امبراطور من تكســاس!



مـلاحظـــــــة خطر على بالى أن هناك حاجة إلى كلمة عن مهمة كاتب اختار لنفسه مجلة شهرية ـ بعيدة عن أعمدة الصحف اليومية وزحامها ـ وظروفها أيضا! وخطر على بالى أننى فى هذا الصدد أستطيع أن أحدد عدة أغراض لا يصح لهذا الكاتب أن يطمح إلى غيرها: 1 ـ فى مهمته استثارة الذاكرة حتى تترابط الحوادث وتتأكد طبيعتها تيارا يتدفق وموجات تتلاحق، يتواصل بها الأمس واليوم، مع المنتظر والمحتمل. 2 ـ وفى مهمته أن يبحث فى الحاضر ويطيل النظر إليه بجهد يتجاوز العارض والعابر حتى يركز على فهم سياقه ومعناه ودلالته. 3 ـ وفى مهمته أن يقدم ما يمكن أن يكون حوارا هادئا مع الناس والأفكار ومع العصر والتاريخ ويستدعى الاهتمام بالشأن العام. 4 ـ وفى مهمته ـ أخيرا ـ أن يقوم بدور يشبه ما يقوم به الراصد الجوى، بحيث يكون قارئه مستعدا لتقلبات الطقس، فلا تدهمه على غير تنبه وتحوط، فإذا وقعت مفاجأة ـ وجد أمامه بابا أو أبوابا لها مفاتيح قد تتوافق مع الأقفال. فى هذه الحدود عليه أن يمارس مهمته ـ يصيب مرة أو يخطئ، وينجـح مرة أو يفشل ويجرب دائما، فإذا استطاع الوصـول فقــد أضــاف، وإذا لم يصــل فقــد غطى جزءا من الساحة. تلك هــى الحـــدود... أو كذلك أتصــــور، ولـــعلى لـــم أخطئ كثيرا ـ لم أقصـــر دون الحـــدود، ولــم أتجـاوز بعدها! أولا: الإمســـــاك بالبـــيت الأبيــــض وبالقــرن الحـــادى والعشـرين! لم يتنبه كثيرون فى العالم ـ على الأقل بالقدر الكافى ـ لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة (نوفمبر 2000) ـ لأن معظم المراقبين اكتفوا بالنظر إلى ما يجــرى على واجهة المسرح، ولم تلفتهم ـ كما كان لازما ـ تلك الحركة الهادئة التى تمشى وراء الكواليس حيث يتواجد المشرفون والمديرون والمخرجون والفنيون من كل اختصاص، وكان الاهتمام بهؤلاء أوجب، لأن حركتهم كانت بمثابة التحضير للعرض بما فيه بلورة الفكرة، وكتابة النص، وترتيب المشاهد، واختيار الأبطال، والتأكد من تطابق شخصياتهم مع أدوارهم حين يرتفع الستار ويبدأ حوار المشاهد ويتواصل نحو مقاصده. وكما بدا فإن معظم المراقبين للمعركة الانتخابية الرئاسية (سنة 2000) ـ ركزوا على مرشحين واجه كلاهما الآخر فى المناظرات الانتخابية أمام عدسات التليفزيون، ثم أجمعوا على أنها منافسة بين «السطحية» و«الملل» («جورج بوش» عن الحزب الجمهورى ـ و«آل جور» عن الحزب الديمقراطي) ـ وهى على هذا النحو منافسة يستحق أن يخسر فيها الرجلان معا لو كان ذلك ممكنا، وهو لسوء الحظ لم يكن، وبالتالى فإن الولايات المتحدة خطت إلى قرن جديد (الحادى والعشرين) وفى البيت الأبيض رجل يمثل عوامل الضعف الأمريكى ولا يمثل عوامل القوة ـ بمعنى أن ذلك التردى على مستوى القيادة الأمريكية العليا، والذى زاد مع فضائح «بيل كلينتون» فى البيت الأبيض سوف يستمر ويواصل نزوله على السفوح بأساليب أخرى تؤدى فيها التفاهة أو الملل ـ فى عهد «جورج بوش» الابن أو «آل جور» ـ ما صنعه الشباب أو الجنس زمن رئاسة «بيل كلينتون» الذى قضى فى البيت الأبيض فترتين رئاسيتين: الأولى: منهما استعراض لفتوة الشباب ووعدها المتحفز، والثانية: عرض للضعف الأخلاقى والمعنوى أفقد مركز القرار مهابته. لكن تلك كانت نظرة تركز على الواجهة لا تتجاوزها إلى ما وراءها أو إلى ما سبقها، بظن أن الواجهة تكفى للحكم على أى عمل باعتبار أن المرئى يغنى عن المخفى ـ ولم تكن تلك كل الحقيقة! ..................
.................. فى ذلك الوقــت لم يتنبــه كثيـرون ـ على الأقل بالقدر الكافى ـ إلى أن هناك فكرة «إمبراطورية» «تملكت» الولايات المتحدة، وأن هذه الفكرة «تمكنت» بعد سقوط حائط برلين (1989) وما تلاه من تداعى الاتحاد السوفيتى، ثم إن هذه الفكرة طرحت نفسها بإلحاح فى ظروف حرب الخليج الثانية التى هيأت للقوة الأمريكية فرصة تمارس فيها تجريب ترسانتها الإلكترونية المتطورة فى ميدان قتال، ورغم أن الهدف المُعلن فى تلك الحرب كان تحرير الكويت (نفط الخليج) ـ فإن الهدف الثانى بعده بان درسا تعطيه أمريكا للعالم ـ بالذخيرة الحية ـ فى فاعلية البطش لا ينساه أحد! وكان مغزى هذا الدرس أن يفهم العالم ـ وليس فقط أن يعرف العراق ـ أن الولايات المتحـدة الأمريكية لديهــا الإرادة ولديها الوسائل التى تضمن لها ما لا يصح لطرف أن يجاريها فيه، فضلا عن أن يتحداها عليه. وكما يتأكد الآن فإن تلك الحرب (حرب الخليج الثانية) كانت فى جانب مهم منها رسالة موجهة إلى العالم بأنه زمن تاريخى مختلف ـ وأنه أمريكى فى الإعلام والخرائط والبوصلات! وبالفعل فإنه بعد تحرير الكويت راحت إدارة «بوش» الأب تركز على فكرة رئيسية شاغلها: كيف يمكن تحويل «السابقة» التى عاشها الشرق الأوسط أوائل سنة 1991 ـ إلى قانون عام يسود ويتحكم فى القرن القادم (الحادى والعشرين). والقصد أنه إذا كان القرن العشرين هو قرن الصعود الإمبراطورى الأمريكى ـ فإن القرن الحادى والعشرين عليه أن يكون قرن التعزيز الإمبراطورى الأمريكى، بما يرسى الدعائم فى عمق الأرض ويعلى السقف إلى بعد الفضاء، وكان المفروض أن يكون ذلك هو شاغل إدارة «جورج بوش» (الأب) عندما يُعاد انتخابه ـ كما كان متوقعا ـ لمدة رئاسة ثانية، وقد بدا لمن يعنيهم أمرها أنها فى اليد ـ شبه مضمونة أو مضمونة بالكامل! كان اعتمادهم أن رئاسة «بوش» الأولى (1988 ـ 1992) قامت بخطوتها الواسعة على طريق التعزيز الإمبراطورى ـ بمقدرة وكفاءة: ـ ضربت ضربتها فى المواقع الصحيحة من الناحية الاستراتيجية، عندما وجهتها نحو الشرق الأوسط وهو المساحة المكشوفة بين آسيا وكتلها البشرية الكبيرة (الصين والهند) ـ وبين أوروبا (ودولها الصناعية القوية)، وبالتالى تحقق الاختراق نافذا حتى النخاع. ـ ثم إن هذا النفاذ تمثل فى انتشار عسكرى واسع مد يده ـ وقدمه! ـ إلى أغنى منابع البترول (الذى أكد نفسه، رغم شكوك راودت البعض، باعتباره السلعة الأكثر ندرة والأكثر قدرة على الوفاء بمطالب التقدم والرخاء ـ على الأقل حتى ثلث القرن الجديد). ـ ومع أن هذا النفاذ حقق مطلبه بواسطة تحالف دولى واسع ـ فإن الولايات المتحدة كانت هى التى رصت أطرافه، وتقدمت صفوفه، ونظمت خُطاه، وضربت باسمه، وقد مشى هذا التحالف وراءها مسلما لها بالقيادة ـ مبهورا بما ظهر من أدوات قوتها سواء بومض النار أو بوهج الأفكار يشيعها إعلام تفوق فى استعمال إلكترونيات توجيه وتركيز السلاح، وبنفس الدرجة فى نقل ونشر الصور، وكان سابقا فى الحالتين! ـ زاد على ذلك أن النفاذ الأمريكى استطاع أن يعثر على ذرائعه القانونية والأخلاقية، لأن تلك الحرب فى الخليج سنة 1991 بدت لكثيرين حرب تحرير لبلد صغير أغار عليه جار أقوى منه، وذلك أثار فزعه ودفعه إلى طلب النجدة من مصادرها، وقد وصلت النجدة بالفعل إلى طالبها قبل أن يوجه طلبه كتابة أو شفاهة ـ لأن خطا أحمر وقع تجاوزه، وذلك أخطر من حق الجيرة ومن حق القانون معا! ـ وعليه كان التقدير ـ أن «جورج بوش» (الأب) على خلفية حرب تحرير الكويت، سوف يحصل يقينا على رئاسة ثانية تتم فيها عملية التعزيز الإمبراطورى وتأكيد ثلاثة أهداف: * سيطرة أمريكية مطلقة فى العالم، غير قابلة للمناقشة أو التحدى (الآن وفى المستقبل أيضا). * سيطرة مباشرة على منابع النفط تتحكم فى إنتاجه وتقنين استهلاكه (سواء بضبط الحصص أو توجيه جزء من الموارد للبحث عن بدائل، لأن النفط مورد مستنفد وما هو معروف عن مخزونه يغطى نصف هذا القرن بالكاد). * ونفاذ غائر وراسخ فى منطقة هى على الخريطة ـ قلب العالم ومفترق طرقه البرية والجوية والبحرية ولا تزال (لأن التكنولوجيا مهما حققت لا تستطيع إلغاء الجغرافيا، باعتبارها الجسم الطبيعى لكوكب الأرض مهما قال وقيل). .................
................. لكن غير المتوقع يحدث دائما (باستعارة عنوان قصة مشهورة لأندريه موروا) ـ وذلك ما جرى حين خسر «جورج بوش» (الأب) معركته الانتخابية وسقط أمام مرشح آخر مجهول من ولاية «أركانساس» أطلق شعارا سحريا لمس فيه نبض الشعب الأمريكى بقوله «إنه الاقتصاد يا غبي» ـ موجها الخطاب بالطبع إلى الرجل الحالم بتعزيز الإمبراطورية الأمريكية دون أن يتنبه إلى أن الاقتصاد الأمريكى متعب مرهق، فقد خرج من الحرب الباردة مستنزفا، بشاهد أن الولايات المتحدة أصبحت أكبر بلد مدين فى العالم، كما أن ظاهر رخائه يعود فى صلبه إلى أن أموال الآخرين تدفقت عليه بحثا عن ملاذ بعيد ـ يمكن أن يكون آمنا (وضمن هذه الأموال فوائض البترول). وقد نجح «كلينتون» ـ لكن المشروع الإمبراطورى الكبير الذى تجلى لإدارة «جورج بوش» (الأب) ولأقطابها لم يسقط، فلم يكن ذلك المشروع هو المطروح على الناخبين ـ لأن المشروعات التاريخية الكبرى أوسع من الضرورات اليومية المؤثرة مباشرة على صناديق الاقتراع! ومن المفارقات أن الخطوط الرئيسية للمشروع الإمبراطورى كتبت «وثيقة» على الورق فى شهر مارس سنة 1992، أى بعد دخول «كلينتون» إلى البيت الأبيض بخمسة أسابيع، وتحت إشراف وزير الدفاع السابق «ريتشارد تشيني»، وكان القائم على صياغتها معاون مقرب منه هو «زالماى خالد زاده» (وهو الآن مبعوث الرئيس «بوش» (الابن) للإشراف على ترتيب الأوضاع فى أفغانستان ـ وقد انتقل أخيرا إلى مهمة أخرى هى العراق قبل حرب أمريكا ضده وبعدها). وحتى هذه اللحظة وبعد إحدى عشرة سنة من كتابة تلك الوثيقة، فإن قراءتها (وهى مدرجة فى ملفات مجلس الأمن القومي) ـ يظل مفيدا وكاشفا لكثير جرى من وقتها وحتى الآن. وتقول الوثيقة فى مقدمتها بالنص: «إن الولايات المتحدة الأمريكية عليها أن تعمل بكل جهدها حتى تتأكد من أن أى قوة منافسة (أو صديقة) فى أى مكان فى العالم ـ لن تبلغ مكانة توازى مكانتها فى القوة وعواملها. إن هذه المهمة فى مقدور الولايات المتحدة وهى تستطيع أداءها عندما تتصرف باسم القوى الصناعية الكبرى فى العالم ـ بعد إقناع تلك القوى بأن الولايات المتحدة سوف تراعى مصالحها المشروعة وتحميها بقوتها العسكرية الغالبة، وعلى هذا الأساس فإن الولايات المتحدة مطالبة بإيجاد الآليات التى تضمن ردع أية قوة منافسة لها ورد طمعها ـ أو طموحها ـ إلى القيام بدور إقليمى أو عالمى أكبر. وعلى مثل هذه القوى الطامعة ـ أو الطامحة ـ إلى أدوار كبيرة ومنها ألمانيا واليابان وروسيا والصين ـ أن تفهم مبكرا أن أية محاولة من جانبها لدخول مجال الأسلحة النووية أو زيادة ترسانتها على ما هو موجود فيها ـ سوف تلقى مقاومة شديدة تتولد من الشك فى نواياها ودواعيها إلى زيادة قوتها العسكرية، وحينئذ فإن مثل هذه القوى لابد أن تفهم أن ذلك سوف يضعها ـ سواء قصدت أو لم تقصد ـ على طريق «صدام» مع الولايات المتحدة، وعليه فإن الولايات المتحدة لابد أن تظهر استعدادها مبكرا لمنع أية درجة من درجات الانتشار لأسلحة الدمار الشامل ـ لكى يتأكد للجميع تصميمها على اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمواجهة مثل هذه الاحتمالات، سواء كان ذلك بطريقة جماعية أو بطريقة منفردة». ......................
...................... [ومؤدى الموضوع فى هذه النقطة أن حدود السلاح لدى أى دولة فى العالم اليوم، هى حدود ما هو موجود لديها الآن فعلا، ولا يحق لدولة منها أن تتجاوزه، وهنا يتكشف أن العالم أمام مشكلة على الطريق بعيدا عن العراق ووراءه، وأن هناك مضاعفات واسعة المدى تترتب عليها ـ ولعل تلك معركة الغد وما يليه]. .................
................. وكانت إدارة «بيل كلينتون» بحقائق الأشياء ـ واعية بأهمية المشروع الإمبراطورى الأمريكى، مطلعة على وثائقه ـ لكنها كانت عازمة على تحقيقه بمزاجها وليس بمزاج أصحابه الجمهوريين الأصليين، ولدى إدارة «كلينتون» فى ذلك سببين: * من ناحية لأن تلك الإدارة أعطت الأولوية للاقتصاد (وبلغت فى شأنه درجة مقبولة من النجاح). * ومن ناحية أخرى لأن إدارة «كلينتون» آثرت أن تتخذ مع بقية العالم أسلوبا أكثر نعومة (يعتمد الحرير بديلا عن الحديد). .................
................. [والحقيقة أن «كلينتون» كان خليطا من متناقضات شديدة، بعضها يشده إلى النجاح وبعضها يقعده مع الفشل: * فهو من الأول شاب ذكى، موصول إلى درجة كبيرة بروح عصره، وذلك تجلى فى برامجه الاجتماعية التى أعطت الولايات المتحدة فرصة لاستيعاب التحولات التكنولوجية الهائلة دون ضغط على أعصاب الناس أو على مستوى معيشتهم أو على فرصهم فى العمل. وهنا فإن إدارته حققت أدنى نسبة بطالة وأعلى نسبة فائض فى الميزانية (رغم استمرار التزايد فى الدين العام الأمريكي). * يلى ذلك أن «كلينتون» أدرك أن مشروع أمريكا الإمبراطورى يصعب تنفيذه بتجاهل أوروبا (أو كتل آسيا البشرية الكُبرى التى سارعت تلحق بأسباب التقدم)، وكذلك استقرت إدارة «كلينتون» على أفضلية السماح بقيام مجلس إدارة لشئون العالم له رئيس وعضو منتدب يمثل أغلبية أسهم الشركة الدولية، وذلك يعنى حضور أوروبا وكتل آسيا الضخمة فى المشاورات والإجراءات (وإلى درجة ما فى القرارات) ـ وتظل الكلمة الراجحة لرئيس المجلس والعضو المنتدب، وهذا ترتيب لا يتجاهل حصة الأقلية أو يهملها، وفى حساب إدارة «كلينتون» أن نجاح المشروع الإمبراطورى الأمريكى يلزمه تجنب إثارة الشكوك ـ وتقليب مواجع أطراف إمبراطورية أوروبية سابقة مازال لها حتى هذه اللحظة تأثير فى القارة وعبر البحار. * وبعدها كانت إدارة «كلينتون» متفقة على أن النداء الذى يستطيع إقناع الكل بقبول دور متميز للولايات المتحدة هو التصدى للإرهاب الذى تتفاقم مخاطره (مع ظهور انقسام طبقى حاد على مستوى الدنيا بين أغنياء وفقراء وبين متقدمين ومتخلفين)، وفى تقدير الإدارة الأمريكية (وقتها) أن الحرب ضد الإرهاب تستطيع المحافظة على تحالف عالمى واسع يستقطب كثيرين ـ حتى من الفقراء والمتخلفين ـ ثم إنه تحت مظلة الحلف المعادى للإرهاب يمكن فتح الساحة أوسع كل يوم لقرار أو فعل أمريكى يضيف إلى قدرة الإمبراطورية الجديدة دون أن يستثير حساسية الآخرين، خصوصا وأن كثيرين فى مجتمع الدول يسلمون بأن الإرهاب يحتاج إلى يد طولى تقدر على الوصول إلى أى مكان فى العالم ـ أى وقت من الليل أو النهار، وذلك متوافر لأمريكا قبل أية قوة دولية غيرها!] .................
................. فى ذلك كله (مما سبق) كانت إدارة «كلينتون» حريصة وواعية، لكن عُقدة تلك الإدارة ـ أن شخصية رئيسها لها جانبها الرمادى، فهو أثناء صعوده إلى القمة عقد أحلافا كثيرة مع الشياطين ـ طاردته أشباحها حين كان حاكما لولاية «أركانساس» ـ ثم لاحقته عندما انتقل إلى البيت الأبيض رئيسا للولايات المتحدة (وبين الأشباح علاقات منافع متبادلة مع أموال مشبوهة ورجال أعمال يقترب إصرارهم على الثراء من حدود الجريمة). وزاد أن التكوين الإنسانى لكلينتون وظروف نشأته الأولى فى بيت محطم، مع أم لم تستطع أن تحدد له على نحو قاطع من كان أبوه ـ عرضته لتناقض فى المعايير ما لبث أن طغى على رئاسته وكسح إيجابياتها. .................
................. وفى مدة الرئاسة الثانية لإدارة «كلينتون»، وبينما الرئيس شبه معوق بمحاولات عزله، وشبه مجروح باضطراره للدفاع عن نفسه أمام شعبه وأمام شعوب العالم ـ يحاول شرح الفارق بين جنس كامل وجنس غير مكتمل (والناس فى كل أرجاء الأرض يسمعون ويضربون كفا بكف ولا يصدقون آذانهم!) ـ بدت واشنطن حاملة طائرات ضخمة جنحت على الصخور!. وعندها بان لمن يشغلهم «الشأن الإمبراطوري» أن إدارة «كلينتون» لا تقدر على المهمـة الإمبراطورية، وأكثر من ذلك لا تُؤْتَمَنْ، وبالتالى فإن عليهم مسئولية استعادة الزمام إلى أيديهم. ولأنهم كانوا بعيدين عن الإدارة (هم جمهوريون وهى ديمقراطية) ـ فقد صرفوا الجزء الأكبر من جهدهم فى النصف الثانى من تسعينيات القرن العشرين فى البحث والدرس وصياغة المشروعات والدعوة لها ـ على أمل أن تجيء إدارة جمهورية (تملك فرصة للفوز إذا استطاعت حملتها الانتخابية استغلال عيب الضعف الإنسانى الذى شاب إدارة «كلينتون» بنفس القوة التى استغلت به حملة «كلينتون» ذلك الضعف الاقتصادى الذى عاب إدارة «بوش» (الأب) ). وظهرت عدة بؤر تجمع فيها دعاة المشروع الإمبراطورى الأمريكى المؤمنين بقدره المكتوب والمؤهلين للتنظير له، والساعين لتحقيقه كمهمة مقدسة. وكذلك ظهرت على الساحة الأمريكية وفى مواقع النفوذ (وإن لم يكن فى دائرة السلطة) ـ وفى مراكز التأثير (وإن لم يكن عند موقع القرار) ـ جماعات معنية بالأمر راحت تسابق بعضها: كانت البؤرة ـ الجماعة ـ الأولى هى الغلاة من دعاة الإمبراطورية ـ رجال من أمثال «دونالد رامسفيلد» (وزير الدفاع الحالي)، و«ريتشارد بيرل» (مدير التخطيط الاستراتيجى فى وزارة الدفاع الذى اضطر لتقديم استقالته قبل شهر بسبب فضائح مالية ثبت فيها استغلاله لمنصبه) ـ و«بول وولفويتز» (نائب وزير الدفاع الحالي) ـ وكلهم من أقطاب إدارة «بوش» (الأب) وأركانها ونجومها، وهؤلاء ركزوا على بند إحكام السيطرة السياسية والعسكرية على الشرق الأوسط. والسائد فى اعتقادهم أن «إسرائيل» هى الدعامة الرئيسية لخططهم فى تلك المنطقة، لأن الشرق الأوسط فيه دولتين لديهما المؤهلات اللازمة لخدمة مشروعهم: * الأولى: إسرائيل لأنها دولة تملك الكفاءة (فى حين أن الدول العربية المحيطة بها حسب تعبير «رامسفيلد» هى فى أحسن الأحوال أراضٍ عقارية مازالت خالية وبعضها خرائب!!) ـ وذلك التقدير أدى بأصحابه تلقائيا وبالعاطفة والعقل معا ـ إلى تحالف مع أكثر العناصر تشددا فى إسرائيل، أى أن أصحابه أصبحوا جميعا مؤيدين لحزب الليكود، وأنصارا لزعيمه الحالى «آرييل شارون». (وقد كتب أحد الأقطاب من غلاة هذا التيار وهو «ويليام سافير» (من أبرز كتاب جريدة نيويورك تيمس) ـ مقالا أورد فيه «أنه لا يستطيع أن ينام الليل مستريحا إلا بعدما يسمع صوت «شارون» على التليفون ثم يغمض عينيه!). * وأما الدولة الثانية التى يمكن الاعتماد عليها فهى «تركيا»، لأنها بالحجم أقوى دولة فى الإقليم، وفى نفس الوقت فإنها ليست عربية، وإنما على الحافة الموازية للعالم العربى، ولأن السلطة فيها للقوات المسلحة بنص الدستور، فإن القرار التركى يجيء أقرب إلى «الانبهار» بالتكنولوجيا حيث تتفوق أمريكا و(إسرائيل) ـ وأبعد عن «الالتزام» بالتراث الذى يجمع تركيا بالثقافة مع العرب. ومن وجهــة نظـر أقطاب هذه البؤرة ـ الجماعة ـ فإن «تاج» الشرق الأوسط يمكن تثبيته على رأس الإمبراطورية الأمريكية بعملية تصفية نهائية لمؤثرات عربية قومية قد تعاودها أحلام قديمة لم يعد لها الآن مجال، وتأمين ذلك يقتضى إجراء عملية جراحية واسعة فى العالم العربى تغير أفكاره وتوجهاته ـ وتغير قيمه ومعتقداته، حتى إذا اقتضت الجراحة زرع قلب جديد، يقبل به الجسم العربى ـ فكرا وفعلا ـ مهما كانت درجات الحساسية والمقاومة والرفض ـ وإذا أصر الجسم العربى على العناد، فإن الجَرَّاح القائم على زرع القلب مخول بتوقيع شهادة وفاة! وكانت البؤرة ـ الجماعة ـ الثانية من أقطاب صناعة «البترول»، وبينهم «جورج بوش» (الأب)، و«جيمس بيكر» (وزير خارجيته)، و«ريتشارد تشيني» (وزير دفاعه، والآن نائب الرئيس)، وكان إجماع هؤلاء أن «البترول» هو المستقبل المنظور (حتى يجيء اختراق تكنولوجى يوفر بديلا للطاقة بسعر اقتصادي) ـ وكذلك كان رأيهم أن «المشروع الإمبراطوري» الأمريكى لا يمكن إسناده بغير سيطرة كاملة على موارد البترول. وكان الإطار الذى التقى فيه أقطاب هذه الجماعة للبحث والدرس هو مكاتب وقاعات المركز الذى أنشأه «جيمس بيكر» فى «هيوستون» (عاصمة تكساس) «لاســتراتيجيات البترول» ـ و(«بيكـر» لا يزال يديره حتى الآن)، ومن المُلاحظ أن كاتبى التقرير الأول لهذا المركز سنة 2000 اختاروا تصديره بمقدمة لها معنى، منقولة عن نص قديم ـ من سنة 1950 ـ كتبه السفير الأشهر فى الدبلوماسية الأمريكية «جورج كينان» يقول فيه بالنص: «إن الشعب الأمريكى يمثل 6.3% من سكان العالم، لكنه يستهلك 60% من بترول هذا العالم، والمهمة الأولى للاستراتيجية الأمريكية تقتضى المحافظة على هذه النسبة مهما كانت ظالمة للآخرين والعمل على فرضها بكل الوسائل، دون أن تخدع نفسها بأية أوهام عن مبادئ العدل والمساواة حتى لو اضطرت فى سبيل ذلك إلى استعمال قوة السلاح، لأن المبادئ تخاطب الضمائر ـ والحقائق تصنع الحياة!». وكانت أبرز الحقائق كما يظهر فى الخطوط الاستراتيجية المطروحة للبحث فى إطار مركز «بيكر» ـ منطقا شديد التركيز: ـ الخيار الأكفأ للولايات المتحدة هو السيطرة على صناعة البترول (بكافة مراحلها). ـ والولايات المتحدة لم تعد تستطيع الاعتماد ـ كما فعلت ـ على مصدر رئيسى هو البترول السعودى ـ كما وقع بعد الثورة الإيرانية ـ ومع أن السعودية تملك أكبر مخزون احتياطى محقق، إلا أن الاعتماد على البترول السعودى (مع المطالب المالية المتزايدة لأصحابه) ـ يمكن أن تستنزفه بأسرع من أى حساب. ـ ومع ملاحظة أن بترول العراق (وبترول بحر قزوين) كلاهما لم يصل استغلاله إلى الحد الأقصى أو قريبا منه، فإن الاستراتيجية الأمريكية تستطيع إنشاء شبكة واحدة واسعة ومأمونة لبترول الشرق الأوسط يصب فيها بترول السعودية وغيرها من دول الخليج، مضافا إليها البترول العراقى، وبترول بحر قزوين (وبترول إيران بعد تصفية نظام الثورة الإسلامية) ـ فإن المستقبل يمكن ضمــانه «أمريكيا» للولايات المتحدة ـ وأمريكيا فوق بقية العالم. وكانت البؤرة ـ الجماعة ـ الثالثة هى دائرة مجلس السياسة الخارجية فى نيويورك وهو هيئة تساندها أكبر المصــالح المالية والتجارية والإعلامية فى الولايات المتحدة (من عائلة «روكفللر» ـ إلى بنك الاحتياطى الأمريكى ـ إلى بورصة الأوراق المالية فى نيويورك ـ إلى باحثين من مستوى «هنرى كيسنجر» و«زبجنيو برجينسكي» وحتى «كونداليزا رايس» (مستشارة «بوش» (الابن) للأمن القومي). وكانت هذه البؤرة تولى اهتماما خاصا بالاتحاد السوفيتى (وروسيا بعده) وبالصين، وبأوروبا ودولها الرئيسية مثل فرنسا وألمانيا، إلى جانب حزام الزيتون على شاطئ البحر الأبيض جنوب أوروبا (إيطاليا ـ أسبانيا ـ اليونان). وبرغم علاقات القرب بين أوروبا وأمريكا، فإن مجلس السياسة الخارجية تولد لديه «هاجس» «أن أوروبا هى القوة التى تستطيع أن تبدأ بتحدى التفرد الأمريكى بالنفوذ فى العالم». والدواعى كثيرة: ـ بينها أن أوروبا لها مصالح حيوية فى الشرق الأوسط ـ حيث تريد الولايات المتحدة أن تنفرد بالسيطرة. ـ وأوروبا تعتمد على بترول الشرق الأوسط فى أكثر من 85% من استهلاكها، ومن الصعب عليها القبول باحتكار أمريكى يمسك به ويحكم القبضة عليه. ـ وأوروبا بلدان قريبة عهد بالمجد الإمبراطورى ـ لم تنس مكانة سابقة عاشتها ثم تخلت عنها الحظوظ فأضاعتها، ومع أنها اعترفت للولايات المتحدة بحق القيادة فإنها غير مستعدة بعد للاعتراف لها بحق التفرد. ـ وأوروبا يسودها اعتقاد بأنها راكمت من الحكمة مخزونا يزيد فى تأثيره عما راكمته أمريكا من قوة السلاح. ويظهر أن فريقا من الإدارة الجديدة فى واشنطن أراح نفسه بمختصر ـ غير مفيد ـ عبر عنه «رامسفيلد» بقوله: «إن أوروبا قارة عجوز أرهقها الزمن (الذى تسمى عمرها فيه حكمة)، وأقعدها التردد (الذى تسمى استسلامها لضوابطه فكرا)، وعليه فإن الولايات المتحدة يحق لها أن تتصرف وتترك أوروبا تمارس الحكمة والفكر ـ كما يحلو لها! وكان حساب هذا الفريق فى الإدارة الجديدة أن دول أوروبا الكبيرة أصبحت مثل غيرها فى ملجأ الشـيخوخة يهمهـا أن تقضى بقية عمـرها فى أمان مدخراتها ـ ومن أجل تأمين هذه المدخرات فهى على استعداد للاستثمار فى أى مشروع رابح، وعندما تصبح الإمبراطورية الأمريكية كذلك ـ فإن أوروبا مهما كانت دواعى حذرها وأسباب شكها ـ سوف تهرع للاستثمار فيها على عجل حتى لا تتعرض مدخراتها للتآكل. وإذن فعلى الإمبراطورية الأمريكية أن تتمسك بمشروعها الأكبر، وتترك أوروبا مع «حساباتها الصغيرة» (حكمة وفكرا)! كانت هذه البؤر الثلاث ـ (جماعات المشروع الإمبراطورى ـ وصناعة البترول ـ وأصحاب الفكر والتنظير للاستراتيجيات والسياسات) ـ وربما بؤر وجماعات أخرى تدرس وتستعد لعصر ما بعد «كلينتون» حتى يستأنف «المشروع الإمبراطوري» مسيرته أشد حزما وأسرع اندفاعا فى ظل إدارة ترعاه ـ جمهورية وليست ديمقراطية بالتأكيد! وكانت وساوس أصحاب المشروع الإمبراطورى أن «إنجاز» إدارة «كلينتون» فى مجال الاقتصاد، ربما يستطيع مساعدة نائبه «آل جور» فى انتخابات الرئاسة سنة 2000 ـ كما أن «آل جور» وجه معروف باعتباره النائب الحالى للرئيس، وأى نشاط له خبر، وهو يجاهد ليحتفظ لنفسه بمسافة بُعْد مناسب عن فضائح رئيسه. وفى الاستعداد لملاقاة الحزب الديمقراطى و«آل جور» على مقدمة الصورة فعلا ـ ظهر فى الحزب الجمهورى رجال رشحوا أنفسهم، لكنهم لم يصمدوا للتجربة: * فكر «ريتشارد تشيني» (نائب الرئيس الحالي) فى ترشيح نفسه اعتمادا على شـخصيته المليئـة بالحيوية وقت أن كان وزيرا لدفاع «جـورج بوش» (الأب) أثناء حرب الخليج ـ لكن «تشيني» تردد لأسباب عديدة فيها السبب الصـحى (علل القلب) وفيها ـ وهو الأهم ـ أنه لا يريد تعريض نفسه وأسرته لعملية «العرى المالى والإنسـانى والشخصي» التى يتعرض لها أى مرشـح للرئاسة وإذا حياته «ميدان رماية» مفتوح (كذلك تعبيره) لأية قناة تليفزيونية أو إذاعية أو أى صحيفة أو مجلة أو أى مخبر أو «كاتب عمود»! * وفكر «دونالد رامسفيلد» (وزير الدفاع الحالي) أن يرشح نفسه ثم تراجع لنفس الأسباب تقريبا. * وفكر بعضهم فى ترشيح «كولين باول» الذى اكتسب سمعة رجل متزن، صاحب تجربة نضجت فى ميادين القتال (فيتنام)، والسياسة (مساعدا لكيسنجر فى البيت الأبيض)، والاستراتيجية (رئيسا لهيئة أركان الحرب المشتركة) ـ لكن «كولين باول» بعد أن وافق من ناحية المبدأ عاد وتراجع عن التنفيذ بضغط شكوك ألحت عليه: ـ بينها تخوفه أن يكون ترشيحه (وهو ملون) مناسبة لإذكاء قضية التفرقة العنصرية، بحيث يجد نفسه إذا فاز أمام معضلة التعامل مع مؤسسة بيضاء، وإذا سقط وسط غضب الملونين قد يتحول إلى فتنة ساخنة. ـ وبينها تحسبه لعبء جمع التبرعات اللازمة لإدارة حملته الانتخابية، فالتكاليف باهظة (ثلاثة بلايين دولار) ـ وجمع التبرعات يحول المرشح رهينة للمتبرعين (بحقهم فى اســترداد ما دفعــوه)، وهــو يخشى أن لا تتمكن حملته (بسبب لونه) من أن تجمع ما هو كافٍ للصرف عليها، وتشهر إفلاسها قبل أن يحل يوم الاقتراع. ـ وأخيرا ضغط مارسته عليه زوجته («آلما») التى رفضت الفكرة أصلا، لأنها تخاف عليه من متطرف أبيض ـ يكرر معه ما حدث للزعيم الزنجى «مارتن لوثر كنج»، و«آلما» فى النهاية تريد زوجها معها حيا فى البيت ولا تريده شهيدا بعيدا عنها فى القبر! وساعد على تردد «كولين باول» إحساسه بأن «جماعات الإمبراطورية» تقبــل به على مضــض، لأنه ـ فى رأيهم ـ طبعة (أمريكية غامقة) من شخصية «هاملت» فى مسرح شكسبير ـ رجل مُعَذَّب بالحيرة، تتجاذبه الهواجس وتسـتغرقه التصورات، وكعادة هذا النوع من الشخصيات فإن ترددهم فى الفعـل يسـتهلك استعدادهم للقيادة، وهى فى النهـاية حسـم بين البدائل وقرار! وكذلك فإن «كولين باول» أعفى نفسه ـ وأعفى غيره ـ من ترشــيح نفسه، وأعلن رسميا أنه خارج السباق الانتخابي! اســـتقرت إدارة «كلينتــون» على أفضلية السماح بقيام مجلس إدارة لشئون العـالم يمثل أغلبية أسهم الشــركة الدولية، وذلك يعنى حضور أوروبا وكتل آسـيا الضخمة فى المشـاورات والإجـراءات (وإلى درجة ما فى القرارات) ـ وتظل الكلمة الراجحـــة لرئيس المجــلس والعضــو المنتدب أى الولايات المتحدة الأمريكية «الشعب الأمريكى يمثل 6.3% من سكان العالم، لكنه يستهلك 60% من بترول هذا العالم، والمهمة الأولى للاستراتيجية الأمريكية تقتضى المحافظة على هذه النسبة مهما كانت ظالمة للآخرين والعمل على فرضها بكل الوسائل، دون أن تخدع نفسها بأية أوهام عن مبادئ العدل والمساواة ثـانيـــا: «دوبيــا» يولــد مــن جـديد أمـــــام المـــرآة! وعلى خلفية هذه الساحة المزدحمة، تمكنت النخبة الإمبراطورية داخل الحزب الجمهورى وحوله ـ من وضع مسودة أولى شبه كاملة للمشروع الإمبراطورى ومعها تحديد إطار لتوجهاته وحركته. * كان واضع المسودة الأولى ـ فريق عمل محدود ومتحمس يضم (طبقا لتحقيــق قام عليــه «روبــرت نوفاك» ـ أحد أشهر وأكفأ الصحفيين الأمريكيين) ـ كلا من: «ريتشارد تشيني» (نائب الرئيس الآن) ـ «ودونالد رامسفيلد» (وزير الدفاع الآن) ـ و«ريتشارد بيرل» (مدير الخطط الاستراتيجى لمجلس الدفاع القومى الآن) ـ و«بول وولفويتز» (نائب وزير الدفاع الآن) ـ و«دوج فايث» (وكيل وزارة الدفاع الآن) ـ و«جيمس وولسلي» (رئيس المخابرات المركزية سابقا) ـ و«ريتشارد أرميتاج» (نائب وزير الخارجية الآن) ـ و«فرانك كارلوتشي» (وزير الدفاع سابقا). وقد تولت السكرتارية العامة لفريق العمل السيدة «كونداليزا رايس» (مستشارة الرئيس للأمن القومى الآن). * وكان إعداد هذه المسودة الأولى (وفق تحقيق «نوفاك» وآخرين غيره) ـ قد انتقل ابتداء من صيف سنة 1997 ـ أى مع اقتراب (موسم الحملات الانتخابية) من مركز «جيمس بيكر» لدراسات البترول فى هيوستون (عاصمة تكساس) إلى البيت الصيفى للرئيس «جورج بوش» (الأب) «كينيبنكبورت» على شاطئ ولاية «ماين». والداعى أن الرئيس «جورج بوش» (الأب) أصبح الراعى والحامى لهذه الجماعات ـ بداعى جملة من الملابسات: ـ فهو نائب الرئيس «ريجان» الذى كسر إمبراطورية الشر السوفيتى. ـ وهو الرئيس الذى خلف «ريجان» ـ ثم بدأ فى عهده وضع إطار الحلم الإمبراطورى الأمريكى وتوفير أدوات تحقيقه. ـ وهو الرئيس الذى قاد الخطوة الافتتاحية الرئيسية فى المشروع ببناء تحالف حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت. ـ وهو أيضا السياسى الذى يملك خبرة متشعبة، فقد شغل «بوش» (الأب) عدة مناصب عُليا: مديرا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وسفيرا للولايات المتحدة فى الصين، وبعدها نائبا لرئيس الولايات المتحدة، ثم إنه بالمولد والأصل من أسرة بنت ثروتها وراكمتها من صناعة البترول، وبالتالى فإن خبرته وافية ومعرفته مباشرة واصلة إلى النواحى التى يمكن أن يتحرك فيها المشروع الإمبراطورى. ـ علاوة على ذلك فإن «جورج بوش» (الأب) هو الذى أنشأ فى البيت الأبيض مجموعة إدارة الانتشار الإمبراطورى بعد حرب الخليج الثانية، وكان أمله أن يستكمل المشروع فى رئاسته الثانية، ثم إنه مثل غيره من أركان إدارته خرج من منصبه الرئاسى، ولم يخرج من مشروعه الإمبراطورى، وهو يستطيع أن يواصل خدمة المشروع ـ بالرعاية والحماية ـ ولديه فوق الأسباب العامة ـ دوافعه الشخصية: ـ فهو فى أعماق قلبه يحس بجرح، لأن مرشحا شابا مجهولا من أركانساس ـ «بيل كلينتون» ـ هزمه فى الانتخابات، رغم أنه («جورج بوش» (الأب) ـ الرجل الذى قاد أمريكا إلى النصر فى عاصفة الصحراء. ـ وهو فى جزء من جهازه العصبى يشعر بحافز يلح عليه فى ضرورة استئناف دوره (على نحو أو آخر) ـ لأن المشروع الإمبراطورى مازال يطغى على عقله وقلبه (رغم اعتزاله السياسة فى أعقاب فشله الانتخابى المدوي). ـ ثم إن كل الذين شاركوه فى المشروع الإمبراطورى ـ يدفعونه إلى درجة التحريض، بحجة أن عليه مسئولية تاريخية لا يملك أن يتخلى عنها ويتركها (خصوصا لهذا المتورط فى الخطيئة، الجالس بدلا منه ـ دون استحقاق ـ فى البيت الأبيض ـ «بيل كلينتون»!). ـ وأخيرا فإن «جورج بوش» رجل غنى ـ راكمت أسرته ثروة طائلة من صناعة البترول فى تكساس، وقد عززت الأسرة هذه الثروة بعلاقات فى العالم العربى ـ توثقت أواصرها واتسعت تعاملاتها بعد حرب الخليج الثانية، وهذا الغِنى وما يحيط به يساعده ويكاد يدفعه دفعا إلى أداء دور الراعى والحامى لمشروع الإمبراطورية. وقضى «فريق العمل» سنة كاملة فى بيت «جورج بوش» (الأب) يجدد خطة المشروع، ومرة ثانية تم تجهيز تقرير نهائى وقعه ـ أيضا! ـ «ريتشارد تشيني» (نائب الرئيس الآن)، وهو فى الحقيقة خلاصة جهد مشترك لكثيرين، وكانت الخطوط الرئيسية محددة ـ وأحيانا بالتفصيل: 1 ـ الحزب الجمهورى لابد له أن «يمسك» من جديد Recapture) ) موقع رئاسة الولايات المتحدة مرة أخرى، لأنه الحزب المهيأ لمهام الزمن القادم، وفى نفس الوقت صاحب الرؤية الأوضح لمهام ذلك الزمن القادم. 2 ـ الرئاسة القادمة عليها أن تدرك بعمق أن الولايات المتحدة الآن فى وضع فريد لم يتح لأى قوة غيرها فى التاريخ، فلديها الآن شبه تفرد بالنفوذ، لأن انهيار الاتحاد السوفيتى واختفاؤه جعلها قادرة على «نشر قيمها» وترسيخ مسئوليتها عن «حماية هذه القيم»! 3 ـ الولايات المتحدة على عهد «ريجان» و«بوش» (الأب) تمكنت من الإمساك باللحظة التاريخية واستغلت الإمكانيات المادية والمعنوية للحفاظ على تلك اللحظة، وذلك ما ينبغى استئنافه مع الرئاسة القادمة والتمسك به وعدم التفريط فيه. 4 ـ الإدارة الجمهورية القادمة عليها أن تمارس دورها فى الدفاع عن المصالح الأمريكية والتمكين لها بغير «قيود» لا تستوجبها «ضرورات حقيقية»، بل إن الإدارة الأمريكية القادمة يحق لها «وحدها» توصيف المصالح الأمريكية دون اعتبار لغيرها، وهى مطالبة بالعمل على مسئوليتها سواء من داخل الأمم المتحدة أو من خارجها. 5 ـ الولايات المتحدة فى ممارستها لمسئوليتها الحالية يصح لها أن تتشاور مع غيرها من الأطراف الدوليين، على أن تحتفظ لنفسها بحق التصرف منفردة إذا وجدت ذلك ضروريا. 6 ـ التصدى لخطر الإرهاب (حتى بميراث إدارة «كلينتون» الحالية) ـ هو النداء الذى يمكن حشد القوى الكبرى عليه (والصغرى أيضا)، وهذا النداء مازال قادرا على تحقيق حشد عالمى، لأن الكل معرض لخطر الإرهاب. والولايات المتحدة قبل غيرها مكلفة بالقيادة فى مجاله لأنها الأكثر تعرضا لضرباته، وذلك يوفر لها ـ إلى جانب حق الدفاع المشروع ـ داعيا أخلاقيا يضيف إلى مشروعية دورها القيادى. (كان «جورج بوش» (الأب) على عهد خدمته كنائب للرئيس «ريجان» مسئولا عن قضية الإرهاب ومكافحته، وكان مسئولا عن لجنة عليا شكلها «رونالد ريجان» لمتابعة وملاحقة ومواجهة «خطر العصر» كما كان يسميه!). والآن صيف سنة 1998 ـ بدا أن الخطوط والتفاصيل تحددت مواقعها على الصورة الشاملة للمشروع الإمبراطورى، غير تفصيل واحد مازال معلقا ـ رغم أنه بالغ الأهمية: شخصية الإمبراطور (القيصر)! وهنا ظهر «جورج بوش» (الابن) ـ ولم يكن ظهوره تلقائيا، ولا سهلا، مع أن الأمر تداعى إليه خطوة بعد خطوة دون تصميم سابق يُفَصِّل دور «الفاتح» على مقاسه: ـ فى البداية كان هناك واقع أن «استعادة الجمهوريين للبيت الأبيض» من جديد، جهدا يجرى فى إطار عائلة «بوش» أكثر مما يجرى فى المقر الرسمى للحزب الجمهورى، والمبرر أن الحزب أثناء رئاسة «كلينتون» الأولى فقد معنوياته من ناحية، بسبب سقوط مرشحه «بوش» (الأب) ـ ومن ناحية أخرى ضيع نفوذه بسبب ارتفاع شعبية «كلينتون» الذى تقدم بنجاح يعالج مشكلة الاقتصاد. ـ تلى ذلك أن «بوش» (الأب) ظل يستشعر مسئوليته أمام معاونين زينوا أمامه مشروع «تكريس الإمبراطورية» باعتباره رسالته المقدسة بعد أن أتم «رونالد ريجان» رسالة مقدسة سبقت وهى هدم إمبراطورية الشر السوفيتية، وقام بنفسه مدة رئاسته الأولى بوضع الأسس والقواعد لحجر الأساس، لكن الناخب الأمريكى انخدع فى «كلينتون» وأرسل «بوش» إلى المنفى بقسوة لم يكن لها تبرير! ثم إن هؤلاء المعاونين ظلوا قريبين منه يبحثون معه عن وسيلة للعودة بكل طريق إلى المفاتيح الذهبية للقرار (البيت الأبيض)، وقد ضاعت منهم عندما تركها «بوش» على مكتبه وخرج من البيت الأبيض (على عكازين!). ـ وبطبيعة الأمر فإن «عائلة بوش» وصناديقها المالية المختلفة قامت على تمويل الجماعات الإمبراطورية التى خرجت مع (الأب) من البيت الأبيض وأعانت تفكيرها وتدبيرها. ومع أن أفراد هذه الجماعات كانوا فى مواقع متميزة ماليا (مثل «ريتشارد تشيني» الذى يدير واحدة من أهم الشركات فى مجال خدمات البترول، وهى شركة «هاليبورتن»)، كما أن كثيرين منهم كانوا ومازالوا يعملون فى إطار بيروقراطية واشنطن الدائمة ونخبها المتميزة ـ إلا أن مظلة رعاية واحدة مطلوبة حتى تغطى الجميع، وكانت عائلة «بوش» مؤهلة لتقديم هذه المظلة الواحدة. ـ وفى إطار هذه الأجواء ـ مضافا إليها مؤثرات السقوط الأخلاقى الذى انزلق إليه «بيل كلينتون» وانكشف أمره خلال مدة رئاسته الثانية ـ فإن بعض المتعصبين من دعاة الإمبراطورية راحوا يبحثون عما إذا كان هناك سبب دستورى يحول دون ترشيح «جورج بوش» (الأب) نفسه للرئاسة من جديد ـ بشعور أن رجلهم لم يقض غير مدة رئاسة واحدة فى البيت الأبيض، ثم قطعتها مدتان لكلينتون ـ وربما أن إمكانية عودة «بوش» (الأب) مطلوبة (إذا كانت ممكنة) لاسترجاع الفضيلة (وهى فى ضمائرهم عودة مُلِحَّة للمشروع الإمبراطوري) ـ لكن البحث فى ترشيح (الأب) توقف بسبب غيبة السوابق حتى وإن غابت موانع الدستور، وبعد عناء بان أن استعادة الماضى محاولة يأس (ليس لديه غير تكرار نفسه) أكثر مما هى استحضار أمل (لديه رؤية على أفق جديد). ـ ولم يخطر ببال أحد قبل ذلك الوقت أن «جورج بوش» (الابن) يصلح مرشحا، لأن أوجه القصور فى شخصيته وثقافته وجاذبية حضوره تستبعده من أول نظرة. ومن المفارقات أن «الأم» (بربارة بوش) كانت أول من يسلم بعدم صلاحية ابنها لدور «قيصر»، بل إن ابنها ذاته («جورج بوش» (الابن) ـ الرئيس الحالى للولايات المتحدة) اعترف عندما روى قصة حياته (ونشرتها صحف العالم الكبرى وضمنها الصنداى تيمس) وقدم بنفسه جانبا من الأسباب التى جعلت الآخرين يتشككون فى صلاحيته لأى مسئولية على مستوى رفيع، وظل فى عرفهم «دوبيا» وليس «جورج». ...................
................... [وكانت والدته هى أول من أطلق عليه هذا الوصف، مستندة إلى الاسم الثانى له وهو «ويليام» (وحرفه الأول W)، وذلك لتمييزه عن والده «جورج» الذى اختار لابنـه الأكبر نفس اسمه، وكان الحرف الأول من الاسـم الثانى للابن وهو (W) الذى جرى تدليله بـ«دوبيا») هو الذى شاع فى الإشـارة إليه وليس «جــورج» حتى لا تلتبس الإشارات]. .................
................. وكان «بوش» (الابن) هو الذى «أمعن» فى الاعتراف بقصوره، قاصدا أن يكون الاعتراف كاملا (حتى يتحقق الغفران)، فقد روى «أنه ظل حتى تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره شابا لاهيا ـ عابثا ـ كسولا ـ عازفا عن العلم، خصوصا بعد أن حصل بالكاد على شهادة من جامعة «تكساس» أُلحق بها إجازة من جامعة «ييل» (يكاد يلمح إلى أن نفوذ أسرته أتاحها له بأكثر من جَدِهِ فى طلب العلم!). واعترف «بوش» (الابن) بعدها بأن ثروة العائلة وحياته بين «تكساس» (حيث مصالح الأسرة) ـ وبين واشنطن (التى قصد إليها والده بحثا عن فرص سياسية تحققت له) ـ أخذت منه الاستقرار العائلى وتركت له فراغا عاش فيه حياة غير مسئولة وصلت به إلى حد الإدمان الشديد على شرب الخمر نهارا وليلا، وكان ذلك يضايق زوجته «لورا»، ويسبب لها حرجا شديدا داخل بيت الزوجية وخارجه، فلم يكن يمر أسبوع إلا ودورية بوليس تستوقفه وتسحب رخصة قيادته، لأنه يقود سيارته مسرعا ومخمورا. ووصل الحال ببعض النوادى فى تكساس إلى حد منعه من دخولها، لأنه كل مرة يدخلها يثير «خناقة» لا داعى لها، أشهرها أنه قام فى إحدى المرات بتوجيه لكمات متوالية لزوج الصحفية الشهيرة «جودى وودروف» وهى من نجوم وكالة (C.N.N) وزوجها نفسه مسئول كبير فى إحدى المؤسسات الصحفية الكبرى فى تكساس) وكان دافع «دوبيا» إلى التهور أن إحدى صحف تلك المؤسسة أساءت إلى عائلته بسلسلة تحقيقات عن مصادر ثروتها! وأخيرا وصل «جورج بوش» (الابن) فى اعترافاته إلى وقائع ذلك اليوم الذى وُلد فيه من جديد ـ متحولا من شاب لاه، عابث، سكير ـ إلى مؤمن شديد الإيمان بعقيدته، وتقى شديد الولاء لكنيسته، ونادم على الذنب مستعصم بالتوبة، وهنا يصف «جورج بوش» لحظة ولادته من جديد فيقول: «ليلتها شربت كما لم أشرب من قبل، وفقدت وعيى، وحملونى إلى غرفة نومى لا أشعر بشيء حتى ظهر اليوم التالى، واستيقظت على صداع مروع، وذهبت إلى الحمام مترنحا لا أقوى على المشى، ورأيت صورتى فى المرآة وأحسست بما يشبه نزول صاعقة. اكتشفت أمام المرآة أنهم عندما حملونى إلى غرفة نومى ـ ارتميت على سريرى بملابسى التى كنت أرتديها، وكانت شديدة القذارة لأننى كما أدركت ـ أفرغت كل ما فى جوفى على سريرى وعلى ملابسى قبل أن تخمد حواسى وتغيب. وتحسست وجهى بيدى أمام المرآة، وإذا يدى متسخة ببقايا القيء التى لطخت وجهى وجفت أثناء نومى، وأصابنى منظرها فى المرآة أمامى بقشعريرة هزت كيانى، وأعدت النظر إلى صورتى، ووجدتنى أسأل المرآة قائلا: «دوبيا.. دوبيا ماذا فعلت بنفسك؟!»، ورُحت أصرخ أمام المرآة أعاهد الله ونفسى أن ذلك «لن يتكرر بعد الآن!»، ولم تصدقنى «لورا» (زوجته) بادئ الأمر، وظنته تأثير «لحظة» المرآة، وأننى بعد أيام عائد إلى ما أدمنت عليه، كذلك أيضا قالت والدتى، لكنى أثبت للجميع أنها توبة بلا عودة، وولادة جديدة لنفسى ولأسرتى ولروح السيد المسيح فى قلبي!». ومن وقتها حاول «دوبيا» أن يتخذ طريق الجد ـ وبدايته تجربة حظوظه (مولودا من جديد) ـ فى ترشيح نفسه حاكما لولاية تكساس، لأنها المحيط المباشر لنفوذ الأسرة، وكانت مفاجأة الجميع أنه فاز. وأغلب الظن أنه عندما بانت علامات الهداية وبُشرى الولادة من البداية ـ فإن كثيرين لم يأخذوا «دوبيا» (جورج بوش الابن) فى حسابهم وهم يبحثون عن «قيصر»! ـ لكنه مع مرور الوقت بدأ بعض أصحاب المشروع الإمبراطورى يسألون أنفسهم: «لم لا»؟ كان الصف الأول من المرشحين الذين تخطر أسماؤهم على البال طبيعيا مازالوا بين إقدام وإحجام، كلهم راوده الاحتمال وكلهم قرر العدول: «تشيني» ـ «رامسفيلد» ـ «كولين باول» ـ حتى «جيمس بيكر» (مع اختلاف أسباب كل واحد منهم فى الإقدام والإحجام). وعلى الجانب المقابل فإن الحزب الجمهورى الذى تشرد فى التيه ثمان سنوات، لم يكن فى حال تسمح له أن يطرح من صفوفه مرشحا يملك فرصة نجاح مؤكد أمام ديمقراطى هو الآن بالفعل نائب للرئيس (آل جور). وكان الأقطاب المشهود لهم داخل الحزب الجمهورى قد تساقطوا واحدا بعد الآخر، بما فيهم الرجال الذين لمعت أسماؤهم فى الحملة على «كلينتون»، وفيهم زعيم الأغلبية الجمهورية فى مجلس النواب «نيوت جنجريتش»، وفيهم كذلك الرجل الذى تولى إدارة معركة إدانة «كلينتون» فى مجلس الشيوخ وهو السناتور «فرانك لوت» زعيم الأغلبية الجمهورية، فكلاهما طاردته ظروفه ـ وطردته: أولهم وهو زعيم الأغلبية فى مجلس النواب الذى رفع لواء الأخلاق ـ تكشف أن له عشيقة (وفيما بعد طلق زوجته وارتبط بعشيقته واعتزل السياسة). والثانى كانت له مشاكل عالقة فى ولاية مسيسيبى (وهو بسببها لا يريد أن يضع نفسه تحت الأضواء الباهرة للحملات الانتخابية الصاخبة). إلى جانب أن أشهر أقطاب الحزب وهو السناتور «روبرت دول» أنهك قواه فى محاولات فاشلة لترشيح نفسه، حتى أصبح اسمه خامدا بلا إشعاع، ومن هذا الإحساس ـ حتى لديه هو نفسه ـ فإنه حاول الدعوة لزوجته «إليزابيث» مرشحة للرئاسة عن الحزب الجمهورى بدلا منه (ولم يكن ترشيحها مقنعا لأحد). ولم تكن «صحة» الحزب الجمهورى فى كل الأحوال مما يهم جماعة الإمبراطورية المحيطة بعائلة «بوش» ـ ولعلها استفادت من هذه الغيبوبة الحزبية، خشية بروز مرشح يتقدم الصفوف ومهيأ للفوز، ولعل هذه الغيبوبة للحزب كانت ملائمة أكثر لمطالب الجماعة، فالمطلوب من منظورهم ليس مجرد مرشح جمهورى يعود بالحزب إلى البيت الأبيض، وإنما مرشح جمهورى يمشى معهم إلى آخر الشوط! وكذلك تغير السؤال عن «دوبيا» بـ «لم لا؟»، وحل محله سؤال بـ «هل يستطيع؟»، وكانت هناك اعتبارات تزكى ردا على هذا السؤال الأخير بالإيجاب: ـ «دوبيا» لم يعد لديه ما يخفيه عن ماضيه (وذلك هاجس كل مرشح، لكن «دوبيا» سبق واعترف بكل شيء!). ـ «دوبيا» فى سن الشباب ويستطيع أن يتحمل عناء حملة انتخابية. ـ «دوبيا» لديه فرصة لاستثارة عطف الناخب الأمريكى الذى حرم والده من رئاسة ثانية (متاحة له بالدستور وكان يستحقها لولا معركة «إنه الاقتصاد يا غبي»، ولعل الناخب الأمريكى شعر بعد فضائح «كلينتون» أنه أساء الاختيار، وعليه واجب اعتذار يستطيع تقديمه للابن مادام لا يستطيع تقديمه للأب. ـ «دوبيا» وراءه أسرة ومصالح تستطيع أن تمول حملة انتخابية سوف تكون بالتأكيد «صعود جبل» لأنها ضد منافس فى موقع «نائب الرئيس»، وهو من هناك يملك ميزة أن أى كلمة يقولها تلفت الأنظار وتستوقف الاهتمام وتضع اسمه فى العناوين الرئيسية للصحف وملء شاشات التليفزيون! وأهم من ذلك كله: ـ «دوبيا» سوف يكون ـ إذا نجح ـ رئيسا «لينا» يترك الفرصة لمستشاريه وهم حملة مشروع رئاسته، ويسمع منهم وهو ليس غريبا عنهم، لأن معظمهم عرفه أيام رئاسة أبيه، وتابع عن قُرب حكاياته الكثيرة وآخرها حكاية الولادة من جديد، وهذه أمور لها توابع أولها أن كل مساعد أو مستشار للأب، يقدر أن يكون معلما للابن ومرشدا، وفى مطلق الأحوال صوتا مسموعا، وتأثيرا له وزن عند موقع القرار الأكبر فى السياسة الأمريكية (المكتب البيضاوي). ومع التكرار والحيرة، فإن السؤال بـ«لم لا؟» ـ ثم السؤال بـ «هل يستطيع؟» وجدا جوابا. السؤال الأول وجد جوابا يقول: دعونا نجرب. والسؤال الثانى وجد جوابا يرى أن «دوبيا» ربما كان أنسب الحلول، وكذلك جرى. وكان وصول «جورج بوش» بالفعل إلى البيت الأبيض معركة انتخابية شاقة وعنيفة، وأسوأ من ذلك مشوبة فى شرعيتها إلى درجة غير مسبوقة ـ تقريبا! ـ فى التاريخ الأمريكى. كان واضحا أن المنافسة بين «جورج بوش» (الابن) ـ و«آل جور» (نائب الرئيس) ـ مباراة بين الأقل سوءا وليس بين الأكثر قبولا، فكلا المرشحين مثقل بالحمولات من كل نوع، بعضها موروث («بوش» بمسحة الفشل الذى لحق والده، وبشعار «إنه الاقتصاد يا غبي» ـ و«جور» بلطخة ما فعله رئيسه فى المكتب البيضاوى وبعوالق ماض لوالده عاد يذكر نفسه). ثم إن بعض الحمولات مكتسب، («بوش» بالشك فى صلاحية شهادة ميلاده الجديد، وبحضور باهت لا يشد بصرا أو سمعا ـ و«آل جور» بمحاولة يائسة بذلها فى اللحظة الأخيرة بقصد توسيع المسافة بينه وبين رئيسه، قد حرمته هذه المحاولة من استغلال إنجازات رئاسة «كلينتون» الأولى ـ إلى جانب أن «آل جور» فى حد ذاته ظهر أمام الناس دائما وكأنه لوح من الخشب، وعندما نصحه الخبراء بأن يلين ويتحرك، فإن قصارى ما توصل إليه بدا صناعيا متكلفا مدهونا بزيت ملون لم يجف سائله بعد!). وكان تقدير الجميع أن نتيجة المعركة الانتخابية سوف تجيء متقاربة ـ كذلك تقول استطلاعات الرأى العام ـ وتؤكد الشواهد. والآن يعرف كل الناس أنه بحساب الأرقام فى ولاية فلوريدا ـ وهى آخر ولاية تم فرز صناديقها ـ أن عدد الأصوات الحقيقى كان يعطى الرئاسة لـ «آل جور»، لكن المجمع الانتخابى أعطى الرئاسة لـ «بوش» بسبب غياب عدة صناديق انتخابية تخلفت عن الفرز، لأن حاكم ولاية كاليفورنيا (وهو جيب «بوش» شقيق «دوبيا») تصرف بطريقة غريبة، فقد رتب لوضع خمسة صناديق بما فيها من تذاكر على سيارة شحن تنقلها إلى مركز الفرز، ثم قيل إن السيارة «تاهت» فى الطريق (ستين كيلومترا) ـ لمدة خمسة أيام، ثم نشأ نزاع وصل إلى المحكمة العليا، مع مصادفة أن معظم قضاتها من تعيين رؤساء جمهوريين (خمسة من أصل تسعة) ـ وعندها أعلن فوز «دوبيا» (جورج بوش الابن). وكان «جيمس بيكر» (أقرب الأصدقاء إلى الأب ووزير خارجيته السابق ومدير حملته الانتخابية) موجودا بنفسه طول الوقت فى مراكز الفرز وفى قاعات المحاكم، يقود المواجهة القانونية لإثبات صحة الأصوات المؤيدة للمرشح الجمهورى، وكان «ريتشارد تشيني» الذى وقع الاختيار عليه مرشحا لمنصب نائب الرئيس ـ يدير من داخل بيت «بوش الأب» معركة التعجل فى إعلان فوز المرشح الجمهورى (دوبيا) ـ مهما كانت الإجراءات، والمخالفات، والطعون، وموجبات الخلل فى شرعية عدد الأصوات، وفى الواقع العملى فإن تلك لم تكن مجرد معركة انتخابية، وإنما ـ فى تقدير مديريها ومسئوليها ـ معركة مشروع إمبراطورى يحتاج إلى إدارة فى البيت الأبيض تؤمن به وتقوم على تنفيذه، وهنا يمكن فهم أول تصريح أدلى به «ريتشارد تشيني» بعد صدور حكم من المحكمة العليا، فقد قال: «لست مستعدا للبحث فى التفاصيل، لقد فازت التذكرة الانتخابية («دوبيا» رئيسا ـ و«تشيني» نائب الرئيس) وهذه بالضبط هى التذكرة التى تحتاج إليها أمريكا اليوم، بارك الله فى أمريكا دائما!». وهكذا دخل «جورج بوش» (الابن) إلى المكتب البيضاوى، ووراءه نائبه «ديك تشيني» ـ وبعدهما أركان الإدارة الكبار: «دونالد رامسفيلد» ـ «كولين باول» ـ «ريتشارد بيرل» ـ «بول وولفويتز» ـ و«كونداليزا رايس». ولحظتها استطاع الفريق الإمبراطورى فى الحزب الجمهورى أن يعيد القبض «Recapture» على البيت الأبيض من جديد ـ ويمسك مرة أخرى بالمفاتيح الذهبية للقرار الأمريكى طبقا لأولويات محددة، هى: ـ الاحتفاظ بتفوق أمريكى لابد أن يقبل به الجميع (ويبقى إلى الأبد). ـ سيطرة كاملة على موارد النفط (فى الشرق الأوسط وحوله). ـ والمدخل للإمساك بالاثنين: تحالف عالمى مضاد للإرهاب (وذلك هو الغطاء القانونى والأخلاقى الأنسب!). لم يخطــــر ببــال أحــد أن «جــورج بــوش» (الابـــن) يصلح مرشحا، لأن أوجه القصور فى شخصيته وثقافته وجاذبية حضوره تستبعده من أول نظرة. ومن المفــــارقات أن «الأم» (بربـــارة بــــوش) كانــت أول مـــــــن يســــــــلم بعــــــــدم صلاحية ابنها لدور «قيصر» يـروى «بوش» (الابـن) أنـه ظــل حتى تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره شــابا لاهيا ـ عابثا ـ كســولا ـ عازفا عن العـلم، خصوصا بعد أن حصل بالكاد على شهادة من جامعة «تكساس» أُلحق بها إجازة من جامعــة «ييل» (يكاد يلمح إلى أن نفوذ أسرته أتاحها له بأكثر من جَدِهِ فى طلب العلم!) ثـالـثـــــا: قـــادة قيصـــر لا يهتفـــون باســـــمه! لم يكن دخول «جورج بوش» إلى البيت الأبيض يوم 29 يناير 2001 ـ دخول فاتحين، بل لعله كان أغرب دخول عرفه ذلك البيت فى واشنطن، وكانت احتفالات قسم اليمين حافلة بهواجس وشكوك تطال كل شيء: مستوى المعركة الانتخابية لمرشحين كلاهما فى نظر الناخب لا يستحق الجائزة، ثم المشاكل والتعقيدات القانونية التى حاصرت عملية عد الأصوات، ثم انتظار أسابيع مشوبة بالإحباط فى انتظار حيل محامين قبل إرادة ناخبين. وكذلك تبدى أن الرئيس (الإمبراطور ـ القيصـر) الجـديد يصعـب أن يكون مقنعا ـ فى أساس شرعيته، أو سابق تجربته، أو توقعات أدائه، أو قيادته لفريقه، أو ما يمكن أن تثيره قيادته من طموح وإلهام. وسرى إلى العالم كله إحساس بأن الولايات المتحدة الأمريكية سلمت مقاليد السلطة فيها ـ مع لحظة فاصلة على مسار التاريخ الحديث ـ لرجل لا يستحق، وفى أحسن الفروض لا يعرف. وفى عواصم عديدة بدت تلك فرصة مفتوحة لمن يريد أو لمن يقدر: ـ فى لندن: تصور «تونى بلير» رئيس الوزراء (العمالي) أن رئاسة «بوش» (بكل ما يكتنفها) تعطيه مساحة لزيادة حجم التأثير البريطانى فى مجتمع الناطقين باللغة الإنجليزية على جانبى الأطلنطى، وبالتالى فرصة لتقوية الوزن البريطانى فى العلاقة الخاصة التى تربط واشنطن ولندن. ـ وفى باريس: تصور الرئيس «جاك شيراك» (الديجولي) أن أوروبا تستطيع أن تعطى نفسها مجالا أرحب للحركة بعيدا عن دائرة النفوذ «الأنجلوساكسوني» (من لندن وواشنطن). ـ وفى برلين: تصور المستشار «شرويدر» أنه بتعاون ألمانى ـ فرنسى تستطيع أوروبا أن تمارس دورا فاعلا، يؤكد دورا لها وحقا فى القرار الدولى مع مطلع القرن الحادى والعشرين. ـ وفى موسكو: تصور الرئيس «بوتين» أن غيابا أمريكيا ـ ولو جزئيا ـ يفتح بصيص أمل لروسيا تستعيد بعض مواقعها الضائعة، أو على الأقل لتدعيم أوضاعها الداخلية دون شغب يمارسه عليها رئيس أمريكى يحاصرها حتى تظل أنقاض «السقوط السوفيتي» مكدسة من حول الاتحاد الروسى الجديد ـ تعوقه عن إصلاح أحواله ومد الجسور إلى جواره، ووراء ذلك الجوار. ـ وفى بكين: سرى شعور بالراحة مع ترجيح أن تكون الرئاسة الجديدة فى أمريكا «رخوة» تترك الصين وشأنها تواصل بناء نفسها وتعزز اقتصادها وتكمل تحولاتها الواسعة دون عراقيل أو شواغل خارجية. ـ وأما فى العواصم العربية خصوصا تلك التى تعاملت بعلاقة ود (ظنته حميما) مع إدارة «بوش» (الأب)، فقد شاع أمل بأن الرئيس القادم إلى البيت الأبيض ضوء أزرق مريح للأعصاب ورقيق، فالقادم الجديد إلى البيت الأبيض «منا وعلينا»، و«بالتأكيد معنا». وكانت تصورات العرب على تفاوت ما بينها ـ خاطئة، والحقيقة على العكس منها، لأن ما ظنه بعض العرب فرصة لصالحهم ـ لاح خطـره عليهم، لأن الرئيس الجديد ـ وهو يقدر حسابات الآخرين لرقته ـ قصد أن يواجههم بخشونته، وقد ظلوا بعدها شهورا لا يتصورون ما يرون، وحين اكتشفوا الواقع كان قُصارى جهدهم أن يداروا ويتظاهروا! فى الأسبوع الأول من رئاسة «جورج بوش» وفى إطار اجتماعين لمجلس الأمن القومى برئاسة «جورج بوش» (الابن) ـ تكشف مناخ يدعو إلى القلق، لأن ما أخفته ضرورات «الاستيلاء على البيت الأبيض» ـ أخذ فى البروز علنا، بمعنى أن المشروع الإمبراطورى تجلى للعيان، كما أن رجاله ظهروا للعلن ـ ثم زاد أن الداخلين إلى السلطة بدوا وكأنهم فى سباق مع بعضهم، وعلى حد تعبير استعمله «كولين باول» «لقد تبين لى أن لحظة الحقيقة حلت علينا، وأن كل الطيور المهاجرة عادت الآن إلى أعشاشها لكى تبيض (فى المكتب البيضاوي!)». كان واضحا أولا ـ أن الرئيس الجديد لم يتأهل بعد للدور الإمبراطورى الذى أسند إليه، وظلت تطارده حتى فى البيت الأبيض نكات ونوادر تركز جميعها على الرأس والعقل والذكاء! وربما كان ذلك فى جزء منه ينطوى على تبسيط قد يكون مخلا، لكنه لا ينفى أن الرجل الذى ظهر فى لقاءات العمل المبكرة لإدارته، بدا رجلا «أصغر» من المجال المفتوح لرئيس الولايات المتحدة ـ وإمبراطور العالم!، والعلة المحسوسة دون انتظار أن تجربة الرجل حتى بعد «الميلاد الجديد» كانت محصورة فى ولاية من ولايات الجنوب الأمريكى، ومع أن تكساس ولاية غنية، فإن سلطتها ليست فى مكتب حاكمها، وإنما فى دهاليز عدد من الشركات العابرة للقارات، وبينها بعض أهم شركات البترول فى العالم (مقارها الرئيسية فى تكساس). وكان واضحا بعد ذلك ثانيا ـ أن الرئيس «جورج بوش» (الابن) وجد على قمم إدارته أصدقاء وزملاء لوالده عرفوه على أنه «دوبيا»، ولم يتأقلموا بعد على أنه السيد الرئيس Mr President))، وكان بين هؤلاء رجال مثل نائبه «ريتشارد تشيني»، و«دونالد رامسفيلد»، و«كولين باول»، وكل واحد من هؤلاء الثلاثة بالتحديد ـ (تشينى ـ ورامسفيلد ـ وباول) ـ يعتبر نفسه ـ وهو صحيح ـ أصلح من «دوبيا» للرئاسة لولا اعتبارات جعلت كلا منهم يتردد، فى حين جازف هو (ولم يكن لديه ما يخسره!). على أن جلوسه داخل المكتب البيضاوى الآن لا يجعله تلقائيا فوقهم ـ زعيما سياسيا يلهم ويوجه، أو رئيسا تنفيذيا يأمر ويُطاع! * وكان واضحا أخيرا وثالثا ـ أن محرك ترشيح «بوش» (الابن) وفوزه وتشكيل إدارته ـ مشروعا له أصحاب، لديهم جدول أعمال جاهز يريدون طرحه، واعتماده مبكرا مع الأيام الأولى للرئاسة الجديدة، بمنطق طرق الحديد وهو ساخن، مع العلم بأن جدول الأعمال مُتَّفّق عليه سلفا: ـ إمبراطورية تمسك بمفاتيح السيادة ولا تقبل شراكة معها أو منافسة. ـ سيطرة كاملة على موارد البترول (ومواقعه)، تشرف على إدارته وتتحكم فى توزيع حصصه. ـ حملة عالمية ضد الإرهاب تواجه خطرا يعلن عن نفسه، وفى الوقت ذاته توفر غطاءً أخلاقيا للإمبراطورية الأمريكية. لكن الاتفاق على جدول الأعمال سلفا، لم يستطع أن يحجب مشاكل رئيسية: ـ المشكلة الأولى: خلافات بين دعاة المشروع على ترتيب بنود جدول الأعمال (رغم الاتفاق على قائمته). ـ والمشكلة الثانية: اختلافات بين الذين اتفقوا على جدول الأعمال لأنهم متنافرين لأسباب شخصية! وتشابكت المشكلتان معا ـ وهى طبيعة إنسانية ـ وعندها تداخل العام مع الخاص واختلطت الحدود. ـ والمشكلة الثالثة وقد راحت تتفاقم، أن «الكبار الذين لم يستطيعوا تقبل زعامة «دوبيا» السياسية (على فرض أنها تجلت)، ولا سلطته التنفيذية العليا (على فرض أنها حسمت) ـ تركوا خلافاتهم تظهر خارج الاجتماعات، وربما عن عمد، لأن كل واحد منهم اعتبر نفسه مسئولا عن «صورته، وليس عن «صورة إدارة» متضامنة، ولعدة أسابيع بعد دخول البيت الأبيض كان أقطاب الإدارة الجديدة منهمكين بالكامل فى مناورات سياسية تخصهم، فقد راح كلا منهم يحاول إعلاء دوره وتحجيم دور غيره، وإثبات صواب مشورته مع تسفيه مشورة الآخرين، وإفساح مجال نفوذه الشخصى، ولو على حساب «الرئيس» الجالس فى المكتب البيضاوى. وكذلك أصبحت علاقات النفور بين أقطاب الإدارة تسلية نوادى العاصمة، وصالونات «جورج تاون»، وتحولت إلى مادة مشوقة فى وسائل الإعلام داخل الولايات المتحدة وخارجها. وكان «برنت سكوكروفت» (مستشار الأمن القومى فى عهد «بوش» (الأب) أول من تحدث عن تلك الأحوال علنا، وإن كان حديثه جاء بأسلوب دبلوماسى محسوب، فقد ذكر فى حديث للنشر مع المحقق البارز «فرانسيس فيتزجيرالد» ما نصه: «هناك فى الإدارة الجديدة صراع شخصيات «Personality Conflicts»، وهذه صراعات موجودة باستمرار فى كل إدارة، وكانت موجودة على أيامنا فى إدارة «بوش» (الأب)، لكن هذه الصراعات ظلت مكتومة فى الداخل، وأما الآن وفى عهد هذه الإدارة فإن هذه الصراعات مطروحة فى العلن». وطبقا لما نشره «فيتزجيرالد» فإن «سكوكروفت» وهو خبير مطلع (بحكم أنه كان مستشارا للأمن القومى مع الأب وصديق وفى له بعد سقوطه فى الانتخابات، وشريك معه فى كتاب واحد بعنوان «عالم يجرى تغييره» صدر سنة 1998 يحمل اسميهما («بوش» و«سكوكروفت») معا وتجربتهما السياسية جنبا إلى جنب) ـ فإن هذه الشهادة أشارت دون مواربة إلى أن «ريتشارد تشيني» (وزير الدفاع مع الأب ونائب الرئيس مع الابن) هو مصدر القلق الأكبر بسبب «تطرف زائد وجموح إلى التسرع فى الأحكام يمكن أن يتسبب فى مخاطر». ثم يوحى «سكوكروفت» فى حديثه مع «فيتزجيرالد» إلى أن «تشيني» كان مشاكسا مع كل وزراء «بوش» (الأب) وكانت له شطحات غير معقولة بعض المرات ـ ومن شطحاته المشهورة «أنه أشار بعدم تصديق «جورباتشوف» بشك أن ادعاءاته الإصلاحية للنظام السوفيتى ليست إلا عملية تمويه وتضليل، وأن الولايات المتحدة عليها أن تواصل الضغط وتشدده حتى يتفتت عدوها السابق شظايا صغيرة وسحبا من الغبار تغطى الكرملين حتى تدفنه تحتها«! ـ ولم يكن ذلك رأى وزير الخارجية «جيمس بيكر»». وفى كلام «سكوكروفت» «أن تشينى كانت له من أيام وزارة الدفاع معارك مع معظم أطراف إدارة «بوش» (الأب) وقتها، وأن هذه المعارك ـ إذا لم يقع تداركها ـ سوف تسحب ذيولها إلى إدارة «بوش» (الابن)، فقد اصطدم «تشيني» حين كان وزيرا للدفاع (فى رئاسة الأب) مع «كولين باول» (وهو وقتها رئيس الأركان)، وأول الأسباب أن «تشيني» وهو «المدني» حاول أن يتدخل فى تحضير وإدارة حرب الخليج (الثانية) ـ متصورا نفسه «جنرالا على كتفه خمس نجوم» (مثل أيزنهاور) ـ واضطر «باول» أن يتشاجر معه مرة كل أسبوع على الأقل (طبقا لرواية «فيتزجيرالد» نقلا عن «سكوكروفت»). والنقطة الحرجة الآن أن «تشيني» خلال تلك الحرب (لحسن الحظ أو سوئه) ـ بنى لنفسه صورة «مدير كفء»، وهذه الصورة هى التى وضعته على رأس الفريق الإمبراطورى وزكته نائبا للرئيس (خبيرا عارفا) مع رئيس (ليس خبيرا ولا عارفا ـ بل مولود من جديد) ـ مع تحسب الجميع من أن الحزب الديمقراطى سوف يركز على قلة خبرة ومعرفة «بوش» (الابن) مقابل خبرة مرشحه «جور» وهو نائب الرئيس وقتها (مع «بيل كلينتون»). ...................
................... [وأتذكر أننى قابلت «ريتشارد تشيني» منذ سنوات طويلة (يوم أول أكتوبر 1970)، وعندما جاء إلى مصر مرافقا لرئيس بعثة التعزية باسم الرئيس « ريتشارد نيكسون» فى جنازة «جمال عبد الناصر»، ولم يكن الرئيس «السادات» فى حالة صحية جيدة، وكان أنه أبلغ «إليوت ريتشاردسون» أثناء مراسم الجنازة وقد تقدم إليه مصافحا يعزيه أنه يستطيع أن يتحدث فيما يشاء معى (وزيرا للإعلام وصديقا مقربا منه أيامها) ـ بالنيابة عنه، وبالفعل جاء «إليوت ريتشاردسون» إلى مكتبى فى الأهرام فى السابعة من مساء يوم أول أكتوبر، ومعه «تشيني»، وقدمه إلى باعتباره مستشارا فى البيت الأبيض، وكان «تشيني» هو الذى كتب محضر لقائنا ذلك اليوم، ولاحظت تدخله فى مجرى الحديث بأسئلة قام فيها بمقاطعة رئيسه (وكان «تشيني» هو الذى استعاد ذكرى هذا اللقاء فيما بعد)]. ...................
................... ومن إشارات «سكوكروفت» (فى حديثه مع «فيتزجيرالد» أيضا) «يبين أن «دونالد رامسفيلد» بدوره لا يحب «ديك تشيني»، فهو يعتبر نفسه الرجل الذى رشح «تشيني» كمستشار للبيت الأبيض وقت رئاسة «ريتشارد نيكسون»، وكان عمره وقتها أقل من ثلاثين سنة، لكن «ديك» ـ كما يناديه رامسفيلد تصغيرا لاسم «ريتشارد» ـ شق طريقه بسرعة وتفوق. كذلك يبين ضمن أسباب ضيق «رامسفيلد» أنه لا يستريح مع «عائلة بوش»، ويعرف أنها قبلت به كارهة، لأن «جورج بوش» (الأب) «نما إليه» ـ ! ـ أن «رامسفيلد» اعترض على تعيينه مديرا لوكالة المخابرات المركزية فى زمن الرئيس «فورد»، وأنه قال لهنرى كيسنجر (وزير الخارجية وقتها) وهو القائم بدور المرشد والمعلم للرئيس «فورد»: «إن «جورج» (بوش الأب) ـ لا يصلح مديرا للمخابرات المركزية لأن شخصيته ضعيفة وليست لديه «مواصفات قائد رفيع المستوي»»، ومع أن «بوش» (الأب) حصل على المنصب، فإنه لم ينس لرامسفيلد رأيه فيه. فوق ذلك فإن «رامسفيلد» لا يحب «كونداليزا رايس»، يراها قريبة أكثر من اللازم من «كولين باول»، متعجلة أكثر من اللازم إلى فتح أبواب المكتب البيضاوى أمام وزير الخارجية حتى يوثق علاقته بالرئيس، وقد أضاف «رامسفيلد» فى حضور الجنرال «ماير» (رئيس أركان الحرب الحالى للجيش الأمريكي) «إنه يستطيع أن يرى الرابط بين «باول» و«كوندي» (يقصد كونداليزا رايس)، ولم يزد «رامسفيلد» على ذلك، لكن الإشارة كانت واضحة إلى اثنين من الملونين فى إدارة بيضاء ـ تجيء من أقصى اليمين فى الجنوب الأمريكي! وعلى أى حال فإن «رامسفيلد» لم يستطع إقناع نفسه بأن «تشيني» سبقه، وأصبح نائبا للرئيس فى الإدارة الحالية. وفوق ذلك فإن «رامسفيلد» يكره «كولين باول» بسبب صيته العريض فى المؤسسة العسكرية الأمريكية، ولا يشعر براحة حين يسمعه يتكلم أمامه وهو وزير الدفاع بخبرة رجل «يظن أنه يفهم» فى شئون وزارته أكثر مما «يفهم» هو. وفى تلميحات «سكوكروفت» أن «كولين باول» ليس معجبا ـ على الإطلاق ـ بكل أفراد «المجموعة الإمبراطورية»، فهو يسمعهم يتحدثون عن «استعمال القوة»، دون أن تكون لأحد منهم معرفة بشئون الحرب، فكلهم ـ بما فيهم الرئيس «بوش» (الابن) نفسه ـ تهربوا من الخدمة العسكرية فى فيتنام بعذر أو آخر! وتروى السيدة «كونداليزا رايس» أنها كثيرا ما رأت «كولين باول» يعود برأسه إلى الوراء ويقلب عينيه إلى أعلى، إشارة إلى ضيقه بكلام يسمعه حول مائدة اجتماعات مجلس الأمن القومى (وتلك حركة مشهورة عن وزير الخارجية). وقد فقد «كولين باول» صوابه عندما سمع «رامسفيلد» يتحدث فى أول اجتماع عقده مجلس الأمن القومى بعد 11 سبتمبر 2001، قائلا إنه «أول من لفت الأنظار إلى أن الولايات المتحدة معرضة لهجوم غادر عليها من وزن «بيرل هاربور» (عندما هاجمت اليابان الأسطول الأمريكى فى الباسفيك وتمكنت من تدميره بالكامل فى ديسمبر 1941) ـ واضطر «كولين باول» إلى تذكير «رامسفيلد» بأن ذلك التحذير الذى يدعى به الآن جاء فى معرض مناقشة عن كوريا الشمالية وقدراتها فى صناعة الصواريخ، وذلك شيء يختلف عما تعرضت له نيويورك صباح يوم 11 سبتمبر 2001، وبالتالى فإن «رامسفيلد» يدعى بأثر رجعى حكمة ونبوءة لم تتحقق، لأن الهجوم على برجى التجارة لم يكن هجوما صاروخيا مفاجئا شنته كوريا الشمالية!». ومؤدى الأمر فى النهاية أن طاقم «بوش» (الابن) الذى جلس ليبحث المشروع الإمبراطورى أواخر شهر يناير وأوائل شهر فبراير سنة 2001 ـ لم يكن فريقا متجانسا أو منسجما على المستوى الشخصى، حتى مع رابط اقتناع أعضائه بأن مشروعهم الإمبراطورى جاء وقته وأوانه! ...................
................... [وكان منطقيا أن يختلف أعضاء الفريق الإمبراطورى فى إدارة «بوش»، رغم اتفاقهم على المشروع الإمبراطورى وبنوده ـ وكان طبيعيا أن تبرز خلافاتهم على ترتيب الأولويات عندما يجلسون إلى مائدة مجلس الأمن القومى فى البيت الأبيض أواخر يناير وأوائل فبراير سنة 2001. وذلك بالفعل ما حدث، وما تتفق عليه الروايات والشهادات والوثائق الصحيحة والمعتمدة، فقد برز واتسع الخلاف على ترتيب الأولويات، وانقسمت الآراء منذ المناقشات الأولى على عدة اتجاهات، وكل اتجاه يتزعمه قطب من أقطاب الإدارة الجديدة. 1 ـ كان هناك رأى يتزعمه «كولين باول» يعتقد أن بند مكافحة الإرهاب هو الذى يصح أن يتصدر قائمة الأولويات، لأنه القادر ـ قبل غيره ـ على اجتذاب «أوروبا» (وهى مجموعة دول صناعية كبرى ترى نفسها مهددة بهجرات كثيفة من شباب الجنوب تحمل إليها موجات من كل الأجناس ينفذون إلى مجتمعاتها ويتحولون إلى حقول ألغام نائمة فى وسطها، وأدوات فى يد جماعات إرهابية تستعملها من بعيد حين تشاء) ـ ثم إن العمل ضد الإرهاب يستطيع أيضا أن يجذب «روسيا» (وهى التى عاشت كابوس أفغانستان وبعده مأزق الشيشان) ـ وهو فى نفس الوقت يجذب «الصين» (التى يقلقها ما يجرى فى جمهورياتها الغربية من نشاط جماعات إرهابية ترفع لواء الإسلام). وكذلك كان «كولين باول» يرى (من تقدير لأهمية أوروبا وروسيا والصين) أن مقاومة الإرهاب تصلح مدخلا لما هو أوسع منها ـ بمعنى أن «المشروع الأمريكي» للزمن الجديد يستطيع بهذا المدخل أن يأخذ معه هذا الثلاثى، حتى وإن سلم لأطرافه بدرجة من الشراكة مع الولايات المتحدة فى تدبير أمور هذا الزمن الجديد. كذلك كان «باول» يرى أن ضرورات نجاح المشروع الأمريكى ـ والشرق الأوسط أهم ميادين تحقيقه ـ تستدعى التوصل إلى تسوية للصراع العربى الإسرائيلى لأنه من خبرته ومما اطلع عليه منذ دخل وزارة الخارجية ـ يعرف أن تلك المنطقة (الشرق الأوسط) تموج بعداء متزايد للسياسة الأمريكية، وأنه بالحديث إلى «خبراء وزارته» تبين له أن الإدارة السابقة (إدارة «كلينتون») قدمت مشروعا لحل دائم للصراع رفضه الفلسطينيون فى كامب دافيد (خريف سنة 1999)، لكن هذا المشروع يمكن أن يُعاد بعثه وعرضه بتعديلات طفيفة تجعــله مقبــــولا للفلســـطينيين، وغير مرفــوض من الإسـرائيليين]. ...................
................... 2 ـ وكان هناك رأى آخر يتزعمه «ريتشارد تشيني»، ملخصه أن الرئيس الجديد لا يصح أن يقتفى خطوات الرئيس السابق («كلينتون»)، ويهدر وقته فى مشكلة الشرق الأوسط، لأنها لا تتحمل ثقل «حل دبلوماسي»، وظنه فى هذا النوع من الصراعات هو تركها للزمن يتكفل بحلها (سواء بالتقادم أو النسيان)، وبدلا من تضييع الوقت (كما فعل «كلينتون») فإن الولايات المتحدة الأمريكية تستطيع أن تدخل إلى قلب الشرق الأوسط عن طريق قضية مقاومة الإرهاب وليس عن طريق قضية فلسطين، ويساعد على ذلك فى تقديره أن حكومات المنطقة الصديقة للولايات المتحدة ليست مهتمة إلى الدرجة التى يتصورها «بعضهم» بقضية فلسطين، فتلك معضلة تعود العرب أن يتعايشوا مع تعقيداتها ولم تعد تهزهم تداعياتها ـ فى حين الاهتمام الجدى لهؤلاء الأصدقاء العرب يتركز فى «حماية نظمهم»، فذلك ما يعنيهم قبل غيره، ومع أنهم ينسبون إلى «الإرهاب» وحده أسباب قلقهم كلها ـ فإن الولايات المتحدة تستطيع استغلال هذا القلق لكى تنفذ إلى قلب الإقليم متوجهة إلى مواقع البترول مباشرة، دون تضييع الوقت فى «البدرومات المظلمة الباردة والدامية» للصراع العربى الإسرائيلى. 3 ـ وكان هناك أخيرا رأى يتزعمه «دونالد رامسفيلد» وزير الدفاع (يؤيده فيه نائبه «بول وولفويتز» ومدير التخطيط الاستراتيجى فى وزارته «ريتشارد بيرل») ـ ملخصه أن الوقت مناسب لضربة مباشرة تستهدف العراق كمدخــل لســيطرة كاملة على البترول، لا تضيع وقتها لا مع قضايا مستعصية على الحل، ولا مع مخاوف نظم تهرب من ظلها! وكان تقدير «رامسفيلد» أن العراق نشيط فى توسيع دائرة التعاطف معه، بسبب فداحة تكاليف الحصار على شعبه، وهذا التعاطف ـ وهو يتزايد ـ مما يصعب إهماله، وإلا فإن موضوع العراق (بترول العراق) سوف يظل مرهونا بظروف متقلبة (Volatile). مُضافا إلى ذلك أن تصفية بقية الحساب مع العراق يفتح مداخل إلى تسوية الحسابات القديمة فى إيران ـ وبهذه التصفية والتسوية للحسابات فإن شرقا أوسطا جديدا يمكن أن يخرج من وراء الظلمات التى تغطى عليه الآن، خصوصا إذا أمكن تكثيف الوجود العسكرى الأمريكى فى الخليج، ليقوم بعرض لقوة النيران فى منطقة لا تفهم غير لغة «الخوف»، رغم استغراقها فى الكلام عن السلام!»]. ....................
.................... وظلت المناقشات واحتدمت الخلافات، وطبقا لسجلات مجلس الأمن القومى الأمريكى فى الاجتماع الثانى له (مارس 2001) ـ وضمنها محاضر وتقارير وتوجيهات عمل (أُرسلت إلى لجنة الأمن والدفاع فى الكونجرس من قبل 11 سبتمبر 2001) ـ فإن «رامسفيلد» طلب الكلمة (وقصده فى الغالب أن يرد على تقديرات وزير الخارجية «كولين باول») ـ ليقول: «إنها مضيعة للوقت أن نصرف جهدنا مع «قوى مستنفدة» (Spent Powers ) مثل الروس، لأن الاتحاد السوفيتى (وهو الخصم السابق)، لم تبق منه إلا دولة صغيرة يتساوى حجم إنتاجها مع حجم إنتاج «هولندا»، وقوة بهذا الحجم لا تقدر أن تكون منافسا للولايات المتحدة، ومع كون هذه القوة تملك ترسانة نووية ورثتها عن الاتحاد السوفيتى ـ إلا أنها غير قادرة على صيانتها. وأما أوروبا فإن التنسيق معها ضرورى، أخذا فى الاعتبار أن ذلك التنسيق لا يصح انتظاره طويلا، لأن أوروبا تدرك فى أعماقها أن مصالحها مع الولايات المتحدة، وهى مهما حاولت ـ بأى قدر من الادعاء باق عندها ـ سوف «تجيء إلينا فى النهاية». وأما العالم العربى فإن النظم فيه مشغولة بأوضاعها، وإذا بقى لها شيء فوق هذا الشاغل، فإن إسرائيل كفيلة به. وإذن فإن السياسة الأمريكية لابد لها أن تنقل مواقع تركيزها إلى جهات أخرى تستطيع عليها إثبات وتأكيد ذلك التفوق الذى تملكه الآن حتى تضمن السلام المستند إلى النصر الساحق الذى أحرزته (فى الحرب الباردة)! وعلق الرئيس «بوش» (الابن) طبقا للسجلات على كلام «رامسفيلد» ـ بقوله: «الحقيقة أننى لازلت متحيرا، فعندما كنت طالبا فى الجامعة، وعندما كنت أعيش مع أبى فى البيت الأبيض (نائبا للرئيس ورئيسا للولايات المتحدة) كنت أعرف أين نحن. كنت أعرف أننا «هنا» وأن الشيوعيين «هناك»، وأن بيننا وبينهم صراعا ، أى أنهم كانوا العدو. وأما الآن فلدى إحســاس بالضيـاع لا أعرف معه على وجه القطع من هو العدو؟ لكننى فى أعماق شعورى (Gut Feeling) أوافق أن هناك أعداءً لنا، وأن الأعداء «هناك» فى موقع ما «هناك»، ولكن أين بالضبط؟ ـ هذه هى المعضلة!. .....................
..................... [وتدخل نائب الرئيس «ريتشارد تشيني» ليقول بعد عرض مفصل لرؤيته عن الأوضاع العالمية الراهنة: «الرئيس محق حين يقرر بثقة أن العدو لابد أن يكون هناك، وهو بالفعل هناك، متمثلا فى الإرهاب العالمى الذى يبدو أن «تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن» مجرد سطح ظاهر له يخفى تحته جبلا ضخما غارقا فى ظلام البحر، والمعضلة فى مطاردة الإرهاب أنه «معركة كبري» ضد عدو مختبئ فى كهوف الجبال المظلمة، له شبكة غامضة واسعة فى كل قارات العالم، وهو يضرب مصالحنا كما فعل فى قواعدنا فى السعودية (الخبر) ـ وضد قوتنا البحرية (المدمرة كول فى ميناء عدن)، ثم يختفى فى الزحام، ومهما كان فإن علينا أن نعثر عليه وأن ندمر بنيته الأساسية وتنظيماته وقياداته حـيث تكون، وذلك جهد ســوف يستغرق وقتا وموارد، وفى هذا الوقت فإننا لا نستطيع أن نغفو فى انتظار أن يوجه الإرهاب ضربته التالية، ولذلك فإن أمامنا على الفور مهمتين: ـ زيادة قوتنا الضاربة ونشرها بحيث تستطيع العمل بحزم وحسم فى أى مكان. ـ وتحديد مصالحنا الحيوية فى الشرق الأوسط (موارد البترول والمواقع الاستراتيجية من حول عمليات إنتاجه ونقله)]. ....................
.................... وتوالت المداخلات وأهمها ما ورد على لسان «كولين باول»، وفيها قوله: «إن الشرق الأوسط هو المنطقة التى ينبغى أن نركز عليها، ووزارة الخارجية تريد أن تتلقى توجيها فى شأن المفاوضات الجارية بين الحكومة الإسرائيلية وبين السلطة الفلسطينية، وهناك معلومات لدى الوزارة ومن أصدقاء لنا فى المنطقة تشير إلى أن «عرفات» نادم لأنه لم يقبل بالمشروع الذى عرضه عليه الرئيس «كلينتون» فى كامب دافيد، وهو على استعداد اليوم لكى يقبل ما رفضه بالأمس، وربما تكون تلك فرصة لتهدئة الشعور العام فى المنطقة، وهو شعور خطر فى منطقة حساسة تتخبط بعصبية، لأنها لا تعرف طريقها إلى العصر، ولأن نظمها محاصرة بمطالب ملحة على ضرورة التغيير وأوله التقدم نحو درجة أرقى من المشاركة السياسية والإصلاح الدستورى والقانوني». وتدخل الرئيس «جورج بوش» ليروى نقلا عن والده: «إنه لا يثق على الإطلاق فى «عرفات»، ويراه نموذجا لـ«تاجر سجاد صغير فى سوق شرقى مزدحم»، يعرض بضاعة يعرف أنها ليست أصلية، ويسعى إلى صفقات يعتزم سلفا أن لا يدفع ثمنها. ويروى «بوش» «إنه فى بداية الحملة الانتخابية قام بزيارة الشرق الأوسط بادئا من إسرائيل، وكان «آرييل شارون» مضيفه ومرافقه فى رحلات استطلاعية بالهليوكوبتر إلى مواقع خطوط الصراع، وأثناء هذه الزيارة فإنه أراد أن يظهر درجة معقولة من الحِياد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بناءً على نصيحة من وزارة الخارجية (وكانت «مادلين أولبرايت» وزيرة لها فى إدارة «كلينتون») ـ وكذلك فإن مساعديه الذين رافقوه فى رحلته طلبوا موعدا له مع «ياسر عرفات»، لكن «عرفات» لم يرد، ثم عرف «بوش» فيما بعد «أن عرفات تملص فى الرد وماطل لأنه ظن أن لقاءه معه (مع «بوش») سوف يحرج الإدارة القائمة ويضـايق المرشـح الديمقراطى «آل جــور» (وهو نائب الرئيس)، وذلك ما اســتغربه «بوش» وكان كافيا لإقناعه أن «عرفات» ـ كما يرى والده بالضبط ـ مجرد «تاجر شرقى محدود الأفق»! وتظهر السجلات بعد ذلك مباراة بين «ريتشارد تشيني» و«دونالد رامسفيلد» فى الدعوة إلى ضرورة ارتكاز السياسة الأمريكية فى المرحلة القادمة على إسرائيل وعلى «آرييل شارون» بالتحديد. ويضيف «رامسفيلد» تعريفا جديدا لاستعمال القوة يقول فيه: «إن تدخل أمريكا من الآن فصاعدا لا يصح أن تحدده مناطق الأزمات، ولكن تحدده كذلك الإمكانيات المتوافرة لنا فى مناطق الأزمات!». فى الأســـــبوع الأول من رئاســــة «جورج بوش» وفى إطار اجتماعين لمجلس الأمن القومى برئاســة «جــورج بوش» (الابن) ـ تكشف مناخ يدعو إلى القلق، لأن ما أخفته ضرورات «الاستيلاء على البيت الأبيض» ـ أخذ فى البروز علنا، بمعنى أن المشروع الإمبراطورى تجلى للعيان، كما أن رجاله ظهروا للعلن «كولين باول» ليس معجبا ـ على الإطلاق ـ بكل أفراد «المجموعة الإمبراطورية»، فهو يســـمعهم يتحدثون عن «استعمال القوة»، دون أن تكون لأحد منهم معرفة بشئون الحرب، فكلهم ـ بما فيهم الرئيس «بوش» (الابن) نفسه ـ تهربوا من الخدمة العســكرية فى فيتنام بعذر أو آخــر! تدخـــل الرئيس «جــورج بـــوش» ليروى نقـــلا عــن والـده: «إنه لا يثــق على الإطــــلاق فى «عـــرفـــــات»، ويــراه نموذجــــا لـ«تاجر سجاد صغير فى سوق شرقى مزدحم»، يعـرض بضاعــة يعــرف أنها ليســـت أصليـــة، ويســـــــعى إلى صفقــات يعتـــزم ســـلفا أن لا يدفــــع ثمنهــــا رابـعـــا: 11 ســــبتمبر 2001 وتـوابـعـــــه كان واضحا طوال النصف الأول من سنة 2001 أن الإدارة الجديدة تتخبط فى سياساتها الداخلية والخارجية، وأن رئيسها لم يكن «مقنعا» فى مكانه وفى زمانه، وأن أقطاب إدارته شردوا بعيدا عن البيت الأبيض، وأن كل واحد منهم يحاول أن يجعل من وزارته «محمية» له محرمة على غيره، وكان ذلك ظاهرا فى وزارة الدفاع، وفى وزارة الخارجية، وفى وزارة الخزانة، وحتى فى وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيق الفيدرالى. وفى البيت الأبيض ذاته جرت محاولة لإظهار «ريتشارد تشيني» نائب الرئيس، باعتباره الرجل الأول فى الإدارة الجمهورية ـ رغم أنه فى النظام الرسمى رجلها الثانى، ووقع بالفعل داخل كواليس السلطة أن أصحاب المشروع الإمبراطورى اعتبروا عمليا أن «ريتشارد تشيني» رجلهم، وأن القرار النافذ يستحسن أن يظل فى يده مع وجود رئيس أمريكى «مازال عوده أخضر»، ولم تكن تلك بادرة طيبة إزاء الرئيس حتى وإن كان عوده أخضر، وزاد عليها أن الإيحاء بسلطة «تشيني» العُليا وجد طريقه إلى وسائل الإعلام الأمريكية، وكان الصحفيون الأكثر رفقا بالرئيس هم الذين رأوا أنها إدارة «بوش تشيني» ـ كلمة واحدة وليست كلمتين إشارة إلى أن الرئاسة هذه المرة شركة بين الرئيس ونائبه: أحدهما لديه اللقب والثانى لديه الصلاحية! ومع شهور الصيف راح عدد من المستشارين المقربين من الرئيس الجديد وفيهم «أندرو كارد» (رئيس هيئة مستشارى البيت الأبيض)، و«كارل روفي» (أقوى مستشاريه)، و«كارين هيوز» (المسئولة عن علاقاته العامة) ـ يبدون انزعاجهم من أن صورة الرئيس «مهزوزة» أمام الرأى العام فى الداخل وفى الخارج أيضا، وتوصيتهم أن «جورج بوش» (الابن) يحتاج للمرة الثانية إلى ولادة جديدة (سياسية هذه المرة وليست أخلاقية)، واقتراحهم أن يكون هناك فاصل زمنى، أى إجازة يبتعد فيها الرئيس عن الساحة ثم يعود إليها «رئاسيا بحق وحقيق!». وكان التخطيط أن يُقال ويُذاع ويُنشر أن الرئيس الجديد سوف يترك واشنطن لشهر على الأقل يلزم فيه مزرعته (كراوفورد) فى تكساس ومعه دراسات وتقارير وأوراق يعكف على دراستها، وسـوف يعود من هناك ومعه برنامج عمل يجدد طاقات الإدارة ويحشـد مواهبها ويوحد كلمتها ويحدد مهامها دون التباس فى جدول أعمالها أو حول مصدر القرار فيها. وكذلك أعلن رسميا أن «جورج بوش» سوف يغيب فى تكساس طوال شهر أغسطس حيث يقضى إجازة صيف يقظى وليست مسترخية، ونشيطة وليست كسولة، ومشغولة بالمستقبل وليست مأخوذة بسماع همس الريح أو نسيم البحر! وبينما كان الرأى العام الأمريكى والعالمى فى حيرة إزاء رئيس لم تمض عليه شهور فى السلطة، ويريد الآن إجازة شهر كامل فى مزرعته ـ كان الإيحاء من البيت الأبيض أنه «غياب له ما بعده» ـ وما بعده سوف يكون حضورا طاغيا كأنه وقوع المعجزة! ويوم أول سبتمبر بعد شهر كامل (أغسطس)، عاد الرئيس «بوش» من مزرعته فى «تكساس» إلى مكتبه فى البيت الأبيض، ودعا إلى سلسلة من اجتماعات لمجلس الأمن القومى بقصد إجراء مراجعة كاملة لستة شهور من إدارته، ولإعادة ضبط وتوجيه أكثر من ثلاث سنوات باقية من هذه الإدارة، وفى نفس الوقت استشراف فرصة مدة ثانية للرئاسة (بحيث يصحح ما لحق بوالده الذى دخل التاريخ رئيس مدة واحدة (وهى مسبة تسيء إلى أى رئيس سابق، باعتبار أن الناس رفضوه فى حق له بنص الدستور!). وفجأة صباح يوم 11 سبتمبر 2001 (بتوقيت شرق الولايات المتحدة) ـ وقعت الواقعة. * فى الساعة 8.45 اصطدمت طائرة مختطفة تابعة لشركة الخطوط الأمريكية (الرحلة رقم 11 من بوسطن) بالبرج الشمالى لمركز التجارة العالمى، فكسرت فيه فجوة ضخمة تحولت فى لحظة إلى فوهة حريق. * فى الساعة 9.03 اصطدمت طائرة مختطفة ثانية من مطار بوسطن تابعة أيضا لشركة الخطوط الأمريكية المتحدة (الرحلة رقم 175) بالبرج الجنوبى لمركز التجارة العالمى، وكذلك انفجر البرج الثانى لمركز التجارة العالمى. * وفى الساعة 9.43 اصطدمت طائرة مختطفة ثالثة من مطار بوسطن ذاته تابعة لشركة الطيران الأمريكية المتحدة (الرحلة رقم 77) بمبنى وزارة الدفاع فى واشنطن وهدمت ركنا منه وأشعلت لهبا فى ركن آخر يقع فيه مكتب وزير الدفاع نفسه. * وفى الساعة 10.05 كانت أبراج مركز التجارة العالمى ـ برجان هما أهم معالم نيويورك عاصمة المال والثقافة والإعلام فى الولايات المتحدة ـ يتهاويان حطام أنقاض، ورماد حريق يتساقط على الأرض. ....................
.................... * وفى مدينة «ساراسوتا» (فى فلوريدا) حيث كان الرئيس الأمريكى فى زيارة قصيرة ظهر للناس وكأنه طائر بحرى كاد يغرق تحت بقعة زيت تسربت من ناقلة زيت أصابها العطب فتعطلت وتدفقت حمولتها تغطى خليج فلوريدا تنبئ بكارثة بيئية مروعة، وقال الرئيس دون أن يظهر لسامعيه إنه استعاد حواسه بعد المفاجأة: «أمريكا تحت النار ـ تعرضنا لهجوم إرهابي!». كان المشهد مشهدًَا غريبا عند مركز القرار الأمريكى وأمام الشعب الأمريكى، وأكثر غرابة خارجه وراء البحار والمحيطات]. ....................
.................... وفى البيت الأبيض كان المشهد أشبه ما يكون بمؤامرات قصور الأمراء الباباوات الإيطاليين من آل «بورجيا» ونظرائهم ممن تمرسوا فى دسائس القصور ومؤامرات الاغتيال بالتناحر وبالسم وبالشائعات. وبعد أن وقع الهجوم على أمريكا كان «جورج بوش» على وشك أن يركب طائرته الرئاسية من فلوريدا عائدا بسرعة إلى واشــنطن وإلى البيت الأبيض ـ وإذا به يتلقى اتصـالا هاتفيا من نائبه «ريتشارد تشيني» يرجوه فيه أن لا يقترب من أجواء واشنطن، لأن طائرته مستهدفة بكمين إرهابى يتربص بها، وابتعدت الطائرة الرئاسية عن أجواء واشنطن، وظلت عشر ساعات شاردة وضائعة بين القواعد العسكرية والمطارات. كل ذلك وأسرة «بوش» وفى المقدمة منها والدته «بربارة» يستعجلون عودته إلى واشنطن، لأن مكانه هناك فى المكتب البيضاوى وليس فى غيره. ....................
..................... [وفى هذه اللحظات الحرجة راح رجال مثل «دونالد رامسفيلد» وغيره من أركان الإدارة يقولون ـ وبحيث تسمع أسرة «بوش» ـ أن «ديك تشيني» يريد أن يظل «دوبيا» بعيدا عن مركز القرار ليتأكد الرأى العام أنه رئيس فى الشكل وليس فى الموضوع، لأن الموضوع كله فى يد «ريتشارد تشيني»، وبالفعل فإن «تشيني» انتهز الفرصة ليتصرف فعليا أمام أمريكا باعتباره الرئيس الحقيقى الموجود فى البيت الأبيض، وعندها طلبت الأسرة (على الأقل الأب والأم) من «دوبيا» أن يعود على عجل، وأن يضع نفسه فورا وسط الصورة]. .....................
..................... وقد كان وفى وسط موقف شديد الحرج بالنسبة لأمريكا ـ كانت دسائس القصور تفرض على نائب الرئيس أن يبتعد عن الأنظار، وأن يتجنب الأضواء، وأن يختفى من مواقع النظر بحيث يخلو المسرح لرجل واحد هو «دوبيا»، والحجة أن الرئيس ونائبه فى زمن حرب لا يصح أن يتواجدا فى نفس المكان. كان البيت الأبيض يريد قيصرا واحدا يقف عند دخوله كل القواد يهتفون باسمه عندما يدخل ـ ويكررون الشيء نفسه عند الخروج. لكنه على طول الولايات المتحدة وعرضها ومن خط الماء إلى خط الماء، كان الصـوت والصـدى اسم رجل غامض يُشار إليه بالكراهية والرهبة، كأنه من عوالم السحر ـ هو «أسامة بن لادن» الذى قيل أن أعوانه حضروا كالعفاريت خفية من جبال وكهوف أفغانستان ـ وانقضوا نارا ودمارا فوق الأبراج العالية لأقوى إمبراطورية فى التاريخ!
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة