شـراء الرئاســةالأمريكية 2 0 0 4



هناك ملاحظتان أود التوقف عندهما قبل البدء في عرض هذا الكتاب المهم، ومناقشة أفكاره. أولاهما: الدور المحوري الذي يلعبه اللوبي الأمريكي «جماعات الضغط» في تسيير شئون السياسة الأمريكية، والدفع بها في اتجاه معين، علي الصعيدين: الداخلي والخارجي، نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: لوبي المزارعين، ولوبي الصناعات المختلفة ولا سيما صناعة السلاح، ولوبي العمال وحقوق المرأة، ولوبي المسنين، ولوبي البنوك ورجال الأعمال، واللوبي اليهودي المناصر لإسرائيل. وتسهم هذه الجماعات إسهاماً كبيراً في تمويل الانتخابات الأمريكية المهمة كافة، الأمر الذي ينعكس - علي نحو واضح - فيما تتخذه دوائر صنع القرار من سياسات إلا أن هذا التمويل ليس إلا رشوة تم تمويهها أو التغطية عليها بأسماء ودعاوي مختلفة، صرفًا للأنظار عن ماهيتها الحقيقية. وإن كنا في العالم العربي لا نولي اهتماماً يذكر إلا للوبي اليهودي، وذلك لأسباب لا تخفي، إلا أن الفساد السياسي المصاحب لتمويل الانتخابات في الكونجرس الأمريكي أو في رئاسة الدولة له تأثير أكبر بكثير من اللوبي اليهودي. غير أن الأخير ليس إلا واحداً من ظواهر عديدة تبين لنا بجلاء كيفية التأثير، وأحيانا التحكم في عمليات اتخاذ القرار. ثانيتهما: من المعروف أن هناك فروقاً تقليدية بين الحزبين الرئيسيين: الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية. إذ يمثل الحزب الجمهوري المحافظ مصالح رجال الصناعة والمال والتجارة والصناعات الحربية، بينما يمثل الحزب الديمقراطي مصالح العمال والمدرسين والأمريكان الأفارقة والمرأة، وجهود المحافظة علي البيئة وتشجيع البحث العلمي. وهو حزب يتأرجح بين الليبرالية والوسط. غير أن من اللافت للنظر أنه منذ النصف الثاني من القرن الماضي، حدث تحول في بنية الحزب الديمقراطي وتوجهاته أفضيا إلي اتجاه بعض أعضاء الحزب إلي تمويل حملاتهم الانتخابية من حافظة رجال الصناعة والمال، وأصبحت أفكارهم تنحو منحي الوسط أو اليمين. وقد وضع «رالف نادر» العربي الأصل ومرشح الرئاسة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، كتاباً قيماً أشار فيه إلي التغيير سالف الذكر، وانعكاساته علي الحزب الديمقراطي دعاه باسم «Crahsing the party » كما نوه نعوم تشومسكي «الأستاذ الشهير(MIT) إلي حقيقة مفادها أنه لم يكن هناك اختلاف كبير يثير الانتباه بين مرشح الحزب الجمهوري «بوب دول» وبين «بيل كلينتون» مرشح الحزب الديمقراطي لانتخابات سنة 1992، بل إن كلينتون كان المرشح الأفضل والأقرب إلي أباطرة الصناعة الأمريكية الذين دعموه ومنحوه ثقتهم. نأتي بعد ذلك إلي الكتاب الذي نحن بصدده والذي صدر أوائل هذا العام، واشترك في تحريره وتجميع مادته خمسون باحثاً وصحفيا، واشتمل علي أكثر من 600 تحقيق وبحث، عدا مئات الآلاف من التقارير الخاصة بحكومتي الفيدرالية والولايات وقد نشرت المؤسسة المسئولة The center for public integrity قبل صدور هذا الكتاب - مائتين وخمسة وعشرين تقريراً وأحد عشر كتاباً، وحصـــــدت عنهـــــا خمـــــس عشـــــرة جائزة مـــــــن جهــــــات تتمتع بالحيــــدة والموضوعية، وتحظي بالاحترام من الأوساط كافة. والكتاب الذي نتناوله الآن، هو الثالث في قائمة إصدارات هذه المؤسسة عن انتخابات الرئاسة، التي حرصت علي أن يأتي تحت العنوان ذاته، إذ كان الكتاب الأول عن انتخابات عام 1969، والثاني عن انتخابات عام 2000. وربما لا يعرف الكثيرون أنها مؤسسة لا تستهدف الربح ولا تتاجر في الكتب، وأغلب مطبوعاتها موجودة علي الإنترنت، علي الموقع التالي: (1) www.public integrity. Org (2) www.Bob2004.Org وكتابنا الذي نقدمه اليوم يقع في خمسمائة صفحة، ويباع بخمسة عشر دولاراً أي بسعر تكلفته. وهو كتاب يثير القلق ويستدعي الخوف علي مستقبل الديمقراطية الأمريكية التي يعدها البعض المثل والأنموذج اللذين يتعين علي العالم أن يقتدي بها، ويسير علي نهجها، فما ورد به من معلومات عن قوائم ممولي الانتخابات لكل مرشح للرئاسة، والأموال المدفوعة فيها، ومدي تأثير ذلك علي القرارات التي تتخذها الدولة، وعلي المواطن الأمريكي، يدحض - لاشك - المزاعم التي تدعيها لنفسها في هذا الصدد، ويكشف محتوي ديمقراطية جاهزة الإعداد والتصدير لشعوب العالم الثالث، وأنها وسيلة من وسائل الضغط علي حكوماتها. بيد أن مأثرة هذا الكتاب الكبري أنه في تعرضه بالبحث والدراسة لما يجري ويدور في أروقة الحملات الانتخابية للرئاسة، يستدعي إلي الذهن صورة انتخابات الكونجرس الأمريكي التي تعد صورة مصغرة لها، وتجلياً لفضائح انتخابات الرئاسة. وهي أمور تحجم شركات الإعلام الكبري عن ذكرها، بل تغض الطرف عنها، وتعلم الأوساط الأمريكية أنه منذ عام 1976، فإن المرشح الذي يتمكن من جمع أكبر تمويل مالي لحملته الانتخابية، يفوز بترشيح الحزب له أو بتصديقه علي ترشيحه، بصرف النظر عن مبادئه ومدي مصداقيتها، أو قدرته علي الوفاء ببرنامجه. فالفائز الحقيقي في الانتخابات هو الممول الذي يقف خلف مرشحه، الذي يرد الدّين له بطريقة أو بأخري من خلال التسهيلات الممنوحة له، أو المناصب المهمة التي تذهب إليه وإلي أنصاره، أو عبر التشريعات التي تسن لصالحه. وهناك مقولة أمريكية قديمة تقول: «إن أحسن استثمار عندنا هو شراء الكونجرس الأمريكي» «We have a congress the best money can bye». ومن البديهي أن شراء الرئاسة سيكون أفضل لمن يملك أموالاً أكثر. لكن المؤسف حقاً في هذا السياق، هو تقلص دور الفرد العادي، وتصاعد نفوذ الأغنياء والشركات الكبري في إقرار مجريات الانتخابات الأمريكية وإن كان دور الإنترنت سوف يتعاظم بشدة في التأثير علي مسيرة الانتخابات في المستقبل، إلا أن هذا سيكون مقصوراً علي القادرين علي استخدام الإنترنت، مما يؤدي إلي استبعاد الفقراء ومن نالوا قسطاً محدوداً من العلم. غير أن أخطر ما يلفت النظر في موضوعنا هذا، هو ذلك الدور الذي تلعبه شبكات التليفزيون والراديو وبعض الصحف الكبري، التي أصبحت تحت سيطرة شركات كبيرة ذات نفوذ قوي، في تشكيل وعي المواطن وتعبئته خلف مرشح بعينه، ومن نافل القول إن الإعلان في التليفزيون يكلف الكثير، ولا يستطيع أن ينهض به إلا من كان يملك التمويل القوي. أجل.. لقد تغيرت معالم انتخابات الرئاسة منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وتغيرت الأساليب التي كانت سائدة فيما سلف من عهود، وتم استبدالها بوسائل الإعلام الحديثة التي أصبحت تهيمن علي شتي جوانب الحياة في العالم. ولعلنا نتذكر ما جري في انتخابات سنة 1960 بين المرشحين الرئاسيين: نيكسون وكيندي في الانتخابات التمهيدية، وكيف استطاع كيندي تسويق برنامجه الانتخابي والترويج له بذكاء علي شاشة التليفــــــزيون، علي الرغــــــم من أنه لم يبدأ حملته إلا خــــــلال أســـابيع قليلة قبل ترشيح الحزب له، ولم يزر سوي ســـــبع ولايات فقـــــط، وذلك علي عكس ما هو متبع الآن، حيث تستغرق الانتخابات التمهيـــــــدية ما بين عــــــام أو عـــــامين، فضـــلاً عن احتياجها لتمويل مادي كبير، ومؤازرة معنوية ضخمة. وإن كانت الشركات الكبري تمول الحزب الجمهوري أكثر من تمويلها للحزب الديمقراطي، إلا أن التمويل قد يتســـاوي بين الحـــــزبين في حـــــالة ســيطرة الحزب الديمقراطي علي الكونجرس، فمثلاً شركات الادوية دفعت مليونين ونصف مليون دولار للجمهوريين سنة 1992، و 4،2 مليون دولار للديمقراطيين، عندما كانت الأغلبية لهم، وبعد تغير الأمر لصالح الجمهوريين، حيث صارت لهم الأغلبية، قامت شركات الادوية بدفع 3،16 مليون دولار للجمهوريين، و 4.4 مليون دولار للديمقراطيين. إن الشركات تدفع للنواب المهمين بصرف النظر عن هويتهم الحزبية، إذا كانوا سيساعدونها والشيء ذاته يقال عن الكثير من الشركات الصناعية. خذ مثلاً آخر علي ذلك وهو شركات التعدين التي دفعت 4،2 مليون دولار لتمويل انتخابات سنة2002، ذهب 90% منها للجمهوريين، و10% منها إلي الديمقراطيين، وكانت النتيجة أن الجمهوريين قدموا تسهيلات في قــوانين التحكم في التلوث البيئي حتي تقـــــل مصــــاريف الشـــــركات، بالتغــــاضي عن 3 بلايين لتر من نفايات تلك الشـــــركات. وقـــــد أصبـــــح المــسئول عن لوبي شركات التعدين، أكثر ملوثي البيئة، هو Marc Raciot رئيس الحزب الجمهوري. كما دفعت شركات الجاز مبلغ 7 ملايين دولار لبوش وللحزب الجمهوري، وحصلت مقابل ذلك علي الحق في استخراج الجاز من الحدائق القومية. إن تمويل الحملات الانتخابية، والفساد السياسي المرتبط بها، جعلا الترشيحات تكاد تكون مقصورة علي الاغنياء.غير أن حوالي 40% من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي وبعض محافظي الولايات، مليونيرات، قبل أن يبدأوا حياتهم السياسية. إن أكثر من 99% من الشعب الأمريكي لا يملك تلك الثروات الطائلة، للدخول في مغامرات سياسية. ومن لا يملك التمويل فعليه أن يجده عند آخرين، علي أن يدفع المطلـــــــــوب في المســــــــــتقبل. لــقد قال جيمي كارتر الرئيس الامــــــريكي الأســــــبق، والحاصل علي جائزة نوبل للسلام: إننا الديمقراطية الغربية الوحيدة التي اصـــاب نظامها الانتخابي هذا السرطان. ونتيجة ما يبدو من قلة مشاركة وتأثير المواطن الأمريكي العادي في الحياة السياسية فقد أحجم ما يقرب من 100مليون أمريكي (40%) عن المشاركة في الانتخابات، وبذلك فقدت الديمقراطية الحقيقية دورها ويبدو أن الكثير من الأمريكان لا يعلمون أو حتي لا يهمهم أن يعلموا ذلك. لقد أثار تمويل الانتخابات اهتمام الكثيرين داخل وخارج الكونجرس، ورأي الرئيسان السابقان فورد وكارتر وآخرون أن أفضل طريقة للخروج من هذا المأزق، هي أن تمنح شركات الاعلام أوقاتاً ومساحات متساوية لكل مرشح وعلي الرغم من وجاهة هذا الاقتراح، الا أن هناك مشكلتين: الأولي هي: «من هو المرشح الذي يحق له أن يأخذ هذا الوقت الإعلامي بدون أجر؟» والثانية هي: ما الذي يدفع شركات الإعلام إلي منح هذا الوقت أو المساحة الاعلامية بدون أجر؟ علماً بأن الحملات الانتخابية تكاد تكون مستمرة، وتمثل دخلاً كبيراً لشركات الإعلام. وعلي الرغم من النظرة المتشائمة إلي الديمقراطية الأمريكية إلا أن البعض يري أنه في إمكان مجموعات صغيرة من المتحمسين لقضية عادلة ومهمة أن يؤثروا ويصلحوا المسار. إن المجتمع الأمريكي مازال في دور الشباب، وهو مجتمع ديناميكي، وقد يتمكنون من إيجاد طريقة أفضل لمسيرة الانتخابات، وللحفاظ علي الديمقراطية. هناك سؤالان يهم القارئ العربي معرفة إجابة عنهما. السؤال الأول: ما موقف المرشح الديمقراطي أو الجمهوري من القضية الفلسطينية؟ والكتاب لم يذكر أي شيء عن ذلك. إلا أنني لا أعتقد أن هناك أي فارق كبير بين المرشحين في هذه القضية، خاصة من لديهم فرصة للفوز. والدليل علي ذلك، هو سياسة أمريكا في نصف القرن الماضي. أما السؤال الثاني فهو: هل النموذج الأمريكي الحالي للديمقراطية هو ما تريد أمريكا أن تفرضه علي العرب؟ والإجابة طبعاً: نعم، ليس من جانب أمريكا فقط، بل، أيضاً من جانب الشركات الاحتكارية الكبري في ظل نظام العولمة. والسؤال الذي يجب أن نسأله لأنفسنا اذا كنا لا نريد النموذج الأمريكي للديمقراطية فأي ديمقراطيــة ننشـــد؟ منذ عام 1976، يفوز المرشح، الذي يتمكن من جمع أكبر تمويل مالي لحملته الانتخابيـــة، بترشيح الحزب له أو بتصــــديقه علي ترشيحه، بصـــــرف النظـــر عن مبــــادئه ومـــــدي مصــداقيتها، أو قـــــدرته عــلي الوفــــــاء ببرنامجـــه
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة