قراءة فى أوراق إدارة «بوش» وعقلها!



أولا:محـاولـة للبـحــث عــن الحــقــيــقـــة! تفضل كثيرون غيرى وسبقوا إلى عرض واحد من أهم الكتب السياسية التى صدرت فى الولايات المتحدة عن رئاسة «جورج بوش» (الابن)، والذى ظهر تحت عنوان «بوش فى حرب» (Bush at War) ـ ومؤلفه «بوب وودوارد» هو الصحفى الأكثر اطلاعا فى العاصمة الأمريكية ـ ويشغل الآن منصب مدير تحرير جريدة الواشنطن بوست ـ الجريدة الأكثر نفوذا فى العاصمة الأمريكية. وكان «بوب وودوارد» قد بدأ صعوده إلى القمة منذ قام (مع زميله «كارل برنشتين») بتفجير فضيحة «ووترجيت» التى كسرت رئاسة «ريتشارد نيكسون» (سنة 1974)، وأدت إلى استقالته من رئاسة الولايات المتحدة، ومن يومها راح «بوب وودوارد» يتقدم حتى أصبح الآن عميد «صحافة التحقيق» التى أثبتت كفاءتها فى النفاذ إلى دخائل السياسة، والغوص فى خباياها، وتغطية أكبر مساحة من وقائعها، وكشف أدق أسرارها. .....................
..................... [وهذه مدرسة صحفية تدرك أن النفاذ إلى العمق ـ حق قارئ لا يعنيه ولا يرضيه أن تنحصر مهمة الصحافة فى مدح السلطان والإشادة بعظمته فيما فعل ولم يفعل، وتعرف ـ أيضا ـ أن قارئها يستطيع النظر إلى سطح الحوادث من متابعة التليفزيون، فى حين أن الكلمة المكتوبة ـ حياتها وشبابها ـ أصبحت موصولة بقدرتها على النفاذ إلى عمق لا تستطيع الصور أن تبلغه ـ أى بقدرتها على الذهاب وراء السطح بكل ما يتزاحم فوقه من اجتماعات واستقبالات ومراسم واحتفالات، وتصريحات وبيانات ـ وتلك كلها فى هذه الأزمنة وسائل تزويق وليست مناهج توثيق!]. .....................
..................... وبرغم أن كتاب «بوب وودوارد» ظهر أواخر سنة 2002، وبرغم أن غيرى سبق إلى عرضه كما أسلفت، فإننى أعود اليوم إليه بمنطق ربما يكون مختلفا لأنه لا يعرض للكتاب فى مجمله، وإنما يركز على صور محددة فى سياقه تكشف ـ أو كذلك ظنى ـ عن جواب سؤال يشغلنى، ولعله يشغل غيرى ـ مؤداه: «كيف تحول المشروع الإمبراطورى الأمريكى من الحرب ضد الإرهاب إلى حرب ضد العراق؟، وكيف انتقلت بؤرة الحوادث فيما جرى يوم 11 سبتمبر 2001 من نيويورك إلى كابول ـ ثم من كابول إلى بغداد؟، ثم كيف وقع استبدال الأقنعة من ملامح الشيخ «أسامة بن لادن» إلى ملامح الرئيس «صدام حسين» بهذه السرعة؟ والسؤال ليس فقط عن كيف؟، ولكن بعده عن من؟ ومتى؟، وأين؟، ولماذا؟ (وتلك أسئلة أولية ـ خصوصا فى صحافة التحقيقات التى يمثلها نجوم من مستوى «بوب وودوارد»، و«سيمور هيرش» وغيرهما!). ومع التسليم ـ كما طرحت فى أحاديث سبقت ـ بأن المطلب الأصلى للسياسة الأمريكية فى القرن الجديد ـ إمبراطورى مزدوج المقاصد فى الشرق الأوسط: يبسط السيطرة على أرضه (باعتبارها قلب العالم من بداية التاريخ وحتى حاضره)، ويمد يده إلى مكامن البترول تحتها (باعتبارها محرك التقدم المضمون حتى هذه اللحظة)، فإن تلك النقلة السريعة من نيويورك إلى كابول، ومن كابول إلى بغداد تظل لافتة للنظر، وداعية إلى التفكير من زاوية كشفها لمنطق القوة الأعظم فى هذا العصر، وفحصها لتركيب وترتيب عقلها، وأسلوبها فى اعتماد السياسات، ونظرها إلى الحوادث، وتقييمها للأطراف، ونبرة خطابها الموجه إلى عالم لابد له أن يهتم ويأخذ ما يراه جدا، لأن القرار الأمريكى ـ بصرف النظر عن كافة الاعتبارات ـ مؤثر فى الدنيا حيث يرضى الآخرون ـ وحيث لا يرضون!
وقد اخترت أن أعتمد فيما أعرضه من كتاب «بوب وودوارد» على أسلوب أشبه بعرض شريط صور، بظن أن ذلك أقرب إلى روح الكتاب، وكذلك أقرب إلى «المزاج الأمريكى» الذى أعطى للعالم «فن السينما» (الفن السابع) ـ وهو فن يقدم رؤيته لأى موضوع يتناوله فى شريط صور تتتابع إطاراته بسرعة وتكون من سرعتها حركة متصلة، يظهر فيها «الأبطال» بشخصياتهم ومواقفهم وانفعالاتهم وتعبيراتهم عن نواياهم وحتى غرائزهم، إطارا وراء إطار ـ حكاية وراء حكاية ـ فكرة وراء فكرة، بحيث يصل العرض فى النهاية إلى رواية لها دلالة ـ وأحيانا لها قيمة! والحقيقة أن كتاب «بوب وودوارد» قصة سينمائية من الدرجة الأولى، وهى قصة تعترف صراحة أنها تنقل عن الحقيقة ولا تتبرأ منها (كما فى بعض أفلام السينما حين ينبه أصحابها مقدما إلى أن أى تشابه بين وقائعهم وأبطالها مع الحقيقة مجرد مصادفة غير مقصودة!) ـ بل إن الأمر فى هذه الحالة مختلف، لأن الأبطال فى رواية «وودوارد» وبأشخاصهم وذواتهم ـ بملامحهم وألسنتهم هم الذين يقصون ويحكون، ويقدمون الدليل على صحة ما يقولون. ففى مقدمة الكتاب سجل مؤلفه (وأكد البيت الأبيض) أنه قبل أن يدق حرفا على الكمبيوتر ـ التقى مرتين بالرئيس «جورج بوش»: مرة فى مكتبه فى البيت الأبيض لمدة ساعة ونصف الساعة فى ديسمبر سنة 2001، ومرة ثانية فى مزرعته (كراوفورد) تكساس فى أغسطس سنة 2002 لمدة ساعتين و25 دقيقة. ثم يسجل «بوب وودوارد» ضمن المقدمة أنه حصل على تصريح سمح له بأن يقرأ محاضر خمسين جلسة لاجتماعات مجلس الأمن القومى، وأنه حين بدأ يعد لكتابه استأذن أن يستعمل بعض النصوص مما قرأ بحروفها، وكما أوردتها المذكرات والمحاضرات فى جلسات صنع القرار. وأخيرا يقرر «بوب وودوارد» أنه قابل مائة رجل وامرأة من الذين كان لهم دور فى صنع الحوادث فى واشنطن ضمن إدارة «جورج بوش» (الابن) على امتداد سنة 2001 وحتى ديسمبر سنة 2002 حين مثل كتابه للطبع، ثم يحدد قائمة بأسماء هؤلاء الرجال والنساء الذين قابلهم أثناء جمعه لمادة كتابه ـ والقائمة تضم أسماء كل من: رئيس الولايات المتحدة «جورج بوش» ـ نائب الرئيس «ريتشارد تشينى» ـ وزير الخارجية «كولين باول» ـ وزير الدفاع «دونالد رامسفيلد» ـ مستشارة الأمن القومى للرئيس «كونداليزا رايس» ـ مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «جورج تنيت» ـ رئيس هيئة أركان الحرب المشتركة الجنرال «ريتشارد مايز» ـ رئيس أركان البيت الأبيض «أندرو كارد» ـ قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال «تومى فرانكس» ـ وزير العدل «جون آشكروفت» ـ رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالى «روبرت موللر» ـ كبير مستشارى الرئيس «كارل روث» ـ والقائمة بعد ذلك متواصلة تكاد أن تكون مرجعا شاملا لأقوى مائة رجل وامرأة فى الإدارة الأمريكية الحالية. ومعنى ذلك أن الصور التى يعرضها «بوب وودوارد» أصلية، وأن المواقف والنصوص دقيقة، وأن السياق المتوالى للحركة صحيح، وأن الحوارات والمناقشات أمينة، وبالتالى فإن القصة كما يرويها يصح اعتمادها ويجوز البحث على أساسها، حتى وإن تعددت فيه وجهات النظر عند التفسير والتحليل. .....................
..................... [والشاهد أن تعدد الآراء فى التفسير والتحليل لا تكون له قيمة إلا إذا كان عن معرفة ودراية بالحقائق وليس أخذا بالظنون تحسب نفسها تعرف بظاهر ما ترى، وهو على أحسن الفروض جزء من الحقيقة لا يكفى لتأسيس رأى أو تأصيل فتوى، لأن الرأى والفتوى كلاهما يحتاج إلى إلمام بالموضوع، ومتابعة للوقائع، وسماع للشهود، ومداولة تمعن النظر حتى تستوفى جوانب قضيتها، ثم يكون الرأى بعد ذلك والفتوى عن اقتناع رصين وليس عن انطباع هوائى تأخذه الريح معها حيث تسافر!]. .....................
..................... وكما يفعل أى خبير مقتدر فإن «بوب وودوارد» يخصص أول فصلين من كتابه ـ أى حتى صفحة 29 ـ للقطات خاطفة تمهد لأجواء روايته، محاولا أن يستعيد مشاهد تلك الساعة المُرْعِبة فى التاريخ الحديث (من الثامنة والنصف إلى التاسعة والنصف من صباح يوم 11 سبتمبر 2001)، وهى الساعة التى قيل أن الدنيا تغيرت بها، حتى أصبح ما بعدها مقطوع الصلة بما كان قبلها، (وتلك مقولة بولغ فيها عمدا ومع سبق الإصرار حتى تقدم حيثيات مغرضة لأحكام ظالمة، وجرائم وحشية تُرتكب باسم العدل والقانون والحرية والديمقراطية إلى آخره، مما يسترجع بعد قرنين من الزمان تلك الصيحة المأثورة عن مدام «دى ستايل» أيام فترة الإرهاب فى الثورة الفرنسية حين قالت: «أيتها الحرية ـ كم من الجرائم تُرْتَكَب باسمك!»). وفى كتابه فإن «بوب وودوارد» يسترجع تلك اللحظات من صباح يوم 11 سبتمبر، لكى يُهيئ قُرَّاء كتابه برسم تأثيرى عام يسهل عليهم متابعة الحركة ـ وكذلك فإنه فى هذين الفصلين يبسط الأرضية، ويعد الخلفية، ويقدم الأبطال موحيا بشخصية كل منهم، وعلاقته بغيره، وسعى كل واحد منهم ـ حتى فى لحظة كارثة قومية ـ أن يعبر عن نفسه ويحقق غرضه. ومن خلال ذلك يعرض «وودوارد» لمحات من أحوال إدارة أمريكية غير منسجمة، لديها مشروع مُتفق عليه، لكن المسئولية عنه موزعة بين مجموعة رجال ونساء بينهم علاقات ملتبسة صنعتها خلافات سابقة، وشكوك متبادلة، وولاءات متعارضة، وكان يمكن للمشروع المشترك الجامع بينهم أن يذيب هذه الرواسب والعوالق، لكن ذلك لم يحدث لأن مسئوليته منوطة ـ بمنطق الأشياء ـ بإدارة عُليا واحدة يُفترض أن يقوم عليها الرجل الأول فى الإدارة وهو «جورج بوش» (الابن) (دوبيا)، لكن ذلك الرجل بالذات ـ فى تلك اللحظة بالتحديد ـ لم تكن لديه الأهلية، وبين الأسباب أن كبار معاونيه لم يكونوا مقتنعين بكفاءته، بل وكان بعضهم يتصور أنهم أليق منه بالجلوس على مقعد الرئاسة لولا محاذير المعارك الانتخابية وضرائبها الفادحة سياسيا وجسمانيا وإنسانيا! والنتيجة أن هناك مشروعا إمبراطوريا متفقا عليه، لكن كل مسئول كبير فى الإدارة الجديدة اعتبر نفسه قيما عليه، ولم يكتف بأداء دوره، وإنما شكك فى صلاحية غيره، وحاول أن يغتصب اختصاصه، ويسرق الكاميرا لحسابه الشخصى (كما يُقال فى صناعة السينما). لكن السياسة ـ وهو طبيعى ـ تختلف عند هذا الحد عن السينما، وذلك لأن أى مشروع (إمبراطورى أو غير إمبراطورى) يجرى حساباته وتصوراته واستعداداته، ويرسم مشاهد البداية بالتفصيل، ويلقى ما عنده على الواقع الحى، ويكون ذلك كله بمثابة سؤال ينتظر جوابه ـ لأنه عندما تبدأ تفاعلات أى صراع أخذا وردا، فإن الحوادث تتدافع بغير نص متفق عليه ـ وهنا يختلف فن السينما عن حركة التاريخ، فالأولى سيناريو له بداية مقررة تمشى نحو نهاية مقررة، ولكن الثانية ـ السياسة (أى حركة التاريخ اليومية) ـ لها بداية مقدرة تتحرك نحو نهاية قد تكون مطلوبة، لكن مقاديرها مما يستحيل ضبطه وكتابته سلفا! وهذا هو الفارق بين السينما والسياسة، لأن الأولى سيناريو يمسك به مخرج يحكم المشاهد، والثانية سيناريو تتولاه حقائق الحياة وعناصرها ـ ومفاجآتها أيضا ـ وبالتالى فهو ليس صـراع شخصيات ومواقف مرسومة، وإنما صـراع إرادات متقابلة ومتعارضة ـ والحـوار فيه مفتـوح على كل الاحتمالات! ثانيا:لابد من قدرة فعل تعبر عن قوة أمريكا! وهكذا يبدأ «بوب وودوارد» كتابه بلمحات خاطفة أقرب إلى ضغط «فرشاة» اللون منها إلى لقطة الكاميرا! لمحـــــــــة! * على مائدة الإفطار الساعة الثامنة صباحا فى فندق «سان ريجيس»، على مقربة من البيت الأبيض ـ يظهر «جورج تنيت» مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، مدعوا للإفطار على مائدة راعيه وحاميه السناتور «دافيد بورين» (رئيس لجنة الأمن والمخابرات) وهو ديمقراطى يمثل ولاية أوكلاهوما. ويومئ «وودوارد» بسرعة إلى أن «بورين» هو الذى رشح «جورج تنيت» (ابن أسرة مهاجرين جاءوا قبل جيلين من اليونان) ـ لرئيسه الديمقراطى «بيل كلينتون» لمنصب مدير وكالة المخابرات المركزية، وكان السناتور «بورين» فيما بعد هو الذى زكى «تنيت» للرئيس الجمهورى الجديد «جورج بوش» ـ حتى يحتفظ به مديرا للوكالة، لأنه مؤمن بكفاءته، ويرى هناك مصلحة ـ وطنية ـ فى بقاء مسئول اختارته إدارة «كلينتون» ليواصل نفس المسئولية فى إدارة «بوش»، لأن وظيفة المخابرات المركزية ـ رغم السوابق ـ لا ينبغى أن تخضع بالضرورة لاعتبارات حزبية، وبالذات فى حالة رجل يملك خبرة واسعة فى المجال الذى اعتمدته إدارة «كلينتون» لإطلاق المشروع الإمبراطورى الأمريكى، أى مجال مكافحة الإرهاب. وقد استجاب «بوش» لرغبة «بورين» قائلا له: «إن ما وصله عن «جورج تنيت» يشهد بكفاءته». ثم أضاف قائلا لـ«بورين»: «إننى أعرف أن أول بند فى البرنامج اليومى للرئيس هو اجتماعه فى الصباح المبكر (الساعة السابعة صباحا) مع مدير وكالة المخابرات المركزية كى يطلعه على أسرار ما جرى فى العالم خلال الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، ومعنى ذلك أن رجلك سوف يكون أول وجه يطالعنى كل صباح». وعلى مائدة الإفطار التى جمعت «بورين» و«تنيت» وفى الساعة الثامنة والربع من صباح يوم 11 سبتمبر ـ اقتحم المائدة أحد حراس مدير وكالة المخابرات المركزية يهمس فى أذن «تنيت» «سيدى المدير، هناك كارثة، وقع هجوم على مركز التجارة»، ويتناول «جورج تنيت» من حارسه جهاز تليفون محمول ويسمعه «بورين» يقول (ويفهم أنه يتحدث إلى أحد مساعديه) ـ بصوت مشحون: «ماذا؟.. طائرة دخلت فى برج التجارة؟! ـ سوف أكون عندك على الفور». ثم يلتفت «تنيت» إلى «بورين» ويبادره على الفـور: «ذلك عمل بن لادن ـ ولا أحد غيره!»، هكذا بالانطباع المسبق ـ وقبل استكمال تفاصيل الواقعة ـ وقبل المناقشة مع خبراء الوكالة ـ وقبل أى تحقيق. وكذلك ينتهى مشهد الإفطار فى فندق «سان ريجيس». لمحـــــــــة! * فى ليما عاصمة بيرو وعلى مائدة الإفطار أيضا، والمضيف «أليخاندرو توليدو» (رئيس جمهورية شيلى)، والضيف «كولين باول» وزير الخارجية الأمريكية الذى يقوم بزيارة رسمية لعاصمة شيلى لحضور دورة اجتماع رئاسى لمنظمة الدول الأمريكية، وكانت هذه الدورة مخصصة لتسوية مشكلة حصص النسيج فى التجارة بين أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية، وفجأة يفتح باب الغرفة ويدخل السفير «كريج كيلى» المساعد التنفيذى لوزير الخارجية الأمريكى، ممسكا فى يده بورقة مكتوبة بخط اليد منزوعة على عجل من دفترها، والمكتوب فيها بالنص: «اصطدمت طائرتان قبل قليل ببرج التجارة»، وينهض «كولين باول» واقفا يقول لرئيس «شيلى»: «لابد أن أعود الآن إلى واشنطن»، ثم يواصل «هذا حدث كبير لا أستطيع أن أبقى بعده هنا لمواصلة الكلام عن حصص النسيج»، ثم يلتفت إلى مساعده التنفيذى يطلب تحضير طائرته فورا لرحلة العودة إلى واشنطن، ثم يعود إلى توجيه خطابه لرئيس شيلى: «لا أعرف من فعلها حتى الآن ـ ولكنه كائنا من كان لابد أن يلقى عقابه، نحن أمة قوية، ونحن نثق فى أنفسنا». ثم يتصل «كولين باول» بنائبه «ريتشارد أرميتاج» ويسمع منه أن أجواء واشنطن فى فوضى عارمة والأعصاب مفلوتة، والتضارب والتخبط يستولى على أركان الإدارة، والرئيس «بوش» بعيد فى فلوريدا، ولابد من حضورك فورا، لأن البلد يحتـاج الآن إلى يــد غير مرتجفة (Steady Hand) تمسك بزمام الأمور! وكانت خشية «باول» تلك اللحظة ـ فى رد فعل شبه غريزى ـ أن يتعرض الرئيس لعملية «برمجة» تضبطه على اتجاه معين قبل وصوله هو ـ «باول» ـ إلى واشنطن. لمحـــــــــة! * «أندرو كارد» رئيس أركان البيت الأبيض يقترب من الرئيس «جورج بوش» (الذى كان يزور مدرسة بوكر الأولية فى قرية ساراسوتا ـ فلوريدا ويقرأ بصوت عال لتلاميذ أحد فصولها)، ويهمس «كارد» فى أذن رئيسه «دخلت طائرة فى برج التجارة فى نيويورك»، ويخطر ببال «بوش» (كما روى فيما بعد) أنها «حادثة اصطدام مؤسفة من طيار أخطأ مساره»، وكذلك يواصل ما كان يفعله، لكن «كارد» يعود إليه بعد قليل هامسا مرة أخرى فى أذنه، ولكن بعصبية ظاهرة «هناك طائرة ثانية دخلت فى برج التجارة ـ أمريكا معرضة لهجوم». وينتفض «بوش» فى شبه ذهول قائلا على الفور: «لقد أعلنوا الحرب علينا، ولابد أن نذهب إلى قتالهم حيث يكونون!». وينهى جلسته مع تلاميذ المدرسة ويستذكر (فيما بعد): «لا أعرف لماذا قلت أنها الحرب ضدنا تلك اللحظة»، ثم يضيف: «لعله كان صدى صوت والدى كما سمعته سنة 1990 بعد غزو الكويت» ـ ويهرع «بوش» إلى المطار ليركب الطائرة الرئاسية عائدا إلى واشنطن ويقول قبل أن يصعد درجات السلم لكارد: «أخطرهم (يقصد البيت الأبيض فى واشنطن) أن عليهم القيام على حماية السيدة الأولى («لورا» زوجته) وعلى «الأولاد» (ابنتيه)». ويدفعه أحد حراسه صائحا: «سيادة الرئيس نريدك الآن داخل الطائرة وعلى مقعدك». وطبقا لوصف كبير حراسه فقد استحال لون «بوش» إلى بياض القطن، وتعثرت خُطاه وهو يصعد سلم الطائرة (ربما لأنه لا مغامرة ولادته من جديد، ولا ظروف حملته الانتخابية، ولا تجربة ثمانية شهور فى البيت الأبيض ـ هيأته لاستيعاب مثل هذه الصدمة). لمحـــــــــة! * «لورا بوش» (زوجة الرئيس) فى الساعة التاسعة والربع ترتدى فستانا أحمر اللون وحول عنقها عقد من اللؤلؤ تضوى حباته تحت الضوء وهى جالسة فى قاعة الاجتماعات بمبنى «راسل» فى الكونجرس، فقد ذهبت إلى هناك تُدلى برأيها فى «مشكلة التعليم المبكر للأطفال»، أمام لجنة يرأسها السناتور «إدوارد كنيدى» (شقيق الرئيس الراحل «جون كنيدى»)، ويدخل أحد مرافقيها يدعوها إلى الخروج معه فورا، لأن هناك «حادثة» وقعت، وتهرع «لورا» خارجة من القاعة ووراءها السناتور «إدوارد كنيدى» يستمعان إلى بعض التفاصيل ويهرولان من باب جانبى للقاعة، وعندما تصل إلى سيارتها تكون قد سمعت ما يكفيها، وتنتابها حالة رجفة وتمتلئ عيناها بالدموع، ولا تتمكن سيارتها من السير بسبب زحام الشوارع، ويقرر حراسها أنه لا داعى لتعريضها لخطر السير حتى نهاية شارع بنسلفانيا (حيث البيت الأبيض)، وعليه فهم يأخذون «السيدة الأولى» إلى غرفة آمنة فى بدروم إدارة البوليس السرى، ومن هناك تحاول الاتصال تليفونيا بابنتيها «بربارة» و«جينا»، ويبدأ البوليس السرى تحرياته لمعرفة مكان وجود الاثنتين، وتسمع الأم بالأسماء السرية التى يستعملها البوليس السرى للكناية عن ابنتى «بوش»: الأولى «تركواز» (حجر نصف ثمين)، والثانية «بريق» (لعله قطع من البللور أو الزجاج). وأخيرا الساعة 10،11 تمكنت من سماع صوت ابنتيها، وعندما اطمأنت راحت «لورا» تسأل فى صوت مرتعش تحاول السيطرة عليه: «إذا كان ممكنا أن تعود إلى بيتها؟». لمحـــــــــة! * الرئيس «جورج بوش» فى الطائرة الرئاسية يتمكن من الاتصال بنائبه «ريتشارد تشينى»، وقد وجده فى المخبأ الآمن للبيت الأبيض، لأن ضباط الأمن حملوه إلى هناك حملا خوفا على حياته، ويصغى «بوش»، وكل ما يرد به على نائبه هو قوله: «إذن فنحن فى حرب»، ثم يضيف «نحن فى حرب، لا نعرف حتى الآن من هو العدو فيها ـ لكن هناك من سوف يدفع الثمن، نحن سنحارب وهذا هو الواجب الذى يدفع لنا الشعب الأمريكى مرتباتنا كى نؤديه». ويعود «بوش» للاتصال بنائبه فى بدروم البيت الأبيض يطمئنه إلى أنه فى الطريق إلى واشنطن، لكن «تشينى» يقول له: «لقد أبلغت أن Angel - أى الملاك، (وهو الاسم الرمزى لطائرة الرئيس) ملاحقة بالخطر الآن لأنها الهدف التالى». واقترح «تشينى» على رئيسه أن يبتعد إلى أقصى ما يستطيع عن محيط العاصمة، قائلا بحزم «لا تجىء الآن إلى واشنطن»، وعندها قرر مرافقو الرئيس (ممن كانوا معه على الطائرة) أفضلية توجهه إلى قاعدة «باركسويل» فى لويزيانا حيث يكون هناك فى أمان. لمحـــــــــة! * الرئيس «جورج بوش» يتصل بوزير الدفاع «دونالد رامسفيلد»، ويبادره بالصياح بصوت مرتفع (كذلك روى) «واو»، ثم يترك الصياح إلى التعبير باللفظ ليقول «إنه يوم مأساة وطنية، ولابد أن تكون مستعدا للحرب أنت و«ديك مايرز» (يقصد قائد الطيران الذى أصبح بعدها رئيسا لهيئة أركان الحرب المشتركة)، ويضيف «بوش»: «الكرة واصلة بالتأكيد إلى ملعبكم»، ثم يواصل كلامه قائلا لوزير دفاعه «لابد أن تطلق العنان للقوات المسلحة»، ويرد «رامسفيلد» «لا تحتاج أن توصينا بما يتعين علينا عمله!». لمحـــــــــة! * «دونالد رامسفيلد» يدعو الجنرال «هنرى شيلتون» (رئيس أركان الحرب المشتركة) إلى مقابلته، ولم يكن فى العادة يستريح له (خصوصا بعد مشادة وقعت بين الاثنين، حين نبه وزير الدفاع على رئيس الأركان المشتركة أن لا يتصل مباشرة بالرئيس عن غير طريقه، وعندما حاول «شيلتون» أن يعترض لأن «الرئيس له الحق الدستورى أن يسمع مباشرة من رئيس أركان الحرب» ـ كان رد «رامسفيلد» قاطعا ـ «ليس مادمت أنا جالسا على مقعد وزير الدفاع») ـ والآن جاء «شيلتون» إلى مكتب «رامسفيلد» الذى بادره بقوله «نحن الآن فى لحظة فارقة». ويرد «شيلتون» بقوله: «إننا على استعداد». ويجيبه «رامسفيلد» «جئنى بما لديك من خطط لمواجهة هذا الموقف». ويضيف «رامسفيلد» «لابد أن نتحرك فورا»، لكن الجنرال «شيلتون» (رئيس الأركان وقتها) ـ يرد عليه وفى حضور الجنرال «مايرز» (رئيس الأركان الحالى): «إذا كانت المسئولية على «بن لادن»، وإذا كان الفاعل تنظيم القاعدة، وإذا كانت القاعدة ـ كما نعرف ـ متحصنة فى أفغانستان ـ فلابد لى من إبلاغك أننا لا نملك خطط طوارئ جاهزة للعمل هناك، لأن ذلك البلد لم يكن على قائمة توقعاتنا، ففى كل حساباتنا لم يكن هناك احتمال أن نشن حربا فى أفغانستان». ويرد «رامسفيلد» بغضب: «لا أظن أن لديكم حسابا لأى حرب لا فى أفغانستان ولا فى غير أفغانستان، لقد اطلعت على بعض ما عندكم من خطط الطوارئ الجاهزة، وأشعر أن أمامنا شوطا طويلا يجب أن نقطعه حتى نستطيع بناء قدرة فعل تعبر عن قوة أمريكا، ولكم أن تنصرفوا الآن». ويرد الجنرال «مايرز» (رئيس الأركان الحالى) ـ قائلا بالنص: «أفهم ما تقوله يا سيدى!». لمحـــــــــة! * مدير وكالة المباحث الفيدرالية «روبرت موللر» يتصل من مكتبه بمدير المخابرات المركزية الأمريكية يستطلع ما عنده من معلومات، لأن «موللر» لم يمض عليه فى منصبه غير خمسة أيام، ويكرر عليه «تنيت» أن المسئولية لابد أن تكون على «بن لادن»، ويرد «موللر» بقوله «محتمل، لأنه ليس هناك تنظيم آخر لديه مثل هذه الوسائل لترتيب عمل إرهابى بهذا الحجم». لمحـــــــــة! * الرئيس «بوش» يعود إلى واشنطن فى الساعة السادسة والنصف، وقد نقل إليه أن هناك محاولة لإبقائه بعيدا عن مركز القرار حتى ينفرد به «ريتشارد تشينى» الذى ينتهز الفرصة كى يؤكد لأمريكا أنه رجل الساعة، وأن يده هى التى تمسك بالدفة! ويستدعى «بوش» رئيس مجموعة كتابة خطبه «مايكل جيرسون»، ويقول له: «إنه يريد أن يتحدث إلى الرأى العام الأمريكى فورا، وتعليماته فى شأن النقط الأساسية أنه يريد إعلانها «حربا على الإرهاب»، وتتدخل مستشارته للأمن القومى فتقول للرئيس: «إن ذلك هدف مفتوح، ويتعين عليك أن تكون الآن أكثر تحديدا». ويتصل «جيرسون» بعدد من أقطاب الإدارة يستطلع رأيهم فيما يقترحون تضمينه فى خطاب الرئيس، ويوجه «جيرسون» للجميع استفسارات محددة، يظن أنها تساعده على صياغة النص الأكثر ملاءمة للظروف والأفعال فى التأثير على الرأى العام ـ وضمن استفساراته: «ما هو الهدف الأمريكى الآن؟ ـ من هو العدو؟ ـ ما هى الأدلة المتوافرة لدينا عن مسئوليته فيما جرى اليوم؟». وتجىء إجابات الجميع وفيهم نائب الرئيس «ريتشارد تشينى»، ووزير الخارجية «كولين باول»، ووزير الدفاع «دونالد رامسفيلد» ـ متضاربة. وتروى «كونداليزا رايس» (مستشارة الرئيس للأمن القومى) لـ «وودوارد» (ونقل عنها): «أنها أحست مثل تائه فى الضباب ـ لكنها «استراحت» إلى أنه لابد أن يكون تنظيم القاعدة هو المدبر ـ وأن يكون «بن لادن» هو المسئول ـ وإلا فمن فعلها؟». على أن هواجس «كونداليزا رايس» ما لبثت أن عاودتها، بمنطق أن تحديد مسئولية «بن لادن» عما جرى صباح اليوم فى واشنطن لابد أن تتداعى بعده مسئولية على الإدارة الأمريكية، تسائل أطراف هذه الإدارة: لماذا فوجئوا بما جرى؟ ـ وما الذى كانوا يعرفونه عن تنظيم القاعدة؟ ومتى عرفوه؟ وكيف تصرفوا حياله؟ ولم يكن هناك وقت لهذه الهواجس وغيرها. .....................
..................... [وتشير عشرات ومئات الأوراق التى تعرضت لأجواء تلك الليلة (ليلة 12 سبتمبر فى واشنطن) ـ أنها كانت سهرا طويلا مع الاختلافات والتناقضات ـ تحولت بعض اللحظات إلى تهم متبادلة بين الأطراف، ثم هدأت الأعصاب مع نهاية الليل على عدة مطلوبات عاجلة تفرضها الضرورات إزاء توترات تزداد حدة فى مشاعر الرأى العام الأمريكى، وقد يتفاقم تأثيرها، وكانت قائمة المطلوبات الضرورية طويلة ـ وبدايتها: 1 ـ أنه لابد من تصدير هذه الصدمة المفاجئة إلى خارج الولايات المتحدة بسرعة، لأن شحنة الغضب بعدما جرى لا يجب أن تظل محصورة فى الداخل ـ لأن ذلك كفيل بتوليد شحنة ساخنة يصعب التنبؤ بخطرها، أو السيطرة على اتجاه حركتها. 2 ـ ومعنى ذلك أنه لابد فورا من «عدو خارجى محدد»، تلقى عليه المسئولية، وقبل انتظار للتفاصيل ـ لأنه بوجود هذا العدو يسهل تحويل شحنة الغضب القادم بعد قوة الصدمة، وبعد ترويع المفاجأة، وبعد وجع الحزن ـ إلى بعيد. 3 ـ وبوجود هذا العدو فإن تعبئة شاملة ضده تستطيع أن تستوعب المشاعر وتضمها فى إطار محدد يلم شملها ويمسك بالشارد والجامح منها، وأكثر من ذلك يعطى الفرصة لتوظيفها. 4 ـ وعليه فإن الأمر يقتضى استدعاء الوطنية كإطار جامع للأمة الأمريكية فى لحظة خطر، وأن يتم ذلك بكثافة تقطع الطريق على أى تساؤل ـ بحيث يصبح مجرد الشك ـ درجة من الخيانة. 5 ـ وفى سياق قائمة المطلوبات أن هناك «حاجة روحية» إلى استدعاء الدين، يلعب دوره الإيمانى فى تحقيق درجة من القبول بنوازل القدر، وبالتالى تخفيف القلق والخوف وحقن جرعات من الصبر والاحتمال، تستحضر أرواح القديسين والشهداء! وكانت تلك (فى واقع الأمر) محاولات شراء فسحة من الوقت قبل التصرف، وكان كل أطراف الإدارة ـ على خلاف ما بينهم ـ يرون ذلك ضروريا لتغطية الفجوة ما بين مفاجأة الحدث المروع ـ وما بين تحديد المسئولية عنه، ولعل فسحة الوقت أيضا كانت نافعة لمساعدة «جيرسون» على إيجاد صيغة جواب لأسئلته الحائرة عن الهدف الأمريكى الآن؟ ـ ومن هو العدو؟ ـ وما هى الأدلة المتوافرة «لدينا» ضده فى شأن ما جرى صباح الأمس فى واشنطن؟ ـ ومن ثم يتمكن من كتابة أول خطاب عام لرئيس الولايات المتحدة بعد الصدمة. وكانت فسحة الوقت ـ أيضا ـ حاجة ملحة لتهدئة هواجس «كونداليزا رايس» وغيرها بصدد مسئولية إدارة «بوش» عما جرى؟ ـ ولماذا فوجئت؟ ـ وما الذى كانت تعرفه؟ ـ ومتى عرفته؟ ـ وكيف تصرفت إزاءه؟]. .....................
..................... وفى حملة مكثفة وشاملة، جرى تحقيق المطلوبات الضرورية كلها وأمكن شراء مهلة من الوقت لالتقاط الأنفاس! بمعنى أنه جرى بسرعة تصدير الأزمة ـ ووقع العثور على عدو ـ وانتقل التركيز إلى هذا العدو ـ واستدعيت وطنية العلم المخطط بالأحمر والأبيض والمرصع بمربع أزرق تصطف فيه النجوم (وهى حالة من وطنية الخوف موروثة بالتجربة) ـ وحضر القساوسة والحاخامات (والمشايخ) وبدأت الصلوات، وبين النتائج أن المزاج الأمريكى تحول إلى قوس مشدود بالتوتر جاهز للانطلاق فى أى اتجاه، ولابد من إطلاقه قبل أن يتذكر المواطن الأمريكى أن بلاده رصدت ما متوسطه تريليون (ألف بليون) دولار كل سنة تحت بند الدفاع عن نفسها، أى خمسين تريليون دولار ـ أى حوالى 20% من مجمل الدخل القومى الأمريكى طوال خمسين سنة ـ (وفق تقرير الكاتب الكبير «جورفيدال» فى دراسته بعنوان «السلام المتقطع والحرب المستمرة») ـ ومع ذلك وبرغم هذه التكاليف المهولة، انقضت على الشعب الأمريكى مثل هذه الضربة وفى قلب وطنه (نيويورك) ـ (وليس كما حدث فى «بيرل هاربور» فوق قاعدة نائية وسط المحيط الهادى (جزر هاواى) ). ثالثـــا:لا نستطيع كسب حروب ضد أشباح! بعد أن يرسم «بوب وودوارد» لوحته التأثيرية بلمحات وظل وفراغ، يدلف هادئا إلى عالم الصور يعرض شريطا متواصلا منها يبدأ به من الأول ـ أى من قبل أن تنقض صدمة 11 سبتمبر 2001، وتلك فى فن السينما هى العودة إلى الوراء (Flash Back) تسترجع خلفية المشهد. قبل أن يتسلم «جورج بوش» (الابن) مسئوليات رئاسة الولايات المتحدة رسميا بأسبوع كامل ـ جرى ترتيب اجتماع خاص له مع مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «جورج تنيت»، والمقصود أن يكون الرئيس المنتخب على دراية وإحاطة بالمخاطر المحتملة التى تنتظر رئاسته القادمة. وتوجه «جورج بوش» إلى «بلير هاوس» مقر الضيافة الرسمى المواجه للبيت الأبيض (وكان «بيل كلينتون» لا يزال يعمل منه وأمامه أسبوع كامل قبل أن يقوم بتسليمه إلى شاغله الجديد). ودخل «جورج بوش» (الابن) إلى «بلير هاوس» ومعه شخصان اثنان، لأن سرية المعلومات التى كان مقدرا أن يسمعها يلزم حصرها فى أضيق دائرة، وكذلك لم يجئ مع الرئيس المنتخب إلا اثنان من أركان إدارته المقبلة: «ريتشارد تشينى» نائبه الذى فاز معه على نفس التذكرة، ومساعدته التى اختارها مستشارة لشئون الأمن القومى ـ «كونداليزا رايس». وعلى الناحية المقابلة جلس مدير وكالة المخابرات المركزية ـ «جورج تنيت» الذى اصطحب معه رجلا واحدا من مساعديه هو «جيمس بافيت» نائب رئيس المخابرات لشئون العمليات. ولمدة ساعتين ونصف الساعة استمع «جورج بوش» (ومرافقاه) إلى عرض مفصل عن «الأصدقاء والأعداء» ـ و«الطيبين والأشرار» ـ «والفرص والأخطار» ـ مما ينتظر الإدارة الجديدة. وركـز «جورج تنيت» و«جيمس بافيت» فيما عرضا على ثلاثة أعداء رئيسيين: * العدو الأول هو الإرهاب والطليعة فى جبهته العالمية هى تنظيم القاعدة الذى يقوده «أسامة بن لادن»، وهو رجل خطير يعتبر نفسه فى حالة «جهاد إسلامى» ضد الولايات المتحدة، إلى درجة تدعوه لتعقب مصالحها ومطاردة مواطنيها فى أى مكان وفى أى وقت، وذلك يجعل تنظيم القاعدة «خطرا قائما» و«خطرا عاجلا»، والصعوبة فى شأنه «أننا لا نستطيع أن نعرف بالضبط متى؟ وأين؟ يختار ضرباته»، ذلك أن هذا التنظيم كيان يصعب الإمساك به (Elusive)، ثم يعرض «تنيت» «أن الرئيس الحالى «بيل كلينتون» وافق على خمسة أوامر عمليات محددة (Memorandum of Notification) تفوض المخابرات المركزية فى تنفيذ ضربات هدفها تدمير تنظيم القاعدة وتصفية «بن لادن»، والغرض «إرباك نشاط الإرهابيين وإجهاض عملياتهم»، وأنه يستأذن فى تجديد هذه التفويضات بسلطة الرئيس المنتخب فور أدائه للقسم الدستورى». * العدو الثانى هو الانتشار غير المسبوق لأسلحة الدمار الشامل (الكيماوية والبيولوجية والنووية)، واحتمال وصول مثل هذه الأسلحة إلى دول «مارقة» أو جماعات «متعصبة» تستغلها دون إدراك لطبيعة القوة التدميرية لهذه الأسلحة، أو بإدراك لا تعنيه العواقب طالما كانت هذه الأسلحة تساعد على ردع الآخرين أو الانتقام منهم! * والعـدو الثالث هو الصين التى أفلتت من عوائق التخلف والحصار، وراحت تركز على بناء قوة تجعل منها ـ فيما لا يزيد على ربع القرن ـ دولة عظمى «عدوانية» على الشاطئ الآخر من المحيط الهادى. وكانت الملاحظة الوحيدة التى أبداها «جورج بوش» بعد سماعه لكل ما عرضه عليه رئيس المخابرات المركزية: إنه يتوقع فى وقت مبكر من رئاسته أن يتلقى تقريرا من الوكالة عن مقترحاتها لكسر خطر «بن لادن»، وكان «جيمس بافيت» (مدير العمليات) هو الذى رد: «نستطيع أن نوصى بدءًا من هذه اللحظة بدعم التحالف الشمالى لزعماء قبائل أفغانستان، لأن هؤلاء هم القوة المضادة لنظام طالبان ـ سند تنظيم القاعدة، وحامى «بن لادن» ـ بما يوفره للجميع من أسباب للطمأنينة وحرية العمل. وقال «بوش» «إنه يوافق على التوصية، وينتظر أن يتلقى مشروع تفويض للوكالة، وسوف يوقع عليه لحظة أن يجده على مكتبه فى البيت الأبيض عندما يتسلم مسئوليته!». صـــــــورة! فى الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر يوم 11 سبتمبر 2001، وبعد أن استجمع الرئيس الأمريكى بعض أعصابه فى أعقاب الصدمة الأولى للأخبار التى وصلته عما جرى فى نيويورك ـ دعا إلى عقد اجتماع لمجلس الأمن القومى على الشبكة الإلكترونية الرئاسية، وكان «بوش» ساعتها فى قيادة القوات الجوية بولاية «نبراسكا»، ولأنه لم يكن قرر بعد موعد عودته إلى العاصمة، فقد أراد أن يكسب وقتا، وتمت الترتيبات اللازمة بسرعة، وكان أول المتحدثين فى هذه الجلسة الإلكترونية هو «جورج تنيت» مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الذى ظهر جالسا على مكتبه فى واشنطن ـ قائلا: «سيادة الرئيس، نستطيع أن نقول فى شبه يقين (near certainty) أن «بن لادن» وراء الهجوم على نيويورك صباح اليوم، فلقد وجدنا من بحث قائمة الركاب على شركة الطيران الأمريكية للرحلة رقم 77 (التى ضربت مبنى البنتاجون) ـ أن أحد الركاب هو «خالد المدحار»، وذلك رجل تابعنا نشاطه قبل سنة فى ماليزيا، وقد تمكن «عميل فى خدمة الوكالة» من تحديد موقعه فى تنظيم القاعدة، ووقتها قامت الوكالة بإخطار إدارة المباحث الفيدرالية F.B.I كى تضع هذا الرجل على قائمة الممنوعين من دخول الولايات المتحدة، لكن المخابرات المركزية فوجئت عندما وجدت اسم «المدحار» ضمن ركاب الرحلة 77، ومعنى ذلك أنه تمكن من التسلل إلى الولايات المتحدة. كرر «تنيت» على الشبكة الإلكترونية المشفرة «اعتقاده بأن القاعدة هى التنظيم الوحيد الذى يملك الوسائل لتنفيذ عمل إرهابى على هذا النحو الدقيق المثير (Spectacular). واصل «جورج تنيت» «أن الوكالة تمكنت من تعقب مكالمات تليفونية بين بعض أنصار «بن لادن» يهنئون فيها أنفسهم على هذا «التوفيق العظيم»، ويقوم خبراء الوكالة الآن بترجمة هذه المكالمات وغيرها إلى اللغة الإنجليزية، لعلهم يستنتجون منها معلومات عن مفاجآت أخرى قد تكون جاهزة «للانفجار»! وأحس بعض أعضاء مجلس الأمن القومى على الشبكة الإليكترونية «أن وكالة المخابرات المركزية تقصد بطريقة غير مباشرة أن تلقى مسئولية التقصير على «مكتب التحقيقات الفيدرالى»، وأن تضع على حسابه فشلا فى التصرف على أساس معلومات وفرتها له المخابرات، وبدا أن «جورج تنيت» يحاول إعداد «خازوق» لغيره، وهنا اكتفى الرئيس «بوش» بأن يقول لجورج تنيت: «حاول أن تفتح آذانك حتى لا تفوتك همسة، تنصت على كل شىء وأى إنسان داخل الولايات المتحدة وخارجها». وقال «تنيت» إنه سيفعل، ثم عاد يحاول تثبيت «الخازوق» لمكتب التحقيقات الفيدرالى، وقاطعه الرئيس «بوش» قائلا: «إنه مذهول لا يستطيع حتى هذه اللحظة أن يتصور كيف جرى اختراق أمن أهم المطارات فى الولايات المتحدة!». عاد الرئيس «جورج بوش» إلى مكتبه فى السادسة والنصف من مساء يوم 11 سبتمبر، وقرر أن يوجه خطابا إلى الأمريكيين، ودعا هيئة كُتَّاب خطبه إلى المكتب البيضاوى يبحث معهم ما يمكن أن يقوله «لأُمَة فى حالة فزع»، وكانت هيئة كتاب خطب الرئيس قد تحسبت للطلب واستعدت بمشروع جاهز، أشرفت على تحضيره «كارين هيوز» كبيرة مستشارى العـلاقات العــامة، وقام بصياغته النهائيــة «مايكل جيرسون» (الكاتب الأول بين مجموعة كتاب «خطب الرئيس»). وراح «بوش» يستمع إلى النص المقترح لخطابه، ووصل «مايكل جيرسون» أثناء قراءته مشروع الخطاب إلى عبارة تقول «إن ذلك الذى حدث لم يكن مجرد هجوم إرهابى ـ بل كان إعلان حرب على الولايات المتحدة»، وتوقف «بوش» وسأل: «لماذا نقول ذلك الآن؟»، وردت «كارين هيوز» «هذا كلام جاء على لسانك أنت فى أول تعليق نُقِلَ عنك من فلوريدا». ورد «بوش» بقوله «شعورى أن مهمتنا الآن هى طمأنة الناس وليس تخويفهم أكثر»، ثم التفت إلى «مايكل جيرسون» يقول له: «احذف هذه الجملة». وأضاف «إننى لا أريد أن أزيد فى قلق الناس، وإنما أن أساعد على تهدئة مشاعرهم». ثم دارت مناقشة استقر فيها الرأى على «أن يكون الخطاب قويا ـ متوازنا ـ يطمئن ـ وفى نفس الوقت يؤكد حزم الرئيس على العمل ضد الإرهاب والإرهابيين، وضد كل هؤلاء الذين يقدمون لهم المساعدة والمأوى، مع التعهد بأنه سوف يوجه ضربات عقابية للجميع: الإرهابيين ـ ومناصريهم ـ وأعوانهم ـ والذين يتعاطفون معهم ولو بمجرد الإيواء». وقالت «كونداليزا رايس» مستشارة الرئيس للأمن القومى «إنها تظن باستمرار أن الكلمات الأولى التى يقولها الرئيس بعد حدث من هذا الحجم هى التى تصنع أول الانطباعات وأبقى المؤثرات، وأنه إذا كان الرئيس ينوى «إعلانها حربا شاملة ضد الإرهاب»، فعليه أن يقولها الآن ـ لأن هذه فرصتك لإعلانها بحسم» ـ وبدا «بوش» مترددا لا يقطع برأى. وراحت النسخة النهائية المعدلة لخطاب الرئيس تتكامل، وعرف أحد مستشاريه وهو «دان بارتليت» أن رئيسه حذف عبارة «أن الهجوم على نيويورك إعلان حرب على الولايات المتحدة»، وتوجه إلى المكتب البيضاوى يحاول إقناع «بوش» بإعادة الجملة إلى نص خطابه، ورد عليه الرئيس بضيق «إننى طلبت حذفها»، وأضاف «ولا أريد اقتراحات بتعديلات أخرى على نص الخطاب، لأنى فى هذه اللحظة أجهز نفسى لإلقائه». يوم 12 سبتمبر (اليوم التالى للصدمة الكبرى)، دعى مجلس الأمن القومى لاجتماع خاص فى البيت الأبيض (اجتماع بشر من لحم ودم وليس ترددات ذبذبات إليكترونية مشفرة)، وكان «جورج تنيت» أول المكلفين بعرض الموقف، وألقى «تنيت» بالمسئولية على القاعدة، وبعدها على حكومة طالبان التى تؤويها، وبعدها على المخابرات العسكرية الباكستانية التى دعمت حركة طالبان ومكنت لها، واعتبرتها المؤتمنة على الجهاد الإسلامى فى أفغانستان (ضد الاتحاد السوفيتى السابق)، وصاحبة دولته الحاكمة فى ذلك البلد، وعلق «بوش» قائلا: «الحملة ضد الإرهاب فرصة عظيمة لإقناع روسيا والصين بالانضمام إلينا». ثم التفت الرئيس إلى وزير الدفاع «دونالد رامسفيلد» ـ (وقد أخطره بالأمس أن الكرة فى طريقها إلى ملعب القوات المسلحة) ـ يسأله عما توصل إليه، وكان «رامسفيلد» قد أعد ورقة أمامه كتب عليها مجموعة أسئلة يريد طرحها، والحصول على إجابات عنها تكون توجيها واضحا للقوات المسلحة. «إذا كنا سنوجه ضرباتنا ضد القاعدة، فنحن نريد أن نعرف: 1 ـ ما هى الأدلة المتوافرة لدينا على مسئولية هذا التنظيم عما جرى بالأمس؟ 2 ـ ما هى الأهداف التى يمكن أن نوجه إليها ضرباتنا لكسر التنظيم؟ 3 ـ ما هو التوقيت المقترح لبداية ضرباتنا؟ وتوقف «رامسفيلد» لحظة ثم استكمل: «أريد أن أكون واضحا: 1 ـ ليست لدينا خطط طوارئ جاهزة للتعامل عسكريا مع تنظيم القاعدة. 2 ـ ليست لدينا قوات معبأة للعمل فى مناطق تواجد هذا التنظيم فى أفغانستان. 3 ـ إذا أردنا توجيه ضربات جوية متواصلة فى أفغانستان، فنحن نحتاج فى الإعداد والتحضير والنقل وتشوين الأجهزة إلى مدة ستين يوما. وتدخل وزير الخارجية «كولين باول» يبدى دهشته من أن وزير الدفاع يطرح أسئلة كان واجبه تقديم إجابات عنها. ورد «رامسفيلد» بأنه لاحظ فى سير المناقشات أن بعض زملائنا «لا يتصورون أن ننتظر ستين يوما قبل أن نضرب»، بل وسمع أحد مستشارى الرئيس يقول: «إنه لا يمكن تصور الانتظار حتى يوم 11 نوفمبر حتى ترد الولايات المتحدة على حدث وقع يوم 11 سبتمبر»، وهو يريد أن يعرف الجميع أن توجيه ضربة عسكرية تختلف عن الإدلاء بتصريحات مرسلة إلى وسائل الإعلام، وأضاف «إن الأسئلة التى طرحها حقيقية وهى ليست أسئلته الوحيدة، وإنما لديه بعد ما ذكر قائمة طويلة». فيها السؤال عن ـ «أية حدود سوف نلتزم بها فى توجيه الضربة؟». وفيها السؤال عن ـ «من هم حلفاؤنا فى توجيه هذه الضربة؟». وفيها السؤال عن ـ «هل هناك حلفاء لنا يساعدون القاعدة؟ ـ وإذا كان فهل نوجه إليهم ضرباتنا أيضا؟». ثم قال «رامسفيلد» بلهجة درامية: «إن القوات تحتاج إلى توجيهات محددة!». وقال «تشينى»: «إنه يفهم أن أفغانستان على بعد سبعة آلاف ميل من أمريكا، وأن عدد سكانها 26 مليون نسمة، أى أنها فى حجم تكساس (ولعل «تشينى» أراد بهذه المقارنة أن يقرب الصورة إلى عقل «بوش») ـ فماذا سنفعل بالضبط؟». وتدخل «بوش» ليقول «كما فهمت فإننا كنا نتابع «بن لادن» حتى خروجه من السودان فى مايو سنة 1998 ـ هذا عرفته مما قرأته ـ بعد ذلك ذهب «بن لادن» إلى أفغانستان وهناك احتضنته حكومة طالبان ـ أبلغوا طالبان أننا نفضنا أيدينا منهم ـ طالبان والقاعدة هما نفس الشىء». وتدخل «رامسفيلد» ـ يرد الجميل لباول ـ فيقول: «نحن نقترب أكثر من تحديد هدفنا، ولكنى أظن أننا نحتاج قبل أن نتحدث عن العمل العسكرى ـ إلى الحديث أيضا عن الدور الذى يمكن أن تقوم به القوة الأمريكية فى مجالات غير عسكرية، وفى التمهيد لهذا العمل العسكرى حين يجىء وقته، فهناك ضرورات لعملية إعداد سياسى وقانونى ودبلوماسى ومالى ومخابراتى، وكل ذلك لازم قبل أن تبدأ الضربات، لهذا قلت أننا نحتاج إلى ستين يوما ليس فقط للعمل العسكرى، ولكن لمقدماته وتجهيزاته غير العسكرية». وتدخل «جورج تنيت» مدير المخابرات المركزية يقول «إن قيادة القاعدة موجودة فى أفغانستان، ولكن نشاطها عالمى، وهى موجودة فى كل القارات، ونحن لدينا قائمة بستين بلدا رصدنا فيها تحركات للقاعدة». ورد «بوش» يقول «لنأخذهم بلدا بعد الآخر ـ لأننا لا نستطيع التصرف معهم جميعا فى نفس الوقت». وعاد «رامسفيلد» يقول «المسألة ليست فقط «بن لادن»، ولكن هناك دولا كثيرة تتعاون ـ أو تتهاون ـ مع الإرهاب!». وختم «بوش» المناقشة فى هذا الموضوع بقوله «علينا أن نرغمهم أولا على الاختيار، إما نحن وإما القاعدة، إما معنا وإما معهم، إما حلفاء لأمريكا وإما حلفاء للإرهاب». عندما انتهت اجتماعات مجلس الأمن القومى وتوجه الرئيس إلى مكتبه ـ لحقت به مستشارته للأمن القومى ـ تعرض عليه بعض هواجسها: عادت تقول له إنها «تشعر من حولها بضباب، وهى تجاهد للتخلص منه حتى تستطيع المساعدة فى تقدير ما يمكن عمله فى اليوم التالى، وهى مُهيأة لقبول أن المسئولية تقع بالفعل على تنظيم القاعدة، ولكن هناك أسئلة سوف تطرح نفسها على الناس: سوف يتساءل الناس ـ إذا كان تنظيم القاعدة هو المسئول، فما الذى كانت الولايات المتحدة تعرفه عنه ـ وعن نواياه ـ وإمكانياته؟ ـ وماذا عرفت بالتحديد؟ ومتى عرفت؟ ولماذا لم تتصرف؟». وأحس «جورج بوش» أنه مرهق، وقرر الصعود إلى الجناح الخاص، حيث تنتظره قرينته «لورا»، وآوى الاثنان فعلا إلى الفراش، لكنه فى الساعة الحادية عشرة وثمانى دقائق قام الحرس الخاص للرئيس بإيقاظه من النوم، طالبين منه ومن قرينته التوجه فورا ـ بملابس النوم ـ إلى مخبأ البيت الأبيض، وهرع الاثنان وراء أحد ضباط الحرس إلى هناك، ونسيت «لورا» (قرينة الرئيس) أن تأخذ عدساتها اللاصقة التى تستعملها لتعويض قصور بصرها، لكن «جورج بوش» لم ينس أن يأخذ معه كلبيه، وفى الممر الطويل المؤدى إلى المخبأ تحت الأرض، تقابل «بوش» مع رئيس أركان البيت الأبيض «كارد»، ومع مستشارته للأمن القومى «كونداليزا رايس»، ومعها مساعدها «ستيفن هارلى»، وكان الثلاثة يهرولون إلى المخبأ، لأن البوليس السرى تصرف معهم كما فعل مع الرئيس وقرينته، باعتبار أن هناك حالة إنذار بطائرة مجهولة متجهة نحو واشنطن، والخوف أن يكون هدفها هو البيت الأبيض بعد أن جرى الإعلان عن عودة الرئيس إليه. وبعد عشر دقائق جاء البوليس السرى يقول أن الطائرة المجهولة بانت هويتها، وتأكد أنها طائرة عادية، لكن الاحتياط كان واجبا، ومع أن الإنذار بالخطر لم يعد ساريا، فلا يزال من المستحسن أن يقضى الرئيس وقرينته ليلتهما فى المخبأ، ونظر «بوش» إلى السرير الصغير المُعَد لنومه فى المخبأ، وقرر أنه سوف يعود إلى غرفة نومه فى الجناح الرئاسى «وليكن ما يكون»، وقررت «كونداليزا رايس» أنها فى هذه الساعة المتأخرة من الليل لا تستطيع العودة إلى شقتها فى عمارات «ووترجيت»، ولهذا فسوف تقضى ليلتها فى المخبأ!». فى الساعة السابعة صباحا يوم 12 سبتمبر، وصل «جورج تنيت» مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى البيت الأبيض ومعه التقرير اليومى للوكالة، لكنه فى ذلك اليوم كان تقريرا من نوع خاص. كان الرئيس فى مكتبه يتحدث مع مستشارته للأمن القومى، وبدا فى حديثه معها أنه يريد إزاحة المسئولية عن إدارته (ويضعها على سلفه «بيل كلينتون») قائلا: «إنه يعتقد أن إدارة «كلينتون» ردت على تحدى الإرهاب بتهاون شديد». ثم تساءل «بوش» «ما معنى أن يرد «كلينتون» على نسف السفارات الأمريكية فى أفريقيا بإطلاق دفعة صواريخ موجهة إلى أفغانستان؟ ـ وأى رد هذا؟ ـ وما الذى يمكن أن تحققه مثل هذه الضربات؟ حريق فى خيمة؟ ـ هدم بيت من الطين بصاروخ من طراز «كروز»؟ ـ هذه نكتة! يضيف «بوش» «لابد أن نتصرف بقوة، وإلا اهتزت صورة أمريكا». وعندما دخل «تنيت» إلى المكتب البيضاوى، توقف «بوش» عن إبداء سخطه على سلفه ليسمع مدير مخابراته، وراح «تنيت» يتحدث ويقدم للرئيس قوائم بأسماء مسئولين كبار فى القاعدة يساعدون «بن لادن»، من «أيمن الظواهرى»، إلى «أبو زبيدة» ـ إلى آخرين. ولم يكن «بوش» على استعداد لأن يدخل فى مجاهل هذا العالم الغامض للإرهابيين، وأحس «تنيت» أن رئيسه يتعجل النتائج ولا تعنيه التفاصيل وكذلك قال: «لدينا خطة لتكثيف نشاطنا حتى نتمكن من توجيه ضربات قاتلة للإرهابيين، لكن هذه الخطة تحتاج إلى اعتمادات مالية طائلة تصل إلى ألف مليون دولار، ورد «بوش» بسرعة «سوف أعطيك كل ما هو لازم لمهمتك». وأوضح له «تنيت» أن مهمته مهما نجحت ـ محصورة فى معرفة أكثر ما يمكن معرفته عن الإرهابيين، ثم اختراق تنظيماتهم، وإلحاق الضرر بهم إلى أقصى حد، لكن الضربة القاضية القاتلة لابد أن تكون بواسطة العمل العسكرى، وهذه مهمة القوات المسلحة!». بعد انتهاء اجتماع مجلس الأمن القومى فى البيت الأبيض (يوم 12 سبتمبر)، عاد الرئيس «بوش» إلى مكتبه، ومشت بجواره «كارين هيوز» مستشارته للشئون العامة، التى كان يريد أن يتحدث معها عن لغة «الخطاب العام للإدارة» فى الأيام القادمة، وعندما استقر وراء مكتبه قال لها: «إنه يريد عقد اجتماعات يومية لتشكيل وتوجيه الرسالة التى يريد توجيهها إلى الشعب الأمريكى عن الحرب ضد الإرهاب!» ـ وبادرت تسلمه ورقة تحتوى على ملاحظات يصح له إبداؤها أثناء اجتماع مقرر له مع قيادات القوات المسلحة سوف يحضره فى البنتاجون بعد ظهر هذا اليوم، ووضع «بوش» الورقة على مكتبه، وعاد يوجه الحديث إلى «كارين هيوز» قائلا: «دعينا أولا نتفق على الصورة الأوسع، نحن أمام عدو ليست له ملامح (Faceless)، وهذا العدو أعلن الحرب على الولايات المتحدة ـ إذن نحن فى حرب». ثم يستطرد: «إننا فى حاجة إلى خطة ـ إلى استراتيجية ـ إلى رؤية، ولابد لنا أن نُعَلَِم الشعب الأمريكى كيف يستعد لهجوم آخر؟ ـ الشعب الأمريكى يحتاج أن يفهم أن الحرب ضد الإرهاب هى المحور الرئيسى لجهد الإدارة وللحكومة من الآن فصاعدا». وردت «كارين هيوز» بأنها سوف تذهب إلى مكتبها لتحضير بعض النقط عن هذه «الرسالة»، وكتابتها على ورق، ثم تعود بها إلى الرئيس. وتوجهت «كارين» بالفعل إلى مكتبها فى الدور الثانى، وفتحت جهاز الكمبيوتر واستعدت للكتابة، لكن الرئيس طلبها إلى العودة فورا، وحين دخلت إلى المكتب البيضاوى بادرها بقوله: «دعينى اليوم أقل لك كيف يجب أن تؤدى عملك» ـ ثم ناولها ورقتين من أوراق مكتبه عليها بخط يده «مجموعة أفكار» (كذلك وصف الورقتين)، وراحت «كارين» تقرأ: «هذا عدو يضرب ويختفى، ولكنه لن يستطيع الاختباء منا إلى الأبد. هذا عدو يتصور أنه فى مكمن آمن، لكنه لن يظل آمنا إلى النهاية. هذا عدو لم نتعود على مواجهته، لكن أمريكا سوف تتأقلم على الحرب معه». وأضاف «بوش»: «والآن عودى إلى مكتبك لتجهزى نفسك!». فى اجتماع ثالث لمجلس الأمن القومى (خلال يومين)، استمع الرئيس «بوش» إلى تقارير عدد من مساعديه، ثم انفض الاجتماع بعد نصف الساعة، ولكن الرئيس استبقى ستة منهم لجلسة محدودة. وفى بداية هذه الجلسة المحدودة توجه «بوش» بنظره إلى «كولين باول» الذى رد على النظرة بجواب ـ قائلا: «إن وزارة الخارجية بدأت فعلا فى نقل رسالة الرئيس إلى حكومة باكستان ونظام طالبان» ـ «إما أن تكونوا معنا ـ أو أنكم ضدنا». وقال «بوش»: «إننى أريد إعداد قائمة بما نريده من طالبان، لا يكفيهم أن يسلموا لنا «بن لادن» ـ نحن نريد كل تنظيم القاعدة، إما أن يسلموهم لنا مباشرة، وإما أن يطردوهم من عندهم، ونحن نقوم بالقبض عليهم فور خروجهم». وتدخل «رامسفيلد» بقوله: «من المهم بالنسبة لنا أن نحدد أهدافنا الآن، فمن الضرورى أن نتوافق فى عملنا مع شركائنا فى التحالف ضد الإرهاب، والذى وَقَّعْ أعضاؤه اتفاقا معنا لمواجهة خطره»، ثم زاد «رامسفيلد» «كل شركائنا فى التحالف سوف يطلبون منا معلومات محددة وتوصيفات مقبولة، ومازلت ألح على أن هناك إجابات مطلوبة على أسئلة مطروحة مثل: هل حربنا هى ضد «بن لادن» والقاعدة فقط ـ أم هى ضد الإرهاب بالمعنى الأوسع؟». وكان «كولين باول» هو الذى استبق الرئيس برد قال فيه: «الهدف حرب ضد الإرهاب بالمعنى الأوسع ـ والبداية ذلك التنظيم الذى قام بالعمل المباشر الذى تعرضت له الولايات المتحدة أول أمس». وتدخل «تشينى» نائب الرئيس ليقول: «الهدف حرب ضد الإرهاب بالمعنى الأوسع، أى الإرهابيين والذين يناصرونهم ـ لكن عليك أن تلاحظ أنه سوف يكون من الأسهل علينا العثور على مناصرى الإرهاب أكثر من العثور على الإرهابيين أنفسهم». ورد «بوش»: «لنبدأ بالعثور على «بن لادن»، فذلك ما يتوقعه الشعب الأمريكى، وإذا نجحنا فإننا نكون قد وجهنا ضربة قوية إلى الإرهاب بالمعنى الأوسع، نحن أمام «سرطان» ولابد من استئصال الورم، وإذا بدأنا الحرب على الإرهاب بالمعنى الأوسع فلن يكون فى مقدور الرجل العادى فى أمريكا أن يتفهم ذلك». والتفت «بوش» إلى «رامسفيلد» يسأله: «هل توصلتم إلى تحديد ما نستطيع عمله عسكريا ـ فى أسرع ما يمكن؟! ورد «رامسفيلد»: «لم نجد غير قليل جدا، مما يمكن أن يؤثر». ثم روى وزير الدفاع أنه بالأمس استدعى الجنرال «تومى فرانكس» (قائد القوات المركزية الذى قاد الحرب على العراق حتى الآن) ـ وسأله عن استعداده للعمل ضد تنظيم القاعدة وضد طالبان إذا أصبح ذلك ضروريا. ورد «فرانكس»: «أن القيادة المركزية تحتاج إلى عدة شهور لرسم خطة عمليات واسعة فى أفغانستان»، وعندها قاطعه وزير الدفاع بقوله «لديك فرصة أيام أو أسابيع على الأكثر ـ ليست لديك فرصة شهور!» ـ وهنا بدا الضيق على قائد القيادة المركزية وقال: «إننا نحتاج إلى قواعد نعمل منها، وإلى حشد يكفى للمهمة التى نطلبها، وإلى خطوط مواصلات مأمونة نتحرك عليها وإلى أشياء كثيرة، لأن أفغانستان فى منتصف الكرة الأرضية على الناحية الأخرى من العالم، مع العلم أن القاعدة تنظيم حرب عصابات، وأعضاؤه مختفون فى الجبال، وهم يستعملون البغال فى جر المدافع والعربات، ومعسكراتهم ـ بما فى ذلك معسكرات التدريب ـ خالية ليس فيها شىء». وأضاف «رامسفيلد»: «إننى قلت لقائد القيادة المركزية، إننا نريد أفكارا خلاقة، شىء ما بين إطلاق صواريخ «كروز» وبين حرب واسعة. وتدخل «بوش» فى مجرى الحديث ليقول: «أن «تونى بلير» (رئيس وزراء بريطانيا) اتصل بى على التليفون صباح اليوم الباكر يقول لى «إن العالم ينتظر منا عملا قويا، وليس مجرد إجراءات لتهدئة مشاعر الرأى العام الأمريكى، وتجعله يحس أفضل!». واستطرد «بوش» (فى الغالب بتأثير رئيس أركان البيت الأبيض وربما تلقينه): «إن البنتاجون لابد من دفعه دفعا لكى يفكر جديا فى كيفية التعامل مع حرب عصابات بأسلحة تقليدية ـ لدينا مشكلة وهى أن العسكريين عندنا مضت عليهم فترة طويلة وهم يحاربون معاركهم عن بعد». وواصل «بوش» كلامه: «لابد أن نتصرف بسرعة قبل أن يتغير المناخ العالمى، خصوصا فى أوروبا لأننا لابد أن نأخذهم معنا إلى حيث نذهب، ولا يجب أن نعطيهم الانطباع بأننا نتصرف وحدنا». ثم أضاف «إن العالم الخارجى مازال ينظر إلىّ على أننى «رجل متهور» من تكساس، هم يظنون ذلك ـ أليس صحيحا؟ ـ لا يعرفون أننى رجل مختلف عما يظنون!». وكان الرئيس «بوش» على وشك أن يستقبل زعماء الكونجرس، لكنه قبل مجيئهم إلى البيت الأبيض اتصل بنفسه بكل من الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين»، وبرؤساء فرنسا وألمانيا وكندا والصين، ثم ترك مهمة الاتصالات ببقية الحلفاء إلى وزير الخارجية، قائلا له: «إننى أريد أن يمشى الجميع معنا، لكننى على استعداد للمشى وحدى إلى آخر الشوط إذا اقتضى الأمر». ثم خرج الرئيس إلى الصحفيين يقول لهم: «سـوف يكــون هــذا صراعا هائلا بين الخير والشر ـ لكن الخير سوف ينتصر!». التقى «بوش» فى الساعة الحادية عشرة والنصف بزعماء الكونجرس، وبدأ كلامه معهم بقوله: «إن العدو كان يحلم بأن يقابلنا هنا فى هذا المبنى، كان يريد أن يجىء إلى هنا ليحول البيت الأبيض إلى أنقاض. أريد للكونجرس أن يعرف أن تلك لم تكن حادثة منعزلة، ولا أريد أن تتحول أنظاركم عن هذه المعركة، بعد شهر من الآن سوف ينهمك الشعب الأمريكى فى متابعة مباريات كرة القدم لكأس العالم، لكن إدارتى سوف تكون منهمكة فى إدارة حرب لا آخر لها. إن العدو ليس جماعة محددة، ولكن عقليــة معينة، هذه العقلية تكره المســيحية وتكره اليهودية، وتكره كل شىء يختلف عنها، وعلى بقية الأمم أن تختار». وفوجئ بعض زعماء الكونجرس بلهجة الرئيس، وارتفع صوت زعيم الأغلبية ـ الأسبق ـ فى مجلس الشيوخ السـيناتور «توماس راســل» موجها كلامه للرئيس ـ قائلا: «أرجوك أن تكون أكثر تحفظا فيما تقول ـ وإذا كنت تريد تأييدنا، فإننا نطلب منك الاعتدال ومراعاة وقع كلماتك على أصدقاء الولايات المتحدة». ثم تدخل السناتور «روبرت بيرد» (زعيم الحزب الديمقراطى فى فرجينيا وعمره 83 سنة) ليطلب من «بوش» أن يهدئ روعه قائلا له: «إننى تعاملت مع عشرة رؤساء للولايات المتحدة قبلك، ولقد فهمت مما قلته لنا أنك لا تريد منا قرارا بشن الحرب، وإنما تريد منا تفويضا لك باستعمال القوة، أى أنك تطلب منا ما سبق للرئيس «جونسون» أن طلبه فى فيتنام سنة 1964 (فيما سُمى بقرار «خليج تونكين»، وكانت تلك كذبة كبيرة طلب فيها «جونسـون» تفويضا من الكونجرس بالرد على عدوان، ولم يكن هناك بالفعل عدوان). استطرد السناتور «بيرد» العجوز ليقول لبوش: «لن تحصل من الكونجرس هذه المرة على قرار مماثل لقرار تونكين، الكونجرس لن يسمح لك بهذا، وأمريكا مازال لها دستور يحكمها!». وأخرج «بيرد» من جيبه نسخة من الدستور! وتوتر جو الاجتماع! فى الساعة الرابعة من مساء يوم 15 سبتمبر ـ دُعِى مجلس الأمن القومى إلى اجتماع آخر، وبدأ «بوش» بإلقاء صلاة فتح بها المداولات (كما أخذ يفعل أخيرا) ـ وكان وزير الدفاع «رامسفيلد» هو الذى بدأ الكلام قائلا: «مازلت مُصِرَّا على سؤال لم أتلق جوابا عنه ـ هل حربنا ضد القاعدة؟ ـ أم هى ضد الإرهاب عموما؟». ورد «بوش» قائلا: «شعورى أن الولايات المتحدة يجب أن تبدأ ببن لادن أولا ـ لأنه إذا جرى ضرب تنظيم القاعدة، فإن البقية تتداعى تلقائيا». وعاد «رامسفيلد» إلى الكلام: «إننا لا نستطيع أن نقيم تحالفا دوليا ونحتفظ به على مجرد ضرب القاعدة، لأن ضرب القاعدة هدف محدود ويمكن أن يتلاشى سريعا، وعندئذ ينفك التحالف ضد الإرهاب بوهم أنه أدى مهمته». وتدخل نائب الرئيس «تشينى» فى الحوار قائلا: «إننى أريد أن أركز أكثر على قضية الدول التى ترعى الإرهاب، وأريد أن ألفت النظر إلى أن التركيز على «دول لها كيان واضح» أسهل من التركيز على جماعات ليست لها ملامح» ـ الدول التى ترعى الإرهاب «متجسدة»، والجماعات الإرهابية مجرد «أشباح»، وأظن أننا سوف ننجح أكثر فى العمل ضد «جسد»، ولا ننجح بالقدر الكافى ضد «شبح». وكان «بوش» هو الذى رد على نائبه قائلا: «إننى متخوف من تشتيت عملنا، أظن أننا لابد أن نكون محددين أكثر حتى نحتفظ بتأييد الرأى العام، الناس فهموا أن القاعدة هى التى سببت لنا كل هذه الآلام فى الأيام الأخيرة، وهم ينتظرون منا أن نضرب فى هذا الاتجاه قبل أن نتحول إلى غيره ـ هذا التركيز على القاعدة أيضا مهم لأصدقائنا فى التحالف». وعاد «تشينى» يجادل: «إن تأييد العالم لنا مهم، لكنه لا يصح أن يقيد أيدينا عن التصرف، من حقنا أن نتصرف بمفردنا، المهام هى التى يجب أن تحدد التحالف، وليس التحالف هو الذى يحدد المهام». وفجأة قال «رامسفيلد»: «أليس من الضرورى أن نضرب العراق أيضا وليس القاعدة فقط؟ ـ العراق يمكن أن يكون هدفا متجسدا أمامنا، وقابلا للضرب على أسـاس أنه من رعاة الإرهاب ـ «صــدام حســين» ليس شـبحا وإنما هو بلد!». أشار «رامسفيلد» إلى معاونين له يجلسون وراءه فى اجتماع مجلس الأمن القومى (وفيهم نائبه «بول وولفويتز» ورئيس لجنة التخطيط الاستراتيجى «ريتشارد بيرل»)، واستطرد: «كنا فى اجتماع البنتاجون ولم يكن هناك حول المائدة من لا يعتقد فى صميم قلبه أن «صدام حسين» خطر شديد لأنه مصمم على حيازة أسلحة دمار شامل يمكن أن تصل إلى يد الجماعات الإرهابية». ويستطرد «رامسفيلد»: «ضرب العراق يمكن أن يبدأ بسرعة، والخطط لدينا جاهزة». وتدخل «كولين باول»: «ضرب العراق الآن ليس مناسبا، والأنسب هو التركيز على «القاعدة»، والرأى العام الأمريكى مشحون هذه اللحظة ضد القاعدة، وتحويله إلى الاقتناع بعمل ضد العراق، سوف يكون صعبا، والإدارة تحتاج إلى تأييد الشعب الأمريكى، والشعب الأمريكى يريد منا عملا ضد القاعدة». وجاء الدور على الرئيس الذى قال: «موضوع العراق يحتاج إلى وقت، الآن نريد خطة عمل لتدمير تنظيمات الإرهابيين، وأريد على الفور قائمة بأسماء هؤلاء البلطجية، وأريد خطة لتعقبهم، إننى ألاحظ أن كثيرين يعودون بأفكارهم إلى أجواء حرب الخليج السابقة، ويقارنون بين الحالتين ـ المقارنة ليست الآن صحيحة والشعب الأمريكى ينتظر منّا ضربة كبيرة، ولابد أن أقنعهم بأننا بدأنا الحرب ضد الإرهاب، وأن القاعدة هى الخطوة الأولى، إننى أطلب عملا سريعا ضد الإرهاب، وقد بدأت أشعر بالإحباط!». وقال «كولين باول»: «إن هناك فرصا كبيرة للحرب ضد الإرهاب ـ ضد القاعدة وحتى طالبان، بطريقة تختلف عن تلك التى شنها السوفييت». رابعـــا:نحتاج إلى ضرب العراق! بعد أربعة أيام من الصدمة، وفى أول عطلة نهاية أسبوع تليها، وبالتحديد يوم 15 سبتمبر ـ دعا الرئيس «جورج بوش» أركان إدارته إلى اجتماع غير رسمى، لمناقشة أكثر هدوءًا فى منتجع «كامب دافيد»، وقد طلب من المشاركين فى الاجتماع أن يحضروه بملابس غير رسمية، حتى يكون اجتماعهم حوار زملاء وأصدقاء ـ صريحا مفتوحا ـ مرتاحا ووديا! ودخل الرئيس نفسه إلى القاعة بقميص أزرق فتح ياقته، وفوقه جاكيت أخضر اللون، واتخذ مقعده وسط قاعة الاجتماعات المعدة فى المبنى المُسمى «لوريل لودج»، وعلى يمينه جلس نائبه «ريتشارد تشينى» وعلى يساره جلس وزير خارجيته «كولين باول»، واصطف الباقون حول المائدة، ولاحظ وزير الخارجية أن وزير الدفاع «دونالد رامسفيلد» اصطحب معه نائبه «بول وولفويتز»، كما أن «جورج تنيت» مدير المخابرات المركزية اصطحب معه اثنين من مساعديه هما نائبه «جون ماكلولن» ومدير شئون العمليات فى إدارته «كوفر بلاك»، وأبدى «باول» دهشته قائلا: «إنه لم يكن يعرف أن مساعدى الوزراء مدعوون للاجتماع، وإلا لجاء معه بنائبه «ريتشارد أرميتاج» ». وفتح «بوش» الاجتماع بتلاوة الصلوات، ثم دعا وزير المالية للكلام عن تأثيرات الانهيار الذى حدث فى بورصات أمريكا للأوراق المالية، مبديا خشيته أن ذلك سوف يؤثر على كل الناس، خصوصا صناديق التأمين والمعاشات، وكلها تستثمر أموالها فى السوق، وعرض وزير المالية تقديره للأحوال. ثم التفت «بوش» إلى وزير الخارجية «كولين باول» يدعوه لشرح مواقف دول التحالف، وقال «باول»: إن وزارة الخارجية بدأت العمل على الفور ـ متواصلا وملحا ـ بادئة من نقطة ملخصها كما سمع من الرئيس «إن الهجمات على نيويورك يمكن اعتبارها فرصة لإعادة تشكيل العلاقات الدولية على مستوى العالم، والطريق إلى ذلك بناء تحالف دولى واسع لابد من إشراك أعضائه فى المعلومات والسياسات والأفكار، وقد اتصلت فى اليومين الأخيرين برؤساء خمس وثلاثين دولة، أشرح لهم أن ذلك لم يكن هجوما على أمريكا، ولكن هجوما على الحضارة ذاتها». ثم انتقل الرئيس «بوش» إلى الكلام فى صُلب الموضوع الذى دعا الاجتماع فى كامب دافيد من أجله، واختار له هذا الجو المريح والهادئ، وكان سامعوه يصغون إليه عارفين أنه صوته ـ لكن أحدا منهم لم يكن واثقا أن لسان الرئيس ينطق بعقله، وإذا لم يكن فمن الذى قام بتلقينه الدرس ـ وعلى الأقل فقد كان واضحا للجميع أن «بوش» يتحدث بخليط مما عنده ومما عند غيره. واستفاض «بوش» فى الكلام: «الشعب الأمريكى يريد عملا كبيرا، مهولا، فرقعة عظيمة (استعمل «بوش» تعبير الانفجار العظيم Big Bang الذى يصف به علماء الطبيعة تلك اللحظة الهائلة التى انفجر معها خلق الكون). لا أريد معركة واحدة، ولكن أريد حربا ممتدة يشعر بها الشعب الأمريكى ويتأكد أننا نواصل الدفاع عنه حتى أقاصى الأرض. لا يهمنى اعتقال رجل واحد ولا اعتقال عدة رجال، وإنما يهمنى أن نتوصل إلى صيغة فعل تعطينا تفويضا مفتوحا للعمل حيث نشاء ـ لا يهمنى أن يحاول أحد منا أن يضع حدودا وهمية على فعل القوة الأمريكية، أو حدودا مالية تقيد مجال عملها». .....................
..................... [روى وزير الخارجية «كولين باول» لـ «بوب وودوارد» أنه: «فى هذه اللحظة أحسست أن الرئيس يريد أن يقتل أحدا، رأيت أمامى رجلا استيقظت لديه كل غرائز القتل من إحساسه بصدمة ما جرى فى نيويورك ومن تحرقه للانتقام لها مهما كان الثمن»]. .....................
..................... كان «بوش» مازال يواصل الكلام: «ما أريده هو حرب تشد مشاعر الشعب الأمريكى، وتشد وراءه بقية العالم». وأراد وزير الخارجية أن يستوضح بقصد التأكيد: «الرئيس يقصد حربا على الإرهاب حتى تتم تصفيته». وتدخل وزير الدفاع «رامسفيلد»: «الحرب ضد الإرهاب بالمعنى التقليدى لها مواصفات، لا تخدم مطلبنا إلى النهاية: أولا: لأنها حرب بطيئة، تأخذ وقتا، أى أنها لا تستجيب بسرعة لإحداث التأثير المطلوب. وثانيا: لأنها حرب يصعب فيها تحقيق نتائج لافتة للنظر (Spectacular). وثالثا: لأنها حرب لا تملك أن تركز على هدف محدد بالذات، لأنها ضد أشباح.. ضد ظلال. ورابعا: لأنها بالنسبة لأهدافها على فرض التمكن من تحديدها، لا تسمح بمثل هذا الانفجار العظيم Big Bang الذى أشار إليه الرئيس». وسادت لحظة صمت قطعه «بول وولفويتز» نائب وزير الدفاع بقوله: «إن ما يطلبه الرئيس يمكن أن يتحقق فى حالة واحدة، هى حالة أن نوجه ضرباتنا إلى الدول الراعية للإرهاب، أو الدول الإرهابية، والعراق أول القائمة بوجود «صدام حسين» على رأسه!». ولاحظت «كونداليزا رايس» أن وزير الخارجية «كولين باول» عاد برأسه إلى الوراء وقلب عينيه (كما يفعل عادة عندما يسمع ما لا يعجبه أو ما لا يقنعه!). وكان «جورج بوش» ـ مرة أخرى! ـ هو الذى تولى الرد قائلا: «إن «دون» (يقصد وزير الدفاع «دونالد رامسفيلد») طرح موضوع ضرب العراق فى اتصال معى أمس، وقد رفضت الاقتراح لأسباب: «صدام حسين» رجل سىئ، وهو خطر على جيرانه العرب وغير العرب، ولكنه خلال السنوات الأخيرة لم يفعل شيئا يستوجب البدء بعقابه ردا على ما حدث فى نيويورك، وليس عندنا ما يثبت صلته بما جرى، بحيث نستطيع تأسيس قضية ضده، لقد امتنع عن الشغب أخيرا، ليس لأنه رجل صالح، ولكن لأنه يحاول تفادى ضربات نوجهها إليه». وهناك اعتباران: أولهما: أننى لا أريد أن يتهمنا أحد بأننا نتحول إلى ملاحقة «صدام حسين» لأننا لم نستطع أن نمسك بغيره. والثانى: أننى ـ كما تعرفون جميعا ـ أكره «صدام»، لكنى لا أريد أن يتصور أحد فى العالم أننى أطارده من باب الثأر الشخصى لأبى (My Dad)! وتشجع الجنرال «هيوشيلتون» (رئيس الأركان الذى كان على وشك قضاء مدته بعد أسبوعين يسلم بعدها رئاسة الأركان إلى الجنرال «مايرز» الذى كان جالسا بجواره على مائدة الاجتماع)، وكذلك قال ـ كما نقل «وودوارد» عنه فى صفحة 61 بالحرف: «إن هيئة أركان الحرب المشتركة لا ترى داعيا لإدخال العراق فى المعادلة هذه اللحظة المبكرة، ورأينا أنه يصعب ضرب العراق الآن إذا لم تظهر صلة مباشرة تكشف عن مسئولية «صدام حسين» مباشرة عن هجمات 11 سبتمبر. فوق ذلك فإن هيئة الأركان المشتركة ترى أن استهداف العراق يؤدى إلى إحراج دول عربية صديقة نريد دعمها فى حربنا ضد الإرهاب. ونحن نرى أن دعم هذه الدول لجهودنا أمر حيوى، زيادة على ذلك فإن استهداف العراق الآن كفيل بأن يوقف مسيرة عملية السلام فى الشرق الأوسط، ونحن نرى استمرارها ضرورىا قبل البدء فى ضرب العراق». .....................
..................... [يقطع «بوب وودوارد» سياق روايته لوقائع الاجتماع ليقول: «إن «كولين باول» كان قد سبق له أن تحدث مع الجنرال «شيلتون» فى اليوم السابق، ولفت نظره إلى أن هناك مجموعة من المستشارين (أولهم «وولفويتز» و«بيرل») يرونها فرصة سانحة لضرب العراق، حتى إذا لم تكن هناك أسباب تتعلق بالحملة ضد الإرهاب»، وأنه قال للجنرال «شيلتون» أثناء هذا الحديث «إن هذه المجموعة أصبحت فالتة فى تصرفاتها، ومن الضرورى إعادتها بسرعة إلى الصف وإبقاؤها فيه، لأن تحديد الأولويات بحزم ألزم الضرورات للسياسة الأمريكية الآن، ورد عليه الجنرال «شلتون»: «إنه متفق بالكامل مع ما يقوله»]. .....................
..................... وتساءل الرئيس «بوش» موجها كلامه إلى الجنرال «شيلتون» سائلا: «ما هى الإمكانيات الموجودة لدينا لضرب «بن لادن» وحكومة طالبان إذا لم يقوموا بتسليمه لنا؟». ورد الجنرال «شيلتون»: «إنه يخشى أن تقديراته فى هذا الميدان سوف تكون «متشائمة»، بمعنى أنه ليست لدينا (البنتاجون) خطط جاهزة للعمل فى أفغانستان، كل ما لدينا هو ضربات موجهة بصواريخ كروز، وهذه عملية لن تُحْدِث إلا حفرا على سفوح الجبال وليس أكثر!». وتدخل وزير الدفاع «رامسفيلد» قائلا: «إن القوات المسلحة الأمريكية تحتاج إلى مراجعة لمهامها إزاء ظروف متغيرة، وكان يمكن لها أن تكون أقدر على الاستجابة، إذا كان التوجيه إليها استهداف الدول التى تناصر «بن لادن»، لأنها هناك تستطيع أن تجد عدوا متجسدا توجه له ضرباتها، عدو حقيقى يملك أهدافا يمكن ضربها، وعدوا لا يظهر حين يشاء ويختفى حين يشاء، يفاجئنا بتوجيه ضرباته إلينا ويختفى حين نطارده بالعقاب». وأحس الرئيس «بوش» (كما قال لبوب وودوارد) ـ «أنه ربما ظلم وزارة الحرب الأمريكية لأنه لم يترك لها فرصة كافية للتفكير والتخطيط فى ظروف متغيرة»، وهكذا وجه كلامه للجنرال «شيلتون» قائلا: «أريد من هيئة الأركان المشتركة أن تعرف أننا أمام عالم جديد، وعلى الجنرال «شيلتون» أن يعود ـ الآن ـ إلى هيئة أركان حرب ويدرس معها الاحتمالات والممكنات المطلوبة لضبط أمور هذا العالم الجديد، إننى أريد خطة كاملة، وأريد توقيتات محددة، وأريد أن تكون لدى فكرة عن الثمن الذى لابد أن ندفعه، أريد خيارات واسعة، أريد قرارات عاجلة تواجه أحوالا طارئة، أريد شيئا مؤثرا، شيئا دراميا يلفت الأنظار ويشد!». .....................
..................... طوال الشهور التالية بعد سبتمبر 2001، يتابع «بوب وودوارد» فى كتابه تطورات الحرب على «بن لادن» ـ وعلى حكومة طالبان ـ وعلى اتساع أفغانستان ـ من خلال اجتماعات «بوش» مع مستشاريه، سواء فى المكتب البيضاوى للرئيس، أو فى قاعة اجتماعات مجلس الأمن القومى فى البيت الأبيض. ثم يستفيض فى الحديث عن الطيران الأمريكى وقواعد الصواريخ الثابتة أو المتحركة فى البحر الأبيض والبحر الأحمر والخليج العربى، وكيف راحت تصب نيرانها على جبال أفغانستان، ويتابع مندوبى المخابرات المركزية يسلمون حقائب الدولارات بالملايين لزعماء القبائل والطوائف ـ لكن النتائج « لا تزال غير كافية»، لأن «أسامة بن لادن» وأعوانه اختفوا فى الظلال ولم يظهر لهم أثر، وانفكت دولة طالبان، وتحفزت قوات التحالف الشمالى الذى تشرف عليه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تحاول إقامة حكومة جديدة فى أفغانستان، وتجرى اتصالات بملك أفغانستان العجوز «محمد ظاهر شاه» الذى اختار العاصمة الإيطالية منفى اختياريا له ومقاما، حتى يعود إلى وطنه ليرأس اجتماعا قبليا «لويا جيرجا»، تحضره الفرق المتنازعة فى أفغانستان، لأن البلد كله يوشك بعد الفوضى العارمة التى اجتاحته أن يسقط فى هاوية حرب أهلية تحول أديانه القمعية وسط الجبال الشاهقة إلى بحيرات دم أسود بأحقاد الثأر والطمع. لكن ذلك كله مما يتابعه «بوب وودوارد» ويرصده لا يزال بعيدا عن تحقيق رغبات الرئيس «بوش»، خصوصا أن الجنرال «مايرز» (رئيس أركان الحرب الجديد) لم يتوان لحظة عن لفت الأنظار إلى «أن القوات الأمريكية لم تجد فى طول أفغانستان وعرضها غير تسعة أهداف فقط تستحق الضرب، وهذه الأهداف التسعة تم ضربها فعلا، ولم يعد باقيا شىء، لدرجة أن الضربات الآن توجه إلى ما سبق ضربه وسلاح الدمار ينصب الآن على ما تم بالفعل تدميره. ويروى «بوب وودوارد» أن القوات الأمريكية التى وصلت إلى أفغانستان، وراحت تطل على ذلك البلد عن قرب ـ روعها أن الناس هناك يحتاجون إلى الطعام قبل الصواريخ، وفى لحظة من اللحظات رَقَّ قلب الرئيس «بوش»، وتذكر رسالته المقدسة ليقول: «علينا أن نحاول تخفيف آلام هؤلاء الناس، دعونا نضربهم بطرود الطعام»، ثم استدرك بسرعة: «لكنى أريد حريقا هائلا من النيران يتحقق به التطهر، وعندها يكون الغفران لأننا جميعا أبناء الله». ثم يعود الرئيس الأمريكى كى يلح على «أنه لم يحصل بعد على «الانفجار العظيم» الذى أراده وطلبه!». وينتقل «بوب وودوارد» بالتفاصيل إلى كواليس البيت الأبيض، حيث تبدأ مجموعة مستشاريه داخل هيئة البيت الأبيض فى القلق، ومبعث القلق عدة أسباب: 1 ـ الحملة فى أفغانستان يمكن أن تنتهى ـ دون أن يحقق الرئيس «بوش» ذلك العمل الدرامى الذى يأمل فيه. 2 ـ وإذا مضت الأمور على هذا النحو «الفاتر»، فمن المشكوك فيه أن يستطيع الرئيس «بوش» أن يقود حزبه فى انتخابات التجديد النصفى (نوفمبر 2002) إلى انتصار ضد الديمقراطيين، وقد يفقد الحزب الجمهورى أغلبيته الضئيلة (وهو صوت واحد) فى مجلس الشيوخ. 3 ـ وإذا حدث ذلك فإن ترشيح الحزب لبوش لمدة رئاسة ثانية (سنة 2004) قد يتأثر، كما أن فوزه أمام مرشح ديمقراطى («آل جور» ـ أو «هيلارى كلينتون» ـ أو أى حصــان أســود يظهر فجأة ليتقدم صفوف الحزب الآخر) ـ قد يصبح موضع شــك، خصوصا أن ما جرى فى الانتخابات الرئاسية السابقة يصعب تكراره لاحقا. وعليه فإن القضية لم تعد الإرهاب، ولا «بن لادن»، ولا أفغانستان، وإنما هى مستقبل الرئيس وسِجِلْ إدارته. وهكذا ينتقل مركز الثقل فى القرار الأمريكى إلى هيئة مستشارى البيت الأبيض، وفيها ثلاثة رجال وامرأة: الرجال هم: «أندرو كارد» (رئيس أركان البيت الأبيض) ـ و«كارل روفى» (كبير مستشاريه للشئون السياسية الداخلية) ـ و«آرى فليشر» (المتحدث الصحفى باسمه). والمرأة هى السيدة «كارين هيوز» المسئولة عن العلاقات العامة (بما فيها المكتب الخاص المكلف بإعداد خُطب الرئيس)]. .....................
..................... مع بداية الفصل الخامس عشر من كتابه (صفحة 205)، يصل «بوب وودوارد» فى روايته إلى حيث يقول: صباح يوم الأحد 7 أكتوبر، كان «كارل روفى» (كبير مستشارى الرئيس للشئون الداخلية) فى بيته شمال غرب واشنطن، لقد انقضت أسابيع منذ وقعت هجمات 11 سبتمبر، ولم تكن تلك بالنسبة لهذا الرجل فترة سعيدة، لقد عرف «جورج بوش» (الابن) أثناء عمله السابق مع والده، وأصبح مستشاره الانتخابى عندما طرح ترشيح «دوبيا» للرئاسة جديا، ولم يكن «روفى» قد حضر أيا من اجتماعات رئيسه مع كبار أعضاء إدارته من الوزراء، ولا شارك فى اجتماعات مجلس الأمن القومى، وسبب استبعاده أن الرئيس «بوش» ونائبه «تشينى» توافقا على أنه ليس من المستحسن مشاركة مسئول عن السياسة الداخلية فى اجتماعات إدارة الأزمات الدولية أو مجلس الأمن القومى المخصصة للحرب ضـد الإرهــاب، لأن ذلك خـلط بين «الخارجى والداخلى»، فتلك هى التقاليد، ومخالفتها الآن قد تعطى إشارات خاطئة. وكان «روفى» يتفهم ذلك، لكنه يوما بعد يوم أخذ يقتنع ويزيد اقتناعه بأن القرارات السياسية المهمة أوشكت أن تتداخل مع الاعتبارات المباشرة والحيوية التى تخص مستقبل «بوش» وإدارته، وكان ذلك التداخل يلح عليه بصرف النظر عن حرب أو لا حرب، واعتقاده الراسخ الآن أن الحكم على «بوش» فى فترة رئاسته الأولى وفرصته الرئاسية الثانية ـ سوف يتأثر سلبا وإيجابا بما جرى يوم 11 سبتمبر وبما يجرى بعده. كان «روفى» يعتبر نفسه «مهندس» نجاح «بوش» فى انتخابات الرئاسة سنة 2000. وكان قد دعا يوم الجمعة 5 أكتوبر إلى اجتماع فى مكتبه، لاحظ فيه المجتمعون أن شعبية «بوش» قد وصلت إلى الذروة، ولامست نسبة 90% (وفق استطلاعات وكالة A.B.C وجريدة الواشنطن بوست معا). وقد علق «روفى» على هذه الأرقام بقوله: «إن هذه النسبة مزعجة بمقدار ما هى مريحة، والسبب أن دراسة التجارب السابقة تشير إلى أن ارتفاع شعبية أى رئيس إلى هذا الحد سوف يتبعها فى ظرف أسابيع قليلة هبوط ضرورى ـ صغير أو كبير ـ ذلك يتوقف على الظروف كما حدث فى تجربة «جورج بوش» (الأب)، والآن (الجمعة 5 أكتوبر) قرر «كارل روفى» أن يذهب إلى مقابلة الرئيس (الابن) قبل أن تنقله الهليوكوبتر إلى «كامب دافيد» لعطلة نهاية الأسبوع، وقصده أن ينبهه مبكرا إلى الاحتمالات، وبالفعل فقد لحق به فى مكتبه يقول له: «إنه فى وقت حرب الخليج (الكويت) سنة 1991، وصلت شعبية والده إلى 82%، لكنها فى ظرف ثلاثين أسبوعا تراجعت إلى نسبة 59%، ثم ظلت تتراجع حتى خسر معركة الانتخابات وفاز «بيل كلينتون». وحاول «بوش» (الابن) أن يتظاهر بعدم الاهتمام، فقال لرئيس أركان البيت الأبيض: «لا تضيع وقتى بمثل هذه الأرقام لأنها مزاجية، وأنا أعتبرها بمثابة وضع أصبع على النبض لقياس سرعته فى أوقات يتغير فيها الشعور العام فى ظرف ساعات قليلة». لكن «روفى» كان يعرف عن اهتمامات رئيسه بأكثر مما يدعى به الآن، فهو من تجربته يرى «بوش» يصرف وقتا طويلا كل يوم فى متابعة قياسات الرأى العام، ويحصى أرقامها ولاية بعد ولاية! وانتظر «كارل روفى» عدة أسابيع ثم قرر على مسئوليته أن يحاول استطلاع الحقائق بشأن ما يجرى، ومع أنه يتابع أخبار الضرب الذى بدأ فى أفغانستان، فإنه يشعر على نحو ما أن الأمور ليست على الطريق الصحيح ـ من وجهة نظر انتخابية على الأقل وذلك ما يهمه ـ وكذلك ذهب بنفسه إلى مقابلة وزير الدفاع «دونالد رامسفيلد» يسأله عن سر هذا الفتور فى إيقاع الحوادث، ورد عليه «رامسفيلد»: «لأن الأهداف فى أفغانستان انتهت، لم تعد هناك أهداف نضربها، لم تكن فى أفغانستان من الأصل أهداف تستحق الضرب!». وسأله «كارل روفى»: «إذن فكيف نواصل الحرب؟». ورد عليه «رامسفيلد» بسؤال: «قل لى كيف يمكن أن نكسب حربا لا نستطيع فيها أن نركز على عدو؟!». وأبدى «روفى» هواجسه من العواقب السياسية لهذا الفتور فى وتيرة حرب لم تعد لها أهداف تركز عليها، ورد عليه «رامسفيلد» بقوله: «إنهم لا يريدون أن يأخذوا أية مخاطر.. لا تفعل شيئا ولن يلومك أحد، تحرك لتفعل شيئا وسوف يحصون عليك الأخطاء، وأنا شخصيا مستعد لاحتمال التبعات، لكن المهم أن نتحرك». واستطرد «رامسفيلد»: «هناك نقطة سوف يتحتم علينا عندها أن نقوم بشىء ما فى مكان آخر من العالم، مكان آخر غير أفغانستان، ذلك ما قلته وكررته، ومازلت أقوله وأكرره، لكن هناك من لا يريدون أن يسمعوا، لابد أن نوجه ضرباتنا بعد الآن إلى الدول الراعية للإرهاب، الدول الإرهابية.. العراق أولها ـ «صدام حسين» ليس له صديق فى العالم يدافع عنه حتى فى روسيا وفى الصين، وهو رجل يصعب على أحد أن يقول كلمة طيبة فى حقه». ثم يزيد: ليس لدينا ـ على أى حال ـ نقص فى قائمة هذه الدول: هناك إيران، سوريا، السـودان، ليبيا، وبالطبع كوريا الشمالية. وتنعقد فى البيت الأبيض اجتماعات ومناقشات وبحث عن خيارات تبدو ممكنة أو حتى مستحيلة، وحلت لحظة تلاقت فيها الضرورات الانتخابية للرئيس، مع الرغبات الملحة للجناح الإمبراطورى فى الإدارة («ريتشارد تشــينى»، «دونالد رامسفيلد»، «ريتشارد بيرل»، «بول وولفويتز»، وغيرهم..). لكن كتاب «بوب وودوارد» بلغ نهايته، والقرار معلق فى الهواء! خامســـا:عندما حلت بغداد محل كابول! يجىء الدور الآن على صورة أخيرة هى الختام الحقيقى لما كتبه «بوب وودوارد»، مع أنها ليست واردة فى كتابه «بوش فى حرب»، وإنما جاء بها كتاب آخر غيره وهو كتاب «الرجل المناسب» The Right Man، وذلك مرجع مهم لأن صاحبه وهو «دافيد فروم»، كان واحدا من فريق «كارين هيوز» (مستشارة العلاقات العامة للرئيس ومسئولة المكتب الخاص المكلف بكتابة خطبه). كان «دافيد فروم» محررا مرموقا فى جريدة «وول ستريت جورنال» تميز بقدرته على صياغة الأفكار المعقدة فى عبارات مبسطة، ولذلك فإن «كارين هيوز» بمشورة من مساعدها «مايكل جيرسون» طلبته للعمل فى البيت الأبيض ـ حتى تستفيد من مواهبه فى كتابة خطب الرئيس «جورج بوش». وهنا تظهر الصورة الأخيرة ـ وهى خطيرة ـ وتستحق أن تتوقف سرعة عرض الكتاب عندها ـ ابتداءً من صفحة 224 من كتاب «دافيد فروم» عن «الرجل المناسب» (وهو يقصد «جورج بوش»!). ويبدأ الفصل الثانى عشر (صفحة 224) على النحو التالى: فى أواخر ديسمبر سنة 2001، اتصل بى (فى مكتبى بالبيت الأبيض) كبير كُتاب خطب الرئيس وهو «مايكل جيرسون» (المساعد الرئيسى لكارين هيوز) قائلا لى: «عندى اليوم مهمة تتعلق بخطاب الرئيس السنوى عن «حالة الاتحاد» (يلقيها أواخر شهر يناير 2002) ـ فهل نستطيع الاعتماد عليك فى صياغة فقرة أو فقرات تكفى لشرح الأسباب التى تدعونا إلى تقصد العراق (Going after Iraq). يواصل «فروم» روايته فيقول: «كان واضحا لى أن طلب «جيرسون» منى هو كتابة الفتوى التى تبرر حربا على العراق توضع فى سياق خطاب الرئيس عن «حالة الاتحاد» (آخر يناير 2002). يستطرد «فروم»: «فهمت مقصد «مايكل جيرسون»، وسـألته هل يسـتطيع أن يعطينى مهلة إلى ما بعـد الغـد أتقدم بعدها إليه بمشروع صيغة يمكن قبولها؟ ـ ورد على «مايكل جيرســون» بقـوله: «شأنك غريب، أنت تحتاج إلى يومين كاملين لكى تتوصل إلى صيغة يفتح بها الرئيس هذا الملف». فهمت وأدركت على الفور أن قرار الحرب ضد العراق قد اتخذ، وأن صياغة أكثر الفقرات حساسية وخطورة فيه قد أوكلت إلىّ، وكنت أعرف أن هناك مجموعة من خمسة غيرى فى مكتب العلاقات العامة يعكفون على كتابة مشروع الخطاب، كل واحد منا يكتب جزءا، ثم يسلم كل منا ما توصل إليه إلى «مايكل جيرسون» الذى يعيد «تحريره» لتوحيد الأسلوب، ثم يعطيه لكارين هيوز (مسئولة العلاقات العامة)، تراجعه وتضيف إليه لمساتها، بحيث يصبح جاهزا للعرض على الرئيس ومستشاريه السياسيين. (وفى العادة فإن كُتَّاب خُطب الرئيس لديهم ما هو كاف من التوجيهات والمعلومات والتقارير ومحاضر الجلسات، بحيث يكتب كل واحد منهم ما هو مُكَلَّف به وتحت يده مادة تكفيه) ـ وقد شرح «فروم» طبيعة هذا العمل الذى يقوم به حتى وصل إلى صفحة 231، لكى يركز على تناوله لمسألة العراق، وكيف فكر فى مقاربتها بصياغة فقرة ـ أو فقرات ـ عنها فى خطاب الرئيس «جورج بوش» عن «حالة الاتحاد» أمام الجلسة السنوية المشتركة لمجلس الكونجرس ـ فيقول: «سألت نفسى من أين أبدأ: من السهل جدا تبرير حرب على «صدام حسين» لأنه أسوأ من يمكن أن نلقاهم على طول المسافة من الجزائر إلى كابول، لكن المشكلة فى هذه النقطة أن رئيس الولايات المتحدة لا يصح له أن يتحدث عن التاريخ القديم لصدام حسين، (لأنه لا مجال لحسابه الآن عنه بعد السكوت الطويل عليه)، ثم إنه (الرئيس) لا يستطيع أن يتحدث عن التاريخ القريب (وإلا بدا ذلك نقدا للإدارات السابقة التى سكتت على ما فعل ولم تحاسبه)، ونحن لا نريد أن نوجه لوما إلى إدارة سبقت لأننا فى شأن الحرب نفضل سياسة تعلو على أى خلافات حزبية، لأننا فى قرار الحرب نريد وفاقا بين الحزبين. وإذن فأنا لا أستطيع استعمال هذه الحجة. انتقلت إلى التفكير فى ذريعة أخرى: لقد قرأت كثيرا عبارة أن «صدام حسين» استخدم الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد فى العراق، أى ضد شعبه، لكننى لو استعملت هذه الذريعة فى الخطاب فإن أعضاء الكونجرس وأفراد الشعب قد يتساءلون «وأين كنا منذ حدث ذلك، وهو سؤال وجيه ـ لكنه مرة أخرى سوف يُلقى اللوم على الذين سكتوا عن هذا العمل الشنيع، خصوصا أن «بوش» (الأب) كان فى البيت الأبيض حينها نائبا للرئيس «ريجان»)، وإذن فإن الذريعة الثانية لا تصلح لتأسيس خطاب عن ضرورة الحرب مع العراق. وصلت فى التفكير إلى تهمة محاولة اغتيال «بوش» (الأب) أثناء زيارته للكويت سنة 1993، لكنى عدلت عن هذه الذريعة مرة ثالثة، لأن أى كاتب من الدرجة الثالثة يستطيع أن يجد فيها مجالا لاتهام الإدارة بأنها تسعى للثأر الشخصى (Omerta) على طريقة عصابات المافيا. يستطرد «دافيد فروم» (صفحة 232) قائلا: «فى بعض الأحيان يكون أفضل أسلوب للبحث عن مدخل لخطاب سياسى، هو التفتيش أولا عما يحتمل أن يقوله «الخصوم» الذين يعارضونه. وفى حالة العراق تُثار دائما نقطتان: الأولى: أنه لم تثبت لصدام حسين صلة بحوادث 11 سبتمبر 2001، فلماذا نعاقبه؟ والثانية: أن «صدام حسين» ديكتاتور طاغية، لكن «ستالين» كان كذلك أيضا، ونحن لم نحاربه، وإنما اكتفينا باحتواء الاتحاد السوفيتى، فلماذا نشهر على «صدام حسين» حربا لم نقم بها ضد «ستالين»، إلا إذا اعترفنا أن قوة الاتحاد السوفيتى ردعتنا، فى حين أن ضعف العراق يغرينا!». يستطرد «فروم»: «كنت أعرف أننا نريد تغيير النظام فى العراق، لكن ظنى أن الرأى العام سوف يتساءل ـ هل نظام «صدام حسين» وحده هو الذى يستحق التغيير؟، وإذا كنا سنغير المنطقة كلها، إذن فنحن نتحمل بعبء لم تتحمله الإمبراطوريات التى حكمت المنطقة من الرومان إلى آل عثمان!». يعود «فروم» إلى طرح أفكاره بينما هو منشغل بإعداد ما يخصه فى خطاب الرئيس: «إن الرئيس يحتاج ـ باعتباره الرئيس ـ أن يقول شيئا واضحا يربط «صدام حسين» بمستقبل استقرار السلام فى العالم، بحيث يظهر أن المطلوب هو تصفية الخطر على هذا المستقبل وليس مجرد ردعه!». توصلت من هنا إلى فكرة رئيسية مؤداها «أن ضرب «صدام حسين» جزء من مواجهة المخاطر التى تهدد سلام العالم»، لأنه أول الشرور. يواصل «فروم»: توصلت إلى صياغة حول ما فكرت فيه وعرضتها على «مايكل جيرسون» وعلى «كارين هيوز»، وقد جلسنا لمناقشة الصياغات النهائية لأجزاء الخطاب فى مكتب «كونداليزا رايس» (مستشارة الأمن القومى للرئيس)، وكان عليها أن تراجع نصه الأخير قبل أن ندخل به إلى المكتب البيضاوى. وقد أعجبت «كونداليزا رايس» بالصيغة التى اقترحتها، ورأت أنها تتسع لآخرين بينهم إيران، وأضافت «نحن نريد إيران كذلك»! يستطرد «فروم»: ودارت مناقشة بدا فيها أن أول بلدان فى طابور الشر: العراق وإيران، بلدين إسلاميان، وذلك يمكن أن يولد حساسيات لا نريدها فى العالم الإسلامى، واقترح «جيرسون» أهمية إضافة دولة ثالثة غير إسلامية، وقالت «كوندى»: «كوريا الشمالية!»، وعقبت قائلة: «إذن فإن الثلاثة معا أصبحوا محورا للشر، ولا داعى لأن نقول من الآن أن الشر طابور طويل» ـ وهكذا جرت ولادة تعبير «محور الشر»، وقد أسعدنى أن الرئيس «بوش» قرأ الفقرة المتعلقة بالعراق فى خطابه كما كتبتها نهائيا ـ لم يغير فيها حرفا! وعندما أذيع خطاب الرئيس عن «حالة الاتحاد»، كان العنوان الذى قدم له على شاشات التليفزيون وعلى الصفحات الأولى لكل وسائل الإعلام الدولى هو: «محور الشر!». .....................
..................... [كذلك حكى «دافيد فروم» فى كتاب «الرجل المناسب»، وجاءت حكايته واضحة لا تقبل التباسا أو شكا]. .....................
..................... وهنا يثور سؤال: «ما الذى يدعو أحد كتاب خطب رئيس الولايات المتحدة إلى رواية هذه التفاصيل عن دخائل عمله؟». والسبب يساوى وقفة أخيرة يتطرق إليها «فروم»، ويروى وقائعها على النحو التالى: «لقد حدث أن خطاب الرئيس عن «محور الشر» لقى استحسانا واسعا لدى الرأى العام فى الولايات المتحدة، وأصبحت عبارة «محور الشر» حديث الناس فى كل محفل، وكانت زوجة «دافيد فروم» سعيدة، وكذلك فإنها كتبت لأمها رسالة إليكترونية تقول فيها «إن زوجها «دافيد» هو الذى صاغ هذا التعبير فى خطاب الرئيس، وهو سعيد جدا بهذه الدرجة العالية من القبول العام». وتسرب الخبر إلى صحفى معروف «روبرت نوفاك»، فأشار إليه فى بند لا يزيد على ثلاثة سطور ضمن عامود يكتبه. وظهرت الواشنطن بوست فى الصباح، وعند الظهر كان «دافيد فروم» يتلقى دعوة عاجلة من رئيسه «مايكل جيرسون» (كبير كُتَّاب خطب الرئيس)، الذى أبلغه بلهجة مقتضبة وملامح عابسة: أولا ـ أن الرئيس لا يريد «تسريبات» تفشى للصحف عما يجرى فى البيت الأبيض لأن تلك كانت «المصيبة» فى رئاسة والده. وثانيا ـ فإنه ليس من حق كُتَّاب خطب الرئيس (ولا زوجاتهم) أن يتحدثوا عن أسرار عملهم، مهما كانت دوافعهم إلى ذلك، وعليه ولسوء الحظ «يا عزيزنا دافيد» فإن هذا اليوم هو آخر أيامك فى البيت الأبيض!. وخرج «دافيد فروم» من البيت الأبيض عائدا إلى عمله الأصلى فى جريدة «وول ستريت جورنال»، وتذكر أنه بالدرجة الأولى صحفى محترف، وقرر أن يكتب حكايته مع عقل الرئيس (يقصد «كارل روفى»)، ومع صوت الرئيس (يقصد كُتَّاب خطبه)!». .....................
..................... [وهكذا فإن اثنين من الصحفيين فى واشـنطن سـجلا على الورق ما رأيا وسمعا. * «بوب وودوارد» الذى عرض خلفيات ولمحات وشريط صور تحكى وتستفيض. * و«دافيد فروم» الذى قدم مشهد الختام فى لعبة الأقنعة، حين جرى استبدال صورة الشيخ «أسامة بن لادن» (الظل ـ الشبح القادر على الاختفاء فى الظلال) ـ بصورة الرئيس «صدام حسين» (الجسد الذى يمكن أن يُطال ويُضرب حتى يتحول إلى أشلاء وسط أنقاض). .....................
..................... [لم تكن فى حسابات البيت الأبيض تلك اللحظة أسلحة دمار شامل يملكها النظام فى العراق ويُراد نزعها منه، ولم يكن فى الحسابات ديكتاتورية تخنق شعب العراق ويُراد كسر قبضتها عن رقبته، ولم تكن هناك ديمقراطية وحرية غابت عن أرض العراق فجأة ويُراد لها أن تشرق مع الربيع الجديد، ولم تكن هناك صلات بتنظيم القاعدة وخلاياها الإرهابية المنتشرة فوق سطح الكرة الأرضية ويُراد تصفيتها ضمن الحملة العالمية على الإرهاب. كل ذلك لم يكن فى الحساب، ولا كان مما يمكن أو يصح انتظاره، لأنه مخالف لطبائع وحقائق الأشياء، والواقع والصحيح أنه كانت هناك أحوال إنسانية، وصراعات سياسية، ومطالب إمبراطورية، وضرورات بترولية، ولوازم انتخابية، وكله يتداخل ويختلط فى وعاء طبخ القرار الأمريكى، وكل طبق يحتاج إلى محسنات للطعم ولمسات جمال على الشكل ترضى الذوق وتفتح الشهية، وعندها تجىء لحظة إضافة المغريات من نوع «نزع أسلحة الدمار» و«إبعاد الديكتاتورية» و«ضمان حقوق الإنسان» و«مستقبل الديمقراطية»!]. .....................
.....................
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة