الـقـات الشــجرة الملعـــونة في اليمـــن فبراير 2004

يوسف الشريف

كثيرًا ما يظهر الرئيس اليمني علي عبدالله صالح علي شاشة التليفزيون في لباسه الرياضي وهو يمارس العدو والسباحة والغوص، ربما وهو يتعامل مع الكمبيوتر والإنترنت،

المحـتــوي

كثيرًا ما يظهر الرئيس اليمني علي عبدالله صالح علي شاشة التليفزيون في لباسه الرياضي وهو يمارس العدو والسباحة والغوص، ربما وهو يتعامل مع الكمبيوتر والإنترنت، تأكيدًا علي إقلاعه عن تعاطي القات، وكيف أصبح هكذا موفور الصحة والحيوية والنشاط، لعل الشعب اليمني يحتذي حذوه، في إطار الدعاية للمشروع القومي الذي بدأه بنفسه واختار له شعار «يمن بلا قات»! عن شجرة القات قال رجالات اليمن من السياسيين والعلماء والأدباء والشعراء الكثير من النقد والذم والهجاء، ونهضت جمعيات أهلية عديدة لمواجهة كوارث القات علي كل صعيد منذ عام 1995، بل خرجت أوائل عام 2003 مظاهرات شعبية ضخمة وغير مسبوقة في طول البلاد وعرضها، ضمت أكثر من خمسة ملايين يمني من بين تعداد السكان البالغ 20 مليون مواطن، وتصدرها مختلف ألوان الطيف الرسمي والشعبي، فيما يشبه إعلان حرب المجتمع اليمني ضد ديكتاتورية القات، ومع ذلك يظل التحرر والانعتاق من لعنة القات أشبه بالأمنيات السعيدة وأحلام اليقظة، حيث لاتزال الشجرة الملعونة تتحدي الجميع، بل تجتذب يوميًا المزيد من الضحايا المتيمين بها، رغم ما يتواتر عن مضارها كونها تذهب بالعقول والجيوب، وتفتك بالصحة العامة، وتهدر الوقت والدخل القومي والخاص! وتعجب للشعب اليمني الباسل كيف خاض الثورات والانتفاضات بإرادته الصلبة تباعًا، ونجح في التحرر من حكم أئمة آل حميد الدين البغيض في الشمال والاستعمار البريطاني في الجنوب، حتي قوض أسوار عزلته عن العالم التي امتدت قرونًا، وشرع في استعادة الوصال بموروثاته الحضارية، وكيف حقق معجزة الوحدة اليمنية وعض عليها بالنواجز حين داهمتها المؤامرة الانفصالية عام 1994، ثم يزداد العجب لأنه نفس الشعب الذي يكابد الاستسلام والخضوع الطوعي لسلطان القات! كنت في اليمن إثر اندلاع ثورة 26 سبتمبر عام 1962، وفجأة أوشك نجمها الساطع علي الأفول، حين انبري الرئيس عبد الله السلال يندد بلعنة القات، ويدعو اليمنيين إلي الإقلاع عن تعاطيه، ويتوعد باقتلاع أشجاره، فلما أدرك أنه يسبح ضد التيار سكت عن الكلام المباح! في عام 1972 عاد الأستاذ محسن العيني رئيس الحكومة اليمنية آنذاك إلي تأجيج الحرب ضد القات عبر أسلوب مختلف، لجأ أولاً للقاضي عبد الرحمن الإيرياني رئيس المجلس الجمهوري، وهو كان شخصية تاريخية بارزة ومرجعية دينية موضع احترام الجميع، وأقنعه بإصدار فتوي تؤكد أن القات مكروه شرعًا، بالنظر لمضاره العديدة، في الوقت الذي صدر قرار العيني باقتلاع أشجار القات المزروعة في الأراضي المملوكة للدولة أو التابعة للأوقاف، بدعوي عدم مشروعية الصرف من ريعها علي إيواء الأيتام وتعمير المساجد! لكن أحدًا من أصحاب مزارع القات لم يأبه لهذه المبادرات ولا اقتلع أشجاره، ووجدوا من بين رجال الدين من يفتيهم في المقابل بمشروعية زراعة وبيع وشراء القات والاستمتاع بتخزينه عن قناعة وباطمئنان! لم يعدم محسن العيني الوسيلة لمواصلة الحرب علي القات، جلب من مصر شحنة من الصناديق تحتوي علي كم هائل من دودة القطن التي تفتك بمحصولها القومي، ثم كلف من يسربها في الخفاء إلي بعض مزارع القات، لعلها وعساها تلعب دورًا قوميًا في القضاء علي أشجاره الملعونة، ولابد أنها سوف تزحف وتلتهم أوراقها، بل وقدر أن تبيض وتفرخ الملايين، وبعدها سوف تنتشر في غيرها من مزارع القات وتعريتها بالتالي من أوراقها، إيذانًا بالنهاية المحتومة لهذا الداء الوبيل! وعلي ما يبدو أن دودة القطن المصري ـ علي حد سخريات أهل اليمن ـ رفضت التدخل فيما لا يعنيها، ومن ثم امتنعت عن تنغيص المزاج اليمني، وربما راق لها القات واستحلبته هنيئًا مريئًا كما لو أنها المعينة في المثل القائل «جئتك يا عبد المعين تعينني.. وجدت يا عبد المعين في حاجة لمن يعينك، بينما لم يصدق علي هذه الحالة المثل القائل «وداوني بالتي كانت هي الداء»! لكن العيني لم يتراجع، دعا الأدباء والشعراء والوعاظ إلي مساندة حملته ضد القات وأجزل لهم العطاء، ومن ثم انبري أحدهم وهو الشاعر أحمد المعلمي ونظم قصيدة عصماء يندد فيها بالقات مطلعها: ورأي أن يحارب القات فالقات بلاء دواؤه غير سهل إنه سبة علينا وعار نحن منها ممرغون بوحل إنه آفة أقل مساويها مضي ساعات من غير شغل قاتل للأوقات وهو بلاء لشباب فينا وشيخ وكهل نحن نحيا عصر الفضا لم نعد نحيا بجهل حياة عير وبغل قد غزا عصرنا الكواكب بينما بعضنا فيه ماشيًا دون نعل فلما سمع محسن العيني القصيدة أعجب بها، وكاد يعمم تداولها في أجهزة الإعلام، لكنه تراجع عندما عرف أن الشاعر كتبها وهو يخزن القات وألقاها في أحد مجالس «تقويت» القات! هكذا تأزمت العلاقة كما لو أنها الثأر بين محسن العيني ومافيا القات، حتي نال شرف وصفه بـ «العدو الأول للقات» إثر قوله مؤخرًا في حديث صحفي «لا يمكن أن نبقي تنابلة السلطان.. نُخزن ونوسوس، نحلم ونتواكل ونكسُل.. ونمد أيدينا للغير، يقيمون لنا المدارس والمستشفيات، ويقدمون لنا الطعام، وينشئون المصانع ويستصلحون الأرض، ويفتحون لنا الجامعات ويقدمون المنح الدراسية لأولادنا و.. كأننا قرة عين الزمان»! علي أنه في حوار معه عبر الفضائية اليمنية، استدرك وقع الصدمة في موقفه من القات، وقال إن اليمنيين كانوا في الماضي لا يداومون التخزين كما هو حالهم اليوم، إذ كانوا بين حين وآخر يخزنون بعضًا من أوراقه، ثم استطرد قائلاً «صحيح أن مجالس القات متنفس للحوار ومبعث للمسرات، إلا أنها باتت ظاهرة خطيرة، خاصة أن الشباب والأطفال راحوا ينضمون تباعًا إلي جموع المخزنين، ومن هنا استشعاري للخطر الذي يهدد حاضر اليمن ومستقبله» ولعله أقل وأدل علي مصداقية وضرورات تجسيد شعار الحملة القومية «يمن بلا قات»! القات مع أبرهة الحبشي: القات مصدره أفريقيا، واسمه في الصومال «تشات»، وفي كينيا له عدة أسماء بحسب أنواعه.. «ميراء».. كاث.. ميرانجي.. ليس.. طمايات.. ميلونجي.. ماونج، وفي يوغندا يعرف بـ «موستات»، وفي الحبشة ومنها دخل اليمن في ركاب أبرهة وهو في طريقه لهدم الكعبة يسميه الأثيوبيون تيج أو تدج، وقد اكتشف الإمام شرف الدين القات في اليمن

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions