تاريخ العلاقات السرية بين يهود مصر والحركة الشيوعية..وفرنسا



توفي في منتصف مارس 2001 شحاتة هارون وهو أحد الشخصيات البارزة في التاريخ المعاصر لليسار المصري بشكل عام، والحركة الشيوعية المصرية بشكل خاص. ومن اللافت للنظر أن شحاتة هارون اليهودي المصري المنتمي تاريخياًً للتيار الشيوعي قد طلب في وصيته استقدام حاخام من فرنسا للصلاة عليه، وطلب أن ينشر في نعيه جميع هوياته: المصرية واليهودية والانحياز للمضطهدين بمن فيهم الفلسطينيون. وقد أثار غياب شحاتة هارون من جديد ليس فقط مسألة العلاقة بين اليهود المصريين والحركة الشيوعية، حيث لاشك أن هناك الكثير من الكتابات التي تناولت هذه الزاوية سواء من داخل معسكر الحركة الشيوعية المصرية أو من خندق المعارضين لها، ولكنه أثار العلاقة الثلاثية الأبعاد بين يهود مصر والحركة الشيوعية وفرنسا، وهي علاقة تعرض لها عرضاً عدد من الكتّاب في معرض تناولهم لتاريخ يهود مصر أو لتاريخ الحركة الشيوعية في مصر أو الحزب الشيوعي الفرنسي، ولكن ربما لم يتم تناولها بشكل مترابط في مقال بحثي واحد من قبل. ويرتبط الموضوع أيضاً بمناسبة صدور الجزء الأول من مذكرات الأستاذ محمد يوسف الجندي الذي حمل عنوان مسيرة حياتي حتي 1964 "والصادر عن دار الثقافة الجديدة" مؤخراً، وهو كتاب مهم من حيث تناوله لدور اليهود في الحركة الشيوعية المصرية، وأنماط تطور هذه الحركة، وعلاقة ذلك بفرنسا وحزبها الشيوعي، وذلك كله من منظور رواية السيرة الذاتية لكاتبه. ويقر محمد يوسف الجندي في سيرته الذاتية (ص35) أن مؤسسي أكبر أربع منظمات شيوعية في مصر كانوا يهوداً، إلا أنه يوضح بجلاء أن ذلك لم يثر تحفظاً لديه. ففي ذلك الوقت، وقبل حرب فلسطين كان المجتمع المصري يتقبل اليهود ودورهم في المجالات السياسية والاقتصادية والنقابية والاجتماعية. ففي العشرينيات من القرن العشرين وحتي الأربعينيات تزعم يهود منظمات نقابية، وكان منهم داود ناحوم، كما لعبوا دوراً مهما في الصحافة مثل يعقوب صنوع، ولم يجد المصريون العاديون غضاضة في التعامل أو حتي التعاون مع اليهودي مثله مثل القبطى. وبالإضافة إلي اليهود ذوي الجذور المصرية، يشير محمد الجندي إلي أن جالية كبيرة من الأجانب كانت تعيش في مصر، خاصة قبل إلغاء الامتيازات الأجنبية طبقاً لاتفاقية مونتريه لعام 1937، وكان من هؤلاء الأجانب نسبة مهمة من اليهود من جنسيات مختلفة (الفرنسية/ الإيطالية/ اليونانية/ الأرمنية) أو حتي بلا جنسية. وكانت فرصة هؤلاء في الانفتاح علي أوروبا وعلي الثقافة والفكر هناك أكثر من المصريين، ولذا كان من الطبيعي أن يكون لهم ريادة في مختلف المجالات، بما في ذلك الحركات الثورية والتعرف علي الفكر الماركسى. وخلال الحرب العالمية الثانية، وأثناء التحالف ضد ألمانيا النازية والذي ضم الاتحاد السوفيتي السابق، أصبح هناك تساؤل في تقبل دخول الكتب عن الاتحاد السوفيتي وعن النظرية الماركسية، وافتتح "هنري كورييل" ـ اليهودي ذو الجنسية الإيطالية الذي قدم أبواه أصلاً من فرنسا للإقامة والعمل في مصر ـ مكتبة في ميدان مصطفي كامل سماها "مكتبة الميدان"، كانت تعرض الكتب التي تعكس الفكر الشيوعي، وبالرغم من أن أغلبها كان باللغات الأجنبية، فقد اعتاد الشباب اليساري في مصر علي ارتيادها، ويوضح محمد الجندي أن أبا كورييل كان مليونيراً وأنه في بعض الروايات كانت المكتبة ملك والده ولكن كان يديرها هو. ويري محمد يوسف الجندي في سيرته الذاتية أن اليسار المصري كان يعارض الدعوة الصهيونية والدعوة لهجرة اليهود إلي فلسطين، وذلك بالرغم من أن المنظمات الشيوعية في مصر كانت تضم عدداً من اليهود. بل إن هؤلاء اليهود شكلوا ما سمي بـ"رابطة اليهود للنضال ضد الصهيونية"، كما أنه يؤكد أن النضال ضد المنظمات الشيوعية أيد نضال الشعوب العربية ضد الاستعمار ودعا للتضامن معها، وفي ضوء وجود غالبية ضمن قادة وأعضاء المنظمات الشيوعية في مصر من الأجانب خلال الأربعينيات (ص42)، فإن محمد يوسف الجندي يري أنه كان من الطبيعي أن تساند هذه المنظمات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وأن تؤيد مجيء الحكومة الوفدية للحكم في 4 فبراير 1942، وذلك بالرغم من اتهام قوي وطنية أخري لهذه الحكومة بأنها جاءت علي أسنة الحراب البريطانية. ونلاحظ من قراءة السيرة الذاتية للأستاذ محمد الجندي أنه عندما يسرد أسماء من شملتهم اعتقالات 11 يوليو 1946 التالية للدور النشيط للحركة الوطنية العليا للطلبة والعمال التي لعب الشيوعيون دوراً مهما في إطارها، يبرز عدد لا بأس به من الأسماء اليهودية مثــل هنــري كورييل وداود ناحــوم ونحوم منشه وإيمي ستون وغيرهم (ص55ـ 56). ويتعرض محمد الجندي للخلافات التي جرت عند توحيد تنظيمي "ايسكرا" و"الحركة المصرية للتحرر الوطنى" في تنظيم واحد هو "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)" أو ما سمِّي تاريخياً بوفد الشيوعيين، وجاء ذلك عقب أحداث 1946 (ص59). فقد كان حجم الأجانب في قيادة "ايسكرا" يمثل الأغلبية، بينما كانت القيادة في "الحركة المصرية" من المصريين عدا هنري كورييل، وتركز الخلاف حول تمصير القيادة، وكان كورييل من أبرز الداعمين للتمصير، مما حسم الخلاف لصالح التمصير مع بقاء كورييل مسئولاً سياسياً و"هليل شفارتز" مسئولاً تنظيمياً. وبحلول هذا الوقت، كان مكتب والد هنري كورييل قد تحول إلي مكان للقاءات التنظيمية للشيوعيين المصريين، وكان كورييل يتحدث العربية بلكنة أجنبية، فلغته الأولي كانت الفرنسية، مثله مثل معظم اليهود الأجانب المقيمين في مصر حينذاك، ولكنه كان يقرأ العربية بسهولة (ص60). وكانت الحركة الشيوعية ـ في رأي محمد يوسف الجندي ـ مدخلاً لربط كورييل وغيره من اليهود ذوي الأصول الأجنبية مع المصريين من عمال وموظفين ومثقفين، بل وأزهريين، وغيرهم. ومن المحطات المهمة في مذكرات محمد الجندي تعرضه لحرب فلسطين، فهو يقر بمعارضة "حدتو" للحرب التي كانت كوادر الحركة تري فيها مؤامرة مشتركة بين الاستعمار البريطاني والسراي والرجعية المصرية لصرف الأنظار عن الوجود البريطاني في مصر (ص67 ـ 68). وبالرغم من ذلك يعيد تأكيد أن الحركة كانت ترفض هجرة اليهود إلي فلسطين، وأنها دعت أصلاً لإقامة دولة ديمقراطية ومستقلة واحدة تضم جميع سكان فلسطين من العرب واليهود، وهو ما رفضه الطرفان العربي واليهودى. ويعترف محمد الجندي بتأييد "حدتو" لقرار تقسيم فلسطين، ولكنه يوضح أن ذلك لم يجيء باعتبار التقسيم حلاً جيداً، ولكن باعتباره الحل الوحيد الممكن الذي يضمن جلاء الجيوش البريطانية عن فلسطين (ونلاحظ هنا عدم تعرض الكاتب لما يضمن حقوق عرب فلسطين)، ويري أن البديل كان حرباً لم تكن مصر مستعدة لها، وأن الهدف المتفق عليه من وراء هذه الحرب بين الملك عبدالله والوكالة اليهودية والاستعمار البريطاني هو منع قيام دولة فلسطين. ويخلص الجندي إلي أن الزمن أثبت صحة وجهة نظر "حدتو"، فقد لحقت الهزيمة بالعرب، واستولي اليهود علي مساحة أكبر مما قررته الأمم المتحدة لهم، وتم القضاء علي فرصة إقامة دولة فلسطينية، في حين أنه كان يجب التمسك بالحدود التي حددتها الأمم المتحدة للدولة الفلسطينية، حتي لو كان ذلك كحد أدنى. ويتضح من تحليل الأستاذ محمد الجندي لأحداث حرب فلسطين التزامه بالتفسير التآمري لتلك الأحداث، وهو تفسير تبنته قوي سياسية عديدة لها توجهات فكرية متباينة تجاه نفس تلك الأحداث، وتراوحت مواقعها ما بين التيارات الدينية والقومية العربية والوطنية المصرية واليسارية. وينتقل الكاتب من تناول أحداث حرب فلسطين إلي إفرازاتها علي الساحة المصرية، خاصة ما أسماه بحالة "الهستيريا" التي سادت مصر وتميزت بالعداء لليهود، بالرغم مما يؤكده الأستاذ الجندي من أن اليهود المصريين كانوا يحملون نفس ملامح المسلمين والأقباط المصريين، ويتهم الجندي جماعة الإخوان المسلمين وجماعات أخري باستغلال حرب فلسطين لإذكاء مشاعر التعصب ضد اليهود، ويوضح أنه عقب اغتيال النقراشي باشا عام 1949، فإن قائمة الاعتقالات لم تقتصر علي الإخوان المسلمين المتهمين بعملية الاغتيال، بل شملت أيضاً الشيوعيين واليهود، بمن فيهم كورييل. ويفرق محمد يوسف الجندي بين الصهيونية التي يعتبرها حركة رجعية وبين اليهود الذين يجب كسبهم للنضال مع العرب في المعركة ضد الاستعمار والصهيونية (ص72)، منطلقاً مما تمليه عليه انتماءاته الفكرية لمفاهيم الأممية والاشتراكية، وعلي أساس الفرضية الماركسية القائمة علي اعتبار أن مصالح الشعوب الكادحة في كل مكان واحدة رافضة لما تعتبره مظاهر التعصب القومي والتوجهات العنصرية. ويواصل الكاتب تركيزه علي شخصية كورييل المحورية في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، حيث يوضح أنه تولي لاحقاً قيادة تيار سمِّي بـ"خط القوات الوطنية الديمقراطية" وكان يدعو إلي عدم اقتصار الدعوة والتنظيم علي العمال، بل شموله الفلاحين والمثقفين والطلبة أيضاً، بينما كان اتجاه آخر بقيادة د. عبدالمعبود الجبيلي يدفع إلي اقتصار العمل علي صفوف العمال فقط، ثم تولي كورييل لاحقاً ما سمي بقيادة الداخل للحركة. وإذا كان ما سبق قد تناول في معظمه العلاقة بين اليهود والحركة الشيوعية المصرية، مع إشارات هنا وهناك إلي العنصر الثالث في هذا المقال أي "فرنسا"، فإن التركيز علي فرنسا يزداد في مذكرات محمد الجندي عندما يشير إلي عودة د. إسماعيل صبري عبدالله عام 1949 من فرنسا بعد حصوله علي شهادة الدكتوراه، وما ذكره عن الاتصال بالحزب الشيوعي الفرنسي أثناء إقامته هناك ومجيئه بتوجيه بتكوين الحزب الشيوعي المصري، خاصة أن الحزب الشيوعي الفرنسي لم يكن يمنع انضمام الأجانب لعضويته مما دفع عدداً من المصريين ـ غالبيتهم من اليهود الذين طردوا من مصر عام 1948 بعد اعتقالهم، حيث كان يطرد اليهود الذين لا يحملون الجنسية المصرية بينما كان يخير اليهود المصريين بين مغادرة البلاد أو البقاء رهن الاعتقال، وكان عدد كبير منهم قد اختار الذهاب إلي فرنسا، سواء للبقاء فيها، أو للانتقال من هناك إلي إسرائيل للانضمام إلي صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، وهو ما تبلور لاحقاً في تشكيل ما سمي بـ"المجموعة المصرية" داخل الحزب واختير إسماعيل صبري عبدالله مسئولاً لها. ولم يقتصر التواجد اليهودي المؤثر في "حدتو" أو الحزب الشيوعي المصري، بل شمل منظمات أخري، فكان "مارسيل إسرائيل" هو أحد مؤسسي منظمة تحرير الشعب الشيوعية، كما أن سيدة أجنبية يهودية هي "أوديت حزان" هي التي أنشأت المنظمة الشيوعية المصرية. . ومن المفارقات أيضاً، أن محمد الجندي يوضح أنه التقي بهذه السيدة لأول مرة بعد ذلك في عقد الثمانينيات من القرن العشرين، وكان اللقاء في باريس (ص76). وتأتي مرحلة أخري ليست أقل إمتاعاً مما سبق في مذكرات محمد يوسف الجندي، وذلك عندما يتحدث عن خروجه من مصر هارباً واتجاهه إلي باريس، بتنظيم من الحركة الشيوعية المصرية، وذهب إلي عنوان محدد له سلفاً وكان لعائلة مصرية يهودية طردت من مصر عام 1948 (ص91). ونلاحظ هنا تكرار الأستاذ محمد الجندي لمقولة طرد اليهود من مصر عام 1948. وهي مقولة يختلف معه فيها الكثيرون بمن فيهم كاتب هذا المقال، حيث إن استخدام تعبير الطرد يوحي بالمساواة بين خروج بعض اليهود من مصر خوفاً من حالة العداء الشعبي لليهود عقب حرب 1948 وبين الطرد المخطط والمنظم للفلسطينيين من أراضيهم بواسطة الجماعات الصهيونية في فلسطين. وخلال وجوده في باريس، التقي محمد الجندي مع العديد من اليهود الشيوعيين الذين كانوا في مصر وذهبوا إلي فرنسا دون أن يقطعوا صلاتهم التنظيمية مع الحركة الشيوعية المصرية، بل إنه يوضح أن أعضاء "حدتو" الذين انضموا في البداية للحزب الشيوعي الفرنسي استقالوا بعد ذلك بتوجيه من هنري كورييل ليحافظوا علي ارتباطهم العضوي بـ"حدتو" في مصر، حيث رأي كورييل أن جهودهم يجب أن توجه إلي داخل مصر وقام بتشكيل لجنة قيادية للعمل في الخارج بقيادته لجمع الشتات الشيوعي المصري في الخارج، خاصة من اليهود، وكان كورييل قد طرد في منتصف عام 1950 من مصر إلي إيطاليا باعتباره يحمل الجنسية الإيطالية، ولكن إيطاليا لم تعترف بهذه الجنسية، مما دفعه لترتيب حضوره إلي باريس بشكل غير شرعي في أوائل عام 1951، حيث استمر في الإقامة فيها حتي اغتياله في 4 مايو 1978. وحدثت أزمة بين كورييل وبين المجموعة اليهودية الشيوعية ذات الأصول المصرية في باريس من جهة والحزب الشيوعي الفرنسي من جهة أخري حين اتهم بعض قادة الحزب "أندريه مارتى" بأنه علي علاقة بزوجين مصريين مشكوك فيهما"، وكان المقصود كورييل وزوجته (ص92). ويستمر الجندي في سرد لقاءاته باليهود المصريين المنتمين للحركة الشيوعية خلال وجوده في فرنسا، حيث يشير إلي لقائه مع يوسف حزان الذي رتب له الإقامة مع أسرة يهودية أخري كانت قد التحقت بعضوية الحزب الشيوعي الفرنسي (ص92). ويتناول الجندي بقدر مهم من التفصيل الخلاف بين "حدتو" ومعها الشيوعيون اليهود المصريون المقيمون في فرنسا من جهة والحزب الشيوعي الفرنسي من جهة أخري، ويرجعه لدعم "حدتو" ـ بخلاف بقية الأحزاب الشيوعية خارج مصر ـ لثورة 23 يوليو، وجاء هذا الخلاف بين حدوث انفراج نسبي في علاقة الحركة مع الحزب بعد الدور البارز الذي لعبته "حدتو" في الحركة الوطنية المصرية في مطلع الخمسينيات، وعندما تحول موقف "حدتو" عام 1953 من تأييد الثورة إلي الدعوة للإطاحة بما أسمته بـ"الديكتاتورية العسكرية"، جاء مشروع دمج "حدتو" مع ست منظمات شيوعية صغيرة أخري عام 1955، إلا أن المنظمات الصغيرة التي اشترطت استبعاد كورييل من التنظيم الموحد حتي يغير الحزب الشيوعي الفرنسي موقفه منه، وهو ما قبلته "حدتو" مرحلياً، إلي أن سمحت قيادة التنظيم الجديد الذي حمل اسم الحزب الشيوعي المصري الموحد بإعادة كورييل لاحقاً إلي قيادته، إلا أنه حتي في مرحلة إبعاده، فقد أحيل إلي كورييل موضوع تحقيق السلام بين العرب وإسرائيل، وقام بالفعل بالاتصال باليسار الإسرائيلي علي أساس الدعوة لقيام دولة فلسطينية بجانب الدولة الإسرائيلية. ويشير الجندي إلي أن كورييل كان له دور في الكشف عن الإعداد للعدوان الثلاثي علي مصر قبل حدوثه، وأنه وغيره أرسلوا المعلومات الخاصة بذلك للرئيس الراحل جمال عبدالناصر عن طريق د. ثروت عكاشة الملحق العسكري المصري في باريس حينذاك الذين كانوا علي اتصال به، وجاء ذلك بعد فترة كان كورييل فيها مستمراً في رفع شعار معارضة ما أسماه بـ"الديكتاتورية العسكرية في مصر"، بالرغم من ظهور أصوات مصرية غير يهودية داخل "حدتو" تطالب بتغيير موقف الشيوعيين نحو تأييد عبدالناصر بعد مؤتمر باندونج عام 1955، وهو تغيير تم لاحقاً (ص93). ولا ينكر الجندي أن الشيوعيين المصريين كانوا علي علم بأن قطاعات من الشيوعيين العرب الآخرين كانت تنظر إلي كورييل باعتباره جاسوساً صهيونياً، ولكنه ينفي عنه هذه التهمة ويؤكد دفاعهم عن كورييل، بل ويعرب عن التقدير لدور الأخير في التثقيف السياسي ورفع معنويات الشيوعيين المصريين المقيمين في فرنسا وربطهم برفاقهم في مصر (ص105 ـ 106). بل ويشير الجندي إلي أن العناصر اليهودية الشيوعية المصرية في باريس مثل كورييل ويوسف حزان كان لهم دور في دعم القضية الفلسطينية مما دعا عرفات إلي منح كورييل وحزان أوسمة، كما يشير إلي أن تلك العناصر ساعدت الحركات الشيوعية في دول عربية أخري مثل السودان. وبالإضافة إلي "حدتو"، فإن فصائل شيوعية أخري مثل حركة السلام المصرية دعت لتحقيق السلام بين مصر وإسرائيل منذ مرحلة مبكرة من منطلق أن من شأن ذلك أن يحقق التفرغ للتضامن من أجل مواجهة الاستعمار وتحقيق التنمية، ودعت الحركة إلي مؤتمر دولي لهذا الغرض تحضره مصر والدول العربية والدول الخمس الكبري، ورحبت الصحف الإسرائيلية في حينه بهذه الدعوة. ومع هذا العرض الذي قدمناه لما تضمنته السيرة الذاتية للأستاذ محمد يوسف الجندي فيما يتعلق بتلك العلاقة ثلاثية الأبعاد بين يهود مصر والحركة الشيوعية وفرنسا، فمن المهم المقارنة مع الإشارة إلي مراجع أخري تناولت بشكل أو بآخر نفس تلك العلاقة. ونذكر هنا بشكل خاص كتاب "جيل بيرو" عن حياة هنري كورييل والذي صدر باللغة الفرنسية وترجم إلي عدة لغات أخري، ففي هذا الكتاب يتعرض المؤلف بالتفصيل لأصول اليهود الأجانب الذين قدموا إلي مصر منذ عهد محمد علي بحثاً عن مورد للرزق ومكان للاستقرار والأمان، متتبعاً سيرة هؤلاء وأبنائهم في مصر، ومؤكداً علي استمرار ارتباطهم الوجداني والشعوري والثقافي بأوروبا والغرب وهامشية اتصالاتهم وتعاملهم مع المجتمع المصري الذي كانوا يعيشون فيه، ثم منتقلاً إلي دائرة أضيق تضم من انضم منهم إلي الحركة الشيوعية المصرية، وفي مقدمتهم هنري كورييل، وبعد التعرض لدور هؤلاء في الحركة السياسية والفكرية في مصر حتي خروجهم منها، يعود المؤلف مرة أخري إلي تتبع سيرة هؤلاء واستمرار التواصل بينهم بعد وصولهم إلي فرنسا، ومدي ما بقي من صلات بينهم وبين الحركة الشيوعية المصرية حتي اغتيال كورييل في باريس عام 1978. كما يهمنا الإشارة إلي الجزء الوارد في المجلد الثالث من كتاب د. رفعت السعيد "تاريخ الحركة الشيوعية المصرية 1940 ـ 1950" والذي كرسه للرد علي السؤال بشأن كثافة التواجد اليهودي والأجنبي في صفوف الحركة الشيوعية المصرية. وجاءت إجابة د. رفعت السعيد بأن نسبة من هؤلاء الأجانب واليهود لم يكونوا من الرأسماليين، بل كانوا من الحرفيين والعمال والمهنيين والمثقفين الذين احتكوا بشكل مباشر بالمصريين وحياتهم الاجتماعية، والذين كان من الطبيعي أن يتخذوا منحي اشتراكيا ويساريا، وهو تحليل يتفق فيه د. رفعت السعيد مع مصطفي طيبة في كتابه "الحركة الشيوعية المصرية 1945 ـ 1965: رؤية داخلية". ويوضح الكاتبان ـ وكلاهما انتمي إلي الحركة الشيوعية المصرية في تلك المرحلة ـ دور شخصية مثل جوزيف روزنتال وهو يهودي روسي في تأسيس أول نقابات عمالية في مصر للفافي السجائر والخياطين وعمال المطابع. ويتفق السعيد وطيبة علي أن امتدادات الفاشية السياسية في أوروبا داخل مصر، ونمو التيارات الدينية الإسلامية، والحرب العالمية الثانية، كانت كلها عوامل لها تأثير علي توجهات اليهود والأجانب في مصر في تلك المرحلة. فعلي الصعيد السياسي ظهر تقارب لرجال القصر مع المحور، وبدأت أحزاب مثل مصر الفتاة والأحرار الدستوريين تدفع في نفس الاتجاه، واتسمت الجالية الإيطالية في مصر بالانقسام بين فاشيين ومعارضين للفاشية، وتزامن ذلك كله مع تعاظم دور الأزهر وجماعة الإخوان المسلمين والتوظيف السياسي للدين، مما دفع الأجانب واليهود (وكان عددهم حوالي 63 ألفا في مصر طبقاً لتعداد 1937) إلي نزعة يسارية عكست مخاوفهم من هذه الظواهر، التي رأوا فيها جميعاً مظاهر لإفرازات الفاشية في أوروبا، مما دفعهم إلي تبني نقيض الفاشية. وكما هو الحال مع محمد يوسف الجندي، فقد رأي السعيد وطيبة في حرية الحياة الثقافية والفكرية التي تمتع بها الأجانب في ظل الامتيازات الأجنبية سبباً إضافيا لانضمامهم للحركات الشيوعية، حيث كان مسموحاً لهم بإدخال المطبوعات الشيوعية في ظل الحماية التي وفرتها الامتيازات الأجنبية لنشاطهم السياسي، بالإضافة إلي مشكلة اللغة التي حالت دون اطلاعهم علي الأدبيات السياسية المصرية، بينما كانت الأدبيات السياسية الماركسية متاحة بلغاتهم، كذلك فقد بدأت بريطانيا تتغاضي بعض الشيء عن النشاط الشيوعي خلال الحرب العالمية الثانية باعتباره يصب لصالح مناهضة المحور. ويؤرخ السعيد وطيبة للدور اليساري لليهود المصريين والأجانب إلي ما قبل المرحلة التي يؤرخ لها محمد يوسف الجندي، ويشيران بشكل خاص إلي "ليون كاسترو" الذي كان صديقاً لسعد زغلول و"زكي ليفى" ثم نشأة تيار يساري بزعامة "إدوارد سوريانو" الذي أقام علاقات وطيدة مع الحزب الشيوعي الفرنسي، ثم ظهور "اتحاد أنصار السلام" عام 1932 بغالبية يهودية ضمن أعضائه وبزعامة "جاكو دي كومب" وارتباطه بالتجمع العالمي للسلام. ويتفق السعيد وطيبة في أنه نظراً لمطاردة عناصر الحزب الشيوعي القديم الذي تم حله عام 1924 بواسطة حكومة الوفد، فقد بدا دور الأجانب ـ خاصة اليهود ـ متضخماً بالنظر إلي عددهم في المجتمع المصري عند تأسيس الحركات الشيوعية المصرية في مطلع الأربعينيات، إلا أن الكاتبين لا يفسران لنا سبب تمتع اليهود والأجانب بنسبة مرتفعة أيضاً من مواقع القيادة والعضوية في الحزب الشيوعي المصري القديم الذي دام ما بين عامي 1922 و1924. إلا أنه في حالة "مصطفي طيبة"، فإنه يعبر في بعض مواقع كتابه عما يسميه بتململ من المثقفين أنصاف الأجانب في "ايسكرا" و"الحركة المصرية للتحرر الوطنى"، ولكنه يرفض الهجوم علي هنري كورييل باعتباره مدخلاً للهجوم علي الحركة الشيوعية المصرية والتشكيك فيها بحجة أن بعض مؤسسي منظماتها يهود تحيط بهم الشكوك، معتبراً أن الحركة الشيوعية المصرية أكبر بكثير من كورييل وغيره، ويشيد بدور كورييل في ترجمة وطبع الكتب الماركسية مما جعل الفكر الشيوعي في متناول العامة الذين لا يعرفون لغة أجنبية، وإدماج النوبيين في الحركة الشيوعية المصرية نظراً لاهتمامه بنشاطهم. إلا أنه بخلاف محمد الجندي، فإن مصطفي طيبة يعترف بأن انحسار نشاط "حدتو" وانعزالها عن الجماهير كان بسبب موقفها من قضية فلسطين حيث أقرت بالحق القومي لليهود في تكوين دولتهم في أرض فلسطين، وهو موقف يذكر طيبة أن كورييل صاغه بنفسه في محاضرة كانت تدرس للكوادر، وعندما طرح طيبة موقفاً مناهضاً لذلك الموقف في اللجنة المركزية لـ"حدتو"، هاجمه كورييل واتهمه بالعداء للأممية ولمواقف الاتحاد السوفيتي السابق. وتأكيداً للعلاقة بين الحركة الشيوعية المصرية وفرنسا، يشير مصطفي طيبة إلي أنه عند تكوين الحزب الشيوعي المصري، اقترح د. فؤاد مرسي استشارة الحزب الشيوعي الفرنسي، وسافر بالفعل سعد زهران إلي باريس ومعه الوثائق الأساسية للحزب، وعاد بموافقة الحزب الشيوعي الفرنسي وتوصيته بجمع كل الشيوعيين المصريين في الحزب الجديد. واتفاقاً مع ما ذكره الجندي عن دعم بعض اليهود المصريين الشيوعيين لثورة 23 يوليو 1952، يوضح طيبة أن "مارسيل إسرائيل" من "منظمة تحرير الشعب" أيد حركة الجيش من معتقله. ويقر مصطفي طيبة بعدم إدراك الحركة الشيوعية المصرية لدور مصر في حركة التحرر العربي، وعجزها عن فهم العلاقة العضوية بين الوطنية المصرية والقومية العربية، وافتقاد الوعي بالأبعاد الخطيرة للحركة الصهيونية العالمية وتخطيطها لإقامة دولة إسرائيل الكبرى. ويرفض طيبة إشادة رفعت السعيد بموقف "حدتو" ضد حرب فلسطين، موضحاً أنها لم تستند فقط إلي الموقف السوفيتي المؤيد للتقسيم، وإنما إلي الحديث عن وجود قومية إسرائيلية تنطبق عليها شروط الأمة كما حددها استالين من لغة مشتركة وتكوين نفسي مشترك وأرض مشتركة يجب أن تكتسب مشروعيتها في صورة دولة، وبذلك تصبح حرب 1948 هي حرب تحرير في مواجهة الرجعية العربية، بل ويتهم طيبة كورييل بالدفاع عن العدوان الإسرائيلي عام 1967 باعتباره نضالاً حفاظاً علي البقاء وفي مواجهة الإبادة والفناء دون تيقن بانكشاف الأهداف الاستعمارية الكامنة وراء زرع إسرائيل في المنطقة. ومن الأجزاء الممتعة في كتاب مصطفي طيبة المشار إليه، رده علي مقال المستشار طارق البشري نشره في مجلة الهلال عام 1988 وتناول فيه دور هنري كورييل، حيث رأي البشري أن كورييل وجَّه التنظيم ضد الحركات الشعبية الإسلامية والوطنية والعربية بدعوي أنها فاشية، واتهمه بالتعاون مع الصهاينة في فلسطين، مما أوحي بأن الحركة الشيوعية المصرية كانت في مجملها أداة في يد فئة من اليهود لتحقيق أهداف الصهيونية. ويرد مصطفي طيبة بأن مظاهرات نوفمبر 1945 في مصر لم تكن تضامناً مع الشعب الفلسطيني بل هجوماً علي منشآت ومحلات يهودية، ويتفق هنا طيبة مع محمد يوسف الجندي في أن هذه المظاهرات أضرت بالقضية الوطنية وقدمت خدمة للاستعمار والصهيونية عبر تحويل الهجوم نحو اليهود المصريين مما حرضهم علي الهجرة إلي إسرائيل، دون تمييز بين الصهاينة واليهود التقدميين، فكان المفترض أن الحرب هي ضد الصهيونية وليست ضد اليهودية. كما نفي مصطفي طيبة ما ذكره طارق البشري من إرجاع جميع الصراعات داخل التنظيمات الشيوعية المصرية إلي كونها صراعات بين المصريين والأجانب ـ خاصة اليهود ـ ويؤكد ـ كما هو الحال بالنسبة لمحمد الجندي ـ أن كورييل علي سبيل المثال كان من أبرز الدافعين في اتجاه التمصير، كما أن أسباباً أخري عديدة وأكثر أهمية كمنت وراء تلك الصراعات داخل وفيما بين التنظيمات الشيوعية المصرية. وختاماً، نأمل أن يكون ما سبق قد ألقي بعض الضوء من حيث المعلومات والربط فيما بينها، أو من حيث التحليل والرؤية النقدية، لتلك العلاقة التي تبدو للوهلة الأولي مثيرة للغرابة والدهشة بين مثلث يهود مصر والحركة الشيوعية وفرنسا، وهي غرابة سرعان ما تنقشع عندما يتم تتبع مسيرة ارتباطها والعوامل والأسباب التي أدت إلي هذا الارتباط في مراحل مختلفة من تاريخ يهود مصر والحركة الشيوعية بها وفرنسا ما بين مطلع الأربعينيات ومنتصف الخمسينيات من القرن العشرين. في العشرينيات من القرن العشرين وحتي الأربعينيــات تزعم يهـــود منظمات نقابية، وكان منهم داود ناحوم، كما لعبوا دوراً مهمًّا في الصحافة مثل يعقوب صنوع، ولم يجد المصريون العاديون غضاضة في التعامل أو حتي التعاون مع اليهودي مثله مثل القبطي مسيرة حياتي حتي 1964 محمد يوسف الجندي القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 2001. يهود مصر والحركة الشيوعية وفرنسا يعترف محمد الجندي بتأييد "حدتو" لقــــــــرار تقســـيم فلســـطين، ولكنــه يوضـــــح أن ذلك لم يجــــيء باعتبـــــار التقســــيم حلاً جيداً، ولكن باعتباره الحل الوحيد الممكن الذي يضمن جلاء الجيــــوش البريطانيـــة عـن فلســطين
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة