من تاريخ الانتحـار ..هنرى دى مونترلان ..الحياة خارج الزمـن



قال هوميروس (الانتحار حدث طبيعى وبشكل عام عمل بطولي). وقال كافكا (المقدم على الانتحار هو ذلك السجين الذى يراهم يعدون له منصة الإعدام فى الساحة ويعتقد أن هذا قدر يقرره بنفسه.. يهرب فى الليل من زنزانته، ينزل إلى الساحة ويشنق نفسه). وقال ألبير كامى (الانتحار يتم فى سكون القلب مثل عمل فنى عظيم). وقال بلزاك (كل انتحار هو نظام راق للحزن). وقال دستويفسكي: (هناك سببان يجعلاننا لا نقدم على الانتحار: الألم والخوف من عالم آخر. ومن الواضح أنه حينما تلغى الأبدية تصبح فكرة الانتحار ضرورة مطلقة لكل إنسان يستطيع أن يرتفع إلى درجة أعلى من الحيوان. إنى أقتل نفسى لأؤكد حريتى الجديدة المخيفة).
وقال نيتشه: «الموت انتظر هذا ما علمه زرادشت. أنا الذى آمركم بموتى.. الموت الإرادى الصادر منى لأننى أرغبه». وقال روسو: «بأى حق نلوم من يقدم على الانتحار. الموت هو التفكير فى الحرية. الانتحار هو انتصار الإرادة البشرية على الأشياء» وقال موريس باريه: «الانتحار هو الاعتقاد بأن هناك شيئاً جاداً فى العالم».
هكذا تحدث بعض رجال الفكر الغربى عن الانتحار مؤيدين أو متحمسين، وتحدث بعض رجال الدين أو الدولة أو المفكر معارضين للانتحار فقال أرسطو: «الانتحار عمل ضد الدولة»، وقال نابليون: «الانصراف إلى الحزن دون مقاومة. الانتحار للهرب. انسحاب من أرض المعركة دون قتال»، وقال باسترناك: «الموت ليس عملنا»، وقال القديس أوغسطين: «ليس من حق إنسان أن يعطى الموت لا بسبب البؤس أو بسبب الخطيئة ولا بسبب ذاتى.. إننا فى النهاية نقتل. نقتل إنساناً»، وقال القديس برينو «المنتحرون قتلة يعملون لحساب الشيطان»، وقال البابا نقولا الأول: «من ينتحر يشبه يهوذا أنه يتبع الهامات الشيطان»، وقال اسبينوزا: «من يسعى إلى الموت يفتقر أوجه للإرادة»، وقال شكسبير: «أليست خطيئة أن نسارع إلى منزل الموت السرى قبل أن يأتينا؟».
وجاءت بعض الأقوال حول الانتحار فى منطقة الوسط، فقال سارتر: «فى بعض المواقف لا يوجد محل للاختيار بين عدة أمور منها الموت، ولابد من أن يوجد هناك ما يتيح للإنسان اختيار الحياة». وقال دوركايم: «الانتحار ليس أكثر من حدث اجتماعى وليس أخلاقيا. وأى شكل للانتحار لا يتعدى المبالغة فى تصور الفضيلة». وقال فرويد: «الانتحار جريمة استبدال، حدث عدائى محول يرتد على المنتحر».


الأصول

فى الغرب غالبية رجال الدين والدولة يعارضون الانتحار، وغالبية رجال الفكر والأدب والفن يقبلونه، من سقراط الذى يجرع السم طوعاً إلى مونترلان الذى أطلق النار على نفسه منذ 36 عاماً قصة طويلة، جذور فكرية، فروع نمت وتأصلت.
يحكى تاريخ الرومان قصة القائد (كاتون) 95 ــ 46 ق. م دخل فى صراع مع قيصر وهزم فى الحرب أمامه. انسحب إلى معسكره وتجمع حوله الأبناء والأصدقاء. بحث عن سيفه وقال: «سعيد من يترك الحياة خاصة من يستطيع ذلك عمداً». حاولوا تحويله عن فكرة الانتحار، ولكنه كان هادئاً فى قراره. قرأ كتابه ونام ثم قام وتناول سيفه. شق أسفل بطنه. خرجت أمعاؤه ولكنه ظل حياً. هرع إليه الأحباء والأطباء، حاولوا مداواة الجرح، أزاحهم بعيداً وأمسك بشق بطنه فزاده بيده اتساعاً.. وخرجت أنفاسه الأخيرة.
كاتون كان من أتباع الفيلسوف اليونانى الرواقى زينون ــ القرن 4 ق. م، الذى سقط ذات يوم فانكسر إصبعه. ضرب الأرض فى غضب قائلاً: أتطلبيننى إننى جاهز.. وانتحر.
زينون أو الرواقية كانت ترى أن الكون عقل عظيم أو هو الإله الأكمل والإنسان جرمه الصغير. شعلته أو ممثله على ساحة الطين، جرم ينسجم مع الكون الكبير.. فيه نفثة نارية تتجمل بالذكاء. وغاية هذا الإنسان النارى أن يسعى إلى الكمال باحتقار المغريات والآلام والمشاعر، الخضوع للعقل الكامل الذى يرسم لوحة الفضيلة المتسعة الألوان. يجتاز كل برازخ الألم وينهل من ينابيع الحكمة. وكان طبيعياً لهذه الفلسفة المثالية الخيالية أن ترى فى الانتحار حلاً مثالياً عندما تهتز لوحة الفضيلة العقلية على جدار الواقع الرديء.
وسيق زينون وتحلق الأعوام من حوله فى الرواق، جماعة أخرى اختارت الطبيعة مسكناً. اختار لها صاحبها ــ ابيقور ــ 341 ــ 270 ق. م حديقة عرفت باسمه، وعرف بين أعوانه كبطل فى تحمل آلام المرض. جعل من هذه الآلام فلسفة. يجب أن يتحرر الإنسان من الخوف، الخوف من الآلهة أو الآخرة. الحياة تقوم على المصادفة، الأجسام مجرد كتل ذرات. ذرات تحركها حركة من أعلى إلى أسفل. تتكون الكتل. تتحلل الكتل، تذهب إلى اللا شيء.. ليس هناك حياة أخري، فلا داعى إذن للخوف. لا يبقى للإنسان سوى الحياة. متع الحياة. ولكن ليست المتع الحسية الزائلة، ففى داخلها بذرة العذاب، إنما المتع المستقرة الاكتفاء بكسرة خبز ورشفة ماء وطاقة داخلية تصهر الحديد. تصهر الموت نفسه. يقول ابيقور: «عليك اعتياد الموت لأن الموت لا شيء. كل ما هو خير أو شر فى هذه المحسوسات. وليست الحكمة فى العيش طويلاً ولكن فى العيش هنيئاً. ليس ما يدعـــو لخـــــوف الإنســـــان، فالهــــدف النهائى يجب أن يكون إبعاد الأحزان والعذاب.. وحينما يصلان إلى حد لا يحتمل أو دائم فالانتحار سبيل رفيع».
مذهب يدعو للمثالية العقلية وينتهى إلى الانتحار، ومذهب يدعو إلى التحلل من العقائد ويدعو للزهد وينتهى أيضاً إلى الانتحار. إذن لا خلاف فى النتيجة بين زينون وابيقور. استهانا بالحدث الأكبر. أن تموت بالزمان أو المكان ما الفرق؟ الوجود أو العدم ما الفرق؟ المهم ما بينهما. ولكنهما لم يحددا زمن ــ الما بين ــ فهذا التحديد جدير بإفناء الجنس البشرى.


الفروع

هذا الزمن وبعد أكثر من ألف عام قتل ــ مونترلان ــ نفسه فى سن السادسة والسبعين. بعد حياة حافلة بالإنتاج الأدبى والمكانة والشهرة، تناول مسدسه ولا ندرى بأى انفعال.. تردد أم إقدام أم خوف أو هدوء أم يأس أم جنون أم غضب.. أم ربما حب كما قال البعض. وقتل نفسه فى 21 سبتمبر عام 1972م.
لحظة درامية ستظل خفية كلحظة الميلاد. فكما لم يحدثنا أحد كيف أحاط به الموت أو أحاطت به انفعالات اللحظة الأخيرة. لم يحدثنا أحد كيف أحاطت به الحياة أو أحاطت به انفعالات لحظة الميلاد.
تحدث مونترلان عن الانتحار ولكنه فى النهاية حديث.. إحكام فكرى أو شعورى وليس لحظة تنفيذ.. قال:
* أتعرف أن الأمر لا يعدو انتظار ــ الحافلة ــ حتى تسحقنى.. ستحررنى من ضرورة قتل نفسى.
* أتقتل أنه أمر يكشف للجميع وبشكل قاطع عدم إيمانك بالله؟
* إننا ننتحر احتراماً لموقف. عندما يحول المرض أو السن حياتك إلى مأساة. هل هناك أكثر تشريفاً واحتراماً من الالتزام بموقف؟ إننا ننتحر من أجل الحياة أو عندما تتوقف الحياة عن أن تكون جديرة بنا.
* هزيمة أو انتحار.. هذا هو المهم. الانتحار يثبت أمرين للإنسان، شجاعته وسلطانه، حينذاك «يغمر» الانتحار حياته كما يغمر اللهب الشعلة.
لم يبق لنا التأمل لحظة «مونترلان» الأخيرة سوى التصور ومحاولة التحليل وشاهد أخير.. إلى حد ما قريب.. فقد كتب الكاتب ــ فيليب دى سان روبير ــ مؤخراً عن أيام مونترلان الأخيرة وكيف شهدها منذ عدة عقود.
فى عام 1957 ذهب صحفيان هما جابريل ماتزنوف Gabrial Matzneff وفيليب دى سان روبير Philippe De Saint Robert إلى الكاتب هنرى دى مونترلان لإعداد عدد خاص عن حياته وأدبه لمجلة «بروتكست» Pretexte لم يصدر هذا العدد ولكن مقابلة مونترلان ظهرت فى كتاب صدر عام 1959 بعنوان: «مونترلان من وجهة نظر الشباب بين السابعة عشرة والسابعة والعشرين».
كتب ماتزنوف عن مونترلان والجيل القديم، وكتب سان روبير عن بعض مؤلفات مونترلان وصلتها بالمسيحية والفلسفة الرواقية التى كونها زينون اليونانى فى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. ومنذ لقاء مونترلان وسان روبير صارا صديقين إلى آخر يوم من مونترلان. صار روبير شهده الأخير والوحيد قبل رحيله الاختيارى.
الصداقة مع مونترلان تقتضى الإخلاص وتقتضى أيضاً الكتمان، كان يعلق بصورة تبدو ساخرة خارج نافذة بيته ــ مانيكان ــ من النوع الذى يستخدمه الأطفال كهدف لقذف الحجارة أو إطلاق السهام. مانيكان كان يبدو رمزاً للاتصال والانفصال عن العالم الخارجى. كان خجولاً وكغيره من أصحاب الحساسيات الشديدة كان يخشى من اطلاع الآخرين على حقيقته.
يحكى سان روبير أن أول لقاء بينهما كان فى منزله فى شارع فولتير ــ ظل يسكنه طوال حياته ــ وأعد مونترلان العديد من الأوراق والوثائق وأعد الحديث. ثم كان لقاء آخر فى حديث إذاعى دون إعداد. جاء حديث الإذاعة العفوى أكثر حيوية وإثارة وصدقاً من الحــــــــديث المــعــــــد.. وكــانت هـــــذه مشــــكلته.. العراك الدائم بين الداخل والخارج.
من سيقرأ أعمالى بعد عشر سنوات؟
اكتشف سان روبير شخصية أخرى لمونترلان تعيش خلف الأسوار تخلع القناع الذى تقابل به الآخرين فى رتابة الحياة اليومية. يقول روبير: كنا نتناول طعام الغداء، فى مطعم ــ فولتير ــ أو ــ فريجات Fregate ــ فى المناسبات العادية. وحينما كان يريد أن يحيينى على مقال كتبته كان يدعونى إلى اللوزيرى دى ليلا Closerie Des Lilas ــ أو الريجنسى أو ــ مونتالمبير Mentalembert ــ أو بيل جومان Belles Gourmandes ــ فى مطعم فولتير حافظ دائماً على طاولته فى العمق إلى اليمين.
أمام مطعم ــ الكلوزيرى دى ليلا ــ كان هناك ــ كشك ــ لبيع الصحف، له ذكريات خاصة عند مونترلان، فقد استمع منه إلى أول نداء للتعبئة العامة عام 1914 . كتب مونترلان إلى أندريه مالرو عندما كان وزيراً للثقافة يرجوه أن يمنع هدمه كما كان مقرراً.
مونترلان كان لديه شعور بأن عالماً حميماً يختفى.. هل يستطيع أن يسحبه معه إلى ركن معزول؟ مؤلفاته الأخيرة كانت تحوى هذه النكهة المتسربة كان يخشى عليها من الضياع، كتب كرد فعل أو كمحاولة للاحتفاظ بزخرفة الخاص (كل شيء جميل).
ولكن كان كل شيء جميلاً فى خياله، أما واقعه فيقول عنه روبير: كان آخر غذاء تناولناه سوياً فى يوليو عام 1972، قبل وفاته بشهرين تقريباً. كنا نراجع المقدمة التى كتبتها لإعادة طبع مسرحياته الصادرة عن دار «بليار»، شملت هذه الطبعة المؤلفات المسرحية الأخيرة التى كتبها قبل «الباب الملكي» طلب منى مونترلان أن أقابله فى نهاية اليوم، فقد كان منزعجاً لتناوله الغداء مع شخص رتيب.
وصلت قبل الموعد، فى لحظة خروجى من السيارة رأيته قبل أن يرانى عائداً إلى بيته فى خطوات وئيدة يبعد بيديه مارة يتخيلهم، فقد كان الشارع خالياً تقريباً. يتدثر فى معطف مطر قديم يمسك بعصاه. بدا لى فى حالة حزن لا توصف، وعندما رآنى أخيراً أضاءت وجهه ابتسامة ود لم أرها من قبل على هذه الصورة. أدهشتنى وجعلت قلبى ينقبض فى حزن سابق لأوانه.
جلسنا نقرأ المقدمة التى كتبتها لساعات طويلة. لم أكتشف حالته النفسية التى كان يعيشها إلا حينما ألح فى أن أحذف عبارة وردت فى المقدمة. عبارة تخلو من المبالغة ولا تتعدى نوعاً من المداعبة لأساتذة الجامعات الذين يدرسون ويكتبون عن أعمال مونترلان.. قال:
ــ لم أتدخل من قبل فى حريتك فى الكتابة.. ولكنى أطلب منك باسم الصداقة أن تلغى هذه العبارة.
ــ بكل ترحاب ولكن أطلب فقط أن تشرح لى لماذا؟
ــ لماذا؟ «لأنه بعد عشر سنوات لن يكون هناك من يقرأ أعمالى سوى الأكاديميين. أنت تسخر منهم لأنهم يعدون الرسالات الجامعية وبما أنهم مغرورون فإنهم سينفرون ولن يذهبوا أبعد من ذلك«.


انتحر لأنه يحب الحياة..

خلال شهر أغسطس أى بعد هذه المقابلة مع سان روبير بشهر واحد، وقبل رحيله أيضاً بشهر واحد كتب مونترلان آخر مؤلفاته فى حمية وحماس. كتب كتابه ــ ولكن هل نحب حقاً من نحب؟ ــ يحكى مونترلان حلماً شاهده فى 21 ديسمبر عام 1971 فيقول: «شاهدت فى هذا الحلم شخصاً كنت أحبه منذ فترة بعيدة. استيقظت فجأة على ضربات قلبى السريعة، كان مصدرها ظهور هذا الوجه القدسي، درت بوجهى إلى الناحية اليسرى فى اتجاه الحائط، حتى أخنق هذه الضربات فى الحاشية، هيئ لى إننى أرسلت الضربات عبر الحاشية إلى مركز الأرض».
أظهر هذا الحلم لمونترلان أن حبه الوحيد كان طوال حياته هو هذه الشخصية وأن أحباءه الآخرين لم يكونوا سوى كاريكاتير أو نسخ مكررة لها.. «هذه الزيارة الهادئة قلبت داخلى.. لقد قلبت الفكرة التى اعتنقتها طوال حياتى. نحن لا نحب سوى مرة واحدة. هذه الفكرة فتحت أمامى أبواباً من الحزن. كل ما قرأت وربما فكرت وربما كتبت للآخرين لم يكن إلا إجلالاً لها».. أضاف أيضاً يقول: «هذا الحلم إنه عالم ينتهى. ليس فقط بالنسبة لى فإننى سأنتهى بالتأكيد ولكنه عالم ينتهى فى ذاته. فى المجتمع الجديد من سيفهم هذا النوع من الحساسية التى أشبعت كل مؤلفاتى من الكتاب الأول ودخلت فى مسامها؟ لن يكون لعالم الغد دراية بذلك. واليوم من سيفهم مهما حاولت إجادة التعبير. ماذا سيمثل هذا الحلم بالنسبة لي؟ هذه المشكلة لن تتوقف عن الإلحاح. منذ هذا الصباح لن أكتب (افتحوا أبواب الأبدية) ولكنى سأكتب (اقفلوا أبواب الأبدية).
وكتب سان بيير يقول: «إن مونترلان لم ينتحر كما كتب لأنه يكره الحياة، على العكس لقد انتحر لأنه يحب الحياة ويكره أن يرى نفسه يتقلص ثم ينتهي».
يتقلص وينتهى وهو ما يزال على قيد الحياة. إنه لا يطيق الموت قبل الموت، الموت الأدبي، الأخلاقي، الفردى هو الموت الحقيقي، وما فائدة عيون تبرق فى عالم غائب. كان يرى عالمه وعالم زملاء قلمه، ينشطر بين داخلى وخارجى. لم يكن استقلالاً، فالاستقلال عنده كان نوعاً من العشق يتكامل حينما يخصص ــ كما قال ــ غرفة فى مسكنه لأى مريض عابر. مونترلان لم يكن وحيداً تماماً، كانت له صديقة عجوز اسمها مارجريت أوز تحدث عنها سان روبير تسكن على بعد خطوات من مسكنه وحينما كف بصرها كان يحدثها تليفونياً صباح مساء.
فى 14 سبتمبر عام 1972 كان سان روبير مدعواً على مائدة رئيس الجمهورية جورج بومبيدو وكان يقلقه ما يلاحظه من تطورات حزينة على خطوات مونترلان من إيقاع ثقيل يغزو فراشه ويسهره لليال طويلة. قلق مصدره شعور مونترلان بالعزلة داخل وطنه. أصابه جرح عميق فى داخله. تحدث مالرو عن جانب آخر من حياة مونترلان فقال: «إنه ليس فقط أعظم كاتب فى زماننا ولكنه أيضاً من أشرف وأعظم المقاتلين.


على المائدة تحدث سان روبير مع بومبيدو عن حالة مونترلان النفسية السيئة. وعد بومبيدو بتدارك نسيان الدولة لمكانته. سأل:
* هل يسعده ذلك؟
* أعتقد أنه لن يكترث كثيراً، ربما يصير فخوراً. عندما يعلم بمحاولتى ولكن الأمر سيكون أكثر تأثيراً إذا صدر عن مبادرة طبيعية، سيتكامل شرفنا حينذاك.
* سأصدر تعليماتى لتدارك هذه العزلة البليدة.
وفى يوم 21 سبتمبر انتحر مونترلان وبعدها بستة أيام كتب بومبيدو لسان روبير يقول: لقد تحدثنا فى أمر مونترلان. ولكن الأمر انتهى الآن. إننى آسف لعدم استطاعتى استباق ما أقدم عليه.. إننى حزين لذهاب أستاذ عظيم من أساتذة لغتنا.
ويحكى روبير عن اليوم السابق لانتحار مونترلان، فيقول إنه اتصل به تليفونياً يوم 20 سبتمبر ليتفق معه على تسليم ما كتب.. سأل مونترلان:
* فى أى ساعة أحضر؟
* لا أدرى إذا حضرت فى الصباح أصعد ودق الجرس، وإذا حضرت فى بعد الظهر لن أستطيع استقبالك.. اترك خطاب تحت الباب أو عند البواب.
فى الساعة الرابعة إلا خمس دقائق تركت خطابى عند البواب وفى الساعة الرابعة بالضبط علمت فيها بعد أن مونترلان أطلق النار على نفسه.. ماذا لو صعدت؟ لو إننى دققت الجرس فى هذه الساعة بالضبط؟
يا لها من أسئلة، لكن لماذا اختار مونترلان يوم 21 سبتمبر موعداً لرحيله. لقد زور فى السابق تاريخ ميلاده تهرباً من المطاردة الرسمية.. فلماذا لم يغير تاريخ رحيله.. اختار موعد الميلاد وحدد موعد الرحيل.. يوم 21 سبتمبر موعد الخريف.. تعادل الليل والنهار. لكن الليل انتصر. تعادل «النعم» مع «اللا» تعادل الموت مع الحياة.. لكن «اللا» والموت سيكون لهما النصر على النعم والحياة.. فى الصيف هناك شيء يفيض ولم تكن فكرة انتحاره وتوقيتها مجرد صدفة.. لقد اختار لخريف عمره اليوم الأخير من الصيف لينتهى به.
يقول البعض إن مونترلان خلق من الضعف قوة وأن شخصيات أعماله الأدبية كانت من صنع ذاتها، وقد أعطاها ذلك الحق فى التكامل فمهما داخلها الباطل إلا أنها كانت تنتهى بالتصالح مع نفسها.. لكن مونترلان لم تتوفر له هذه المصالحة إذا ما حاسبته بمنطق اليأس من حياته.. ولكنه كان بالتأكيد مخلصاً لفكره وعقيدته وزمنه.. حاسب زمانه الخاص حساباً عسيراً واعتبر نفسه من سلالة منقرضة مع بقايا الرومانسية أو الذاتية.
كتب فى أيامه الأخيرة تعليقاً على عام 1972 يقول: عالم يموت فى سن الثانية والسبعين.. قومية ودين.. لمحة حزينة من فنان عشق قيماً خاصة للحياة والإيمان.. لكنها قيم تتناقض أو تتغير فى لحظة لا يمكن أن نتغير معها وقد قيل لابد من تغيير كل شيء حتى يستمر كل شيء.
أين الوجود الإلهى فى حياة مونترلان كان كشخصيات رواياته مشدوداً بين الإقبال برفض أو الإحجام بقبول.. كتب ديجول رسالة قال فيها عن مونترلان: «لقد حاز مونترلان بشكل نهائى حافة المحيط الدينى ولم تترك عبقريته عيونه أو روحه تتوهان عن ارتياده» ولكن مونترلان قال: أنا لا أؤمن إلا بالمؤمنين.. حينذاك يصعب علينا فهم أى مؤمنين؟!
اختيار الزمن أيضاً كان موضع قلقه وموضع شجاعته هل انتحاره فى هذه السن المتأخرة له دلالة؟ لم تكن لتأخرها ولكن لنوعيتها. وتبين النوعية يحتاج إلى خبرة الزمن، فقد قال محدثا الشباب الذين يفكرون فى الانتحار: «موتكم موت ضائع.. إننى أقول ذلك ليس من قبيل الواجب، فعدد كبير من المنتحرين لو فكروا لمدة ساعة واحدة لأحجموا، على الأقل امنحوا أنفسكم هذه الساعة».
لكل إنسان زمنه وعقيدته وقد يكون زمن الإنسان العابر نموذجاً لعقيدته الدائمة، وقد يكون زمنه هو عقيدته الزائلة، وعندما يشعر الإنسان بذهاب زمنه قد يشعر معه بذهاب عقيدته.. يهتز داخله ويسقط بلا تردد. مونترلان ابن تراث الفيلسوف زينون والقائد كاتون وابن شهداء المسيحية والحاد القرن العشرين طلب فى وصيته أن ينشر رماده على مدينة روما ونفذت الوصية فى 21 مارس عام 1973.


انتصار الموت
لوحة بيتر بروغل الأكبر
1525/1569

 


«منذ هذا الصباح لن أكتب (افتحوا أبواب الأبدية) ولكنى سأكتب
(اقفلوا أبواب الأبدية)
من سيقرأ أعمالي بعــد عشــر ســـنوات؟»
مونتــرلان

 

«انتحــر لأنـهيحـب الحياة ويكـره
أن يرى نفسه يتقـلص ثم ينتهــي»
الكاتب سان بيير

هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة