القضاء.. فى مفترق الطرق
يونية 2005
[ 1 ]
عندما تجلس علي منصة قضاء، ويقف أمامك الخصوم بمنازعاتهم يتجادلون ويتخاصمون، وكل يرد علي الآخر حجته، تعرف أنهم لم يتفقوا علي شيء قط إلا أنهم
المحـتــوي
[ 1 ]
عندما تجلس علي منصة قضاء، ويقف أمامك الخصوم بمنازعاتهم يتجادلون ويتخاصمون، وكل يرد علي الآخر حجته، تعرف أنهم لم يتفقوا علي شيء قط إلا أنهم يطمئنون إليك، وأنهم يثقون في أنك بالاقتناع وحده، ستحكم لأحدهما بما يدعيه علي الآخر. وإذا أمكن لك أن تستطرد في التأمل، فستعرف أنهم لولا ثقتهم في حيدتك واستقامتك، ولولا ثقتهم في قدرتك علي أن تحكم بما تقتنع بأنه الحق والصواب، لما أتوا إليك.
والسؤال الآن هو: ما الذي يحدث إذا لم يأتوا إليك، والحال أن لكل منهم حقًا يدعيه لنفسه أو أنه يشكو من ظلم يطلب رفعه عنه، وهو في حال ضرورة أو احتياج لاقتضاء حق يدعيه أو لرفع ظلم يعاني منه، وأنه يتكبد في سعيه إليك جهدًا ومالاً وقلقًا وانتظارًا. الذي سيحدث هو أنه سيسعي لاقتضاء حقه بيديه، أي أنه سيلجأ للعنف إن عاجلاً أو آجلاً.
من هنا يظهر أن القضاء المستقيم والمقتدر هو أساس لا يمكن الاستغناء عنه ولا بديل عنه، لكي تحل الخصومات داخل الجماعة الحضارية بالوسائل السلمية المشروعة، لأنه به وحده تتحول الخصومات من وسائل استخدام العنف لحماية الحقوق أو لاقتضائها إلي وسائل استخدام الحجج والأسانيد الحقوقية التي تعتمد علي أحكام وقواعد معروفة سلفًا. وإذا انحسرت هاتان الصفتان عن القضاء وعم العلم بانحسارهما، فليس معني ذلك أن ظلمًا سيشيع ولا أن حقًا سيهضم، وإنما معناه أن أساسًا من أسس تحضر الجماعة قد انهار.
إن الأمن الاجتماعي يحتاج إلي نظام قضائي مستقيم ومقتدر، وهذا النظام ليس مطلوبًا فقط لكفالة الحقوق ورد المظالم، إنما هو مطلوب للأخطر وهو كفالة انتظام الجماعة في شئونها وحفظ القدر الكافي لتماسكها واطراد سيرها، والأمر هنا أمر سمعة واطمئنان وثقة، بالمعاني الجماعية لهذه الكلمات، ويبقي لدي أفراد الجماعة الاستعداد للتحاكم ما بقيت هذا المعاني مستقرة حسب الغالب من الحالات.
وإن تنظيمًا مؤسسيا أو مسلكًا سياسيا يعمل علي أن يفرغ العمل القضائي من المحتوي الخاص بهذه المعاني مستغلاً أشكالها وهياكلها الخارجية ومستصحبًا صواب ما اتصف به في الماضي، إن تنظيمًا ومسلكًا يعمل علي ذلك، قد ينتفع في المدي القصير بهذا الصنيع، ولكنه يكون قد هد من أسس البنية التحتية للجماعة الحضارية، ويكون قد هدم من أسس نظام الحكم ذاته، إنه يكون مثل التاجر الذي أساء استغلال الاسم التجاري بوضعه علي«بضاعة» فاسدة. ولا شك أن من يبيع أثاث بيته، سيعيش شهورًا في رغد، ولكنه لن يجد بعد ذلك حصيرًا يجلس عليه، إلا أن يكون رسم نفسه أنه لن يعيش في بيته إلا شهورًا، ثم من بعده يكون الطوفان. وهنا يتعين علي الجماعة أن تنهض لتدافع عن مقوماتها.
[ 2 ]
من أجل ذلك يثور موضوع الإصلاح القضائي، جنبًا إلي جنب موضوع الإصلاح الديمقراطي، بل لعله يشغل مكانًا في القلب من هذا الإصلاح الأخير. وإذا تأملنا في تاريخنا فترات نهوض القضاة للدفاع عن النظام القضائي، نلحظ أنهم نهضوا في الغالب للدفاع عن أسس الوظيفة القضائية، وذلك في فترات كانت النظم السياسية في ضائقة وانسدت عليها المنافذ فلم تجد إلا البنية الأساسية لبناء الدولة تقتلع من أعمدتها ما تضرب به الآخرين، حدث ذلك في 1951 ــ 1952 وفي 1968 ــ 1969، وهو يحدث الآن علي مدي السنوات الأخيرة.
والشاهد أن نظم الحكم عندما تكون قوية فيما تقدمه للناس من سياسات ناجحة ونافعة، وفيما تستند إليه من مسوغات شرعية سياسية وثقافية، وفيما تشيعه لدي الناس من روح الأمل والرجاء المبني علي إرهاصات مقنعة، عندما تكون كذلك تتعامل بثقة واطمئنان وبقدر من الشجاعة، أما عندما تفقد هذه القوة، وبخاصة عندما تفقدها في كل المجالات السابقة، إنما تكون علي درجة عظيمة من الاحتياج لأن تستر سياساتها وممارساتها وأفعالها وراء آخرين، والقرار السياسي يبحث عن وجوه التخفي وراء قرارات قضائية أو رؤي فنية في أي مجال اقتصادي أو غيره. وهي تبحث عن المؤسسات المشتهرة بالحياد والاستقلال وتعمل علي أن تتسرب من خلالها وهكذا. وهذا بالدقة ما حدث ويحدث في الفترات التي أشرت إليها آنفًا، وهو ما يدفع رجال القضاء أن ينهضوا للتمسك باستقلالهم وبثوابت تقاليدهم، كلما أدركوا أنهم يراد بهم أن يستغل ظاهر حيادهم الوظيفي لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية منحازة لصالح القابضين علي الحكم.
ولكي نفهم الأمر جيدًا بشأن القضاء أو بشأن أية مؤسسة ذات أثر في الحياة الاجتماعية، فإننا نتراوح بين الصورة النموذجية المثالية التي ترسم نظريا لهذه المؤسسة حسب المأمول من أدائها، وبين الصور الواقعية التي تتراءي في الممارسة الفعلية النثرية، والتي تتفاوت فيها درجات الصواب والخطأ ويتداخل فيها الصحيح مع الناقص. ونحن عندما نتكلم عن مؤسسات تعمل في الواقع المعيش، علينا أن نضع النموذج المثالي بوصفه غاية تستهدف، وأن نضع بجواره ما ندركه من أحوال الحياة المعيشة.
وبمراعاة النظر الواقعي ومع تفادي عدم السقوط في النظرة المثالية المجردة وعدم الحكم علي حال نسبي بمعايير مطلقة، فإنه يظل أن الهيئة القضائية مصمم بناؤها المؤسسي بما لا يؤدي إلي واحدية فكرية ولا واحدية في اتخاذ القرار، لأن المحاكم وحدات وحدات، تتشكل آحادًا أو أثلاثًا أو أخماسًا، أو أكثر من ذلك، وكل وحدة منها ذات اتصال مباشر بالقانون الذي تطبقه وذات استقلالية في فهمها للقانون وتفسيرها لنصوصه واستخلاص الأحكام منها.. وهي ذات اتصال مباشر أيضًا بالوقائع التي تعرض عليها وتحقيقها واستخلاص الدلالات الواقعية منها، وذات استقلال أيضًا في هذا النظر. وأقصد بالاتصال المباشر وبالاستقلال أن فعل الجهة القضائية صاحبة التصرف والقرار هو فعل منسوب إليها وحدها، لا يأتيها من خارجها.
هناك طبعًا التسلسل الهرمي في الوظائف، ولكنه لا يعتبر خضوعًا رئاسيا ملزمًا، وهناك أيضًا الأثر المعنوي الكبير للمحاكم الأعلي علي المحاكم الأدني، واحتمالات إلغاء الأحكام الأدني، وهناك ضغوط معنوية، وتأثيرات، ولكن كل ذلك لا ينفي وجود التعددية في المحاكم بكثرة كثيرة، وما يعنيه ذلك من أن القبضة المركزية لا يمكن أن تتواجد بمثل ما توجد في المؤسسات ذات البناء الهرمي والتي