مـايكــــل مـــور.. الحـكـمــــــة والجنـــون!! مارس 2007

محمد يوسف عدس

مايكل مور مؤلف وممثل ومخرج أفلام حازت شهرة عالمية وحظيت بجوائز عالمية أيضًا، عرفناه نحن من خلال فيلمه الوثائقي الذي أثارت شهرته ضجة في كل مدن العالم غربًا

المحـتــوي

مايكل مور مؤلف وممثل ومخرج أفلام حازت شهرة عالمية وحظيت بجوائز عالمية أيضًا، عرفناه نحن من خلال فيلمه الوثائقي الذي أثارت شهرته ضجة في كل مدن العالم غربًا وشرقًا.. ذلك هو فيلم «فهرنهايت 11 9، رسم عنوانه بهذه الطريقة ليوحي إلينا بفكرة الفيلم كأنه يريد أن يقول عند هذه الدرجة من الحرارة تذوب الحقائق الخفية وراء حادثة برج التجارة العالمي في 11/9/2001. ولكن مور في هذا الفيلم يكشف لنا عن حقائق مثيرة، وعلاقات مالية وصداقة استمرت ربع قرن من الزمان بين أسرتي بوش وبن لادن. ولم تكن كتب مايكل مور أقل حظًا في الشهرة والانتشار من أفلامه.. ففي خضم الحرب الإعلامية التي شنها «جورج دبليو بوش» علي «الإرهاب» وقد تمكن من حشد تأييد شعبي ودولي وراءه ـ صدر كتاب مزلزل لمور بعنوان «رجال بيض أغبياء» يسخر فيه سخرية لاذعة من الرئيس بوش، ويتهكم علي شخصيته ويفضح أكاذيبه. فإذا بالكتاب يثير اهتمامًا جماهيريا واسعًا وتباع منه ملايين النسخ في العالم، خصوصًا في أمريكا وبريطانيا وكندا واستراليا. أما كتابه الأخير الذي سنعرض له بشيء من التفصيل فعنوانه «ديود.. أين بلادي؟!» عندما نشر في بريطانيا سنة 2004م حقق مبيعات هائلة، بلغت مليون نسخة في ثلاثة أسابيع فقط، وبذلك ارتفع إلي قمة أكثر الكتب مبيعًا.. وقد حظي بتعليقات واسعة من الكتاب والصحفيين البريطانيين الذين أذهلتهم جرأته وعفويته، حتي إن الجارديان قالت عنه: «لو لم يوجد مايكل مور هذا لكان من الواجب علي العالم إيجاده». من المعروف تقليديا أن الإنجليز يعتبرون الإنجليزية الأمريكية لغة ركيكة مقارنة بلغتهم الإنجليزية الأصلية الرصينة.. ولكن يبدو أنهم أخذوا بجرأة مور وسخريته اللاذعة وخروجه عن المألوف في التعبير اللغوي العنيف، حتي في استخدامه للحروف الكبيرة أحيانًا للتأكيد علي أفكار بعينها وتنبيه القارئ لأهميتها.. استوعب القراء الإنجليز كل هذا وسامحوا مايكل مور في كثير من تجاوزاته اللغوية والتعبيرية. مور في كتاباته وفي أفلامه ليس كاتب قصص خيالية.. حتي إنه اتخذ من الفيلم الوثائقي أداته الرئيسية في التعبير الفني.. إنه يغترف من الواقع ويغوص وراء الحقائق المستورة، ويعتمد في أحيان كثيرة علي الأرقام والإحصاءات، ولكنه يمزج هذا كله بنبرة واضحة من السخرية اللاذعة والتهكم.. وتشعر في ثنايا كتاباته بدفقات من العاطفة والانفعال ولكنه يصيب كبد الحقيقة ولا ينحرف عنها. يصف بعض النقاد مور في أفلامه بالجنون، أليس هو الصحفي الذي أقام جنازة ساخرة كتب علي صندوق النعش فيها اسم رجل مريض كان قد تقدم إلي مركز للعناية الصحية بطلب لإجراء عملية نقل كلية لإنقاذ حياته لأنه فقير فرفض طلبه.. وضع مور النعش أمام المركز وشرع يتلقي العزاء، وجاءت الصحافة والإعلام تسجل الواقعة مما اضطر المركز ـ منعًا للفضيحة ـ أن يوافق علي العملية.. وهو مخرج فيلم Bowling for Columline الذي ذهب فيه إلي محلات «كي مارت» ومعه طفلان لا تزال في جسميهما رصاصات أطلقت عليهما عشوائيا، فالأسلحة النارية متوفرة لدي الأمريكيين حتي الصبيان منهم ـ ذهب مور ومعه الطفلان ليطلب من «كي مارت» إرجاع هذه الرصاصات واسترجاع ثمنها.. وكانت النتيجة أن محلات كي مارت توقفت نهائيا عن بيع المقذوفات النارية. أما كونه سياسيا نشطًا ومجادلاً قوي الشكيمة وصحفيا جسورًا فإن مايكل مور يشغل حيزًا متميزًا في الإعلام الأمريكي.. ليس لأنه معارض فقط، ففي أمريكا أصوات معارضين كثر وإن كنا لا نسمع عنهم كثيرًا.. ولكن حاز علي هذه المكانة المتميزة لأنه يقول ما يفعل ويفعل ما يقول، ويتطابق كلامه دائمًا مع أسلوبه في التعبير سواء في التليفزيون أو في أفلامه أو في كتبه، ويبدو في كل أعماله كأنه فرقة كاملة لا فرد واحد.. وفي هذا السياق يقول عنه «جاري يونج» من «الجارديان» البريطانية: «مايكل مور يعمل وكأنه جوقة في شخص واحد بلا مجموعة تسانده بالصوت أو العزف». وهذه نقطة مهمة ندع جاري يونج يوضحها لنا بتفصيل أكثر، حيث يقول: «إن لمور نظراء في النقد والتهكم في الجناح اليميني ولكن لهؤلاء الصحفيين جوقة تساندهم في الإدارة الأمريكية وفي الكونجرس والإعلام، كما أن له نظراء في بريطانيا من اليساريين والثوريين.. ولكن هؤلاء يتحركون ضمن شبكة ليبرالية راسخة التقاليد في بريطانيا.. يدعمها فهم جماهيري يتذوق إنشادهم ويعزز مواقفهم النقدية».. أما مور فلا يستند إلي مناخ ثقافي مماثل، ولذلك يبدو وكأنه ظاهرة غريبة في ثقافة أمريكية لم تنتج أمثال «جون بلجر» أو «بول فوت» أو «توني بين».. ثقافة لم يقدر لها ـ عبر التاريخ ـ أن تنتج حزبًا للعمال، فحزب الجمهوريين وحزب الديمقراطيين في نظر مايكل مور نفسه ليسا إلا وجهين لعملة واحدة غايتهما النهائية هي خدمة المصالح الرأسمالية لنخبة مسيطرة علي الاقتصاد والمال والسياسة والصناعة جميعًا. ومن هنا كان علي «مور» أن يسلك إلي الجماهير طريقًا آخر: أن يثابر علي إطلاق صيحات مدوية شديدة الإخلاص صادقة المنزع لعلها تصل إلي الجماهير التي غيب عقلها الإدمان علي إعلام مضلل استنزف وعيها بسيل من الأكاذيب والأخبار والصور المفبركة، فيما يسمونه بـ «صناعة الرأي العام»! ظل مور يطرق الآذان بصيحات عالية الرنين.. كان من أعلاها وأوفرها حظًا في جذب الانتباه إليه كتابه «رجال بيض أغبياء» ثم فيلمه الوثائقي «بولينج فور كولبين».. هذان العملان رفعاه علي أكتاف مجموعة كبيرة من الجماهير المحبة، ليخترق الأسوار الحصينة في عالمي السياسة والثقافة والتي كانت تحول بينه وبين الوصول إلي جمهور أوسع من الأمريكيين، الذين يكنون في قلوبهم رفضًا ومقاومة، ولكن كانت أصواتهم خافتة وصفوفهم مشرذمة، وكان هذا بالنسبة لمور نصرًا سياسيا وليس مجرد إنجاز شخصي. صدر كتاب مور «رجال بيض أغبياء» في لحظة بدا فيها الرأي العام الأمريكي والعالمي محتشدًا خلف بوش، فكان بمثابة الطلقة الأولي في صدر أكبر أكذوبة في التاريخ.. ومن ثم نهض كتاب السلطة وكلابها الحارسة، يحطون من قيمة الكتاب ويستهزءون بصاحبه.. فوصفه بعضهم بأنه «تشومسكي الأطفال».. ولكن الناس لم يستسيغوا هذا النقد لأنهم يرون الحقيقة

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions