سـياسي ..لا ثقـافي : مــا بيننــــا وبينهـــــم



[ 1 ] الصراع القائم معنا الآن هو صراع سياسي، ولا يختلف أحد فيما أظن، في أنه صراع متولد عن استعمار استيطاني في فلسطين، وعن سيطرة عسكرية واقتصادية وسياسية في الخليج العربي، وعن احتلال عسكري لأفغانستان، وعن غزو للعراق الآن احتلال له، وعن سيطرة سياسية علي الكثير من بلادنا العربية وغيرها، يتمثل في استتباع أجهزة الحكم ورجاله لقوي الهيمنة الدولية، وللولايات المتحدة الأمريكية علي وجه التحديد.. وإذا لم يكن كل ذلك «سياسة» فماذا تكون السياسة؟ ولكن أجهزة الفكر والإعلام السياسي الأمريكية ـ علي وجه الخصوص ـ تصوغ الأمر علي أساس أن الصراع الدائر هو في مجال الثقافة، وهو صراع ثقافي، هكذا أعلنها هنتنجتون وغيره، وهكذا يجري وصفه وتصويره الآن. والسبب في ظني يرد من أنه إذا وصفت طبيعة الصراع باعتباره صراعًا سياسيا، فإنه يظهر مباشرة من فيه المعتدي ومن فيه المعتدي عليه. لأن المكافحة بشأنه تدور علي الأرض العربية وأراضي شعوب المسلمين وليس في غيرها، وهي تدور بين العرب والمسلمين في بلادهم وبين الأمريكيين ومن تحالف معهم من دول الغرب. ولأن حجم الضحايا من العرب والمسلمين في بلادهم أضعاف حجم الضحايا من جيوش الغزو والاحتلال، ولأن موطن الثروات الطبيعية المطموع فيها هي أرض العرب والمسلمين، ولأن الحل الوحيد الحاسم لهذا الصراع هو أن يعود الغريب الأجنبي إلي بلده وأن ترتفع الأيدي عن أرض الغير وشعوبها. إنما إذا وصفت المسألة وصفا ثقافيا، ووصف الصراع بأنه صراع فكري أو ثقافي أو حضاري، فإن ذلك معناه أن شعوبًا وأناسًا بسبب ما يدينون به من دين وما يقتنعون به من آراء وأصول فكرية، إنما يمسكون بالسلاح ويقتلون الآخرين، وأن ما يفعله الأمريكيون الآن هو ذاته ما فعله الإنجليز من قرن مضي. والعدوان المادي يحتاج إلي صياغة فكرية مواتية، والحديث عن الصراع الثقافي يخدم هذه الصياغة، يصير العدوان دفاعًا عن النفس. وفي هذا السياق علينا أن نقرأ محاضرة اللورد كيري «المسيحية والإسلام: صدام أم لقاء»، وصحة المسألة هي «الغرب الأمريكي والعرب المسلمون: صدام أم لقاء»، فبداية الحديث من عنوانه يخفي حقيقة الصراع ويزيف طبيعته. إن المحاضرة ليست بذات مستوي ثقافي رصين. وإذا كانت المصادر الإسلامية لمعارفه عن الإسلام هي «الدكتور طنطاوي والملك حسين والأمير الحسن والملك عبد الله...» فهي فيما يبدو لي ليست مصادر يعول عليها في الحكم علي الإسلام. ومحاضرته مليئة بالتعميمات الفجة والأحكام المتحيزة، والعبارات التي ظاهرها الحيدة ومحاولة الإنصاف وباطنها الاتهام والتشنيع. وهو يتكلم عن حادث 11 سبتمبر 2001 وحادث مدريد دون أن يشير إلي أي من وقائع الغرب مع المسلمين علي مدي مائتي سنة الأخيرة، ولا إلي ما حدث لأفغانستان والعراق وما يحدث في فلسطين أخيرًا. ويقول إن الإسلام «يبدو لك» متورطًا في صراع مع الأديان الأخري، ومنها اليهود في الشرق الأوسط، ولا يشير إلي إسرائيل والصهيونية، ويتكلم عن تدمير معبد للبوذيين في أفغانستان ولا يشير إلي هدم الهندوس لمساجد المسلمين في الهند. ثم يتكلم عن الحملات الصليبية الأوروبية لبلاد المسلمين بحسبانها «محاولات لاستعادة الأراضي المسيحية السابقة»، أما الإسلام فهو من حاول غزو المجر وبولندا.. إلخ. ويصف مطلق المسيحيين بأنهما أناس شرفاء وخيرون ويكرهون العنف «أما هذا الوصف فيلحق «غالبية المسيحيين العظمي»، بمعني أن ليس في المسيحيين صنف آخر، أما المسلمون ففيهم صنف آخر، وعندما يتكلم عن فترة الاستعمار الغربي الأوروبي لبلاد المسلمين، لا يتكلم عن استعمار ولا استعباد ولا غزو ولا احتلال، ولكن يصف هذه البلاد بالتدهور« المستمر» بينما البلاد المسيحية «تتمتع بثمرات الثورة الصناعية» رغم أنه كان ضمن عساكر الاحتلال البريطاني في الخمسينيات من القرن العشرين، ولم يدرك من حقائق الأوضاع العراقية وما يفعله جيش الاحتلال البريطاني فيه من قمع، لم يدرك إلا أن زملاءه بنظرتهم السطحية اعتبروا الإسلام دين تخلف في مجتمع متخلف. وهو يدين الأعمال الاستشهادية في فلسطين ويطلب من المعتدلين المسلمين أن يدينوا هذه الأعمال ويعتبر ذلك تحديا «يواجه الإسلام» ولكنه لا يطلب ذات الطلب من معتدلين يهود بالنسبة لقتل الشيخ أحمد ياسين، ولا يعتبر ذلك تحديا يواجه اليهودية. والخلاصة أن المحاضرة ليست محايدة وأحكامها ليست عادلة، ووقائعها فيما ذكرت وفيما لم تذكر ليست أمينة. وهي لا تجاوز في مستواها الثقافي كتابات الدعاية الإعلامية. وما كنت لأناقشها لولا أنني وجدتها مناسبة للحديث عن الشأن الثقافي والشأن السياسي، وعن وجوب التمييز بينهما، وعن أثر الخـــلط بينهمـــا في قلب الحقائق حول من هو المعتدي ومن هو المعتدي عليه. [ 2 ] في الستينيات من القرن العشرين، كان صدر كتاب لمفكر شاب اسمه «فرانز فانون»، وكان الكتاب بعنوان ثورة علي الثورة، صدر في ظروف انتصار الثورات الاجتماعية في أوروبا وآسيا، وفي ظروف انتصار حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وكان الكتاب يتحدث عما اعتري الكثير من هذه الثورات من جمود وترهل وما أنتجت من ظهور طبقات حاكمة جديدة تخلت عن مثالياتها وتوجهاتها الشعبية. وكتب مقدمة الكتاب جان بول سارتر، الفيلسوف الفرنسي المعاصر الذي اشتهر وقتها بمواقفه شديدة التعاطف مع حركات تحرير شعوب العالم الثالث. ومن أهم ما حفظته ذاكرتي من حديث سارتر في هذه المقدمة، ملاحظته أن شعوب آسيا وأفريقيا ومفكريها، كانوا عندما يتكلمون يخاطبون الغرب والغربيين. وكان الغرب هو من يوجه إليهم حديث هؤلاء. وأن ثمة جديدًا ظهر في الستينيات من ذلك القرن، مع حركات التحرر والاستقلال، وهو أن شعوب هذه البلدان ومفكريها صاروا يتخاطبون مع بعضهم البعض، لم يعودوا يخاطبون الغرب ولا الغربيين، وصار الغرب وأهله يتسمعون أحاديث هؤلاء وهم يتحدثون معًا. هذه الملاحظة الذكية التي أبداها سارتر، احتفظت بها في وجداني، لأنها ذات دلالة مهمة علي تحرر «الوعي والإدراك» لدي شعوبنا التي كانت محتلة ومستعمرة، والتي كان الاستعمار تغلغل لدي مثقفين من أهلها حتي ارتبط لديهم الوعي والإدراك برباط التبعية والإلحاق. والتبعية والإلحاق هنا تفضي إلي أن ننظر إلي أمورنا لا كما هي عندنا، ولكن ننظر إليها كما يراها الغربيون، وأن نري أنفسنا بعيون غربية، وأن نصنف مشاكلنا بمثل ما يصنف به الغرب مشاكله، ونرتب أولوياتنا بالترتيب الذي يضعه هو، وأن نحكم علي أنفسنا وأمورنا بميزانه، وأن نثير من الأمور ما يثيره، وأن نسمي أنفسنا بما يطلقه علينا من أسماء، وأن نضع الأمور بالطريقة التي يضعها هو، وأن تثير أمورنا وفق جدول الأعمال الذي يصفه لنا. فإذا قال أن مسألة المساواة بين الرجل والمرأة أهم من مسألة حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، استجبنا له، وإذا قال أن حرية الإبداع الفني والأدبي أهم من حرية الشعوب في سعيها للاستقلال، نسجنا علي منواله.. وهكذا. والحاصل أن ملاحظة سارتر السابقة، لا نكاد نراها اليوم بذات ظهورها القديم، وعلي وجه الخصوص فيما أسفرت عنه الأوضاع الثقافية الظاهرة في المنابر الرسمية والحكومية وأجهزة الإعلام المدعومة من الخارج أو من الحكومات التابعة للمصالح الاستعمارية اليوم. وصرنا نسمع النفخ في النفير يأتي من ناحية الغرب، وبخاصة الغرب الأنجلو سكسوني، وبوجه أخص من غرب المحيط الأطلسي من الولايات المتحدة الأمريكية. ونحن نتحرك بهذا النفخ ويتراقص كثيرون علي نغمات النفير. ولولا ذلك لما كان هذا الاهتمام العجيب الذي لا ينتهي بمقولات هانتنجتون عن صراع الحضارات. أو مقالات فوكوياما عن نهاية التاريخ. ولولا ذلك لما كان هذا الاهتمام الأعجب والأحدث بفكرة «الشرق الأوسط الكبير» وبفكرة «تجديد الخطاب الديني»، و«الحداثة» و«العولمة»، وكلها موضوعات وجداول أعمال صدرها لنا الغرب، فصارت هي جدول أعمال لمفكرين ومثقفين ذاهلين عن أنفسهم ومتطلبات شعوبهم في الاستقلال وتحرر الإرادة السياسية لدولهم التابعة وكفالة أمنهم القومي من المخاطر الخارجية وتنمية الاقتصاد بما يكفل إشباع الحاجات الأساسية للشعوب. كم أتمني أن يعكف بعض الدارسين علي إحصاء عدد الندوات والمؤتمرات وخطب المسئولين وغيرهم وأحاديث الصحف ومناقشات الإذاعة والتليفزيون والمقالات والكتب، التي جرت كلها في بلادنا العربية في السنوات الأخيرة بعد أن نفخت الولايات المتحدة في النفير من تجديد الخطاب الديني وعن صراع الحضارات وعن التعامل مع الآخر. استهلكت طاقاتنا الفكرية وما أكثرها وما أحوجنا إليها لإصلاح شئوننا، استهلكت في موضوعات لم تكن ذات أولوية في الأهمية لدينا وكانت مفروضة علينا من الخارج. وهل يمكن أن نعود إلي ممارسة ما لاحظه جان بول سارتر، عندما كنا يكلم بعضنا بعضًا، ونهتم بشئوننا الذاتية وفقًا للأولويات التي نراها وحسب جدول الأعمال الذي نضعه نحن لأنفسنا. [ 3 ] كان أحمد لطفي السيد، المفكر المرموق في بداية القرن العشرين، ومن أطلق عليه أهل جيله من المحدثين المصريين وقتها «أستاذ الجيل»، كان رحمه الله أستاذ الحداثة ورائد النزعة العلمانية بين مصريي هذا الجيل، وهو من قاوم مفهوم الجماعة الإسلامية بوصفها جماعة سياسية وحبَّذ النظر إلي مصر في الإطار القطري المصري، وسوّي بين التبعية للخلافة الإسلامية العثمانية وبين التبعية للإنجليز. ومن ثم فهو لا يتهم أبدًا بأنه ذو نزعة إسلامية سياسية، ولا يتهم بعصبية دينية إسلامية. أقول ذلك قبل أن أنقل عنه عبارة كتبها في مقال نشره في صحيفته «الجريدة» في 9 أبريل 1908 بعنوان «نحن والاستقلال»، كتب يقول «كنا نظن أن إشاعة التعصب الديني وإيهام أوروبا أن في مصر خطرًا يجب الاستعداد له كانت من بنات أفكار اللورد كرومر يستعين بها في الدفاع عن نفسه وتبرير أعماله أمام أعدائه وأعضاء البرلمان الإنجليزي، ولكن يظهر أن هذه مودة إنجليزية يلبسها الإنجليزي كما يلبس رداءه الواسع وحذاءيه الثقيلين، وأن تهمة التعصب يظهر أنها قاعدة سياسية يعتنقها الإنجليز ليعملوا بها في مصر، فإنها عندهم تساوي قاعدة الباب المفتوح في التجارة، أو قاعدة الفرار من النظريات إلي العمليات في العلوم». أثبت هذه العبارة لأوضح بها للقارئ أن ما يقال اليوم عن الإسلام والتعصب له وأقرانه بما يسمونه في الغرب عنفًا أو جمودًا أو تخلفًا، هو جزء من سياسات الغرب التوسعية في بلادنا، يرد مع مبدأ الباب المفتوح في التجارة لغزو بلادنا واستتباعها اقتصاديا، أو مبدأ حرية التجارة الآن و«الجات».. إلخ. ولا أريد أن أستطرد بذكر ما كان في حادث دنشواي الذي أعدم فيه الإنجليز عددًا من المصريين بغير جريرة، وبرروا ذلك بتعصب المسلمين من المصريين. وما ينبغي أن نتنبه إليه أن التهم التي تقال علينا في هذا الشأن إنما هي نوع من ممارسة العدوان، فإن استباحة الحدود بالعدوان المسلح يصاحبها استباحة السوق بحرية التجارة (أو الباب المفتوح أو الانفتاح)، ويصاحبها استباحة العقول بالطعن في العقائد والقيم بغية تغييرها والإحلال محلها ولا يعقل ألا يصاحب فعل العدوان العسكري والاقتصادي فعل عدوان فكري، بالتشنيع علي المعتدي عليهم وتصويرهم بالصور المزرية ونعتهم بالهمجية أو الجمود أو التخلف أو التعصب ولا يعقل أن يمتدح المعتدي أي شيء لدي المعتدي عليه وهو يمارس العدوان عليه. إن المتلاكمين والمتصارعين في حلبات الضراب يتشاتمون وهم يمارسون الضرب والركل وغيرها. أقصد بهذا الحديث أن أخطأ ما نقع فيه من خطأ، هو أن نستدرج إلي مناقشة هذه الأمور، وأن نتصور أن دفاعنا عن عقائدنا وقناعاتنا هو مما يمكن أن يقنعهم بالحق ـ حقنا ـ فيحترموه أو يسلموا به. إن هذا الاستدراج بذاته يشغلنا بأمور ليست هي ما يتعين أن تكون له الأولوية، إذا رتبنا احتياجاتنا بما يستجيب لحقيقة مشاكلنا وأوضاعنا. فهو نوع من تبديد الطاقة أو الإلهاء بالأقل أهمية، وفضلاً عن ذلك فإن الانصياع للحديث والدفاع عن الذات فيه قدر من الاعتراف بالتهمة وفيه معني التسليم ببعض ما يثار وفيه أيضًا قبول لحاكمية الآخر والاحتكام إلي مسلماته والتوسل إلي قناعاته. مع أن الأمر كله أمر عدوان ثقافي يستر عدوانًا سياسيا من ساسة ذوي أطماع وأهداف أنانية في السيطرة والتحكم. [ 4 ] وفي إطار أن يتحاور بعضنا مع بعض في شئوننا الذاتية لنفهم وقائعنا وحقائق أوضاعنا وما نعالج به شئوننا، فأظن أننا نحتاج إلي إدراك عدد من الأمور: ـ أولها: أحسب أن مذهبًا فكريا أو مدرسة فكرية لا تظهر في ظرف اجتماعي وتاريخي معين، إلا أن تكون تعبيرًا عن ظاهرة حاضرة في هذا الظرف الاجتماعي والتاريخي، قوية كانت هذه الظاهرة الحاضرة أو ضعيفة، وصائبًا كان هذا التعبير أو خاطئًا. فهي تكون معبرة عن رؤية للظاهرة ووجهة نظر معينة في تحديد ما ينشأ عنها من مشاكل، ووجهة نظر معينة في تبين جوانب الاستجابة والحلول لهذه المشاكل. وإن كل جماعة ثقافية وهي تتعامل مع ما جدّ في حاضرها من مواجهات إنما تتعاطي من مخزون ثقافتها وتسحب من رصيدها الفكري العام المتراكم عبر العصور والذي يتكون منه التشكل العقلي والنفسي لهذه الجماعة، عقائد ومواريث وخبرات تاريخية. ونحن نعرف أن حركات تحرير الشعوب المستعمرة وحركات مقاومة الغزو الأجنبي والعدوان، إنما اتخذت تعبيرات شتي مع اختلاف عقائد الشعوب وتجارب الأمم. فاتخذت حركة غاندي في الهند تعبيرًا يستمد أصوله من الهندوسية، واتخذت ذات حركة التحرير المهدية في السودان تعبيرًا مستمدًا من إسلامية الشعب السوداني، وكذلك كان فكر الأفغاني والحزب الوطني في مصر، فلما حدث الازدواج الحضاري الثقافي في مصر وبلاد الشام مع العشرينيات من القرن العشرين، ظهر تعبيران عن الحركات الوطنية، مثل التعبير الوفدي العلماني في مصر وتعبير الإخوان المسلمين في مصر أيضًا.. وهكذا. وفي أوروبا مثلاً، فإن بناء النموذج الديمقراطي في فرنسا أوائل القرن التاسع عشر استدعي رصيدًا تاريخيا من نظم الإغريق المسماة بالديمقراطية، وعلي خلاف ذلك فإن بناء الدولة القومية الموحدة لألمانيا وولاياتها المبعثرة في منتصف القرن التاسع عشر استدعي رصيدًا تاريخيا من نظم الإمبراطورية الرومانية القديمة. وحتي النظم الفاشية والنازية التي عرفتها أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، فقد ظهرت فاشية إيطاليا في العشرينيات من خلال بعث الأمجاد الرومانية، وظهرت نازية ألمانيا في الثلاثينيات من خلال الفكر الاشتراكي السائد وقتها، ويقال إنه عندما ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية حركة شبيهة وقتها إنما تسربلت بالفكر الليبرالي الحر، وكذلك حدث مع مكارثي في الولايات المتحدة الأمريكية في الخمسينيات. ثانيا: إن كل تيار فكري أو سياسي إنما يحتوي علي إمكانات غلو وإمكانات اعتدال. وأن الواقع المعيش أو الظرف التاريخي أو موقف جماعة معينة ورؤيتها فيما يتضمنه هذا التيار، إن أياً من ذلك هو ما ينعش أياً من إمكانات الغلو أو الاعتدال أو يضمرها، كما أنه في كل من الحركات السياسية تقوم إمكانات لاستخدام العنف وإمكانات لاتباع الأساليب السلمية. وإن الغلو والاعتدال يتعلقان بالأهداف المبتغاة، وهو يقاس بتقدير مدي الفروق بين أوضاع الحاضر في رؤية تيار سياسي محدد وبين الأهداف المطالب بها، وكلما اتسعت الفجوة بين رؤية الحاضر وبين الهدف المطلوب كان التيار أجنح للغلو، وكلما ضاقت الفجوة كان أجنح للاعتدال، كما أن العنف والسلم يتعلق بالوسائل المتخذة لبلوغ الأهداف، فحيث لا يكون ثمة مناص من استخدام العنف يتخذ العنف سبيلاً، وحيث تري أي حركة سياسة إمكان تحقيق الأهداف بالتداخلات الاجتماعية والتخلل الاجتماعي والسياسي، تتبع وسائل ذلك. واستخدام العنف يقتضي مفاصلة ومفارقة بين حركة التعبير وبين هيئات المجتمع ومؤسساته، واستخدام الوسائل السلمية يقتضي الاندماج والاشتباك والتخلل لمؤسسات المجتمع وهيئاته. وهكذا. وكل ذلك هو «سياسة»، وكل ذلك تقوم فيه الخيارات علي أساس تقدير الواقع وفق رؤية تيارات بعينها أو حركات معينة في الزمان والمكان المعينين. والتفكير السياسي في كل ذلك إنما يظهر من «واقع» ويستدعي «مخزونًا ثقافيا».. ومن هنا ندرك التباين الواسع بين ما اتصف به في مصر كل من الحزب الوطني وحزب الوفد في بدايات القرن العشرين، ما اتصف به كلٌّ منهما بين النشاط المعتدل والسلمي أحيانًا وبين النشاط المغالي والعنيف فترات ليست طويلة ولكنها موجودة، وبين سلوك أي منها طريق الدعوة السياسية السلمية وبين ظهور منظمات سرية لأي منها في فترات ما. كما ندرك التباين في الثلث الأخير من القرن العشرين، داخل الحركات الإسلامية المصرية بين نمط الإخوان المسلمين المعتدل والسلمي الثابث، وبين نمط الجهاديين والجماعة الإسلامية المغالي والمستخدم للعنف، وكل ذلك أساسه النزوح في النظرة السياسية والاختلاف في رؤية الواقع المعيش. كما نلحظ خارج مصر، حركات وطنية اعتمدت علي حروب العصابات مثل الصين وفيتنام، وحركات اعتمدت علي الوسائل السلمية مثل الهند، وحركات اشتراكية اعتمدت علي العنف وكانت مغالية مثل شيوعيي روسيا وحركات اشتراكية اعتمدت علي السلمية مثل إيطاليا وغيرها. وكذلك الشأن بالنسبة للحركات القومية. وبالنسبة للحركات الإسلامية نفهم التباين بين حركة تحرير أفغانستان الإسلامية العنيفة ثم حركة طالبان وما انعكس في ذلك من الواقع الجبلي القبلي للبلاد، التباين بين ذلك وبين الحركات الإسلامية في تركيا البلد الأوروبي الآسيوي والمسلم الوارث لبيزنطة منذ عهد العثمانيين، وما تتصف به هذه الحركات من مرونة وسلمية وقدرة علي الالتفاف. ثمة تنوع هائل وتعدد في الرؤي السياسية ووجهات النظر الاجتماعية، حسب ظروف الزمان وظروف المكان، وحسب نوعية المشاكل المطروحة ونوع الصراع الذي يقوم وأطرافه الآخرون، وحسب توجه الجماعة السياسية الاجتماعية التي تتبلور علي يديها حركة معينة. وهذا النظر المركب هو ما يتعين به أن نفهم ظواهرنا وندرك أوضاعنا، بصرف النظر عما يراه اللورد كاري.. وأن الأستاذ المحاضر عندما يسقط الوصف السياسي عن الصراع الدائر، يكون أسقط كل ما يمكن به أن يكون حديثه مجال حوار معنا. لأنه يكون أدخل نفسه في مجال آلة الدعاية الأمريكية الإنجليزية المصاحبة لحملات العدوان العسكري علينا، أي يكون عمله هو من أعمال العدوان الإعلامي والثقافي علينا.
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة