حول الدين والمعرفة



يقوم الفكر العقيدي علي مسلمات أولية، ولفظ «عقيدة» يرد من عَقَدَ عقدة، والعقدة هو ما تنضم أجزاؤه بعضها إلي بعض فتتماسك، والعقيدة هي ما انعقد في النفس أو العقل، أي ما تراصت أجزاء فكرته فصار بعضها يشد بعضًا ويوثقه، ونحن نسميها عقيدة لأن دليلها يدور في داخلها، وبعبارة أخري هي مسلَّمة، لأنها تحتضن دليلها في ذاتها وتستمده من ذاتها وتدور معه. والفكر الفلسفي بعامة لا يخرج عن هذا الإطار، إلا أنه يطرح بدائل مستجدة أو مستحدثة أو يعرض للبدائل القائمة، وهو إما «يفترض» مسلمات جديدة أو يتحدث ويعرض للمسلمات القائمة. وهو في كل الأحوال ينشغل بما تنشغل به العقائد من حيث أصل الوجود أو صلة الإنسان بالكون وموضعه فيه وغير ذلك، وهو في النهاية يعرض «مسلمات» بديلة أو مقترحة. والدين يعتمد علي الاعتقاد بوجود الذات الإلهية الغيبية، أي التي لا يمكن العلم بكنهها، ولكن يمكن إدراك آثارها مع الاعتقاد بأنها مطلقة القدرة ومطلقة القوة ومطلقة في تنزيهها عن الشبيه والمثيل، وأنها واجبة الطاعة والعبادة بالطريقة التي رسمها للبشر. والدين بذلك يرد من المطلق ليحكم النسبي ويأتي من الثابت ليحكم المتحرك ويأتي من الدائم ليحكم المؤقت. وإن البعض من مفكري الإسلام يعرِّفون الدين بأنه وضع إلهي يرشد إلي الحق في الاعتقادات وإلي الخير في السلوك والمعاملات. ومن هنا ترد الصلة بين الدين بوصفه معتقدًا يتصل بالمطلق والثابت والدائم والمنزه، وبين الدين بوصفه حاكمًا لأوضاع الواقع المتغير والمتحول. ومن هنا أيضًا ترد مسألة صلة المعتقد بالمعرفة وكسبها، أي صلة المعتقد وتعاليمه بالتعامل مع الواقع. ولا أريد أن أستطرد كثيرًا، ولكن فارقًا أساسيا هنا بين أصول الاعتقاد في المسيحية وأصولها في الإسلام، فالمسيحية حسبما تبلورت لدي المسيحيين في القرون الأولي التالية للسيد المسيح، صنع معتقدها علي نحو يقبل القسمة والتمييز بين الرؤية الاعتقادية وبين ممارسة الواقع ومعايشته. وبهذه المكنة أمكن بعد ذلك زحزحة مجالات النشاط عن بعضها البعض علي ما يتابع من بعد في العصر الحديث في أوروبا، فوجد الدين، وبجواره ليس متصلاً به ولا متفرعًا عنه وُجِد النظر المعرفي الوضعي. وساعد علي ذلك أن السيد المسيح (لدي المسيحيين) لدي مسيحيي القرون التالية كان هو ذاته ذا الوضع الإلهي، وهو الكلمة، وقد رفع فلم يبق في الأرض. أما في الإسلام فالتصور العقيدي مختلف، إن ما يقابل مسيح المسيحيين في إسلام المسلمين هو القرآن، لأن القرآن هو كلمة الله، وقد توفي رسول الله صلي الله عليه وسلم والقرآن باق علي الأرض، وهو لا ينظم المعتقد الإسلامي فقط من حيث صلة الإنسان بالله، ولكنه يحكم سلوك المسلم ومعاملاته، بما أورد من أحكام تشريعية وبما أحال إليه من أحاديث وسنن رسول الله التي بقيت بالرواية ثم بالتدوين. ومن هنا ثارت مسألة كيف يمكن للنص الثابت الذي يشكل وضعًا إلهيا أن يحكم الواقع المتغير للبشر، وكيف يمكن للنص المحدد في إطار ألفاظه المعدودة أن يحكم الواقع المتنوع علي مدي الزمان. من هنا جاءت جهود التفسير لتضبط مناهج النظر المعرفي إلي الواقع المتغير وموقف الإنسان تجاه هذا الواقع المتغير، موقفه تجاهه من خلال النصوص الإيمانية الثابتة. وكان ذلك مما شغل علم الفقه من أول قرون الإسلام، إذ انتشر الإسلام في الأمصار والأصقاع وصارت أحكامه واجبة التطبيق علي أقوام شتي وشعوب متعددة وبيئات متنوعة، وصار مطلوبًا أن تحل المشاكل المستجدة في هذا المجال، ثم لما تعددت حالات التطبيق وتكاثرت الحلول واختلفت أساليب التفسير، صار مطلوبًا أن تتحدد وتتعين مناهج للتفسير تضبط تلك الأساليب، وصار ذلك ما عرف بعلم «أصول الفقه». ثم جاءت مسألة أخري هي حدود معرفة الإنسان في أي زمان ومكان، إن ما يعرفه تتولي مناهج أصول الفقه استخراج الأحكام بشأنه، ولكن ما هو الضابط النفسي والسلوكي الذي يضبط الحدود بين المعلوم والمجهول، وما كان أكثر المجاهيل التي تحيط بالإنسان علي مر قرون عديدة، وهنا ظهرت محاولات علم التصوف وممارساته للتمييز بين الأمر المدرك الذي يمكن للإرادة الإنسانية أن تدبر الشأن فيه، وبين غير المدرك وغير المعلوم الذي تكله الإرادة البشرية علي المعبود سبحانه. وبالنسبة لأصول الفقه، فقد عني أول ما عني بإيضاح ما هي مصادر التشريع الإسلامي وأن مصدريه الأساسيين المجمع عليهما هما القرآن الكريم والسنة النبوية والركيزة الأساسية للتصديق بهما هي ركيزة إيمانية، ولكن علم أصول الفقه اقترب من هذا المجال الإيماني بمنهج عقلي يتعلق «بالثبوت» والثبوت مسألة معرفية، فقالوا إن القرآن الكريم ثابت بطريق «التواتر»، وعرَّفوا التواتر بأنه ما يقول به جماعة يستحيل اتفاقهم علي كذب، وهذا منهج عقلي أشد صرامة مما نقول به الآن عن «المعرفة الاجتماعية» التي تصل للفرد منا ويصدق بها بغير أن يختبر بنفسه أدلة صوابها وثبوتها، مكتفيا بأنها تنتقل إليه من مصادر شتي، مثل دوران الأرض حول نفسها ودورانها حول الشمس، ومثل وجود أية بلدة لم يرها الشخص بنفسه. ثم أجروا معايير التحقيق العقلي علي الأحاديث الشريفة التي لا تتوافر لثبوتها درجة التواتر، وهي من حيث الضبط والتحقيق أكثر صرامة في نسقها العقلي من أساليب تحقيق الوقائع التاريخية، وهنا نلحظ أن النصوص الأساسية هذه، وهي إيمانية في التصديق بها، فقد صارت عقلية في ثبوتها، وقد تخللها العقل من هذا الوجه المعرفي، ثم بدأ من هذا التخلل يفرض سلطانه علي ما يتلو هذين المصدرين من مصادر أخري ومن مجالات أعمال. ومن المعروف أن النصوص محدودة، سواء نصوص القرآن الكريم أو نصوص السنة النبوية الشريفة، فظهرت مصادر أخري تالية، وفي غالبها نلمس دورًا ناميا وفعالاً للعقل في تفاعله مع الواقع المعيش. فمثلاً «القياس» الذي قال به الإمام الشافعي منذ اثني عشر قرنًا وصار مهمًا وواسع التطبيق، هو يتعلق بإدراك وجه الشبه الفعال بين الظواهر التي وردت عنها أحكام في القرآن أو السنة، والظواهر التي لم ترد عنها أحكام فيهما، والمهم هنا هو المنهج المعرفي الذي وُضع لإدراك الشبه الفعال، وهو منهج يعمل الاستقراء لإدراك خواص الظواهر ولتبين الخاصّة التي تعتبر «علة» الحكم أي سببه وهو ما أسموه «المناط». وهنا نلحظ وجوه تجريب واستقراء وملاحظة، ثم استخلاص للصفة العلة وبلوغ المشترك الحاكم لما يمكن أن نعتبره متماثلاً. ومثلاً «الاستصحاب» وهو منهج عقلي معرفي، ومؤداه هو بقاء الحال علي ما كان حتي يقوم دليل يغيره، فهو يتعلق «بالإدراك» البشري للواقع، ومؤداه أنه عند التيقن من وجود أمر ما، فنحن نتصرف علي أساس أنه موجود بعد ذلك حتي يتبين لنا أن ثمة تغييرًا أو تعديلاً حدث. وما ثبت باليقين من ذلك لا يزول إلا بيقين مغاير. وقد سمي الفقهاء هذا الأمر أنه مصدر تشريعي، وفي الحقيقة هو منهج معرفي مكمل للإدراك البشري، يسد الفجوة بين تيقن حدث وتيقن آخر طرأ بعد مدة. ومثلاً «الاستصلاح» أو المصالح المرسلة، وهي التصدي المباشر للواقع الحادث والعمل بما فيه مصلحة الناس، وذلك فيما ليس فيه أمر ديني أو نهي ديني ورد بالقرآن أو السنة. والنظر في هذا الشأن يكون بملاحظة أن كل الأوامر الدينية والنواهي الدينية هي مقررة من الله سبحانه لنفع الناس ولإصلاح شئونهم أيضًا. وفي مجال الخلاف في مدي كل من الأوامر والنواهي التي مصدرها القرآن والسنة، فإن الخلاف يكون في غير الأحكام ذات الدلالة القطعية، يكون فيما هو ظني، وهو ينقسم بين رأي راجح ورأي مرجوح، وهذا الانقسام إنما يكون بالدليل العقلي والواقعي، ويحسمه ما تتقبله الجماعة وترضي به، ويحسمه أيضًا ولي الأمر فيما يراه. وتنبغي ملاحظة أنه عندما يقال أن لولي الأمر أن يحسم خلافًا وينفذ رأيه فيه، فإن ذلك لا يعني تجرده من المسئولية والتبعة، ولكن معناه أن الأمر ينتقل من مجال المشروعية الدينية إلي مجال المسئولية السياسية عن إدراك صوالح الناس بمعايير واقعهم المعيشي. وشأن ذلك أيضاً شأن ما يسمونه «السياسة الشرعية» وهي أوامر ولي الأمر ونواهيه التي قصد بها صلاح الأمة فيما ليس فيه أمر ولا نهي في الشريعة المُنزَّلة، فإن هذه السلطة لولي الأمر لا تنفلت عن الشرعية ولكنها تخضع لاعتبارات المصالح. وأنا لا أريد أن أستطرد أكثر من هذا في هذه النقطة، إنما قصدت سوق الأمثلة للأساليب والمناهج التي يتفاعل بها الفكر الديني بنصوصه الثابتة، مع مناهج إعمال العقل من ناحية ومع أساليب التعرف علي الواقع ومناهجه من ناحية أخري. وما أريد أن أوضحه أن هذه الأمثلة وغيرها، لم تحتج مني إلي إسناد بالمراجع، لأن المادة التي اعتمدت عليها هي من المعروف المشتهر لدي المطالعين والعارفين بهذا الأمر، وما سقته إنما كان جهدي فيه هو الربط والاستخلاص للدلالة التي تستفاد في صدد الموضوع المعروض. وهذه الأسس هي مما يشكل البنية التحتية للتكوين الفكري الفقهي بالنسبة للإسلام. وبالنسبة للضابط الخاص بسلوك الإنسان بين المعلوم والمجهول لديه، فإننا هنا نجد جهود نفر من ذوي الفكر الصوفي تحدثوا في هذا الشأن وشاع حديثهم وتعاليمهم حتي وجدت لها بين العامة مكانها وانعكست في سلوكهم. وأن النظر الذي ساد في كتابات وأحوال ذوي الأثر في البنيان الفكري والمعرفي الذي ذاع بين الناس، ليس هو إنكار الحقائق الواقعية أو البعد عن التعرف عليها، ولكنه يتعلق بكيفية بناء الإنسان علي أساس من القدرة علي البذل والعطاء وإنكار الذات وعدم تعلق القلوب بمغريات الحياة. وبالنسبة للنظر إلي القدر، فهو نظر يتعلق بما وراء المعرفة الكسبية والعلم الكسبي، فما نعرفه من حقائق الحياة نتعامل معه بما صيغت به النفس والوجدان من ترويض ومن بذل وعطاء. وما لا نعرفه هو ما يدبر الإنسان أمر نفسه فيه علي التقبل والرضا، وهذه المعاني نراها بصياغات كثيرة وأساليب تعبير شتي في الكتابات الذائعة لكبار مفكري هذا المجال مثل الجنيدي والقشيري وابن عطاء الله وغيرهم. وقد أكتفي في بيان الموقف الفكري الإسلامي بهذين المجالين، مجال الفقه الإسلامي وأصوله، ومجال التصوف. وذلك لأنه في تصوري أن هذين المجالين هما أكثر مجالات الفكر التي صيغت بها العقلية الإسلامية، منظورًا في ذلك إلي مثقفيهم ذوي الثقافة الإسلامية، وإلي العامة أيضًا. وبالنسبة للفقه، فإن المفكرين الاجتماعيين المحدثين وباحثيهم ومؤرخيهم، لا يهتمون بهذا الجانب اهتمامهم بالجوانب الأخري الاقتصادية والأدبية والتعليمية وغيرها. رغم أنه من أكثر الجوانب التي تعكس أوضاع المجتمعات واقعًا وفكرًا، ولا أقصد بذلك الفقه الإسلامي فقط ولكني أقصد أيضًا الفقه الوضعي، إنه بالنسبة لفروع علم الاجتماع، مثل فن العمارة بالنسبة لفروع الفنون التشكيلية. لأنه الفرع الأكثر مساسًا بالناس في حياتهم اليومية، والفقه لا يستطيع إلا أن يكون واقعيا لأنه يحكم أوضاع الناس ومعاملاتهم ويتصدي لمشاكلهم المعيشة يومًا بيوم. والمجال الثاني هو الصوفية، وقد كان حتي الوقت الحاضر القريب يمثل أكثر المجالات أثرًا في الصناعة الدينية للوجدان الشعبي، وكان يقوم بنظراته الإنسانية مقام علوم النفس الآن، وكان يقوم في تشكيله للوجدان الشعبي بما تقوم به فنون الأدب والقصة والمسرحية، وله انتاجه الأدبي في الشعر والحكم والدعاء، وفيه وجدت الموسيقي والغناء الديني موضعها. ذكرت من قبل الملامح العامة لتضاريس ما أظنه البنية الأساسية للتفكير الديني الإسلامي في بلادنا. وهذا لا يخل طبعًا بما وجد ويوجد من وعورة تعوق السير ومن طرق مسدودة وغير ذلك. إنما ما قصدت إظهاره أن البنية التحتية الأساسية تبقي في توصيفها الأخير علي الصورة العامة التي ذكرتها، وأن ذلك من شأنه أن هذا الفكر مهما اعتراه من جمود أو غيره فإن في بنائه الذاتي ما يمكنه من إصلاح شأنه في تصديه للواقع المحيط في كل ظرف، وذلك بمراعاة ما يلي علي سبيل التمثيل: أولاً: إذا كان منهج الاعتبار بالمصالح ومنهج اتصال النص مع الواقع واستخراج الحكم، إذا كان كل ذلك من الأمور المقررة، فإن المشكل يحدث لا من افتقاد القدرة المنهجية المتاحة لرؤية الواقع وإدراك المصالح، ولكنه يحدث من جهة القدرة الذاتية علي رؤية الواقع، أو من جهة تنوع المصالح وتعارضها وصياغة الواقع في إطار نظرة محددة ومسبقة للواقع، أو الرغبة في عدم الاعتراف بواقع حادث استبقاءً لأوضاع قائمة، وكل ذلك تعرفه العلوم الاجتماعية، وهو يرد في تحليله لا إلي افتقاد المنهج المعرفي ولكن إلي عجز الرائي عن الرؤية لعدم تقديم الواقع إليه من خلال الخبرات والبيانات والمعلومات الدالة، أو إلي عدم رغبة الرائي في الاعتراف بواقع حادث. ثانيا: إن مؤسسات الفكر الديني كانت ذات استقلال نسبي، أو بعبارة أدق كان لها تميزها الذاتي وحركتها الذاتية ودرجة لا بأس بها من التعبير عن الذات. وكان ذلك علي مشارف المرحلة المعاصرة التي بدأت في القرن التاسع عشر في بلادنا، وكان الفكر الديني يتصف بقدر ملحوظ من الجمود، ولكن جموده في ظني كان يتأتي من جمود حركة الواقع وحركة المجتمع، لم يكن في مجتمعاتنا حتي نهايات القرن الثامن عشر، دفع بالواقع الاجتماعي السياسي إلي شيء من التجديد أو التغيير، فلم تكن ظهرت مستجدات ولا تحديات تتطلب استجابات مستحدثة وتطرح علي الفكر أن ينفتح لها وأن ينظم ما تستدعيه من أنماط تعامل وقيم سلوك ملائمة. ثم لما ظهرت هذه الحاجات علي مدي القرن التاسع عشر، وواكبها التفاعل الفكري وتحديات الاحتكاك بالحضارة الأوروبية والأطماع الغربية، ظهرت محاولات الانتعاش الفكري وظهرت دعاواه ورجاله، ومتابعة التطورات الفكرية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تظهر وتكشف عن هذا الأمر، ولكن ظهرت مسألتان عقدتا هذا المسار. ثالثًا: المسألة الأولي أن حركة التجديد تواكبت زمنيا مع الوفود الأجنبي الغربي في صوره الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، وكان الوفود الثقافي الأجنبي المؤيد بوقائع الغزو والسيطرة مما جعل المحافظة الدينية الفكرية ذات وظيفة فعَّالة في المقاومة واستدعاء روح الصمود والتصدي، كما أن هذا الوفود الأجنبي في المجال الفكري والسلوكي قد استنفر مشاعر الخصام ودعم رد الفعل المتحصن في روح المحافظة. قويت المحافظة في مواجهة حركة التجديد بما أسبغته علي الناس من روح التحصن ضد الغريب الوافد، وبما صار لها من وظيفة إيجابية في التصدي ودعم الصمود والمقاومة علي المستوي السياسي والاجتماعي. وضعفت حركة التجديد لأنها لم تستطع في هذا الوقت المبكر لها أن تميز نفسها وقضاياها الجادة عن حركة التغريب الوافدة. رابعًا: المسألة الثانية تتعلق بالمؤسسة الدينية، وهي علي مدي القرن العشرين علي نحو خاص، قد فقدت ما يمكن أن نسميه تميزها المؤسسي الذاتي أو استقلالها النسبي، وذلك في مواجهة الدولة المركزية الحديثة التي أُرسيت جذورها في عهد النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأخذت في النمو والتوسع علي حساب هيئات المجتمع المدني والمؤسسات ذات الاستقلال النسبي أو التميز الذاتي، وذلك من منتصف القرن التاسع عشر وحتي منتصف القرن العشرين. ثم طفرت طفرة واسعة في السيطرة والهيمنة في النصف الأخير من القرن العشرين. وبهذه الطفرة الأخيرة اكتمل للدولة المركزية الحديثة أن تكون هي التنظيم الأوحد، وأن تتعامل مع الوحدات الأهلية مثل الجمعيات والأوقاف والطرق الصوفية، ومع الهيئات ذات الاستقلال النسبي مثل الجامعات والأزهر، سواء منها الحديث كالجمعيات والجامعات، أو التقليدي كالأوقاف والأزهر، أن تتعامل مع ذلك كله، إما بالإلغاء كالأوقاف، أو بالهيمنة والوصاية علي التكوين المؤسسي كالجمعيات أو بالإلحاق كالجامعات والأزهر. ومع ذلك فقد صارت المؤسسات الدينية إما تابعة للدولة كالمساجد التي اتبعت جميعها لإدارة الدولة علي مدي السنوات العشرين الماضية بصفة خاصة أو ألحقت بالدولة مثل الأزهر والمعاهد الدينية وكذلك الطرق الصوفية. وصارت التغيرات الفكرية في هذا المجال تجري في إطار التعبير عن سياسات الدولة. وصارت الدولة وأجهزتها الأخري هي من يمد المؤسسات الدينية بالرؤية الخاصة بالواقع الاجتماعي أو السياسي، وهي الرؤية التي يتعامل معها فقه الأحكام وتصدر بها التفسيرات. ولذلك فإن الفكر الديني غير المعبر عن سياسات الدولة، صارت له منابره الأهلية البعيدة عن هذه السيطرة، وذلك في حركة المجتمع الفكرية والثقافية والسياسية الاجتماعية غير المتمأسسة، وهي بتلقائياتها وزخمها صارت الأبعد أثرًا وأنفذ إلي قلوب الناس وتشكلاتهم الدينية في المجال الوجداني أو الفكري الثقافي. وكل ذلك يستقي من البنية التحتية التي سبق أن أشرت إليها، ومن الرؤي الواقعية السياسية والاجتماعية للحركة التلقائية للأهالي ولمفكريهم وذوي الأثر فيهم. بمناسبة ما نُشر وينشر تعليقًا علي تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2003، هذه هي الورقة الخلفية التي كنت قدمتها لواضعي التقرير. وكنت حاولت فيها بإيجاز وتركيز أن أرسم الصورة العامة لما أظنه التضاريس الكلية للموقف الثقافي الإسلامي، بالنسبة لصلة المعتقد بالواقع وبالعقل وبالتربية البشرية، وبالنسبة لمظان البحث في هذا الشأن عقليا ووجدانيا. وأترك للقارئ أن يقدِّر مدي ما يكون ما ورد بالتقرير متوافقًا مع هذا النظر أو غير متوافق. ومن ناحيتي فأظن أن التقرير لم يستفد واضعوه مما كتبت. أو أنهم لم يوافقوا عليه. ولا أدعي صواب نظرتي إزاء ما يراه آخرون، ولكنني أترك للقارئ أيضًا، وللدارس بصفة خاصة، أن يقرر: هل سيكون من الملائم أن يذكر اسم شخص في تقرير دون أن ينشر ما قدمه، ودون أن يظهر لما قدمه أثر فيما نُشِر؟ طارق البشري عندما يقال أن لولي الأمر أن يحسم خلافًا وينفذ رأيه فيه، فإن ذلك لا يعني تجرده من المسئولية والتبعة، ولكن معناه أن الأمر ينتقل من مجال المشروعية الدينية إلي مجال المسئولية السياسية عن إدراك صوالح الناس بمعايير واقعهم المعيش الفقه لا يستطيع إلا أن يكون واقعيًا لأنه يحكم أوضاع الناس ومعاملاتهم ويتصدي لمشاكلهم المعيشة يومًا بيوم قويت المحافظة في مواجهة حركة التجديد بما أسبغته علي الناس من روح التحصن ضد الغريب الوافد،وبما صار لها من وظيفة إيجابية في التصدي ودعم الصمود والمقاومة علي المستوي السياسي والاجتماعي. وضعفت حركة التجديد لأنها لم تستطع في هذا الوقت المبكر لها أن تميز نفسها وقضاياها الجادة عن حركة التغريب الوافدة
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة