القضاء المصــــرى .. بين الاستقلال والاحتواء
مارس 2003
[ 1 ]
اكتمل للقضاء المصرى استقلاله وسيادته وشموله فى الأربعينيات من القرن العشرين، وكان ذلك بجهود جيلى الآباء والأجداد منا، وكذلك الجيل السابق
المحـتــوي
[ 1 ]
اكتمل للقضاء المصرى استقلاله وسيادته وشموله فى الأربعينيات من القرن العشرين، وكان ذلك بجهود جيلى الآباء والأجداد منا، وكذلك الجيل السابق عليهم، منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، عندما تأسست «المحاكم الأهلية»، على أن أجيالَ رجال القضاء بخاصة، وأجيال القانونيين والحقوقيين بعامة منذ العشرينيات هم من كان يعود إليهم فضل تأسيس هذه الروح المستقلة وفضل تربية القاضى وتنشئته بقيم الحياد والاستقلال وبهذا الحس المعنوى اللازم دائمًا لرجل القضاء، على قدر يزيد أو يقل، وهو الحس المعنوى الداخلى بأن فى أدائه لعمله أداء لنوع «رسالة» أو مهمة سامية. هذا الحس هو أمر لازم فى التكوين النفسى للقاضى، لأنه هو الحس الذى يعوضه معنويا عما لا يتوافر لديه أحيانًا من ماديات الحياة المكفولة للكثيرين أمثاله من النخب الاجتماعية، وهو «الحس» الذى يدربه على صفة «الاستغناء»، ولا استقلال بغير القدرة على الاستغناء.
وأنا لا أتكلم بروح «مثالية» معزولة عن الواقع، ولا أهيم فى بيداء خيال، ولكننى أجهد فى أن أوضح أن ثمة أمرين متلازمين لا يكتمل التكوين القضائى إلا بهما، أولهما نظامى يتعلق بالتكوين المؤسسى المستقل للجهاز القضائى، وثانيهما نفسى تربوى يتعلق بتكوين القاضى الإنسان. وكما أنه لا كفاءة لعالم فى أى من فروع العلم الطبيعى أو الاجتماعى إلا «بالصدق»، ولا كفاءة لجندى مقاتل إلا «بالشجاعة»، ولا كفاءة لرائد فضاء إلا «بروح مغامرة»، ولا كفاءة لتاجر إلا «بروح مضاربة»، فإنه لا استقلال لقاض ولا حياد له إلا «بروح استغناء».
وإننى أجهد أن أقول أيضًا أن أهل كل مهنة، يدربون الناشئة فيها ليس فقط على مناهج علومها ومجمل معارفها وفنون ممارستها، ولكنهم يربونهم أيضًا على الخصائص والصفات التى لا تجود الممارسة إلا بها، وإنى أريد أن أقول أن الأجيال المؤسِّسة والمطورة للقضاء المصرى منذ نشأت المحاكم الأهلية فى الثمانينيات من القرن التاسع عشر، قامت بدورها هذا حتى اكتمل القضاء على أيديهم فى أربعينيات القرن العشرين، استقلالاً وسيادة وشمولاً، وجرى ذلك بوجهيه، من حيث الإكمال المؤسسى التنظيمى، ومن حيث الإتمام الوجدانى الإنسانى، وأنا باستخدام لفظى «الإكمال» و«الإتمام» أدرك التباين الذى ترشدنا إليه الآية القرآنية الكريمة «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى..» (سورة المائدة الآية رقم3)، بما يعنى أن الكمال هو ما لا يحتاج إلى زيادة، وأن التمام هو ما يقبل الزيادة، ولذلك كان الدين قد اكتمل بنزول الآية الكريمة، أما النعمة فهى تحتمل المزيد دائمًا. وهكذا نحن فى التكوين القضائى، اكتمل مؤسسياً فى الأربعينيات، وتم إنسانياً فيها أيضًا..!
[ 2 ]
فى الأربعينيات، وفى سنة 1943، وفى عهد وزارة الوفد التى رأسها مصطفى النحاس وكان وزير العدل فيها محمد صبرى أبوعلم، الذى تولى الأمانة العامة لحزب الوفد بعد خروج مكرم عبيد فى 1942، فى هذا الظرف صدر قانون استقلال القضاء، كان استقلال القضاء قبل ذلك متحققًا، ولكنه فى تحققه كان يستند إلى الأعراف وضغوط الرأى العام دون أن يكون أحكامًا مقننة، كما أنه كان يستند أيضًا إلى مجموعة من الأحكام وردت فى دستور 1923 من المادة 124 إلى المادة 127. إذ أقرت استقلال القضاة وألا سلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون، وأنه ليس لأية سلطة فى الحكومة التدخل فى القضايا، ولكنها أحالت إلى قانون يصدر بعد ذلك يرسم طريق تعيينهم وكيفية عزلهم ونقلهم. ولم يصدر هذا القانون إلا بعد عشرين سنة.
على أنه خلال هذه السنوات العشرين كان للتوازن بين السلطات أثره فى استقرار القضاء واستقلاله، كما كانت للمنعة الذاتية أثرها فى تحقيق القدر المطلوب من الاستقلال، وكان ليقظة الرأى العام أثرها فى هذا الشأن، وأن المناخ السياسى والاجتماعى والثقافى العام كان يساعد على أن يكفل قدرًا طيبًا من الاستقلال لعمل المحاكم، قبل أن يصدر قانون استقلال القضاء فى 1943، ومن أسباب هذا الاستقرار ضعف وزارة العدل بكثرة التداول والتغيير فيها، ذلك أن القوى السياسية فى المجتمع كانت متعددة، من القوى المتجمعة حول الملك، ومن قوى الحركة الوطنية الدستورية بصدارة الوفد، وأثر النفوذ البريطانى المحتل للأراضى المصرية، وعدد من الأحزاب التى تتقارب من هذه القوة أو تلك. وهذا الوضع أنتج تغييرًا فى الوزارات وتداولاً للحكم وتغييرًا أيضًا للمجالس النيابية، بحيث إن القضاء كان هو الأكثر استقرارًا وثباتًا وأنه تميز بذاتيته حتى عن وزارة العدل. إذ كان تداول وزارة العدل (وكانت تسمى فى البداية وزارة الحقانية) على مدى خمس وسبعين سنة من 1878 إلى 1953 نحو 60 وزيرًا، وتداولها فى ظل دستور 1923 من مارس 1924 حتى قيام الجمهورية فى يونيو 1953 نحو 38 وزيرًا، وطبعًا فإن كثرة تغير الوزارات والوزراء لا يفيد نتاجًا إيجابيا فى تنفيذ السياسات بعيدة المدى فى مجالات التنفيذ والنشاط المختلفة، ولكننى أتكلم هنا عن ظاهرة أخرى تتعلق بالهيئة القضائية ومدى ما حظيت به من ثبات نسبى واستقرار هيأ لها قدرًا كبيرًا من الاستقلال فى ممارستها وظيفتها حتى قبل أن يصدر قانون استقلال القضاء فى 1943، لذلك فإن هذا القانون لم ينشئ استقلالاً كان غائبًا، ولكنه قنن وبلور ونظم استقلالاً كان واقعًا وممارسًا.
وفى الأربعينيات أيضاً، فى أكتوبر 1949 انتهت المحاكم المختلطة، وهى المحاكم التى نشأت بموجب ما كان مقررًا من امتيازات للأجانب فى مصر، والتى نظمت فى القرن التاسع عشر بموجب اتفاقية عقدت مع الدول الأوروبية والغربية صاحبة الامتيازات، وأنشئت فى 1875، وكانت تتشكل من قضاة أجانب وتطبق قوانين خاصة بها وتنظر فى الدعاوى التى يكون أحد رعايا تلك الدول الأجنبية طرفًا فيها. وهى كانت طبعًا تمثل انتهاكًا واضحًا لسيادة الدولة المصرية، من حيث سيادة قوانين هذه الدولة على كل المقيمين بها، ومن حيث سيادة قضاء هذه الدولة على كل المقيمين بإقليمها.
وقد كانت ألغيت الامتيازات الأجنبية بموجب اتفاقية دولية أبرمت مع الحكومة المصرية فى مدينة «منترو» بسويسرا فى سنة 1937، ونص فيها على أن تلغى المحاكم المختلطة