وثائق حـوارات عــلي ضفـــاف «الحــوار» أبريل 2006

محمد حسنين هيكل

من اقترب من الأستاذ هيكل مهنيا أو إنسانيا، يعرف أنه اعتاد أن يدون أفكاره وخواطره ووقائع يومه علي ورق «يعود» إليه.. «فيستعيد» تفاصيل ما كان.. وأجواءه..

المحـتــوي

من اقترب من الأستاذ هيكل مهنيا أو إنسانيا، يعرف أنه اعتاد أن يدون أفكاره وخواطره ووقائع يومه علي ورق «يعود» إليه.. «فيستعيد» تفاصيل ما كان.. وأجواءه.. وحضوره. ولعل للأفكار الواردة في هذه الورقة ـ التي طلبنا في «وجهات نظر» كما في جريدة «العربي» نشرها ـ قصة ذات صلة. فقد تصادفت زيارة خاصة قام بها الأستاذ للعاصمة القطرية «الدوحة» قبل أسابيع مع انعقاد مؤتمر دولي تحت لافتة «تحالف الحضارات» شاركت فيه نخبة من الشخصيات الدولية المرموقة من بينها «كوفي عنان» الأمين العام للأمم المتحدة، و«عمرو موسي» الأمين العام للجامعة العربية، و«إحسان أوغلو» الأمين العام للمؤتمر الإسلامي، و«عبد ا& غول» وزير خارجية تركيا، والقس الجنوب أفريقي والحائز علي جائزة نوبل للسلام «ديزموند توتو»، و«فريدريكو مايور» الأمين العام السابق لليونسكو، ومعهم الرئيس الإيراني السابق «محمد خاتمي» وهو صاحب مشروع فكري يتبني حوار الحضارات، وكان أن دعا راعي المؤتمر أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الأستاذ هيكل للمشاركة في الجلسة الافتتاحية. وكان أن جري حوار ـ أو حوارات ـ حول فكرة المؤتمر وقضاياه. وكعادته، كانت تلك الورقة التي كتبها هيكل ـ محددا فيها فكرته ـ بقصد تبادل الرأي حول رؤية ربما بدت للبعض مختلفة في موضوع اختزل مبكرا في شعار صار هو الأكثر رواجا في المنتديات الفكرية المختلفة، شمالا وجنوبا.. ونحن ندلف إلي قرن جديد. باعتبارها «وثيقة».. وبإذن من صاحبها.. تضع «وجهات نظر» هذه الورقة أمام قرائها، وتدعو الكتاب وأصحاب الفكر لتبادل الرأي حولها. المحــرر قبل المجازفة بإبداء بعض الملاحظات السريعة عن موضوع صراع الحضارات ــ أو حوارها كما يريد بعض ذوي النوايا الطيبة أو يأملون ــ فإني أريد الإشارة إلي تمهيد ملخصه أن تاريخ الفعل الإنساني يعرف ثلاثة مسارات رئيسية: ــ مسار الفكر ــ الثقافة ــ الحضارة. ــ مسار الإنتاج ــ التراكم ــ الثروة. ــ مسار السيطرة ــ الصراع ــ السلاح. ومع أن هناك وصلات ظاهرة وغير ظاهرة بين المسارات الثلاثة فإنه يمكن التمييز بينها، ويمكن التركيز ولو للحظة علي أحدها بالتخصيص، وذلك ما أفعله الآن. ومن هذا المنطلق فإنني سوف أقصر ملاحظاتي هنا علي المسار الأول وهو موضوع ثار الجدل حوله وطال ــ ولا يزال. 1ــ إنني قريب من مدرسة ترجح أنه ليس هناك ما يمكن أن نسميه صراع حضارات ــ أو حوار حضارات ــ والسبب أن هناك حضارة إنسانية واحدة صبت فيها شعوب وأمم وأقاليم الدنيا، علي طول التاريخ أفضل ما توصلت له من رقي وتقدم. وإذا اعتبرت ــ بقصد مزيد من التحديد ــ أن ثقافة أي مجتمع هي مجمل ما تحصل عليه ــ في ظروف موقعه، وعلي مسار تاريخه، من خبرات ومعارف وفنون ــ فإننا بنفس المقدار نستطيع القول بأن الحضارة هي أرفع وأنفع ما وضعته ثقافات الشعوب والأمم والأقاليم في المجمع العالمي للثقافات المتنوعة، والذي هو محيط الحضارة الإنسانية. والذي حدث علي طول التاريخ أن ما حققته المجتمعات المتعددة من ثقافات متنوعة انتقل بالاختيار المفتوح وبالطلب الحر ــ عندما بان نفعه وتأكدت قيمته ــ إلي الأقاليم المحيطة بموطنه، وهناك تفاعل مع ما وجد، ثم راح ما تجمع في الأقاليم ينتشر ــ بثبوت نفعه وصلاحيته ــ إلي أفق أوسع وأبعد، ومرة ثانية فعل وتفاعل، ثم تحول مجمع الثقافات إلي محيط حضاري لا يحتاج إلي إلحاح أو إلي سلاح، لأن شراكة الجميع فيه، وحاجة الكل إليه، تجعله ثروة بالمشاع بينهم وادخارا لطموحاتهم عندما تحركها هممهم. 2 ــ والمعني أن المجتمعات الإنسانية ــ كل منها حيث هي ــ أنتجت ثقافة حَوت مجمل خبراتها ومعارفها وفنونها، ثم إن ما كان صالحا، مقبولا، ونافعا من هذه الثقافة، انتقل منها إلي غيرها، أي من البلدان إلي الأقاليم ــ ومن الأقاليم إلي الدنيا المفتوحة. وإذا حاولنا أن نبحث عن نموذج من التاريخ الطويل للإنسانية، فإن الزراعة قد تكون النموذج الأول والأوضح. فعندما توصلت بعض المجتمعات في الشرق الأدني إلي تجربة ومعرفة وكشف أسرار الزراعة وأساليبها، فقد تكونت في هذه المجتمعات ثقافة خصبة، وعندما عرفت مجتمعات أخري شرقا وغربا ــ ورأت بالاتصال ــ وجربت واستوعبت ــ فإن ثقافة الزراعة أصبحت حضارة إنسانية مفتوحة، لا تحتاج إلي صراع ولا إقناع. فحضارة الزراعة علي طول العالم وعرضه، وعلي امتداد التاريخ وتدفقه، تعرفت علي بناء البيت والمخزن، واستعملت الفأس والمحراث، واكتشفت الطنبور والساقية، وحفظت البذور وقوتها، وسمدت الأرض وأثرتها، وأتقنت هندسة شق القنوات، ومنها إلي وسائل رفع المياه وتخزينها من سد مأرب في اليمن إلي سد أسوان العالي في مصر. 3 ــ وما فعلته ثقافات ــ وحضارة ــ عصر الزراعة في البلدان والأقاليم وما وراءها تكرر في مجالات أخري، أولها التجارة وبعدها التفكير الحر والتعبير الخلاق بالكلمة واللون والصوت، حتي جاء أكبر المجالات وأخطرها وهو مجال الصناعة، ومجال الاتصال والمواصلات، وبه تحققت إمكانيات تكنولوجية عالمية بازغة يبرز فيها من يقدر عليها، خصوصا أولئك الذين يستطيعون الربط الخلاق بين النظرية والتطبيق. إن تلك الحركة شملت بالتوازي تنظيم الحقوق وإدارة شئون المجتمعات، حتي استقرت وترسخت فكرة وروح وحكم القانون، وتوالت عصور الانتشار الفكري من الكلمة المطبوعة إلي الصورة المرئية، ومن السماوات المفتوحة إلي المعلومات المتاحة، وكل ذلك بالتواصل والتفاعل دون حاجة إلي إلحاح يقنع أو سلاح يفرض، طالما أن المجتمعات البشرية لديها ذلك التشوق والتسابق نحو مطالب الرقي والتقدم. وكذلك راح تدفق الثقافات المتنوعة يفيض علي المجمع الحضاري يملؤه ويحركه وينشط فعله وتفاعلاته. 4 ــ وإذا جري تشبيه هذه الحركة الإنسانية بواقع ما جري ويجري في الطبيعة ذاتها، فربما أمكن القول إن الثقافات كانت بمثابة ينابيع وجداول وأنهار جرت فيها المياه وتدفقت وفاضت علي جوارها الإقليمي ــ ثم إن هذا الجوار أخذ من هذا الفيض ما كانت مجتمعاته مستعدة لاستعماله لزيادة منافعها وتحقيق أقصي الممكن من مطالبها ــ ثم إن هذا البحر الذي تلاقي فيه

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions