعات الإمبراطورية الكبري بالمصالح الشخصية المباشرة كما يحدث في حالة المشروع الإمبراطوري الأمريكي اليوم، وأول الأسباب أن التجربة الإمبراطورية الأمريكية في الجانب الرئيسي منها ــ مشروع مالي (شبه خاص!) وهنا اختلافه عما سبقه. ومع التسليم بالعلاقة العضوية بين الإمبراطورية والثروة فإن المشروع الأمريكي غَيرْ ترتيب العلاقة وبَدَّل تركيبتها، وجاء بأحوال غير مسبوقة في نشأة الإمبراطوريات وقيامها. ....................
.................... وهنا يكون مناسبا طرح عدد من البدهيات قبل الاستطراد في الموضوع: 1 ــ منها أن «الإمبراطورية» حلم لا يقوم علي المزاج الشخصي لأمير أو ملك أو رئيس يستهويه أن يسمي نفسه إمبراطورا، (مثل «هيلاسلاسي» الذي اتخذ لقب إمبراطور إثيوبيا (لعموم أفريقيا) في أوائل القرن العشرين، أو مثل «بوكاسا» الذي قام بوضع تاج علي رأسه في أواخر نفس القرن إمبراطورا علي طريقة «نابليون»، فتلك وغيرها من نزوات البشر) ــ بل يقوم الحلم الإمبراطوري علي ضرورات أمن وطنى، ومطالب صراع دولى، وحوافز سباق نحو التوسع والثروة علي اتساع القارات وعبر المحيطات، كما حدث في التاريخ الحديث مع إمبراطوريات البرتغال وهولندا وأسبانيا وبريطانيا وفرنسا (وغيرها). 2 ــ ومنها أن «الإمبراطورية» لا تظهر وتكبر بطريقة عفوية وتلقائية، وإنما تنشأ وتكبر بدرجة من القصد والجهد تتولي تصميم وهندسة المشروع الإمبراطورى، وتقوم علي توجيه حركته، لأنه ليس هناك وطن أو أمة أو دولة تنام في المساء وتستيقظ في الصباح، فإذا هي قوة إمبراطورية غالبة، قادرة علي تطويع غيرها وحكمه، وإنما يتشكل أي مشروع إمبراطوري بضرورات، ومطالب، ووسائل، وأدوات واعية وفاعلة، وحتي إذا بدت نشأة المشروع الإمبراطوري حلما فإن ظهور الحلم ــ خلافا للوهم ــ سعيه الدءوب والمقتدر إلي تجاوز الحدود لتحقيق طلبه خطوة واثقة ــ بعد خطوة واثقة! 3 ــ ومنها أن الإمبراطورية في تلك الأحوال كانت مشروعات كبري لشعوب وأمم ودول، تحمل بها الأمراء (مثل «هنري الملاح» في البرتغال) ــ والملوك (مثل إليزابيث الأولي في بريطانيا) ــ والوزراء (مثل «كولبير» وزير «لويس الرابع عشر» في فرنسا) ــ وكان هؤلاء الأمراء والملوك والوزراء هم الذين وجهوا رجالهم إلي ركوب البحر واجتياز البر (مثل «كريستوفر كولمبس» الذي اكتشف أمريكا لحساب ملوك أسبانيا ــ ومثل «فاسكو داجاما» الذي اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح إلي الهند لصالح ملوك البرتغال، وأقام مستعمرة أنجولا علي الشاطئ الغربي للقارة الإفريقية ومستعمرة موزمبيق علي شاطئها الشرقي ــ ومثل «كلايف» غازي الهند ومؤسس حكومتها البريطانية في «كلكتا» ثم في «دلهي»)، والمعني أن الإمبراطورية كانت دائما مشروعا عاما يحمل رمزا ملكيا، ويحمل راية وطنية، ويمثل مصلحة عليا، وهو بهذا التكليف يحرك الأساطيل ويوجه الجيوش، ويغزو البلدان، ويحكم الأقوام، ويستولي علي الثروات. 4 ــ ومنها أن الإمبراطورية علي طول الزحف الإمبراطوري من القرن الخامس عشر وحتي القرن العشرين كانت مجلبة للمنافع العامة: الاقتصادية والاستراتيجية، ووسيلة لتكديس تراكم في الثروة فاق الحدود في بعض الأحيان ــ لكن نسق الحقائق بقي جليا طول الوقت: ـ أي ظلت الإمبراطورية مشروعا وحافزا عاما لشعب أو أمة تعبر عنهما إمارة أو مملكة أو دولة تحصلت علي أدوات المنعة والقوة. ـ وظلت حظوظ الأفراد في الثروة تالية للإمبراطورية (حتي وإن مشت بعض الطلائع علي مسئوليتها تمهد وتجس الأرض وتستكشف)

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions