ساعة سقوط الملكية فى مصر يناير 2003

محمد حسنين هيكل

1
تجارب مباشرة على حافة بركان:
[فى الساعة العاشرة والنصف من مساء يوم الثلاثاء 23 يوليو 1952 ـ كنت فى بيتى أنتظر إشارة ـ اتصالا تليفونيا

المحـتــوي

1
تجارب مباشرة على حافة بركان:
[فى الساعة العاشرة والنصف من مساء يوم الثلاثاء 23 يوليو 1952 ـ كنت فى بيتى أنتظر إشارة ـ اتصالا تليفونيا فى الغالب ـ من الصاغ «سعد توفيق» يبلغنى رسالة من البكباشى «جمال عبد الناصر حسين» (أو كذلك أوحى لى بأكبر قدر من الوضوح ـ دون قول صريح). ولم أكن أعرف موضوع الرسالة المنتظرة لكنى تصورته بالضرورة موصولا بالمشهد السياسى الجارى فى مصر تلك الأيام ـ وتداعياته الخطرة التى تحولت كل ساعة ـ وكل دقيقة ـ إلى سيل متدافع، متسارع، تتزايد حركته وتتعالى منذرة بأنه الطوفان! ...................
................... [كانت الدقائق ـ والثوانى ـ تمر ببطء ثقيل كأن وحدات الزمن طال عمرها ونامت عقاربها على سطح الساعة لا تخطو من خط إلى خط ولا تنتقل وتمشى لتمارس حسابها للوقت. وفى الساعة الحادية عشرة إلا ربعا دق جرس التليفون، لكن المتكلم لم يكن من أنتظره، وإنما كان «فريد زعلوك» (باشا) (وهو الآن وزير للدولة مع «نجيب الهلالي» (باشا) ومساعد مباشر له). وبادرنى «فريد زعلوك» وصوته مشحون بنبرة قلق اختلف معها صوته الطبيعى كما ألفته (فقد كان صوته دائما مشحونا بكفاءة خطيب محرض من أيام زعامته للطلبة الوفديين فى جامعة فؤاد الأول لمدة عشر سنوات كاملة قضاها بالقصد المقصود طالبا فى كلية الحقوق). وبتلك النبرة المشحونة بالنذر سألنى «فريد زعلوك» إذا كنت عرفت أن «ضباط الجيش نزلوا إلى الشارع؟» وبدا لى التعبير غريبا ـ وأضاف «فريد زعلوك» أن المعلومات «لديهم» ـ أى لدى القصر والوزارة ـ فى الاسكندرية تفيد أن هناك حالة عصيان فى الجيش، وأن هناك ضباطا تركوا ثكناتهم «ونزلوا إلى الشارع!» ـ واستطرد «فريد زعلوك» يقول أن «نجيب (باشا)» كان يريد أن يكلمنى لكنه الآن فى اجتماع مع رئيس الديوان الملكى (حافظ عفيفي) لتدارس التطورات». وقلت «أنه ليس لدى رد على سؤاله بشكل محدد ـ لكن «حواسى الصحفية» تقول لى أن هناك أمرا يجرى الآن وإن كنت لا أعرف على وجه اليقين شكله أو حجمه أو اتجاهه». وكان سؤاله التالى مباشرة «هل رأيت اللواء نجيب بعد عودتك من الإسكندرية أو سمعت منه؟» وأجبت بالنفى وشعورى الداخلى أننى لا أريد لحديثنا أن يطول ـ من هاجس يلح على بأن أترك الخط التليفونى مفتوحا لاتصال أنتظره وقد يكون فيه جلاء ويقين. وأخذت من «فريد زعلوك» رقم تليفون مكتبه فى بولكلى (مقر رئاسة الوزارة فى الاسكندرية) قائلا «إننى سوف أعود للاتصال به بعد قليل لعل لديه أو لدى جديدا عن «تطورات الموقف». ووضعت سماعة التليفون مكانها ورحت أنظر إليها وكأنها كائن حى أمامى أنتظر منه أن يشاركنى فى حوار. وعندما وصلت عقارب الساعة بشق الأنفس إلى الحاديــة عشــرة لم تبــق لـدى طاقــة على الصبر، وكان الخاطر الذى يلح على «أننى لا أقدر عـلى انتظار إشارة الصاغ «سعد توفيق» ـ بل إن الانتظار فى حد ذاته لم يعد مقبولا من «مخبر» صحفى «فى لحظات نزلت فيها الحوادث (ضباطا) إلى الشوارع» (حسب تعبير وزير الدولة «فريد زعلوك» (باشا)] ...................
................... [وعندما فتحت باب بيتى لأخرج (وفى ذهنى أن أقصد إلى مبنى أخبار اليوم بظن أننى هناك أقرب إلى مجرى الحوادث) ـ سمعت رنين التليفون وعدت ملهوفا أسمع صوت الصاغ «سعد توفيق» دون مقدمات يسألنى بما معناه «إذا كنت أعرف محطة البنزين وراء كوبرى القبة؟ وإذا كان ذلك، فعلى أن أكون هناك حوالى الساعة الثالثة قبل الفجر». ثم يضيف «لا تذهب عن طريق العباسية ـ جرب الطريق الخلفى من ناحية قصر القبة» ثم مضيفا وبسرعة «سوف تجدنى أو تجد خبرا منى هناك» ـ وانتهى الاتصال! كانت «حواسى المهنية» يقظى، وكان أول ما فعلته أننى عدت إلى باب بيتى أغلقه بعد أن تركته مفتوحا حين سمعت رنين تليفون فى اللحظة الأخيرة قبل الخروج! ـ لأنى أحسست بحاجة إلى ترتيب خطاى قبل أن أتحرك على غير هدى مسوقا ـ ومشوقا إلى الجرى وراء «أمور» أعرف «أنها الآن تقع» أو «على وشك أن تقع» ـ لكن المعلومات اللازمة لتوجيه أى عمل لا تزال مجهولة ـ على الأقل غير محددة! وكان تفكيرى ينتقل من «تصور» إلى «تصور» كأنها طرفات جفن (وهى حالة يعرفها أولئك الذين يكون عليهم أن يختاروا على عجل فى مواقف يمكن أن تكون فارقة). كانت أفكارى تتداعى واحدة متصلة بواحدة: ـ لا وسيلة ولا جدوى من محاولة الاتصال مرة أخرى بالصاغ «سعد توفيق» لسؤاله عن أكثر مما نطق به «خطفا» ولم يزد ولم ينتظر ـ ثم إننى لا أعرف أين هو؟! ـ ومن الآن الساعة الحادية عشرة وحتى ذلك الموعد المعلق فى الهواء عند الفجر ـ مدة أربع ساعات وهى فى السياسة «دهر»، وفى مثل أحوال مصر لحظتها «أبد» يستحيل انتظاره حتى يحل. ـ والذهاب إلى مبنى «أخبار اليوم لن يفيد فى الغالب بشيء إلا البقاء رهن مكتب يستطيــع أن يطلــب محــررين من بيوتهــم لكنـه لا يعرف إلى أين يدفع بهم ـ كما أنه لا يستطيع من هناك الاتصال بالإسكندرية ـ لأن الإسكندرية هى التى تحاول الآن أن تعرف شيئا عما يجرى فى القاهرة (بدليل اتصال «فريد زعلوك» بي). ـ ولمع فى ذهنى خاطر مثل ومض برق وسط الضباب: «محمد نجيب» (وكان ذلك استطرادا من سؤال «فريد زعلوك» عما إذا كنت رأيت «محمد نجيب» أو سمعت منه بعد عودتى من الإسكندرية). وبان وسط تضارب التصورات خط راح يزداد وضوحا كلما ركزت عليه: ـ هناك أربع ساعات من الآن ـ حتى الفجر ـ وإذا كان هناك «ضباط نزلوا إلى الشارع» ـ فالغالب أن «محمد نجيب» يعرف شيئا ـ أو أنه يستطيع أن يعرف شيئا. ـ وما داموا فى الإسكندرية (وزير الدولة باسم رئيس الوزراء يسألنى عن «محمد نجيب»)، فلا بد أنهم يظنون بوجود اتصال على نحو ما بينه وبين ما هو جار الآن أو ضمن توابعه. ـ وفى كل الأحوال فإن «محمد نجيب» هو نفسه عقدة الموضوع فى أزمة حل مجلس إدارة نادى ضباط الجيش التى هى بالتحديد بداية الانزلاق نحو ما يجرى هذه الساعة. والغريب أننى أثناء ذلك كله لم أفكر فى الاتصال تليفونيا ببيت «محمد نجيب» وإنما وجدت نفسى أقود سيارتى على الطريق إليه: شارع فؤاد الأول ـ شارع الملكة نازلى ـ ميدان

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions