لا تراهنــوا علي ديجـول إسرائيلي ..الـرجـل الـذي لا يتغير!



[ 1 ] حين أعلن أريئيل شارون لأول مرة اعتزامه «فك الارتباط» من جانب واحد بغزة وتفكيك أربع مستوطنات معزولة شمالي الضفة الغربية، اعتقد الكثير من المراقبين أنه في سبيله لتحقيق توقعهم بتحويله نفسه عاجلاً أم آجلاً إلي ديجول الإسرائيلي واتخاذه قرارات صعبة تنهي في آخر الأمر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وحتي هؤلاء الذين كان لديهم شك في احتمال حدوث مثل هذا التحول، وكانوا يعتقدون أن شارون يقصد بالانسحاب من غزة خلق فعالية تؤدي في الوقت ذاته إلي مزيد من الانسحاب من الضفة الغربية، إذ أنه يقضي بذلك علي خرافة أن أي سعي لتفكيك المستوطنات سوف يجر البلاد إلي حرب أهلية. ولهذا السبب حظيت مبادرة شارون بالترحيب، ليس فقط من حكومة بوش، التي لم تجد أن شارون قد اتخذ أي إجراء من الفظاعة بحيث لا يستحق التأييد الأمريكي، بل كذلك من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا (الأعضاء الثلاثة الآخرون في اللجنة الرباعية التي شُكِّلت للإشراف علي تنفيذ «خارطة الطريق»). ما عزز تصور أن يتحول المهندس الرئيسي لمشروع المستوطنات إلي قائد لحملة تدعو إلي إزالتها هو ذلك الصدع الذي يزداد اتساعًا بين شارون والكثيرين من حزبه الحاكم الليكود؛ الذي رفض بشدة اقتراحه طرح الانسحاب من غزة للاستفتاء في 2 مايو. وقد أخزت اللجنة المركزية لليكود شارون مرة أخري في 31 يوليو بالتصويت ضد اقتراحه إدخال حزب العمل في الحكومة لخلق أغلبية في مجلس وزرائه تؤيد الانسحاب (صوتت اللجنة لمصلحة القرار في 9 ديسمبر). وفي 11 أكتوبر انضم كثيرون من حزب شارون الحاكم إلي المعارضة السياسية تأييدًا لتحرك شكلي لرفض خطاب «حالة الأمة» بمناسبة افتتاح الدورة الشتوية للبرلمان الإسرائيلي. وكانت تلك هي المرة الأولي في تاريخ إسرائيل التي تصوت فيها الكنيست الإسرائيلية للتعبير عن عدم الثقة في خطاب الافتتاح الذي يلقيه رئيس الوزراء. وفي أعقاب ذلك صوتت أغلبية واضحة من أعضاء الكنيست في 26 أكتوبر تأييدًا لخطة شارون، لتطغي بذلك علي معارضته داخل حزب الليكود. أقنع استعداد شارون للمخاطرة برئاسته للوزارة ولانقسام حزبه حول قضية الانسحاب من غزة الكثيرين في أبعد الجهات احتمالاً بأنه أدرك أخيرًا أنه «لا يمكنه محو حلم الفلسطينيين القومي بالقوة»، كما جاء في مجلة «ذي إيكونوميست». ودعت المجلة «العالم الذي اعتاد تصوير مستر شارون علي أنه شيطان» إلي أن يتمني «له النجاح». وبالمثل تساءل الكاتب الصحفي أفراهام تال «هل يتخلص شارون يومًا من الصورة الشيطانية الملتصقة به؟ إنه حتي حين يقرر اتخاذ الإجراءات لا يتخيل أحد قط أنه قادر علي ذلك، حيث إنه يكافح ببسالة ضد قوي متشبثة بآرائها داخل حزبه وتحاول القضاء عليه. ومازال شارون يصوَّر علي أنه سياسي ماكر يموه نواياه الحقيقية باستمرار.» استشهادًا بمقال كنت قد نشرته في صفحة الرأي بصحيفة «إنترناشونال هيرالد تريبيون»، انتقد تال «سيجمان ومن علي شاكلته» لعدم فهمهم مقدار ما طرأ علي شارون من تغيير. وأكد تال أن «شارون يدرك الآن أنه لكي تظل هناك دولة يهودية، لابد لإسرائيل من فك ارتباطها بأكبر عدد ممكن من الفلسطينيين»، وهو ما يعني التخلص من غزة ومعظم الضفة الغربية. بناء علي ما قاله مراقبون كثيرون من هذا النوع، فليس شارون وحده هو الذي تغير، بل كذلك الجانب الفلسطيني. وهم يشيرون إلي «الحرس الجديد» الفلسطيني الذي يتحدي من يسمون «الأبوهات» (جمع أبو) الذين جاءوا من تونس مع ياسر عرفات؛ هؤلاء القادة الذين ينظر إليهم الجيل الشاب من الفلسطينيين الذين حصلوا علي حقهم في أن تُسمع أصواتهم، بالمشاركة في الانتفاضة الأولي ويقبعون في السجون الإسرائيلية، علي أنهم فسدة وعجزة. وانتهت مقالة «ذي إيكونوميست» التي أشرت إليها إلي أن هذا الجيل الشاب من الفلسطينيين تعلم أنه «لا يمكنهم إزالة إسرائيل بالقوة». ما يؤسف له أن هذه الآراء تقوم علي قراءة مغلوطة لكل من الواقعين الإسرائيلي والفلسطيني. فشارون لا يوشك أن يوافق علي شروط الحد الأدني الخاصة بدولة فلسطينية يمكن أن تقوم. ذلك أن إصراره الشديد علي تحاشي التعامل مع الفلسطينيين ـ ولو لمنع الفوضي في أعقاب الانسحاب الموعود من غزة ـ وتوسيع النشاط الاستيطاني في أنحاء الضفة الغربية، وهو ما زاد في أعقاب خطط انسحابه، يدحض مثل هذا التفكير الذي توحي به الأماني بأنه تغير. أظهر أحدث تقرير من مراقبة المستوطنات في حركة السلام الآن أن أعمال التشييد ووضع البنية التحتية تجري في 474 موقعًا استيطانيا في الضفة الغربية وغزة، بما في ذلك خمسون موقعًا تعدي فيها التوسع أو التشييد الجديد حدود المستوطنات، وذلك انتهاكًا للوعود التي قدمها شارون للرئيس بوش. فبحلول نهاية شهر أغسطس كان هناك حوالي 3700 وحدة سكنية تحت الإنشاء في أنحاء الأراضي المحتلة. بل جري إعداد الأرض لإقامة الآلاف من المنازل الأخري؛ حتي في مواقع حددها شارون باعتبار أنه سيتم الجلاء عنها ضمن خطة فك الارتباط. ويساعد ما يجري تنفيذه الآن في الوقت الراهن من تنمية وتوسيع للمستوطنات الرئيسية في الضفة الغربية علي تقسيمها إلي كانتونات فلسطينية غير متجاورة، هي في واقع الأمر بانتوستانات يمكن أن يعيش فيها الفلسطينيون تحت الرقابة الإسرائيلية دون أن تكون لهم دولة موحدة خاصة بهم. استمرت حكومة شارون في نزع ملكية الأراضي في الضفة الغربية، بدعوي أنها «أراضي الدولة»، لتوسيع المستوطنات بناء علي معلومات من الإدارة المدنية الإسرائيلية. ومنذ بداية 2004، أُعلن أن حوالي 2200 دونم (550 فدانًا) في الضفة الغربية أراضي دولة، مقابل 1700 دونم خُصصت لهذا الغرض في العام السابق. وكما أشارت مراقبة المستوطنات في حركة السلام الآن، فإن هذا التخصيص يسمح للحكومات الإسرائيلية دائمًا بإقامة المستوطنات وتوسيعها، مما يمكنها من الالتفاف حول تعهدها بعدم نزع ملكية أية أراض فلسطينية أخري من أجل بناء المستوطنات. يري شارون أن الانسحاب من غزة هو الثمن الذي لابد لإسرائيل أن تدفعه إن هي أرادت استكمال تحويل الضفة الغربية إلي كانتونات تخضع لسيطرة إسرائيل. ومن المهم كذلك تحويل غزة إلي نموذج حي للسبب في عدم استحقاق الفلسطينيين أن تكون لهم دولة مستقلة. وفي ظل الشروط التي ألحقها شارون بفك الارتباط، سوف توجد غزة ـ وهي مساحة تساوي 25،1 بالمائة من فلسطين زمن الانتداب وتضم 37 بالمائة من السكان الفلسطينيين ـ في المقام الأول باعتبارها سجنًا كبيرًا معزولاً عن العالم، بما في ذلك جيرانها المباشرون؛ أي مصر والأردن والضفة الغربية. وسوف يحرم سكانها من حرية الحركة اللازمة لأي احتمال للانتعاش الاقتصادي والاستثمارات الخارجية. ويبدو أن المقصود بإصرار شارون علي أن يكون الانسحاب من غزة مبادرة إسرائيلية بالكامل، وألا يكون هناك تفاوض مع أي زعماء فلسطينيين، هو خلق حالة من الفوضي في غزة تمكنه من القول: «انظروا إلي هؤلاء الناس العنيفين والفسدة والبدائيين الذين يجب أن نتجادل معهم؛ إنهم عاجزون عن إدارة أي شيء بأنفسهم.» حتي وقت قريب كان كثيرون يرفضون مثل هذه القراءة القاسية لنوايا شارون باعتبار أن فيها افتراء. إلا أن هذا مستحيل الآن، ذلك أن أقرب أصدقاء شارون وزملائه، وهو دوف فايسجلاس الذي شارك عن قرب في صياغة وتنفيذ سياسات شارون باعتباره كبير مستشاري رئيس الوزراء ورئيسًا لهيئة الأركان، وصف بتفصيل شديد مضمون فك الانسحاب من غزة وغرض شارون منه. فقد أكد بصراحة في مقابلة مطولة أجرتها معه صحيفة «ها آرتس» أن الغرض من فك الارتباط، الذي أقنع به هو وشارون الرئيس بوش ومجلسي الكونجرس لإقراره، هو منـع أية عملية سلام، وإلقاء خارطة الطريق الخاصة ببوش في غياهب النسيان، وإعاقة قيام دولة فلسطينية من أي نوع. من الواضح أن فايسجلاس كان يخشي من وجود إسرائيليين لا يزالون يعتقدون، حتي بعد المقابلة التي أُجريت معه، أن الانسحاب من مستوطنات غزة وقليل من مستوطنات الضفة الغربية الذي اقترحه شارون قد يؤدي إلي مزيد من الانسحابات في الضفة الغربية؛ وهي مقولة رَوَّج لها شيمون بيرِس رئيس حزب العمل الذي ينتظر علي أحر من الجمر دعوة من شارون للانضمام إلي حكومته (وقد تلقاها). ويؤكد لنا فايسجلاس أنه بناء علي الشروط التي ربطها شارون باستئناف عملية السلام فإن «الفلسطينيين سوف يتحولون إلي كائنات وهمية» قبل أن يحدث هذا. وقال فايسجلاس: «لقد أزيلت بالفعل هذه الرزمة المسماة بالدولة الفلسطينية، بكل مستلزماتها من أجندتنا. وكل هذا ... بمباركة من الرئاسة (الأمريكية) وتصديق من مجلسي الكونجرس.» وتحسبًا لأن يكون هناك من قد لا تزال لديه أوهام، فإنه يفسر فك الارتباط المقترح بأنه «في الواقع فورمالديهايد. ذلك أنه يوفر الكمية اللازمة من الفورمالديهايد وبذلك فلن تكون هناك عملية سياسية مع الفلسطينيين.» وكما أشار إفرايم سنيح عضو الكنيست من حزب العمل، فإنه «لابد من الإشارة إلي أن الفورمالديهايد هو السائل الذي تُحفظ فيه الأجسام الميتة.» من الواضح أن الأشخاص الوحيدين الذين لا يزالون غير مدركين لذلك، رغم توضيحات فايسجلاس شديدة التحديد، هم المسئولون في واشنطن. فبعد إصدار مكتب شارون لبيان متوقع ـ ومضلِّل ـ تمامًا بأنه مازال ملتزمًا بخارطة الطريق، أعلن علي الفور متحدث باسم الخارجية الأمريكية عدم شك هذه الإدارة في التزام إسرائيل المستمر بخارطة الطريق وبـ«رؤية» الدولتين الخاصة بالرئيس بوش، بل إنه «ليس هناك ما يدعو إلي» هذا الشك. ليس ما يلفت الانتباه أكثر من غيره بشأن هذا كله هو خداع شارون فيما يتعلق بأغراض فك ارتباطه أو ترويج الإدارة الأمريكية أثناء انتخابات الرئاسة؛ بل هو بالأحري تلك العجرفة التي تسمح لفايسجلاس بالتباهي بغش إسرائيل وخداعها دون خوف مما قد يلحقه ذلك من ضرر بخطة شارون، حيث إنه وشارون متأكدان من وجود بوش والكونجرس في جيبيهما. والشيء غير المؤكد هو لماذا وقَّع بوش خطابه المؤرخ في 14 أبريل الذي وضع فايسجلاس مسودته، ليعطي بذلك موافقة أمريكا علي خطة شارون لدفن القضية القومية الفلسطينية بإضفاء الشرعية علي المستوطنات الإسرائيلية. هل فعل ذلك انطلاقًا من السذاجة الشديدة، أم لأنه تواطأ مع خداع شارون وهو يعلم أنه يفعل ذلك؟ حتي بدون إجراء مقابلة فايسجلاس الموسعة، كان لابد أن يكون واضحًا منذ وقت بعيد أن «القيادة الفلسطينية الجديدة»، التي كان شارون يدعو إليها، لن توافق أبدًا علي أي اتفاق سلام؛ أي علي ذلك الترتيب «المؤقت» الذي يدع إسرائيل تسيطر علي الضفة الغربية ويرجئ قيام الدولة الفلسطينية عقودًا، بينما تستمر إسرائيل في ضم المناطق وتشظية ما بقي إلي كانتونات منعزلة. لا أساس للادعاء الإسرائيلي الذي يروج له إيهود باراك ـ و»ذي إيكونوميست» ـ بأن هدف الجيل الفلسطيني القديم هو القضاء علي إسرائيل. ذلك أنه لا الحرس القديم ولا الحرس الجديد يؤمن بهذا الهدف؛ فهم يدركون أن ذلك أمر لا يمكن تحقيقه بحال من الأحوال. إلا أن المجموعتين سوف تقاومان تقديم تنازلات إقليمية لإسرائيل، ما لم تكن مصحوبة بمقايضة عادلة للأراضي علي جانبي حدود ما قبل 1967 يتفق عليها الطرفان في مفاوضات السلام. وليس هناك أي فرق في هذه المسألة بين «الأبوهات» ومن يتحدونهم. يطالب من يرتبطون بالحرس الجديد بوضع حد لفساد قادة فتح من الزمن القديم الذين يهيمنون علي السلطة الفلسطينية؛ كما أنهم يطالبون القيادات الجديدة التي يمكنها صياغة منهج إستراتيجي مترابط للكفاح من أجل إقامة الدولة الفلسطينية، وهو الشيء الذي عجز عرفات عن تقديمه. أما إذا كان الحرس الجديد سينجح في إيجاد تلك الإستراتيجية أم لا، وإذا كانت تلك الإستراتيجية ستقوم علي العنف أم ستنبذه، فأمر يحدده إلي حد كبير استعداد إسرائيل لأن تؤكد للفلسطينيين أن الدولة القابلة للتطبيق يمكن تحقيقها بالوسائل غير العنيفة. وهذا التأكيد لا يقدمه اقتراح شارون فك الارتباط مع غزة من جانب واحد. فالواقع هو أن هناك عزمًا علي إعاقة قيامها، كما يعلم الجميع من مقابلة فايسجلاس. [ 2 ] أسيء فهم هجمات اليمين علي شارون. فشارون ومنتقدوه اليمينيون مختلفون علي ما إذا كان ينبغي السماح للفلسطينيين بتسمية ترتيب أشبه بالفصل العنصري يتكون من ثلاثة كانتونات منفصلة ومعزولة بالضفة الغربية دولة أم لا. ذلك أنه بينما يؤكد شارون أنه يمكنهم تسميتها كذلك، وإلا فإن الولايات المتحدة سوف ترفض الترتيب، يقول كثيرون في حزب الليكود، ومنهم بنيامين نتنياهو، إنه في حال منح إسرائيل الفلسطينيين الحق ولو في إقامة دولة اسمية، فسوف يثير هذا حركة ديناميكية تجاه السيادة لن يمكن لإسرائيل السيطرة عليها. ورغم الخطاب المسيء والعنيف الذي يوجهه معظم قادة حركة الاستيطان لشارون، فهم يفهمون أن ما يدعو إليه شارون من فك ارتباط بغزة من جانب واحد مقصود به في الواقع ضمان سيطرة إسرائيل الدائمة علي الضفة الغربية. إلا أنهم يخشون كذلك ما يأمل فيه اليسار الإسرائيلي؛ وهو أن إزالة أية مستوطنة سوف يرفع الحظر الذي طالما كان موجودًا ويفتح الباب أمام إزالة المستوطنات حتي في الضفة الغربية. بل إنهم لا يتفقون مع شارون علي كون هذا الانسحاب ثمنًا لابد لإسرائيل أن تدفعه. وهم مقتنعون بأن عدم موافقة الولايات المتحدة علي استمرار ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية، حتي في الضفة الغربية، لن يحدث فرقًا كبيرًا، ذلك أن الغلبة في النهاية لـ «الواقع علي الأرض». ثم ألم يقل الرئيس بوش في خطابه إلي شارون في 14 أبريل إن الولايات المتحدة تعترف بأن علي الفلسطينيين الاعتراف بـ «الواقع الجديد» علي الأرض (الذي خلقته إسرائيل من جانب واحد) في أي اتفاق للسلام؟ إلا أن هناك سببًا آخر لذلك الغضب الشديد الذي يميز رد فعل بعض المستوطنين المتطرفين وحاخاماتهم (ومن بينهم هؤلاء المعروفون داخل إسرائيل بـ»شباب قمة التل» الذين شجعهم شارون حين كان وزيرًا للخارجية بعد التوقيع علي مذكرة واي ريفر عام 1998 بين إسرائيل والفلسطينيين ـ التي نصت علي «إعادة نشر» تدريجي للقوات الإسرائيلية في الضفة الغربية ـ علي «اغتصاب أكبر عدد ممكن من قمم التلال في الضفة الغربية»). وكما أشار بعض المراقبين الإسرائيليين، فإن هناك دولتين بالفعل بين نهر الأردن والبحر المتوسط؛ وهما دولة إسرائيل ودولة المستوطنين اليهود في الضفة الغربية وغزة. وفي دولة المستوطنين هذه، لا تطبق الأعراف والقوانين الإسرائيلية، وتذعن الشرطة الإسرائيلية وقوات الدفاع الإسرائيلية للمستوطنين إلي حد كبير. ونادرًا ما يلقي القبض علي المستوطنين الذين يلحقون أضرارًا بالمزارعين الفلسطينيين أو يقتلونهم ويتلفون أملاكهم وأراضيهم الزراعية، ثم يفلتون في كل الحالات تقريبًا من العقاب. نجحت دولة المستوطنين هذه في تجنيد شبكة من المؤيدين داخل دولة إسرائيل، بما في ذلك أعضاء مجلس الوزراء الذين يرأسون وزارات عديدة تمدهم ـ سرًا وبطريقة إجرامية، ودون أية محاسبة علنية ـ بمئات الملايين من الدولارات لتوسيع المستوطنات والبنية التحتية. ولا يعترف هؤلاء المستوطنون بحق دولة إسرائيل ومسئوليها المنتخبين في التدخل في حكمهم الذي يوحي به إيمانهم بصحة ما يقومون به في دولة المستوطنين هذه. ويري هؤلاء قرار شارون تفكيك المستوطنات في غزة تحديا لـ«سيادتــهم». رغم ذلك فإنه مهما كانت خلافات شارون ومنتقديه من الليكـود بشأن دلالات الألفاظ والتكتيكات، وحول ما إذا كان سيسمح بالخروج من غزة أم لا، فإنهم يشتركون أساسًا في تطابق فهمهم لعلاقات إسرائيل مع الشعب الفلسطيني ومع المناطق. ولم يصف أحد هذا الفهم بوضوح أكثر مما وصفه به عوزي آراد مستشار السياسة الخارجية حين كان نتنياهو رئيسًا للوزراء. ويعمل آراد الآن في معهد العلوم المتكاملة في هرتزليا الذي يدلي فيه شارون ورؤساء المؤسسة الأمنية بإسرائيل في اجتماعاته السنوية ببعض أهم تصريحاتهم. وفي الاجتماع الذي عُقد في شهر ديسمبر من عام 2003 أعلن شارون اعتزامه اللجوء إلي إجراءات من طرف واحد سوف تخدم احتياجات إسرائيل. في مقال في صحيفة «ها آرتس»، سخر آراد من مقولة إنه بما أن اليهود سوف يصبحون أقلية في فلسطين بسبب ارتفاع معدل المواليد بين الفلسطينيين، فإن عليهم إما أن ينسحبوا من المناطق أو يفرضوا نظامًا للفصل العنصري علي الفلسطينيين، إن هم أرادوا الحفاظ علي الهوية اليهودية للدولة. وقد كتب يقول إنه «طوال العقد المنصرم كانت الحكومات الإسرائيلية كافة تنفذ فك ارتباط سياسيا عن الشعب الفلسطيني في المناطق. وقد مضي وقت طويل علي الجلاء عن مدن وبلدات الضفة الغربية. ولم يعد عدد الفلسطينيين من النهر للبحر متناسبًا مع إسرائيل باعتبارها دولة ديمقراطية يهودية.» الواقع أن حكومة جنوب أفريقيا العنصرية «فكت الارتباط» كذلك عن البانتوستانات التي أقامتها وطنًا للأغلبية السوداء. ولا يبدو أن آراد ومن يؤيدون سياسات شارون لا يدركون، أو لا يهمهم، أن «فك ارتباط» جنوب أفريقيا علي وجه الدقة هو ما مَيز نظامها العنصري، وأن فك الارتباط سوف يسفر عن نتيجة مشابهة بالنسبة لإسرائيل، إن هي أصرت علي اتباع نموذج جنوب أفريقيا بتمسكها بجزء كبير من الضفة الغربية و«كنتنة» الباقي. إحدي مفارقات التاريخ أن اليهود ـ سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا أو إسرائيل ـ الذين شاركوا بصورة كبيرة جدًا في الكفاح من أجل حقوق الإنسان العالمية والحريات المدنية مضطرون الآن لتأييد سياسة الحكومة اليمينية التي تهدد بتحويل إسرائيل إلي دولة عنصرية. ذلك أنه إذا حوَّل شارون انسحابه الموعود من غزة إلي وجود في الضفة الغربية لا سبيل إلي إخراجه منها ـ وهي النقطة التي يصر كثير من المراقبين علي أن بلوغها قد تحقق ـ فمن المؤكد أن تفضي سياساته إلي نظام عنصري. هذا الاحتمال كابوس لا يقتصر الشعور به علي منتقدي شارون بين اليسار. بل نجد أن اليميني إيهود أولمرت، نائب رئيس وزراء إسرائيل، قد حذر من دولة الفصل العنصري هي الاتجاه الذي تسير فيه الدولة اليهودية. ومؤخرًا كتب أكثر المعلقين الإسرائيليين احترامًا ناحوم بارنيا يقول أنه: بعد سبعة وثلاثين عامًا من الاحتلال، أصبحت إسرائيل تبدو في أعين جزء كبير من العالم دولة منبوذة. فهي وإن لم تصبح بعد جنوب أفريقيا الفصل العنصري، فإنها تنتمي بالقطع إلي العائلة نفسها. لا شك في أن الإرهاب الذي لجأت إليه بعض العناصر داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، وخاصة ذلك الإرهاب الذي يستهدف المدنيين، كان تهديدًا أمنيا كبيرًا للشعب الإسرائيلي. ولكن لا يمكن اتخاذ هذا التهديد ذريعة لسياسات سوف تأتي بحكم الفصل العنصري إلي غزة والضفة الغربية. فليس صحيحًا أن الإرهاب يهدد وجود دولة إسرائيل. وحتي إذا كان هذا صحيحًا، فإنه تهديد يمكن أن تتصدي له إسرائيل بفاعلية أكبر من داخل حدودها ما قبل 1967، ذلك أن تلك هي دولتهم. ولسوف يخسر الفلسطينيون الكثير إن هم استمروا في الإرهاب، وسوف يسعون إلي وقفه. والحقيقة هي أن إسرائيل حققت قدرًا أكبر من النجاح في مواجهة الإرهاب العابر للحدود القادم من الدول المجاورة أكثر مما حققته في مواجهة إرهاب الشعب الغاضب الخاضع لاحتلالها. ليست فكرة أن الطريقة الوحيدة لمحاربة الإرهاب هي استمرار الاحتلال ما تؤمن به أعداد كبيرة داخل إسرائيل بشأن أمن البلاد ويتناقض مع المنطق والتجربة. فمنذ حوالي عشرين عامًا كانت غالبية كبيرة من الإسرائيليين تؤمن بأن مصالحها الأمنية الأكثر أهمية تقتضي منهم البقاء في جنوب لبنان. وهم يؤمنون بالشيء نفسه فيما يتعلق بوجودهم في مرتفعات الجولان. ولكن أمن إسرائيل علي طول الحدود الشمالية تحسن منذ انسحابها من جنوب لبنان، ولم يزدد سوءًا، رغم حقيقة أن حزب الله استطاع التباهي بأنه طرد قوات الدفاع الإسرائيلية الجبارة. ومؤخرًا قال موشي يعالون رئيس هيئة أركان قوات الدفاع الإسرائيلية إنه ـ شأنه شأن أسلافه الثلاثة من رؤساء هيئة الأركان ـ يعتقد أن أمن إسرائيل لن يضار بشيء إن أُعيدت الجولان إلي سوريا. الإسرائيليون مقتنعون كذلك بأن دخول جدار إسرائيل العازل بعمق في الأراضي الفلسطينية ضروري لأمنهم، وأن رأي محكمة العدل الدولية الأخير بعدم قانونيته وضرورة إزالته يمكن تفسيره فقط من خلال ما يزعمونه من معاداة المحكمة للسامية. إلا أن ناحوم بارنيا عرض في مقاله الأخير في «يديعوت أحرونوت» الرأي المعاكس الذي يؤمن به كثيرون من أفضل خبراء الأمن في إسرائيل. فقد قال إن الجدار العازل كان لابد أن يقوم علي الخط الأخضر، دون انحرافات أو خداع. وبهذه الطريقة كان يمكن بناؤه بسرعة ودون عواقب قانونية وأضرار سياسية، باعتباره سورًا أمنيا، وليس حدودًا سياسية....إلا أن مخططي خط سير السور، من رئيس الوزراء فما أدني، فضَّلوا محاولة خداع العالم. فقد فضلوا لعب السياسة علي التركيز علي الأمن. وكتب شلومو جازيت، الجنرال المتقاعد الذي كان مسئولاً من قبل عن الاستخبارات العسكرية بقوات الدفاع الإسرائيلية، في صحيفة «معاريف»: فلنواجه الحقائق. لقد حولنا السور، الذي هو شديد الأهمية، من سور أمني إلي سور سياسي، وهذا هو السبب في هزيمتنا الشديدة. ما قيل في لاهاي لم يكن بشأن احتياجات إسرائيل الأمنية، بل إنه يتعلق بحق إسرائيل في أن تقيم مستعمرات يهودية سياسية في عمق يهودا والسامرة. [ 3 ] من الواضح أنه لم يكن هناك شيء أكثر مباشرة في جعل شارون يصمم علي تحاشي أية عملية سياسية من الإرهاب الفلسطيني الموجه إلي المدنيين الإسرائيليين. فقد استغل شارون الإرهاب وإخفاقات عرفات القاتلة في بناء المؤسسات الفلسطينية للتشكيك في المشروع القومي الفلسطيني برمته وللقضاء علي من سعوا إلي مساعدته علي النجاح سواء أكانوا داخل إسرائيل أم في المجتمع الدولي. ولكن الإخفاقات الفلسطينية لا تضفي المشروعية علي سياسات شارون، أو سياسات حكومة بوش؛ فللفلسطينيين الحق في إقامة دولة في الضفة الغربية وغزة ليس لأنهم اتبعوا معايير معينة حددها شارون، ذلك الرجل الذي يأمل في الاستيلاء علي جزء كبير من أرضهم، أو لأن بوش لديه «رؤية» خاصة بدولتين تعيشان جنبًا إلي جنب، بل بناء علي مبادئ تقرير المصير القومي المقبولة عالميا. سبق أن اعترف المجتمع الدولي بتطبيق هذه المبادئ علي عرب فلسطين وأقرها حين تبنت الأمم المتحدة القرار الذي يقسم فلسطين إلي دولتين عربية ويهودية في عام 1947. وحق الفلسطينيين فيما أكده المجتمع الدولي في ذلك القرار باعتباره إرثًا لهم لم يلغه سلوك عرفات السيئ أو فشل مؤسسات السلطة الفلسطينية، التي يجب الإشارة إلي أنها وفرت حرية ومحاسبة أكبر بكثير مما هو عليه الحال في كثير من الدول العربية المجاورة. من المؤسف أن ما كشف عنه فايسجلاس بشأن دوافع شارون للانسحاب من غزة ـ وهو ما يشير إلي أن الفلسطينيين ليس لهم شريك إسرائيلي في السلام ـ سوف يكون له أثر ضعيف علي إدعاء إسرائيل المستمر بعدم وجود شريك فلسطيني يمكنهم التفاوض معه. وربما لن يكون لتصريح فايسجلاس أثر يزيد عن أثر ما كشف عنه من قبل أكبر مسئولي الاستخبارات والأمن في إسرائيل من أن انتفاضة سبتمبر 2000 لم يخطط لها عرفات، وإنما كانت نوبة غضب فلسطينية عفوية تنبئوا بها قبل وقت طويل من حدوثها. حذر عامي يعالون رئيس الشين بيت الإسرائيلية في عهد إيهود باراك (وقبل ذلك رئيس البحرية الإسرائيلية) رئيس الوزراء باراك من أن تزايد المستوطنات الذي لا قيد عليه في ظل حكومته وإهماله لعملية السلام الفلسطينية لمصلحة التوصل إلي اتفاقية سورية (نعرف الآن من مذكرات الرئيس كلينتون ودينيس روس أنها فشلت لأن باراك تراجع عن الاتفاق)، وفوق هذا وذاك، خلق ما عاني منه الفلسطينيون في المناطق من شدائد ومهانة موقفًا متفجرًا لم يكن يحتاج سوي إلي شرارة كي تشعله. وطبقًا لما قاله أيالون، فقد كانت تلك الشرارة هي زيارة شارون إلي جبل المعبد في سبتمبر من عام 2000 التي قُصِد بها أن تكون مستفزة. وكانت تلك كذلك هي النتيجة التي توصلت إليها لجنة ميتشل في أعقاب بحثها المتأني لأسباب الانتفاضة. وذكر أيالون مرارًا أنه لم يكن لدي الشين بيت أية أدلة علي تخطيط عرفات للانتفاضة الثانية. فلو كان فعل ذلك لعلمته الشين بيت. فرضية شارون وكثيرين غيره من القادة الإسرائيليين بأن هدف عرفات لم يكن دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة وإنما في كل فلسطين استبعدها الجنرال الاحتياط عاموس مالكا الذي كان رئيسًا لاستخبارات قوات الدفاع الإسرائيلية في عهد باراك، باعتبار أنه لا أساس لها. وقد اتهم ومعه غيره من كبار مسئولي الاستخبارات عاموس جيلاد الذي كان مسئولاً عن فرع الأبحاث باستخبارات قوات الدفاع الإسرائيلية بالكذب حين ألمح إلي أن رأيه القائل بأن هدف عرفات هو تفكيك إسرائيل يقوم علي معلومات استخباراتية. وعلي خلاف ذلك قال مالكا: تحدثت كل التقييمات الاستخباراتية عن رغبة عرفات في الاستمرار في العملية السلمية للوصول إلي تسوية دائمة تقوم علي وجود دولتين.... ولو أُجيبت مطالبه لوقَّع الاتفاقية. أما إذا لم تجب فكان سيسير في اتجاه الأزمة ليخلق ضغطًا محليا وعالميا علي إسرائيل كي تكون أكثر مرونة في مواقفها، تمامًا مثلما فعل في الماضي. كما استبعد مالكا اتهام عرفات بالتآمر للقضاء علي إسرائيل باعتباره «محض هراءً». ومع ذلك لم تحقق كل تلك الأمور التي كُشف النقاب عنها أي تقدم وسط ذلك الاقتناع واسع الانتشار بأن عرفات هو صاحب الانتفاضة، وأنه من قادها ونسقها حتي قبل أن يدخل محادثات السلام مع باراك في كامب ديفيد، وأنه رفض مقترحات السلام التي قدمها باراك لأن هدفه الحقيقي كان ولا يزال القضاء علي دولة إسرائيل. ولا يمكن للإسرائيليين أن يتصوروا أي تفسير آخر لرفض عرفات مقترحات باراك «السخية» في كامب ديفيد. ومن الواضح أن احتلال إسرائيل للضفة الغربية الذي دام أربعة عقود قد أصاب خيال المواطنين الإسرائيليين الأخلاقي بالبلادة بحيث لم يرد علي بالهم أن طلب باراك توسيع أرض إسرائيل التي تمثل بالفعل 78% من فلسطين بإضافة أراض فلسطينية مستقطعة من الـ22 بالمائة ـ وهي أقل من نصف ما خصصته الأمم المتحدة للدولة الفلسطينية في عام 1947 ـ التي بقيت للفلسطينيين لا يمكن لأي فلسطيني أن يعتبره سخيا بحال من الأحوال. [ 4 ] بعد أن رحل عرفات، سوف تتاح لشارون الفرصة كي يثبت بطلان اتهامات منتقديه له بأنه استغل عرفات دون خجل، وكذلك بطلان استغلاله مقولة «عدم وجود شريك» كذريعة لاستمرار ضم إسرائيل للضفة الغربية. وهو بإمكانه أن يفعل ذلك بإنهاء الإجراءات الأحادية واستئناف محادثات السلام القائمة علي القبول غير المشروط لخارطة الطريق مع القيادة الفلسطينية الجديدة، أي بدون التحفظات الأربعة عشر المنطوية علي التعجيز التي تبناها مجلس وزرائه في 27 مايو عام 2003 وأفرغت قبول إسرائيل لخارطة الطريقة من أي معني. تتطلب خارطة الطريق من السلطة الفلسطينية بذلك جهود تدل علي حسن النية لوقف العنف بتعزيزها قوات الأمن التابعة لها وتفكيك الميليشيات والجماعات الإرهابية. ولن يحدث هذا بين عشية وضحاها، ولكن لكي ينجح سوف يتعين علي إسرائيل دعم القيادة الجديدة بوقف النشاط الاستيطاني وإزالة نقاط التفتيش والسحب التدريجي لقوات الدفاع الإسرائيلية إلي مواقعها قبل الانتفاضة. وإذا أصر شارون من جديد علي عدم حدوث ذلك إلي أن يتوقف العنف وتقوم الديمقراطية الجيفرسونية في الضفة الغربية وغزة، فحينئذ سوف نعرف أنه مازال علي خداعه القديم ولا يعتزم إشراك الفلسطينيين في المفاوضات السياسية. إذا ارتفع شارون إلي مستوي الحدث، فسوف يثبت أنه حوَّل نفسه بالفعل إلي رجل دولة، ولن يدين له الإسرائيليون والفلسطينيون وحدهم بهذا الفضل، بل العالم كله. أما إذا سَوَّف وقضي علي القيادة الفلسطينية الجديدة مثلما قضي علي محمود عباس حسن تولي رئاسة مجلس الوزراء الفلسطيني منذ أكثر من عام، فحينئذ لابد أن يتضح دور شارون المدمر في عملية السلام للجميع في آخر الأمر. تتحدي نهاية رئاسة عرفات كذلك الإدارة الأمريكية المقبلة. فهل ستكرر عدم وفاء الرئيس بوش بوعده في العام الماضي بـ»توجيه القطيع» علي الجانبين نحو ضمان الالتزام بخارطة الطريق، أم هل ستقوم بدور الوسيط الأمين المستعد للقيام بما لا يمكن أن يقوم به سوي القوة الكبري لإنهاء الصراع؟ إذا لم يستجب أي من الفلسطينيين أو الإسرائيليين أو كلاهما لهذه الانفراجة غير المتوقعة للعودة إلي خارطة الطريق، ولم تتدخل الولايات المتحدة بقوة لمنع مثل هذا الإخفاق، فلابد للمجتمع الدولي أن يتخلي في آخر الأمر عن نموذج «التيسير» الذي كان أساسًا لكل ما سبق من مبادرات سلام الشرق الأوسط الأمريكية وغير الأمريكية. فالتيسير يفترض أن يفضل الخصوم رغم خلافاتهم التوصل إلي حل لصراعهم علي استمراره، وهو الموقف الذي كان قائمًا أثناء فترة أوسلو من عام 1993 حتي 2000 (باستثناء فترة تولي بنيامين نتنياهو لرئاسة الوزراء). ويقْصِر التيسير دور الطرف الثالث علي مساعدة الطرفين في التغلب علي العقبات التي تقف في سبيل تحقيق الهدف الذي يرجوه كل منهما. إلا أنه حين تولي شارون السلطة، بات الطرفان يعتقدان أنهما سوف يكسبان من استمرار الصراع أكثر مما يحققانه نتيجة لحله، وبات بذلك نموذج التيسير غير ذي صلة بالموضوع. لابد أن يكون واضحًا أن التيسير لم يعد يحمل أي أمل في إنهاء الصراع. بل إن النزعة التدخلية وحدها هي التي تحمل هذا الأمل في طياتها. وبما أن الصراع يقتضي تكلفة بشرية غير متوقعة ويعرِّض المصالح الإستراتيجية المهمة لكثير من الدول الأخري للخطر، فلم يعد ينبغي للمجتمع الدولي السماح له بالاستمرار. وعليه فإنه ينبغي أن تدعو الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة، إن أمكن، إلي عقد مؤتمر دولي لا يتوقف علي موافقة، أو حتي مشاركة، الفلسطينيين والإسرائيليين الذين أثبتوا بما لا يدع مجالاً للشك أنهم لو تُركوا لرغباتهم فسوف يدعون الصراع يزداد سوءًا علي سوء. ولسوف يكون هدف هذا المؤتمر الدولي هو تبني المبادئ التي أُقرت دوليا فيما يخص قضايا الحل الدائم الرئيسية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. هذه المبادئ معروفة علي نطاق واسع وتحظي بقدر كبير من التأييد، ولا ينبغي أن يكون من الصعب التوصل إلي إجماع دولي علي دعمها. وبالإضافة إلي شرط أن تكون حدود ما قبل 1967 هي النقطة التي لابد أن تبدأ من عندها المفاوضات، وهو الشرط الذي تتضمنه بالفعل خارطة الطريق، سوف تتضمن كذلك الشروط التالية: قيام التغييرات الإقليمية علي مبادلات متكافئة علي الجانبين، وممارسة حق عودة اللاجئين الفلسطينيين في دولة فلسطين الجديدة، وتحول الأجزاء العربية من القدس إلي جزء من الدولة الفلسطينية وعاصمة لها. إضافة إلي ذلك، سوف يتعين عمل ترتيبات خاصة لجبل المعبد/الحرم الشريف. إذ ينبغي تقسيم السيادة علي تلك الأماكن المقدسة بناء علي المقترحات السابقة؛ أي أن تكون السيادة علي الحرم للفلسطينيين وعلي حائط المبكي وما يتصل به من مبان لإسرائيل، أو أن يوضع حاجز «أفقي» يعطي السيادة فوق الأرض في جبل المعبد/الحرم الشريف للفلسطينيين، والسيادة تحت الأرض للإسرائيليين. وبديل ذلك هو الالتفاف حول مسألة السيادة الإسرائيلية أو الفلسطينية علي الأماكن المقدسة بوضع ترتيبات إدارية يشارك فيها طرف دولي ثالث. لن يكون بمقدور أي من الطرفين تغيير هذه الشروط إلا بالاتفاق فيما بينهما. وسوف يخضع الطرف الذي يرفضها أو يتخذ إجراءات أحادية مخالفة لتلك الشروط للعقوبات الاقتصادية والدبلوماسية. وعلي أقل تقدير، سوف يحرم هذا التدخل الدولي الواضح والحاسم الطرف المعتدي من أي احتمال للحصول علي الاعتراف الدولي بالإجراءات المخالفة للمبادئ التي جري إقرارها دوليا فيما يخص اتفاقية السلام الإسرائيلية الفلسطينية. لا شك في أنه من غير المحتمل إلي حد كبير أن توافق إدارة بوش المنتخبة حديثًا علي الانضمام إلي هذا المؤتمر أو دعم هذا الدور التدخلي. وسوف تجد واشنطن نفسها في وضع حرج يضطرها إلي القول بأن الشروط المحتمل صدورها عن هذا المؤتمر الدولي ليست ضمن خارطة الطريق أو دعم بوش المتكرر لحل الدولتين. كما أنه ليس من المستحيل أن تكون الإدارة الجديدة أكثر انفتاحًا علي الأفكار الجديدة الخاصة بإنهاء الصراع مما كان المتحدث باسمها علي استعداد للاعتراف به أثناء الحملة الانتخابية الساخنة. وأعتقد أن الشيء المؤكد هو أنه بعد أن كانت أوروبا والأمم المتحدة وروسيا ذيولاً للطائرة الورقية الأمريكية في جهود اللجنة الرباعية التي لا طائل من ورائها لتنفيذ خارطة الطريق، لن يوافق أي منها علي الاستمرار في القيام بهذا الدور. وبينما لم يقطع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة شوطًا كبيرًا في إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني قبل الانضمام إلي اللجنة الرباعية، فقد بات وضعها منذ ذلك الوقت أكثر تهميشًا. فلم يزدد نفوذها علي إسرائيل أو الفلسطينيين، بينما ازداد الصراع بشاعة عن أي وقت مضي. من الواضح أن إطار المبادئ هذا الذي يحظي بموافقة دولية لن ينفذ نفسه بنفسه، وسوف ترفضه إسرائيل، التي هي أقوي الطرفين. وربما اعترض الفلسطينيون كذلك علي بعض الشروط، كذلك الشرط الذي ينص علي إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدولة الفلسطينية الجديدة وفي الدول المستعدة لاستقبالهم. غير أن أهمية هذا الجهد الدولي هي أنه سوف يغير حساب التكلفة والأرباح الذي سوف يهتم به الجانبان. وسوف يتأثر ذلك الحساب كثيرًا بتوقع حدوث أضرار لعلاقات الطرف المعتدي الدبلوماسية والاقتصادية مع جزء كبير من المجتمع الدولي، وعدم توقع حصوله علي الاعتراف الدولي بما قد يتخذه من إجراءات أحادية. لا يمكن أن يغفل هذه النتيجة حتي حكومة إسرائيل اليمينية، كما يتضح من الإشارات الأخيرة الصادرة من داخل وزارة الخارجية الإسرائيلية بشأن الآثار المدمرة للسياسات الإسرائيلية التي يري الاتحاد الأوروبي أنها تحول إسرائيل إلي دولة فصل عنصري. ورغم السخرية الصادرة عن شارون وحكومته ردًا علي رأي محكمة العدل الدولية بشأن عدم مشروعية مسار الجدار العازل الإسرائيلي، فقد أثر ذلك الرأي علي بعض القرارات التي اتخذتها منذ ذلك الوقت المحكمة الإسرائيلية العليا وقوات الدفاع الإسرائيلية بشأن مسار السور. بل إن حكومة شارون اليمينية نفسها أصيبت بصدمة جعلتها تفيق حين صوتت كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الدول العشر الجديدة، التي كان شارون يعتقد أنها أكثر تعاطفًا مع سياساتها، في 20 يوليو لمصلحة قرار مجلس الأمن الداعي إلي إزالة السور العازل. ويتوقف الكثير الآن علي احتمال أن تكون تلك الوحدة الأوروبية غير المتوقعة بشأن عملية السلام في الشرق الأوسط بشيرًا بأشياء في سبيلها للحدوث.
إصرار شارون الشديد علي تحاشي التعامل مــع الفلســطينيين ـ ولــو لمنـع الفــوضي في أعقــاب الانسـحاب الموعود من غزة ـ وتوسيع النشاط الاستيطاني في أنحاء الضفة الغربية، وهو ما زاد في أعقاب خطـط انسـحابه، يدحـض مثـل هــذا التفكير بأنـه تغيــر
يري شارون أن الانسحاب من غزة هو الثمــن الذي لابد لإسرائيل أن تدفعه إن هي أرادت استكمال تحويل الضفة الغربيــة إلي كانتونات تخضـع لسـيطــرة إســرائيل
لا أساس للادعاء الإسرائيلي الذي يروج له إيهود باراك ـ و«ذي إيكونوميست» ـ بأن هدف الجيل الفلسطيني القديم هو القضاء علي إسرائيل.ذلك أنه لا الحرس القديم ولا الحرس الجديد يؤمن بهذا الهدف
بعد سبعة وثلاثين عامًا من الاحتـلال، أصبحت إســرائيل تبدو في أعين جـزء كبير من العالم دولــة منبـوذة. فهي وإن لــم تصبــح بعـد جنوب أفريقيــا الفصــل العنصــري، فإنهــا تنتمـي بالقطع إلي العائلة نفسها
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة