بعد الصحافة والفضائيات..ســـــــــينمـا مســـــتقلة يوليو 2006

محمد خير - رنا حايك

من مفارقات اللحظة المصرية الراهنة، أن ذلك البلد العريق في بيروقراطيته ومؤسساته العتيدة، المنقسم منذ دهور بين سلطة مركزية وبشر اعتادوا علي الدوران في فلكها،

المحـتــوي

من مفارقات اللحظة المصرية الراهنة، أن ذلك البلد العريق في بيروقراطيته ومؤسساته العتيدة، المنقسم منذ دهور بين سلطة مركزية وبشر اعتادوا علي الدوران في فلكها، أفاق فجأة علي انتعاشة فائقة لكل ما هو مستقل عن الطرفين، صحافة مستقلة ازدهر توزيعها علي حساب مؤسسات عتيقة، وفضائيات مستقلة غنائية وترفيهية اختطفت الأضواء التي طالما احتكرها مبني ماسبيرو، دعاة جدد احتلوا مكان ومكانة الأزهر، وأخيرًا: سينما مستقلة شابة، قد يندهش القارئ عندما يعرف أن إنتاجها يتخطي الآن خمسين فيلمًا سنويا، في وقت يتفاخر فيه منتجو السينما التجارية بأنهم أنتجوا في موسم 2005 ما يقرب من 30 فيلمًا، معتبرين أنهم بذلك أقالوا السينما المصرية من عثرتها التي بدأت في أوائل التسعينيات، تحديدًا في العام 93 عندما اقتصر الإنتاج السينمائي المصري علي 7 أفلام لا غير. وبينما وقفت خلف الإعلام - الصحفي والتليفزيوني - المستقل مؤسسات مالية ورجال أعمال يكفلونه بتمويل لا ينضب، فاستطاع كسب جماهير واسعة، ظلت السينما المستقلة الجديدة علي الهامش فيما يختص بالتمويل والعرض العام، بل حتي علي مستوي الاهتمام النقدي، ظلت مشاريع الأفلام المستقلة بأنواعها (التسجيلي، والروائي القصير والطويل) مشاريع فردية بالأساس، ينتجها مخرجون شبان علي نفقتهم الخاصة أو علي نفقة جمعيات أهلية أو مراكز متخصصة لتمويل هذا النوع من الإبداع مثل مؤسسة «سمات» التي تصدر أيضًا مجلة «نظرة» المتخصصة في السينما المستقلة، شبان استفادوا من تقنية كاميرا الديجيتال التي ظهرت منتصف التسعينيات، فصنعوا أفلامًا محدودة التكلفة سرعان ما فرضت نفسها علي المهرجانات الدولية قبل المحلية، وانتشرت عروضها في الجمعيات والمراكز الثقافية والنقابات، وإن ظلت بعيدة عن الجمهور العريض الذي لن يتحمل ما تمارسه هذه السينما من تكسير للتابوهات، كما يري الناقد الفني عصام زكريا، والذي يضيف أن المفارقة تتأتي من كون أن أغلب الاعتراضات علي جرأة الأفلام المستقلة ونقدها للمسلمات، تأتي من قبل الجمهور المثقف نفسه. في الواقع، ولولا هذه الجرأة، ربما لم يكن أغلب الناس ليسمعوا عن السينما المستقلة، في الفترة الأخيرة دأبت صحف ومواقع إلكترونية علي إثارة القراء بعناوين من نوع (فيلم مصري يسخر من الحجاب، أو يهين المحجبات، أو يشوه سمعة مصر)، هكذا من دون تدقيق أو رؤية نقدية، بل غالبًا دون أن يري كاتب الخبر الفيلم الذي يكتب عنه، فيمتليء الخبر بالمعلومات الخاطئة عن الفيلم وعن الممثلين، فيدعي مثلاً أن الممثلة التي (سخرت من الحجاب) ممثلة مسيحية، ثم يتضح أن الممثلة ليست مسيحية، وأنها لم تسخر من الحجاب أصلاً، وأن الفيلم (الأسانسير) للمخرجة هديل نظمي يناقش قضية لا علاقة لها بالحجاب أو الإسلام أو أي دين، ولكنها ضرورات الفرقعة الصحفية. لماذا حاز الفيلم المصري المستقل هذه السمعة المشبوهة، وهل بالضرورة أن يرتبط كسر(التابو) بالسينما المستقلة كمفهوم وكمشروع؟ في الواقع، تتغير معطيات وأهداف السينما المستقلة من بلد لآخر، ومن فترة زمنية لغيرها، وإن كانت بشكل عام قد ظهرت لأول مرة في خمسينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، كنوع من الاحتجاج علي احتكارات استديوهات هوليوود الكبري وأحيانًا كان الفيلم المستقل يلعب دور ورقة تعريف يقدم المخرج من خلالها عمله لتشجيع المنتجين علي التعاقد معه، كما يحكي الناقد السينمائي ضياء حسني. أما في مصر، فقد ولدت السينما المستقلة في لحظة سياسية واجتماعية حرجة، كواحدة من تجسدات رغبة شباب المصريين المبدعين في التعبير عن أنفسهم وأحلامهم وأحزانهم، لا تختلف عن المدونات علي شبكة الإنترنت، أو الفرق الموسيقية التي انتشرت تؤدي أغانيها في المحافل الفنية الثقافية، أو الروايات والدواوين التي ينشرها الشباب علي نفقتهم الخاصة في وقت تنسحب فيه الدولة مسافة جديدة كل يوم، وإن كانت السينما المستقلة قد سبقت كل ما سبق، وقدمت أول فيلم من هذه النوعية عام 1989بعنوان (حبة سكر) للمخرج حاتم فريد، وكان فيلمًا روائيا طويلاً علي غير عادة الأفلام المستقلة، إذا ما استثنينا فيلم (كلفتي) عام 2004 للمخرج محمد خان الذي ينتمي لجيل مختلف سنًا ووعيا عن معظم أبناء السينما المستقلة. غالبًا ما تتميز الأفلام المستقلة بالإيقاع السريع الذي يسابق الدقائق القليلة التي تشكل مدة الفيلم، أفلام تشبه عصرها، عصر السرعة الذي يختصر طموحات جيل شب فوجد نفسه محاصرًا داخل الوطن، محدود الإمكانات ومهدد بسلفية متصاعدة تراقب أفكاره، وجمود سياسي خانق يجمد أحلامه فيجعله يتساءل عن معني الوطن ومكانه وضروراته، كما فعل تامر عزت في فيلمه الوثائقي (مكان اسمه الوطن) الذي حصد الجائزة الأولي في كل من مهرجان الجزيرة للإنتاج التليفزيوني والوثائقي، ومهرجان روتردام للفيلم العربي، عمد تامر إلي انتقاء أربع شخصيات تنتمي إلي مختلف شرائح الطبقة الوسطي، وقد استطاع ببراعة أن يلتقط الفوارق الطفيفة بين الوضع الإجتماعي لكل شخصية عن الأخري، وإن كان بدا مهتمًا أكثر بالإجابة عن سؤاله الأساسي : ما هو الوطن؟ يبدأ المخرج بأسئلة حول معني الوطن يلقيها علي عينات عشوائية من المارة ثم ينتقل سريعًا إلي شخصيات الفيلم الأساسية، شابين (السباعي) و(معتز)، وفتاتين (ميريام) و(همس)، كل من الشابين يعول أسرته بشكل ما، الأول يساعد أباه في شركة صغيرة ولا يجد الوقت أو الفرصة لممارسة هوايته في التلحين والغناء، والثاني مخرج تليفزيوني يتحمل مسئولية أسرته بعد وفاة الوالد وينجح بإمكاناته المحدودة في الزواج من حبيبته، أما ميريام فهي فتاة مسيحية تعمل مترجمة في دار نشر وتحب شابا مسلما لا يمكنها الزواج منه بالطبع، و(همس) فتاة مصرية عاشت في أمريكا منذ طفولتها وأخيرًا جاءت إلي القاهرة وتزوجت شابًا بولندياً بعد أن أشهر إسلامه، تقول للكاميرا أنها تشعر بالانتماء لمصر وتريد الاستقرار فيها بعد أن طافت العالم في رحلة استغرقت أحد عشر شهرًا، (معتز) أيضًا لا يريد أن يسافر خارج مصر رغم أنه لم يطف العالم مثل همس، أما (السباعي) و(ميريام) فهما لا يجدان طريقًا لمستقبلهما

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions