وثائق حـوارات عــلي ضفـــاف «الحــوار»



من اقترب من الأستاذ هيكل مهنيا أو إنسانيا، يعرف أنه اعتاد أن يدون أفكاره وخواطره ووقائع يومه علي ورق «يعود» إليه.. «فيستعيد» تفاصيل ما كان.. وأجواءه.. وحضوره. ولعل للأفكار الواردة في هذه الورقة ـ التي طلبنا في «وجهات نظر» كما في جريدة «العربي» نشرها ـ قصة ذات صلة. فقد تصادفت زيارة خاصة قام بها الأستاذ للعاصمة القطرية «الدوحة» قبل أسابيع مع انعقاد مؤتمر دولي تحت لافتة «تحالف الحضارات» شاركت فيه نخبة من الشخصيات الدولية المرموقة من بينها «كوفي عنان» الأمين العام للأمم المتحدة، و«عمرو موسي» الأمين العام للجامعة العربية، و«إحسان أوغلو» الأمين العام للمؤتمر الإسلامي، و«عبد ا& غول» وزير خارجية تركيا، والقس الجنوب أفريقي والحائز علي جائزة نوبل للسلام «ديزموند توتو»، و«فريدريكو مايور» الأمين العام السابق لليونسكو، ومعهم الرئيس الإيراني السابق «محمد خاتمي» وهو صاحب مشروع فكري يتبني حوار الحضارات، وكان أن دعا راعي المؤتمر أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الأستاذ هيكل للمشاركة في الجلسة الافتتاحية. وكان أن جري حوار ـ أو حوارات ـ حول فكرة المؤتمر وقضاياه. وكعادته، كانت تلك الورقة التي كتبها هيكل ـ محددا فيها فكرته ـ بقصد تبادل الرأي حول رؤية ربما بدت للبعض مختلفة في موضوع اختزل مبكرا في شعار صار هو الأكثر رواجا في المنتديات الفكرية المختلفة، شمالا وجنوبا.. ونحن ندلف إلي قرن جديد. باعتبارها «وثيقة».. وبإذن من صاحبها.. تضع «وجهات نظر» هذه الورقة أمام قرائها، وتدعو الكتاب وأصحاب الفكر لتبادل الرأي حولها. المحــرر قبل المجازفة بإبداء بعض الملاحظات السريعة عن موضوع صراع الحضارات ــ أو حوارها كما يريد بعض ذوي النوايا الطيبة أو يأملون ــ فإني أريد الإشارة إلي تمهيد ملخصه أن تاريخ الفعل الإنساني يعرف ثلاثة مسارات رئيسية: ــ مسار الفكر ــ الثقافة ــ الحضارة. ــ مسار الإنتاج ــ التراكم ــ الثروة. ــ مسار السيطرة ــ الصراع ــ السلاح. ومع أن هناك وصلات ظاهرة وغير ظاهرة بين المسارات الثلاثة فإنه يمكن التمييز بينها، ويمكن التركيز ولو للحظة علي أحدها بالتخصيص، وذلك ما أفعله الآن. ومن هذا المنطلق فإنني سوف أقصر ملاحظاتي هنا علي المسار الأول وهو موضوع ثار الجدل حوله وطال ــ ولا يزال. 1ــ إنني قريب من مدرسة ترجح أنه ليس هناك ما يمكن أن نسميه صراع حضارات ــ أو حوار حضارات ــ والسبب أن هناك حضارة إنسانية واحدة صبت فيها شعوب وأمم وأقاليم الدنيا، علي طول التاريخ أفضل ما توصلت له من رقي وتقدم. وإذا اعتبرت ــ بقصد مزيد من التحديد ــ أن ثقافة أي مجتمع هي مجمل ما تحصل عليه ــ في ظروف موقعه، وعلي مسار تاريخه، من خبرات ومعارف وفنون ــ فإننا بنفس المقدار نستطيع القول بأن الحضارة هي أرفع وأنفع ما وضعته ثقافات الشعوب والأمم والأقاليم في المجمع العالمي للثقافات المتنوعة، والذي هو محيط الحضارة الإنسانية. والذي حدث علي طول التاريخ أن ما حققته المجتمعات المتعددة من ثقافات متنوعة انتقل بالاختيار المفتوح وبالطلب الحر ــ عندما بان نفعه وتأكدت قيمته ــ إلي الأقاليم المحيطة بموطنه، وهناك تفاعل مع ما وجد، ثم راح ما تجمع في الأقاليم ينتشر ــ بثبوت نفعه وصلاحيته ــ إلي أفق أوسع وأبعد، ومرة ثانية فعل وتفاعل، ثم تحول مجمع الثقافات إلي محيط حضاري لا يحتاج إلي إلحاح أو إلي سلاح، لأن شراكة الجميع فيه، وحاجة الكل إليه، تجعله ثروة بالمشاع بينهم وادخارا لطموحاتهم عندما تحركها هممهم. 2 ــ والمعني أن المجتمعات الإنسانية ــ كل منها حيث هي ــ أنتجت ثقافة حَوت مجمل خبراتها ومعارفها وفنونها، ثم إن ما كان صالحا، مقبولا، ونافعا من هذه الثقافة، انتقل منها إلي غيرها، أي من البلدان إلي الأقاليم ــ ومن الأقاليم إلي الدنيا المفتوحة. وإذا حاولنا أن نبحث عن نموذج من التاريخ الطويل للإنسانية، فإن الزراعة قد تكون النموذج الأول والأوضح. فعندما توصلت بعض المجتمعات في الشرق الأدني إلي تجربة ومعرفة وكشف أسرار الزراعة وأساليبها، فقد تكونت في هذه المجتمعات ثقافة خصبة، وعندما عرفت مجتمعات أخري شرقا وغربا ــ ورأت بالاتصال ــ وجربت واستوعبت ــ فإن ثقافة الزراعة أصبحت حضارة إنسانية مفتوحة، لا تحتاج إلي صراع ولا إقناع. فحضارة الزراعة علي طول العالم وعرضه، وعلي امتداد التاريخ وتدفقه، تعرفت علي بناء البيت والمخزن، واستعملت الفأس والمحراث، واكتشفت الطنبور والساقية، وحفظت البذور وقوتها، وسمدت الأرض وأثرتها، وأتقنت هندسة شق القنوات، ومنها إلي وسائل رفع المياه وتخزينها من سد مأرب في اليمن إلي سد أسوان العالي في مصر. 3 ــ وما فعلته ثقافات ــ وحضارة ــ عصر الزراعة في البلدان والأقاليم وما وراءها تكرر في مجالات أخري، أولها التجارة وبعدها التفكير الحر والتعبير الخلاق بالكلمة واللون والصوت، حتي جاء أكبر المجالات وأخطرها وهو مجال الصناعة، ومجال الاتصال والمواصلات، وبه تحققت إمكانيات تكنولوجية عالمية بازغة يبرز فيها من يقدر عليها، خصوصا أولئك الذين يستطيعون الربط الخلاق بين النظرية والتطبيق. إن تلك الحركة شملت بالتوازي تنظيم الحقوق وإدارة شئون المجتمعات، حتي استقرت وترسخت فكرة وروح وحكم القانون، وتوالت عصور الانتشار الفكري من الكلمة المطبوعة إلي الصورة المرئية، ومن السماوات المفتوحة إلي المعلومات المتاحة، وكل ذلك بالتواصل والتفاعل دون حاجة إلي إلحاح يقنع أو سلاح يفرض، طالما أن المجتمعات البشرية لديها ذلك التشوق والتسابق نحو مطالب الرقي والتقدم. وكذلك راح تدفق الثقافات المتنوعة يفيض علي المجمع الحضاري يملؤه ويحركه وينشط فعله وتفاعلاته. 4 ــ وإذا جري تشبيه هذه الحركة الإنسانية بواقع ما جري ويجري في الطبيعة ذاتها، فربما أمكن القول إن الثقافات كانت بمثابة ينابيع وجداول وأنهار جرت فيها المياه وتدفقت وفاضت علي جوارها الإقليمي ــ ثم إن هذا الجوار أخذ من هذا الفيض ما كانت مجتمعاته مستعدة لاستعماله لزيادة منافعها وتحقيق أقصي الممكن من مطالبها ــ ثم إن هذا البحر الذي تلاقي فيه الفيض الإنساني للثقافات المحلية والإقليمية أكمل زحفه وانتشاره حتي وصل إلي المحيط المفتوح أمام كل شراع وأمام أي ملاح لديه الجسارة ومعه خريطة وبوصلة. (وأليس صحيحا أن الجغرافيا هي أم التاريخ وحاضنته ومدرسته وكتابه ومعمله؟!). معني ذلك أن ينابيع الثقافات الوطنية التي تدفقت في جداول وأفرع وأنهار، وتلاقت في أقاليمها، وصنعت ما يمكن تسميته ببحار أو أحواض حضارية اندفعت كما تفعل البحار حين ترتفع مناسيبها وحين تجد معابرها ــ إلي المحيط الأعظم الذي يحيط بالقارات كلها، وذلك فعل طبيعي ــ يقول للجميع بالجغرافيا إنه عالم واحد، كما يقول للجميع بالتاريخ إنها تجربة مشتركة لا يحق لطرف أن يحتكر فضاءها، كما لا يجوز لطرف أن يتنازل عن نصيبه فيها. (علي أن ذلك لم يمنع بعض البحار أن تبقي مغلقة علي نفسها، وقد تعطل بعضها ضحلا أو راكدا في مكانه، كما أن بعضها الآخر بإتمام انغلاقه عن غيره تحول ــ مثل البحر الميت ــ إلي بؤرة ملوحة أو مرارة، معزولة في موقعها، محكوم عليها بالانزواء والفناء). 5 ــ وإذا أردنا دليلا علي شراكة الحضارة في مجال آخر لا يحتمل كثرة الظنون فأمامنا مجال العلم، فالعلم سياق واحد ملأته ينابيع وموارد ومصادر متعددة ــ خطوة موصولة بخطوة موصولة ــ دون علم وطني يرتفع أو جواز سفر يسمح أو يحجز ــ بمعني أنه ليست هناك مثلا فيزياء أو كيمياء أو فلك أو رياضيات أوروبية صرف ــ أو صينية صرف ــ أو هندية صرف ــ أو عربية إسلامية صرف، وإنما هناك علم واحد صب فيه الجميع من كل نبع ومن كل نهر ومن كل بحر حتي وصل الفيض إلي المحيط المشترك الأكبر، وهناك حافظت علي عالميته وفتحتها لكل من يرغب ويســــتطيع ــ أدوات للاقتراب والتناول تنظمها شروط متعالية علي كل الأجناس وفوق كل الأقاليم. (أليس لافتا للنظر أن ما جري في حضارة الزراعة ــ وحضارة العلوم ــ وحضارة الصناعة من تأثيرات تحولت بسرعة إلي أساليب حياة كل يوم وحتي إلي مذاقها. فعندما وضع كبير خدم اللورد ساندويتش الاسكتلندي شريحة لحم بين طبقتين من الخبز اختصارا لوقت سيده أثناء رحلة مفاجئة ــ عرف العالم كله وجبة الساندويتش، ولم يتبق للتاريخ من النبيل الاسكتلندي وكبير خدمه سوي اسمه واصلا إلي العصور الحديثة، حتي دون معرفة بأصل الحكاية. وعندما عثر الرحالة الإيطالي ماركو بولو علي عجائن المكرونة وعاد بها إلي إيطاليا، تحولت بسرعة إلي فن إيطالي ثم إلي مطبخ عالمي. ثم تكرر نفس الشيء مع الوجبات الأمريكية المشهورة التي هي الآن أشهر طعام في العصر الأمريكي). 6ــ وإذا اعتمدنا هذه الصور، فنحن أمام حضارة إنسانية واحدة شاركت في صنعها وفي فيضها وفي حركتها ثقافات متعددة المنابع والموارد والمصادر، فكلها أعطت وزودت، وكلها أضافت وزادت، وكلها أغنت وأثرت، وبالتالي فإنها من العمق إلي السطح شراكة إنسانية حقيقية وكاملة. لكن المحاولات الإمبراطورية للاســتيلاء عـلي الحضـارة الإنسانية ونسبتها إلي قوة بعينها ــ ظاهرة معروفة وليسـت جـديدة، فمـن قبل ادعت إمبراطوريات أوروبا في الـقرنين الثامن عشر والتاسع عشر أنهــا تقــوم باســتعمار آسيا وأفريقيا تحملا لعبء الرجل الأبيض The white manصs burden. فهذا الرجل الأبيض ــ علي حد ادعاء كيبلنج ــ مكلف برسالة اقتياد للشعوب السوداء والسمراء ولو بالقيود والسلاسل من صحاري وغابات التخلف إلي شواطئ المحيط الحضاري الإنساني الجامع. وكان القول في زمانه ادعاءً تبشيريا يتفق مع مناخ عصره. لكن الإمبراطورية الأمريكية عندما جاء عصرها بالغت وتجاوزت بكثير، خصوصا بعد أن تحولت إلي قوة فائقة Hyper Power غداة نشوة النصر المشهود في الحرب الباردة. وقد خطر لها في هذا السياق أن مطالب السيطرة والصراع والسلاح تسمح لها بادعاء ملكية الحضارة ووراثتها علي نحو قطعي ــ ونهائي. (وليس مصادفة ــ دون أن يكون بالضرورة مؤامرة ــ أن حكاية صراع الحضارات ــ وحكاية نهاية التاريخ ــ توافق ظهورها مع الغلبة الإمبراطورية في الحرب الباردة، دون تنبه كاف ــ عندهم كثيرا ــ وعند غيرهم أحيانا ــ إلي أن وهم القوة لا يعطي أصحابه احتكارا، ولا يسلب غيرهم حقا، في الشراكة الإنسانية الأوسع، لأن هذه الشراكة في الحضارة أقوي من السلاح ومن الإلحاح، حتي إذا اجتمعا معا في مشروع إمبراطوري يملك أكبر ترسانة نووية جنبا إلي جنب مع أوسع شبكة للمعلومات «الإنترنت». والواقع أنه عندما خرجت الإمبراطورية الأمريكية غالبة في صراع الحرب الباردة ــ وكان ذلك قبل مفاجأة 11 سبتمبر 2001 بكثير ــ فإنها رسمت لاستراتيجية زمانها الجديد عدة خطوط ــ فهي: ــ تريد أن تحتفظ بتقدمها وتمنع ظهور منافس خطر عليها ــ كما حدث مع كل الإمبراطوريات ــ وذلك بالاستيلاء علي الحضارة الإنسانية (نهاية التاريخ). ــ وتريد أن تخفف من مسئوليتها تجاه الأقاليم التي تعثر فيضها وجفت منابعها، فهذه بالتخلف أصبحت عبئا علي المحيط الحضاري، تريد أن تأخذ منه إلي الأبد بينما عطاؤها توقف من زمن (صراع الحضارات). ــ ثم إن الإمبراطورية تريد أن تؤكد سطوتها الأبدية بإظهار تفوقها وخصوصا السلاح، وهكذا وقعت استعراضات التفرد الأمريكي في كل الميادين ابتداءً من استثناء كل أمريكي من أي مساءلة دولية مهما فعل ــ وإلي تميز التجارة الأمريكية في كل الأسواق بصرف النظر عن حرية السوق ــ وإلي استئثار بحقوق الملكية العلمية والفنية في كثير مما كان متاحا في مجمع الحضارة الأكبر قبل أن تظهر الدولة الأمريكية من الأصل ــ ثم إنها لا تقبل أن تردع نفسها عن تلويث البيئة تملصا من قيود تفرض علي غيرها حرصا علي كوكب الأرض نفسه ــ كما أنها تطلب احتكار موارد الطاقة وليس مجرد النهم في استهلاكها ــ ثم زاد أن الإمبراطورية الأمريكية تريد الآن أن تستولي بوضع اليد علي الحضارة الإنسانية بأسرها لتختم طابعها علي المحيط بأسره تأكيدا نهائيا وتقنينا شرعيا لتفوق أبدي (خطط المحافظين الجدد). ــ وضمن هذه المحاولة لجأت الإمبراطورية إلي حروب رخيصة تستغل بطش الصدمة والرعب Shock &Awe في مناطق ضعيفة ورخوة بأقل التكاليف، كي تظهر هول الجحيم الذي أعدته لمن يعصي، وكذلك تحولت أفغانستان وتحول العراق إلي ساحات دم ولهب ــ مأساتها أنها لا تعرف في معظم الأحيان هدفا واضحا أو خطة إستراتيجية مدروسة (وعلي أي حال فقد جاءت النتائج الواقعة مغايرة للمطامع والغزوات). 7 ــ وإذا عُدت الآن إلي مقولة صراع الحضارات أو حوارها، فربما تكون النقطة الجوهرية أنه يتحتم التفرقة باستمرار بين شراكة الحضارة وبين صراعات القوة، فالقوة ميدان تصويب وضــــرب نار، والحضارة شراكة ومحيط أنوار. وهنا فإن حقائق الحضارة تمنع الاستيلاء عليها لحساب أي طرف، كما ترفض التنازل عن الحق فيها تحت أي وصف. 8 ــ يترتب علي التمسك بالحق الحضاري ورفض أي استدراج إلي الإزاحة أو العزل بمقولات الصراع أو الحوار ــ لابد أن يصاحبه إدراك وتصميم يصون هذا الحق عن التورط في صدام أعمي أو في جدل عقيم ــ وذلك وضع يشبه إلي حد ما وضع من يتمسك بحقه في أرضه. ــ إذا أراد ســندا لهذا الحــق بوســائل الصراع، فلابد له من القدرة تعزز الحق. ــ وإذا أراد سندا لهذا الحق ببلاغة الإقناع، فإن سحر الكلمة لا يغني عن كفاءة الفعل، والقدرة علي الفعل هنا ليست السلاح، بل لعل السلاح آخر وسائلها، وإنما وسائل القدرة هي بذاتها وسائل العصر. وقد يكون السياق في هذا الموضع مناسبا لإشارة نحو ما تستطيع القدرة أن تحققه حتي في مواجهة التحيزات الصارخة، وفيها ما نسميه ازدواجية المعايير في السياسة الدولية. (قبل سنوات، وحين كان لهذا الإقليم العربي الإسلامي بعض القدرة ــ فإنه تمكن من استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يعتبر الصهيونية نوعا من أنواع العنصرية ــ لكنه بعد سنوات، وعندما حل العجز محل القدرة، سقط ذلك القرار، وكان العرب المسلمون بين الذين صوتوا لإسقاطه، ثم صدر بدلا منه قرار يعتبر مناقشة المحرقة اليهودية سواء في وقائعها أو في أعداد ضحاياها جريمة إنسانية تستوجب العقاب. ولم يكن القرار الأول مجرد ازدواجية معايير لصالح طرف، ولا كان القرار الثاني مجرد ازدواجية معايير لصالح الطرف الآخر، لكنه في الحالتين كان حركة موازين ترجح أو تخف وفق ما يسندها من إرادة الفعل ــ وقدرة الفعل!). ويستلفت النظر أن الثقافات الصينية والهندوكية لم تهدر وقتا غاليا في حكاية صراع أو حوار الحضارات، ففي هذه الثقافات الآسيوية كانوا علي يقين من أنهم شركاء بثقافاتهم في المحيط الواسع، وبهذا اليقين أدركوا أن وسيلتهم الرئيسية لتحقيق أهليتهم في حق الشراكة ــ أن يبنوا من وسائل القدرة علي الفعل ما يمنع مهانة الظلم، أو استعلاء الاحتكار، أو الاجتراء علي نفي شراكة الآخرين. ومن المدهش أن ثقافات الصين والهند والتي كانت الأبعد بالمسافات عن البحار المركزية الأولي للتدفق الثقافي إلي المنبع وإلي البحر وإلي المحيط ــ أظهرت تمسكا وثيقا بحقها، بينما تخبطت ووهنت ثقافات الشرق الأدني وهي الأقرب والأكثر إسهاما في الكل الحضاري المشترك، فهي التي أعطته الأديان السماوية كلها ــ وبالذات المسيحية ــ التي نسمع منهم الآن أنها الدعوي الحضارية الأولي لمراكز الغلبة الراهنة. (أليس لافتا للنظر مرة ثانية أن مذاق طعام حوض الحضارة الصيني وجد طريقه ليصبح انتشارا عالميا واسعا، وأخرج تنويعات مختلفة علي مذاقه الأصلي (يابانية وتايلاندية وفيتنامية). كما أخرج حوض الحضارة الهندي بدوره مذاقه ولكن بأسلوب آخر ــ فإذا كانت إنجلترا قد احتلت الهند بجيوشها قرنين من الزمان، فإن المذاق الهندي يحتل بريطانيا إلي آخر الزمان بمشروب الشاي ومسحوق الكاري)ـ. 9 ــ ومن سوء الحظ أن الثقافة العربية ــ الإسلامية المعاصرة بتأثير ما ترسب فيها من شوائب وعوالق، وما أصابها من ضعف ووهن، وما لحق أصحابها من عقد بسبب طول مقاساة غلبة الفاتحين وسيطرة المستبدين ــ كانت مهيأة علي نحو ما لمحاولة الإقصاء والاستبعاد من شراكة الحضارة. وحين قلنا بصراع الحضارات ــ فقد اعترفنا بالعزلة. وحين دعينا ــ أو دعونا ــ للحوار، فقد ذهبنا لما يشبه طلب إذن باللجوء من متظلم إلي متحكم، ولم ندرك أن الحقوق ملكية أصحابها إذا استطاعوا إثبات جدارتهم بها، وليس تواضع الآخرين للسماح لهم ببعضها، ثم إن كل حوار علي الحوار بينهم وبين غيرهم لا نهاية له، خصوصا إذا وقع ــ وهو يوشك أن يقع الآن ــ وانزلقت العلاقات بين الأطراف إلي صراعات سياسية تتحول بسرعة إلي حروب هويات دينية وعرقية، فعند هذه الدرجة أي كلام يكون بين غرباء أو بين أعداء، عداوة لا تحتمل غير انتصار طرف وهزيمة آخر! ــ وهنا يموت الحوار أو ينتحر مهما قلنا ومهما قالوا. (أليس لافتا للنظر مرة ثالثة أن الحوض الحضاري لثقافات الشرق الأدني لم يستطع أن ينشر مذاقا مميزا له خارج إقليمه، ولعل ما عنده تعرض لتلبك غذائي، كما تعطلت صلته بالحضارة بسبب نوع آخر من التلبك الناشئ من تخمة التيارات المتضاربة التي أصابت المنطقة ولوثتها!). 10ــ والغريب أننا حين قبلنا فكرة صراع الحضارات أو حتي حوار الحضارات بالمنطق الذي قُدم لنا ــ فإننا سلمنا بالقسمة، أي أننا تنازلنا عن الشراكة من أول لحظة، ودخلنا في حوزة الآخرين وعلي جدول أعمالهم. ربما كان الأوْلي أن نبدأ حوارا مع النفس نعرف فيه بالضبط من نحن؟ ــ وأين نحن؟ ــ وماذا نريد؟ وكان مثل ذلك الحوار مع النفس كفيلا بتأكيد عدة مسائل: ـ أولهـا: الوعي بالحق في شراكة الحضارة دون إقصاء أو استبعاد. ـ وثانيها: الجدارة بهذا الحق عن طريق دعمه بقيم العصر وأولها روح الحرية والعلم والقانون، دون العودة إلي الماضي والبحث في كهوف التراث المهجورة وليس في حدائقه الزاهرة عن سبب للتقوقع بعيدا عن قيم العصر بدعوي الخصوصية، وهو نوع من الهرب مقصود إذ ليس هناك تصادم بين التنوع المحلي للثقافات وبين المشـترك في الحضارة الإنسانية ــ بـــل هنـاك تفاعـل وتدفق مساير بالطبيعة لحركة التاريخ. ـ وثالثها: أننا في حاجة إلي فهم ودرس واستيعاب وحوار متواصل مع الدنيا كلها ــ ولكن في قضايا ومعضلات الرقي والتقدم، فهناك طلبنا وهو أوْلي من تحرير عريضة لطلب عضوية في نادٍ لابد أن يقبل بنا مجلس إدارته (عن طريق قبول التماسنا أو التحفظ عليه بكرات بيضاء أو كرات سوداء)، فنحن هناك في ذلك النادي الحضاري من لحظة تأسيسه وضمن أوائل المؤسسين، لكنها عضوية غير عاملة ــ خاملة (إذا جاز التعبير). ـ ورابعها: تجنب فخاخ الاستدراج والاستنزاف بسبب ما يفعله آخرون من أصحاب الغرض في الإقصاء والاستبعاد، هؤلاء الذين تنبهوا بسرعة إلي ما لحق بالعقلية العربية الإسلامية جراء عصور القهر والظلام، فإذا هم يحاولون تثبيت الانكسار وتعميقه في العقل وفي الإرادة لدي العرب والمسلمين، والسبيل إلي ذلك استثارتهم بين الحين والآخر بما يدفعهم أكثر وأكثر إلي عزلة البحر الميت وملوحة مياهه (ومرارتها). لقد اكتشفوا أنه يكفيهم أن يلمسوا الثقافة العربية الإسلامية في عزيز عليها، فإذا هي تستثار وتغضب ــ ثم تتراجع وتتباعد بحيث تعزل نفسها وتتنازل أكثر وأكثر عن نصيبها في شراكة الحضارة. والمحزن أن هناك من اعتدي علي المقدسات العربية عملا ــ وليس لمسا ــ حين سيطر علي المسجد الأقصي في القدس. وفي نفس الاتجاه فإن ذات الطرف رسم خنزيرا وكتب عليه اسم الرسول الأعز الأكرم. وهناك ــ غيره ــ قام بتوظيف الدين الإسلامي ــ قديمه وجديده ــ في حرب باردة عليه ــ ساخنة علي شباب عربي ومسلم في أفغانستان ــ ثم أمسك في النهاية بمن حاربوا لحسابه ووضعهم وراء القضبان في جوانتانامو، ثم داس بالأقدام علي كتابهم الكريم ومزق صفحاته ورماها في المرحاض أمام عيون الجميع في المعسكرات وخارجها. وفي هذا كله لم يغضب أحد ــ بل تستر كثيرون. ولكننا مع ذلك رحنا ــ نحن الذين لم نغضب من الفعل ــ نثور باللمس كأننا كنا نبحث عن أهداف سهلة رخيصة. حدث ذلك سابقا في تجربة قريبة ــ هي رواية «آيات شيطانية». (نتيجة الثورة والغضب ــ زادت شهرة كاتبها). وتكرر علي نطاق أوسع في تجربة أخيرة ــ هي الرسوم الدنماركية. (نتيجة الثورة والغضب ــ تكرر نشر الرسوم في عدد من عواصم الدنيا، وكذلك سمع الناس عن رساميها وناشريها لأول مرة في حياتهم). كأن كاتبا ــ حتي لو كان اسمه سلمان رشدي ــ يستطيع أن يعتدي علي الإسلام، أو كأن رسام خطوط لا يكاد الناس يعرفون اسمه في صحيفة مجهولة يستطيع إهانة الرسول الأعز والأكرم ــ أو كأن وزيرا إيطاليا شديد الحمق يستطيع أن يشتم الإسلام لأنه ارتدي قميصا عليه رسوم بالغة الانحطاط عديمة القيمة! لكنهم اكتشفوا وجربوا كيف يحركون من ردود الفعل ما يستثيره الضعف ولا تأبه به القوة. وفي المحصلة فإننا نجد أنفسنا بالواقع وبسهولة شديدة ــ محزنة في نفس الوقت ــ نساعد علي تحويل صراعات سياسية إلي حروب هويات حضارية تخرج غاضبة منسحبة من شراكة التقدم الإنساني الجامع والشامل مع أي استفزاز ــ يتحول بالإثــــارة إلي فتنــــة، ويتحول بالفتنـة إلي حرب، ويتحــول بالحرب إلي قطيعة، ويتحول بالقطيعة إلي حصار للذات. ومن سوء الحظ أن حكومات عربية إسلامية ــ بوعي أو بغير وعي ــ تصرفت حيال الفتنة بقدر كبير من قصر النظر في إدارة الأزمات إن لم يكن بقدر كبير من سوء النية بمحاولة استغلال الفتنة للإلهاء والتغييب. وقد أضيف لاستكمال الرؤية والرأي ــ أن رغبة الاستغلال لم تقتصر علي الحكومات، وإنما تعدتها إلي مؤسسات وأفراد، بادعاء أن الترياق الشافي من الفتن يتحقق بالوفود تذهب والوفود تجيء، وبالمؤتمرات تُعقد والمؤتمرات تنفض، وبالأوراق تُقرأ ثم بالأوراق تُنسي لكي يجري تدويرها وتعود إلي إنتاج نفسها من جديد. تلك كلها باختصار وساوس تجمح بأصحابها إلي حيث لا يريدون ولا يقصدون، فإذا هي عودة من شواطئ المحيط الإنساني الواسع وحيويته الخلاقة إلي دروب وعرة موحلة تؤدي إلي البحرالميت وموجه الراكد وأملاحه الزائدة!!

اكتشــــفوا وجربوا كيـف يحـركون مـن ردود الفـعـل مـا يسـتـثـيـره الضـــعف ولا تـأبـه بـه القــوة

أنا مـن مدرسة ترجــح أنه ليــس هناك مــا يمـكـن أن نسميه صراع حضارات،أو حـوارحضارات
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة