مأسـاة مي..! مايو 2007

يوسف الشريف

لاشك أن مي كانت بحكم ولادتها الفلسطينية، وتربيتها اللبنانية، ثم إقامتها ووفاتها بمصر، الرائدة القومية السباقة إلي إنصاف المرأة وفك عزلتها حتي تتبوأ المكانة

المحـتــوي

لاشك أن مي كانت بحكم ولادتها الفلسطينية، وتربيتها اللبنانية، ثم إقامتها ووفاتها بمصر، الرائدة القومية السباقة إلي إنصاف المرأة وفك عزلتها حتي تتبوأ المكانة التي تستحقها، في وقت كانت ظلاً مهمشًا للرجل في شتي المجتمعات العربية! علي أن اسم «مي» مسبوقًا بوصفها آنسة، علي مدي الخمسة والخمسين من عمرها، كان اختصارًا لاسمها الكامل «مي ماري زيادة»، ولاتزال منذ رحيلها في أكتوبر 1941 الأسطورة الجميلة التي انتهت بمأساة عبثية، فهي كانت مثيرة للجدل، حين أكدت حضورها الطاغي في مجتمع القاهرة، وصالت وجالت علي مسرح الحياة الأدبية في مصر، كاتبة، وأديبة، وشاعرة متميزة واسعة الاطلاع، شجاعة وواثقة من نفسها وذات حضور غامر إلي حد اجتذاب الزعماء والعلماء ونجوم الإبداع والمفكرين إلي صالونها الأدبي بمنزلها رقم 28 بشارع عدلي اليوم ـ شارع المغربي عصر كل ثلاثاء، حيث كان يدور الحوار بينهم ثريا وممتعًا حول شتي القضايا، ومنهم من بثها الإعجاب أو الغرام، بينما لا يزال السؤال يراوح نفسه عن الحبيب المعلوم أو المجهول الذي شغفت به وبادلته العواطف المشبوبة! علي أن دورة حياتها العريضة التي صادفت اتهامها بالجنون وصحبة المجانين في مستشفي «العصفورية» بلبنان، كانت بمثابة عقدة الذنب لدي الكثير من النقاد وتأنيب ضمير الذين خالطوها من الأقارب والأصدقاء، وتقاعسوا عن إنقاذها وإنصافها ورد اعتبارها، ولعله يفسر مبادرة البعض منهم إثر رحيلها، إلي استجلاء صورتها الوضيئة، وتسليط الضوء علي إبداعاتها وعطائها الزاخر، ودحر الشائعات الباطلة التي لصقت بسمعتها العفيفة، عبر الكم الهائل من الكتب والدراسات والمقالات التي حاولت الإحاطة البانورامية بمشوار حياتها العريض علي مدي 55 عامًا! ولا نعتقد أن المطلوب في هذه الإطلالة علي سيرة مي الذاتية إعادة ما تناولته جملة هذا الزخم من الكتابات، وإنما سبر أغوارها عبر التحري والتحليل، والكشف عن أسرارها وخباياها، والسيناريوهات الدرامية التي انتهت بمأساتها، واعتماد النهج المقارن بين تعدد الرؤي والروايات حول هذه الشخصية المتفردة، بكل ملامحها وخصائصها، وتألقها وانكساراتها! صالون الآنسة هنا يلزم البوح بالسر وراء متابعتي الدءوبة لسيرة حياة مي، وقراءة معظم ما كتب أو روي عنها، إذ كان أستاذنا الشاعر الكبير كامل الشناوي لا غيره صاحب الفضل، عبر حكاياته الشائعة التي تناولت ذكرياته عن مي وذكريات أصدقائه الذين كانوا يتحلقون حولها في صالون الثلاثاء، وهو ما ضمنته كتابي عنه بعنوان: «آخر ظرفاء ذلك الزمان»! لم يكن صالون مي أول صالون أدبي لسيدة في تاريخ الأدب العربي ــ علي حد قول كامل الشناوي ــ فقد سبقها مجلس السيدة سكينة بنت الحسين رضي الله عنها، وكانت وهي العابدة المتبتلة تجالس الأجلة من قريش، ويجتمع إليها الشعراء، ويذكر أنها كانت تصفف شعرها باحتشام تصفيفًا جميلاً عرف باسم «الجمة السكينية»، وعندما رأي عمر بن عبدالعزيز رجلاً يصفف شعره علي طريقة السيدة سكينة أو بجلده وحلق شعره، وعندما سمعت جرير يروي عن صاحبه بيتاً من الشعر: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيارة فارجعي بسلام قالت له: وأي ساعة أحلي من الطروق؟.. قبح الله صاحبك وقبح شعره! وكانت سكينة تطرب للغناء وتجيز المغنين، وكذلك مي التي كانت تهوي سماع الموسيقي وتهفو إلي العزف علي البيانو والعود، وأحيانًا ما كانت تستبقي طه حسين ومحمد حسن المرصفي بعد انصراف صالون الثلاثاء، حتي تغني لهما بصوتها الجميل «يا حنينه» من الفولكلور اللبناني! قبل صالون مي كانت هناك صالونات أدبية أخري للنساء، أشهرها صالون الأميرة نازلي الأرستقراطي بقصر عابدين، وكان من أبرز رواده سعد زغلول وقاسم أمين والشيخ محمد عبده، وكان الحديث بينهم يدور حول قضايا السياسة والإصلاح الاجتماعي والديني! وقد ظهرت مي لأول مرة علي الساحة الأدبية بعد ظهور أديبتين مصريتين هما عائشة التيمورية وكان لها ديوان من الشعر، والأخري «باحثة البادية» ملك ناصف كريمة القاضي الأديب حفني بك ناصف، وكانت تنشر المقالات وتثير العديد من القضايا الأدبية والاجتماعية في الصحف والمجلات، لكن عائشة وملك كانتا تتحدثان مع الرجال من وراء حجاب، ولم تظهرا في المجتمعات ولم تخطبا في حفلة، وذلك أن اختلاف الظروف والبيئة والثقافة والدين أفسح الطريق أمام مي، وخلفت من الآثار الأدبية ما يكفل لها في تاريخ الأدب العربي مكانة مرموقة، بينما سدت المنافذ في وجهي عائشة وملك! والشاهد أن مي التي ولدت في مدينة الناصرة الفلسطينية عام 1890 علي أب لبناني وأم فلسطينية، وشاءت تصاريف القدر أن تصحب والديها في رحلة النزوح إلي لبنان ولم تزل طفلة صغيرة، حيث تلقت دراستها في داخلية مدرسة الراهبات بعين الحلوة، فما أن شبت عن الطوق حتي بزغت موهبتها الأدبية، ثم ذاعت شهرتها ولم تزل في العشرين من عمرها، فكانت تكتب آنذاك بالعربية والفرنسية، فضلاً عن إتقانها الإنجليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية، إذ كان دأبها الاطلاع علي شتي الآداب والثقافات، وهكذا صدر لها في تلك الفترة المبكرة ديوان من الشعر بالفرنسية وقصص قصيرة بالعربية. وبقدر ما كانت تحلق مي بذكريات الحنين إلي طفولتها السعيدة، حيث اختارت لنفسها اسم «كنار» والمعايشة البريئة في ملاعب الصبا مع ابن عمها «نعوم» وصديقه يوسف حايك الذي أصبح في شبابه نحاتًا شهيرًا، بقدر ما كانت تجتر أحزانها لأن ابن عمها تخلي دون سبب معلوم عن وعده بالزواج بها، وتلك كانت باكورة عثراتها العاطفية التي خلقت ندوبًا غائرة في قلبها! وإلي مصر كان النزوح الثاني مع أسرتها والإقامة في القاهرة منتصف عام 1907، وقد بدأت كتابة المقالات الأدبية والاجتماعية والنقدية في صحيفة «المحروسة» التي أصدرها والدها الياس زيادة، بالتزامن مع التحاقها لدراسة اللغة العربية وآدابها في الجامعة المصرية القديمة، ويروي الدكاترة زكي مبارك عن تلميذته مي، أنها كانت الفتاة الرشيقة، الجميلة المحيا، الحلوة العبارة وذات الصوت الساحر المنغم كما الموسيقي، وكانت سمراء في لون البن أو التمر هندي، كما يقول الشعراء، وكالمسك

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions