محمـد عـودة ..الفقيــر الهندي
أبريل 2005
متعة ما بعدها متعة أن تجلس إلي المفكر والكاتب الكبير محمد عودة، وهي متعة لها مذاق مختلف عن المتع الحسية الزائلة، متعة الولوج إلي حصاده الزاخر بألوان
المحـتــوي
متعة ما بعدها متعة أن تجلس إلي المفكر والكاتب الكبير محمد عودة، وهي متعة لها مذاق مختلف عن المتع الحسية الزائلة، متعة الولوج إلي حصاده الزاخر بألوان الثقافة والفن والسياسة والتاريخ والذكريات العذبة عبر الحوار والمؤانسة والدعابة!
ولشدة ما يدهش الوافد الجديد لتواضعه الجم وبساطته الآسرة، إلا أنه من الأفضل التعرف علي طرف من عاداته ومزاجه الخاص قبل التقائه. فقد تجده للوهلة الأولي متجهما أو مبادرا بالهجوم، وربما عازفا عن الحديث، و له في كل ذلك شأن يغنيه لا يدرك كنهه في حينه، لكننا ـ أصدقاءه وتلاميذه وحوارييه ـ ندركه، فقد يكون همّْ من هموم الوطن يؤرقه وقتئذ، فاصبر عليه وتمهل حتي يطرحه عليك وتشاركه في تفسيره والبحث له عن مخرج، وربما لأنه دلف إلي هذا المجلس بطريق الصدفة أو الخطأ، فاكتشف أن الجهل أو الجدل العقيم الأعلي صوتا، والأكثر افتراء علي الحقيقة وانتهاكا لثوابت الوطن والأمة، لكن حين تكون الأجواء مواتية والحضور متجانسا والحقيقة غاية الحوار والجد طابعه، عندئذ يتألق عودة علي سجيته ويبدع!
عرفت عودة أوائل الخمسينيات في دار الأوبرا القديمة صباح يوم جمعة، إذ كانت وقتئذ تنظم حفلا أسبوعيا للطلبة والشباب الراغبين في سماع وتذوق الـموسيقي الكلاسيك التي يعزفها أوركسترا القاهرة السيمفوني بقيادة المايسترو عبدالحليم علي، وكانت تذكرة الحفل لا تزيد علي خمسة قروش، تتضاعف إلي 25 قرشا في حفل المساء (السواريه)!
في الاستراحة خرجت أنا وشقيقتي الأديبة الراحلة عايدة الشريف إلي ردهة دار الأوبرا، وهناك رأيت عودة لأول مرة، وكان في عنفوان شبابه وكامل أناقته، واسترعي نظري بياض بشرته وجاكتته البليزر الكحلي وكرافتته «الببيون» والبيريه الأزرق فوق رأسه حتي خلته خواجة متمصرا. كان مستغرقا آنذاك في الحديث مع صديقي محمود ذهني وزميلي فيما بعد بمجلة روز اليوسف، والحوار بينهما كان سجالا حول أداء الأوركسترا وافتقاره إلي عازفين علي المستوي العالمي.
انتهي الحفل في الثانية عشرة ظهرا، وأخذت أنا وشقيقتي طريقنا كالعادة إلي ندوة نـجيب محفوظ، وكانـت علي بعد خطـوات في صالـون ناءٍ يقـع علي يمـين الطـابق الثاني من كازينو أوبرا الذي شهد أمجاد الفنانة بديعة مصابني إبان الحرب العالمية الثانية، فلما هربت من الضرائب إلي مسقط رأسها لبنان وافتتحت لنفسها مزرعة للدجاج في شتورة، آلت ملكية الكازينو لتلميذتها الفنانة صفية حلمي التي رحبت باستضافة الندوة من باب الشهرة، و.. هناك وجدنا عودة قد سبقنا إليها، وأذكر أنه شارك يومها بالـمناقشة حول واقعة استوقفته في سجل النضال الوطني تعرض لها نجيب محفوظ في روايته الثلاثية. وبعدها تكررت لقاءات الجمعة التي جمعتنا به حتي أصبحنا نحلق تلقائيا في سربه!
وبينما شدني الشاعر كامل الشناوي وغيره من الظرفاء وصعاليك ذلك الزمان إلي عوالمهم، ظلت عايدة مشدودة إلي عوالم عودة وأجواء الأدب والفن، لكن علاقتي مع عودة ظلت حميمة ومتصلة، إذ كان يتردد علي منزلنا للحوار مع والدي العالم الأزهري المستنير، وكلما اشتاق إلي طعام والدتي الدمياطي المسبك، بينما فرضت أحداث الثورة الجزائرية لقاءنا اليومي مع قيادتها وأعضاء حكومتها المؤقتة بالقاهرة. ومع توالي الأيام كان عودة يشدنا دوما إلي بيوت ومقاهي ومنتديات اللاجئين السياسيين العرب والأفارقة، وإلي المسارح والسينمات والندوات الثقافية والسياسية.. وهكذا علي مدي أربعين عاما تجسدت أمامي شخصيته وتبلورت معالمها وخياراتها واكتشفت كم هو مختلف نوعيا عن كل الظرفاء والصعاليك النبلاء الذين عرفتهم في ذلك الزمان سواء في ثقافته الموسوعية، ودأبه علي القراءة والتحصيل، ونهمه إلي الجديد من المعارف، أو إيمانه المتفائل بمصر التي لا تضيع أبدا رغم الكوارث والزلازل والانكسارات، ورضائه وقناعته بحظوته الشخصية المتواضعة من مغانم الحياة، إذ دائما يقول: يكفي أننا تعلمنا ما وسعنا، وخضنا التجارب والمحن التي عجمت عودنا، واستمتعنا بالحب والفنون والآداب، وسافرنا إلي بلاد الله وعرفنا شعوب العالم، وكتبنا ما نشاء ولم نفرط فيما نعتقد أنه الخير والصواب والجمال. وربما من هنا شبهه البعض من أصدقائه بالفقير الهندي في علاقته الصوفية بالحياة والناس واحتماله للمكاره، وزادت مصداقية هذا التشبيه إثر عودته من الهند، بعد سنوات من العمل مذيعا ومترجما في إذاعة دلهي التي تبث برامجها باللغة العربية.. وخلالها عشق الشعب الهندي وصادق زعاماته ومبدعيه واغترف من تراثه وتابع ولا يزال شئونه وشجونه، وله في ذلك كتابات وكتب مهمة!
جهينة والخبر اليقين
محمد عودة من مواليد عام 1920، ومسقط رأسه قرية «جهينة» مركز فاقوس محافظة الشرقية. ويشهد تاريخ العرب لجهينة أنها كانت أكثر قبائل الجزيرة العربية حكمة ومعرفة بالخبر اليقين. كان والده واحدا من تجار القطن الذين أفلسوا إبان احتدام الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينيات، لكنه لم يستسلم للكارثة، وقرر تعويض ما فاته من العلم. وفي حي الحسين حيث رحل مع أسرته إلي القاهرة، خرج مع ابنه محمد عودة في أول صباح إلي محل الحلوجي لتناول الإفطار، وكان وجبة من الفول المدمس. وحكي له أن صاحب المحل كان يعد صباح كل يوم طبقا من الفول المدمس المنزوع القشر، ويحمله بنفسه إلي سعد زغلول باشا. فلما اقتربا من مدرسة خليل أغا الابتدائية ليبدأ أول عهده بالدراسة في القاهرة، روي له والده أن منشئ المدرسة كان كبير الأغوات للوالدة باشا في عهد الخديو إسماعيل وورث عنه حب العلم ورعايته للمتعلمين النابغين، ومن عجب أن يتفوق عودة في دراسته الابتدائية، ويقع عليه الاختيار لإلقاء قصيدة ترحيب بزيارة الملك فؤاد للمدرسة، وسُر جلالته سرورا بالغا لإلقائه، وأهداه طاقم أدوات مكتب من الجلد الفاخر، وعاد به فرحا إلي المنزل، لكن والده لم يشاركه فرحته ولعن سلسفيل جدود الملك، إذ كان والده وفديا! ومن يومها تولد لديه شعور معاد غامض للملك والملكية!
وبينما كان عودة يتوجه كل صباح إلي مدرسة خليل أغا الابتدائية ثم المدرسة السعيدية الثانوية فيما بعد، كان والده يتوجه للدراسة بالأزهر، وعندما