في المــواطـنـة والانتمـاء والـدولة
نوفمبر 2004
منهـج النظـر في تشـكيل الجمـاعة السياسية
[ 1 ]
أقصد بالجماعة السياسية، هذه المجموعة من البشر التي تتحدد وفقًا لتصنيف معين يقوم علي
المحـتــوي
منهـج النظـر في تشـكيل الجمـاعة السياسية
[ 1 ]
أقصد بالجماعة السياسية، هذه المجموعة من البشر التي تتحدد وفقًا لتصنيف معين يقوم علي وصف فعال يصدق عليهم ويميزهم عن غيرهم من المجموعات، وذلك متي كانت الأوضاع التاريخية قد رشحت الجماعة المصنفة ــ وفقًا لهذا الوصف ــ بأن تقوم بوظيفة محددة لحماية صالحها المشترك بعيد المدي.
فثمة وصف يلحق بالجماعة وغيرها، وثمة وظيفة تؤديها الجماعة الموصوفة بهذا الوصف.
والوصف يتعين أن يكون لصيقًا وفعالاً. والإلصاق يعني ألا يكون الوصف طارئًا أو عابرًا أو يسهل كسبه ويسهل تركه. لأن الوصف الذي تقوم به جماعة يتعين أن يكون أكثر ثباتًا من الناحية النسبية. والجماعة تشكُّلٌ تاريخي، تنشأ وتقوم وتبقي عبر مراحل تاريخية ممتدة، فهي لا تتبلور بموجب الطارئ سريع الكسب أو الفقد، مثل المهارات وأوضاع التنقل، وهي تلتزم من الأوصاف ما لا يتغير مثل علاقات النسب مثلاً، أو ما يكون قابلاً للتغيير ولكن بصعوبة وبطء وعبر ما يحسب بالزمن التاريخي وليس بأزمان الحياة اليومية، أي بما لا تصلح الحياة الفردية لأن تستوعبه كاملاً بآثاره، بله أن تستوعب عددًا منه، وذلك مثل اللغة باعتبارها وصفًا جماعيا أو الدين باعتباره كذلك.
كما يجب أن يكون الوصف فعالاً، أقصد بذلك أثره في تغذية التفاعل الذي يربط بين المتصفين به ليمكن لديهم الشعور بالانتماء، لأن الجماعة عندما تنشأ إنما تكون ذات تميز عن أفرادها. وإذا كان آحاد الأفراد هم من تتشكل منهم، فإنها تكون هي من يقيم الوصف المهيمن عليهم، ولا منافاة بين إسهام الآحاد في المشاركة وبين انتمائهم وخضوعهم من بعد لما تشاركوا فيه؛ فإن من ينتمي لدين معين باختياره إنما يخضع من بعد لهذا الدين، ومن ينضم إلي نقابة أو لحزب مثلاً يمتثل من بعد لقرارات ما انضم إليه بإرادته، ناهيك عمن يكون انتماؤه إلي الجماعة لم يتم بموجب توجه إرادي طوعي لواحد من بدائل اختيارية متساوية، وإنما يكون جري بموجب وصف لصيق لا يملك تعديله أو الخروج منه بالطواعية السهلة السريعة. لذلك فإن أوصافًا بشرية مثل طول القامة أو وزن الجسم أو مستوي التعليم لم تصلح أبدًا أن تكون وصفًا فعالاً بالمعني المقصود هنا. والأمثلة ذات التكرار في التاريخ للأوصاف الفعالة ذات الأثر في تكون الجماعات، إنما تتعلق بالعقيدة من الأديان إلي الماركسية، وباللغة مثل القوميات، وبالنسب مثل القبائل والعشائر، وبالإقليم الجغرافي.
والعنصر الفعال ــ هنا ــ هو ما يمكن للصيرورة التاريخية أن تشكل من تفاعلاته مناطًا لقيام الجماعة السياسية، وما تشكل تفاعلاته قوة تماسك لأفراد هذه الجماعة ووحداتها الفرعية المتعددة. والفاعلية هنا يتحول بها العنصر المكون للجماعة إلي معيار معرِّف للجماعة يجمع أفرادها ووحداتها ويميزهم عمن عداهم؛ لأن الفاعلية أو التفاعل بموجب كونها صيرورة تاريخية، تنشئ إدراكًا ذهنيا بالتوحد وبالمشترك العام داخل الجماعة المعنية، كما تنشئ شعورًا وجدانيا بالانتماء لهذه الجماعة وقابلية للاندراج بين وحداتها.
وقد سبقت الإشارة، إلي أن الأوصاف التي بنيت منها التصنيفات الأساسية المتكررة في التاريخ البشري للجماعات السياسية، كانت في الغالب الأعم هي ما يلي:
ــ التصنيف القبلي القائم علي وحدة الانتماء الأسري وعلاقة النسب.
ــ التصنيف الديني القائم علي وحدة الانتماء العقيدي والرؤية الثقافية للكون وللمجتمع.
ــ التصنيف القومي القائم علي وحدة الانتماء اللغوي.
ويمكن القول بأن أياً من هذه العناصر المذكورة هو مثل المادة الخام، لا تؤتي أثرها إلا بتفاعل يقوم بين وحدات من تضمهم، وهو تفاعل لا يتأتي إلا بتوافر ظرفي المكان والزمان، أي الجغرافيا والتاريخ، فإن أمة قبلية أو دينية أو قومية، لا تقوم إلا بتفاعل أفرادها في بيئة جغرافية معينة، وإلا بصيرورة تاريخية بما ينشئ ذاكرة مشتركة واشتراكًا في أحداث واحدة وتكوين ثقافي واحد. وأقصد بالثقافة التكوين العقلي والوجداني معًا، أي التكوين النفسي المشترك الذي يتيح للأنا الفردية أن تندمج في «أنا» جماعية يقوم بها الضمير «نحن». إن الشعور بالانتماء إنما يكون لتكوين كلي خارج عن الذات، ولكنها تكون قابلة للانجذاب إليه والاندراج فيه بموجب إدراكها لتحققها فيه.
وإذا كانت أوصاف الانتماء قائمة في الصورة السابقة، وأمثالها في التاريخ البشري موجودة دائمًا، فإن التاريخ وأحداثه هو ما يصنع الوظائف التي تقوم بها هذه الأوصاف. ودائمًا هناك أوصاف جماعية تقيم مشاعر بالانتماء المشترك بين من تضمهم هذه الأوصاف، أسرية قبلية كانت أو عقيدية أو قومية لغوية، ولكن أحداث التاريخ وحركة البشر والمجموعات هي ما يحدد مدي الأثر والفاعلية التي تقوم بها أي من هذه الأوصاف في جماعاتها، كما تحدد ترتيب الأولويات بين بعضها البعض، بما يقوم به الوصف الجماعي الحاكم لغيره من الأوصاف الجماعية في كل مرحلة تاريخية.
وأنا لست علي ثقة من أن هذه الانتماءات تترتب مع بعضها البعض وفقًا لحتمية تاريخية عالمية، باعتبار ظهور التكوينات القبلية أولاً، ثم التكوينات العقيدية، ثم التكوينات القومية. إن هذا الترتيب التاريخي حدث في أوروبا، واعتبرته أوروبا ــ ومؤرخوها خاصة ــ أساسا للترتيب الجماعي العالمي، لما وَقَر في ذهن الأوروبيين عامة من أن تجربتهم هي معيار تشكل تجارب العالم كله، وأن تاريخهم هو ما يقاس به تاريخ شعوب العالم جمعاء.
ولكن الأوروبيين أنفسهم، والغربيين بعامة، هم من نقض هذا التصور من بعد، فإن الوحدة التي أساسها الماركسية هي وحدة عقيدية وقامت في داخل الفكر الأوروبي وحركته السياسية، وكانت تنقض التكوين القومي، كما أن الحركة الصهيونية نشأت هي الأخري في الرحم الأوروبي وهي تقيم وحدة انتماء أساسها الدين اليهودي. ثم العولمة الآن ترد من أقصي الفكر الغربي؛ من الولايات المتحدة الأمريكية.
إن وحدات الانتماء هي «مكنات» تتواجد وتتزاحم وتتبادل الترتيب والتأثير وفقًا لعوامل تاريخية أخري، تمكن من ظهور بعضها وخفوت الأخري، ومن سيادة بعضها وحاكميته علي غيرها. فحيث سادت القبيلة كانت هي الانتماء