تحديث الخطاب الإسلامي للغرب



في العقد المنصرم كان التسامح والتفاهم، والتحاور والتقارب هي المفردات الغالبة في لغة الخطاب بين أوروبا والعرب والمسلمين، مهما اشتدت الخلافات وانجرفت السياسات. كانت لم تزل هناك بارقة أمل في أن تظل الصراعات السياسية والمنازعات القومية والعرقية التي تؤججها الأطماع التوسعية والمكاسب الاقتصادية، بمنأي عن دائرة الأديان والعقائد، وعن محاولات الزج بها في أتون الصراعات السياسية التي اشتعلت بضراوة بعد الحرب الباردة.. لم يكن أحد يتوقع أن يشهد العالم نكسة إلي عصور الحروب المقدسة، ولا إلي الخلط بين الدين من ناحية وبين حركات التحرر والنضال من أجل الاستقلال من ناحية أخري. نعم، كان الصراع في نهاية القرن الماضي قد حسم لصالح النظام الرأسمالي في مواجهة الأيديولوجية الشيوعية، بعد مايقرب من نصف قرن من منافسات وصدامات ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وعسكرية، لم يكن الدين فيها غير عامل ثانوي. بل يمكن أن يقال إن الدين أُبعد عمدًا عن دائرة الصراع بين الشرق والغرب، وطغت المسحة الإلحادية علي المعسكر الشيوعي بينما طغت المسحة العلمانية علي المعسكر الغربي. وفي كلتا الحالتين بقيت الكنيسة والدين خارج الحلبة. أما في العالم العربي ودول العالم الثالث بصفة عامة، فلم يكن الدين حينذاك يلعب في الداخل دورًا صراعيا تنافسيا في تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية وتقلباتها في هذه الشعوب التي كانت تشهد مرحلة أشبه باليقظة من سبات عميق.. تناضل من أجل استكمال استقلالها وانتزاع سيادتها علي ثرواتها، وتعيد التوازن الاجتماعي بين الطبقات. وفي كل ذلك بقي الدين مكونًا روحيا أساسيا يقبع في الوجدان، دون أن يتحول إلي موضوع للصراع الداخلي أو التصدير الخارجي، علي كثرة ما زخرت به المنطقة العربية من أديان وملل ونحل وطوائف. وإن كان زرع إسرائيل كدولة يهودية تقوم علي أساس ديني قد أعاد إحياء النزعة الدينية بين الشعوب الإسلامية، كدافع إلي الجهاد في وجه الهجمة الصهيونية. ومع ذلك فقد شهدت هذه الفترة نشاطًا متزايدًا في مجالات التبادل الثقافي وفتح أبواب الجامعات مع الغرب، اتخذت طابعًا تنويريا حضاريا في محاولة للتعويض عن قرون من الاستعمار أدت إلي التخلف والجهل والفقر. وسقطت الحواجز أمام آلاف من المبعوثين والدارسين والباحثين عن عمل. الذين لقوا تشجيعًا ودعمًا في صورة المنح الدراسية وتيسير سبل الانتقال والعمل والاندماج في المجتمعات الغربية، دون أن يقف اختلاف الدين حائلاً أمام علاقات خلت من شوائب العنصرية والتعالي والكراهية.. لم يكن هناك ذلك الاستقطاب المفتعل الذي برز بقوة في السنوات الأخيرة علي أسس دينية وعرقية يعاني منها العالم الآن. فما الذي حدث؟ ولماذا انقلبت العلاقات إلي شكل من أشكال العداء والصدام؟ فلا يكاد يمضي يوم دون أن تحمل موجات الأثير صورًا صحيحة أو زائفة لدين لم يخرج بعد من ظلام العصور الوسطي، وشعوب تحمل السيف والأحزمة الناسفة.. يركب المتطرفون فيها السيارات المفخخة، يجزون الرقاب ويفجرون الأبراج ومحطات القطارات ويزرعون الرعب بين المدنيين، ويعملون كل ما في وسعهم لإبراز اختلافهم الثقافي في السلوك والملبس والممارسة الدينية، ثم لا يسمحون لأحد بانتقادهم حتي ولو كان من بين صفوفهم.. فلا ينجو مفكر أو أديب من تهديداتهم وطعناتهم لمجرد أنه يطرح فكرًا مخالفًا أو اجتهادًا دينيا غير تقليدي؟ ! لقد كان من الطبيعي نتيجة لهذه الصورة الظالمة أن تأتي الردود من الغرب محملة بالإساءات في مقالات ومواد إعلامية، تطعن علي الإسلام والمسلمين وتحقر من شأنهم وتسخر بتعاليم دينهم وتتخذ موقفًا عدائيا منهم. وتمضي إلي أبعد من ذلك بإجراءات وقوانين تهدف إلي عزلهم وحصارهم في المجتمعات الغربية التي استقروا فيها، ثم ينتهي الأمر الآن إلي ظهور أحزاب وقوي سياسية تطالب بطردهم من أوروبا كلية. ولا يقتصر الأمر علي السياسيين، بل تسارع الكنيسة وعلي رأسها بابا الفاتيكان إلي إسباغ صبغة دينية عقائدية علي المواجهة، تعيد إحياء العداوات الدينية والتاريخية القديمة، بعد قرون خفتت خلالها الأحقاد والعداوات، وجري تبادل ثقافي خصب وغني شكل أساسًا من أسس الحضارة الغربية الراهنة. لم يأت التدهور الحالي في العلاقات بين الغرب والإسلام والمسلمين من فراغ. ولكنه جاء نتيجة ثلاث موجات ارتدادية تصاعد مفعولها عبر العقود الثلاثة الأخيرة. ومع كل موجة من هذه الموجات، تغلب إرث الضياع العربي وعجزه عن ملاحقة الحضارة الحديثة، وما اقترن بها من طفرة علمية وتحولات اجتماعية وسياسية، علي قدرة العرب والمسلمين في الرد علي التحديات والاتهامات التي وجهت إليهم. وعكست كل موجة مرحلة من الصدام الحضاري والفكري الذي استدعته صراعات دولية، كانت ترتفع فيها درجة العداء وتتسع الهوة بين طرف متقدم يملك المكتسبات الحديثة، وطرف متأخر ينأي تدريجيا عن الإمساك بآليات التقدم السياسي والاجتماعي والمعرفي، علي الرغم مما تهيأ له من أسباب الثروة النفطية والبشرية. وكلما اتسعت الهوة كلما ازدادت في المجتمعات الإسلامية درجة الانغلاق علي القديم والعودة إليه. وكأنه الدرع الذي يحمي من التهديدات الخارجية ومن مخاطر الانفتاح علي العالم الجديد. تمثلت الموجة الأولي في الصدام الذي وقع بين الثورة الإسلامية في إيران وبروز حكم ولاية الفقيه، وبين الولايات المتحدة، عندما استولي الحرس الثوري علي السفارة الأمريكية وتم احتجاز الرهائن فيها. وبدأ الغرب ينظر إلي هذا التطور نظرة مختلفة، باعتبار أن هذا الصعود الإسلامي يمكن أن يتخذ موقفًا معاديا للغرب ومصالحه في هذه المنطقة الحساسة التي تضم أكبر مخزون للنفط في العالم. وجاء هذا التغير في مرحلة استخدمت فيها أمريكا عداء المسلمين للماركسية في طرد النفوذ السوفيتي من أفغانستان. وهي اللحظة التي تشكلت فيها طالبان بمساعدة المخابرات الأمريكية ونشأ تنظيم القاعدة في أحضانها. واعتبرت أمريكا أن معركتها في أفغانستان هي الضربة قبل الأخيرة، لتقويض المعسكر الشيوعي وطرد النظام السوفيتي من أوروبا الشرقية. وفي هذه الحقبة بدأت مظاهر التحرش الفكري بالإسلام. عندما أدانت الثورة الإسلامية في طهران سلمان رشدي بسبب روايته «الآيات الشيطانية» وأهدرت دمه. ولحق بها العالم الإسلامي السني ليثبت أنه ليس أقل حماسًا ودفاعًا عن الإسلام من الدولة الشيعية. وولد في هذه الظروف ما سُمي بالحوار بين الأديان، واتخذ شكلاً مؤسسيا حين استضاف الفاتيكان مؤتمرًا للحوار في مدينة «ازيزي» الإيطالية عام 1986. وكان الكاردينال راتزينجر (البابا بنديكت الحالي) من أقرب المقربين للبابا يوحنا بولس الثاني، ولكنه علي العكس منه لم يكن متحمسًا لمسألة الحوار، ولا يثق في إمكانية التغلب علي الخلاف بين الأديان. وفي هذه المرحلة نجح اليهود في تجاوز أحقاد الماضي وإقناع الغرب بأن دولة إسرائيل تشكل امتدادًا للحضارة الأوروبية التي تتحالف فيها المسيحية واليهودية، بعد أن قدمت الكنيسة الكاثوليكية اعتذارًا برأت فيه اليهود من دم المسيح. وبدا بوضوح أن النفوذ اليهودي علي السياسة الأمريكية وصنع القرار فيها، أخذ يتجه نحو كسب جماعات للضغط في أوروبا للدفاع عن حقوق الإنسان ومكافحة العنصرية، مستفيدًا من خلو الساحة من أي جهد عربي أو إسلامي في مقاومة حملات التشكيك والإدانة التي اقترنت بحوادث خطف الطائرات وبعمليات انتقامية قامت بها فصائل المقاومة الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية في الخارج. وجاءت الموجة الثانية مواكبة للظروف التي أدت إلي أحداث سبتمبر 2001 والتداعيات التي أعقبتها. وهي فترة اتسمت بكثير من المساجلات والأزمات بين الغرب والعالم الإسلامي. وظهرت خلالها مقولات هنتنجتون وفوكوياما حول صراع الحضارات ونهاية التاريخ. وبالأخص بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وتداعي حلف وارسو وسقوط حائط برلين وهرولة دول أوروبا الشرقية للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي. ولم يكن غريبًا أن تظهر حينذاك فكرة «البحث عن عدو» بعد أن اختفي العدو الشيوعي وسقطت هيبة موسكو. وظهر ما سمي بالعدو الأخضر ممثلاً في العالم الإسلامي، الذي يختلف في عقائده وقيمه ومصالحه عن الغرب. وعندما وقعت أحداث سبتمبر التي قام بها مسلمون (19 شخصًا عربيا) كانت خميرة العداء في العالم العربي ضد أمريكا قد بلغت درجة لا يمكن تجاهلها.. فتحت غطاء تخليص الكويت من الغزو العراقي 90 ـ 91، أقامت أمريكا قواعد عسكرية غطت منطقة الخليج، وانكشفت حقيقة الدور الأمريكي في إشعال الحرب العراقية الإيرانية. وبدا أن النظام العالمي الجديد الذي برزت فيه الولايات المتحدة كقوة عظمي وحيدة في العالم، استهدف وضع منطقة الشرق الأوسط تحت هيمنته، لحساب إسرائيل وعلي حساب الحقوق العربية وحقوق الشعب الفلسطيني، وهو ما ولد نقمة علي النظم العربية الحاكمة، أفضت إلي عمليات إرهابية داخلية قامت بها جماعات إسلامية متطرفة، راح ضحيتها الرئيس السادات. وحين ازداد الضغط علي هذه الجماعات، أفسحت لها الدول الأوروبية والولايات المتحدة ملاذًا علي أمل أن تصبح أداة ضغط علي الحكومات والأنظمة العربية. ولا يمكن في هذا السياق أن نتجاهل ظهور البعد الديني في حرب أفغانستان ثم في حرب العراق التي شنتها الولايات المتحدة بالتحالف مع دول أوروبية، بدعوي محاربة الإرهاب وسحق عناصره وتنظيماته في أفغانستان. ثم بدعوي تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل.. وأخيرًا بدعوي نشر الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي أدي غيابها عن العالم الإسلامي ــ من وجهة نظرهم ــ إلي التطرف والراديكالية وظهور بؤر إرهابية. وقد جري ترويج هذه الدعاوي في حملات إعلامية مكثفة تحت غطاء محاربة «الفاشية الإسلامية» أو «الإرهاب الإسلامي». ومرة أخري لم يكن العرب والمسلمون علي مستوي التحدي في مواجهة هذه الهجمة المنظمة التي استخدمت فيها أرقي التقنيات الحديثة في حروب الإعلام، وأساليب الضغط السياسي والاقتصادي والعسكري لابتزاز النظم السياسية الحاكمة. وإطلاق يد إسرائيل في التعامل مع السلطة الفلسطينية بأكثر الأساليب همجية وبربرية، ودون أدني مراعاة للمواثيق والاتفاقيات الدولية. الأمر الذي شجع إسرائيل علي حصار غزة واحتلال الضفة، ثم علي شن حرب تدميرية ضد لبنان. وفي كل هذا وقفت الدول العربية والإسلامية عاجزة مهلهلة، غير قادرة علي الدفاع عن مصالحها، وغير قادرة علي اكتساب احترام العالم بفضل ما تملكه من نظم سياسية تساير التقدم. وبدت الصورة الشائعة للعالم الإسلامي، انعكاسًا في مرآة مشوهة تسم المسلمين بالعنف وعدم التسامح والتعصب والعيش في الماضي. التصقت بأكثر من 18 مليون مسلم يعيشون في أوروبا ونحو 7 ملايين يعيشون في الولايات المتحدة. في الموجة الثالثة التي نشهد تجلياتها الآن، فقد حوار الحضارات ــ الذي كان منصة لإطلاق الجهود للحفاظ علي التعددية الثقافية وعلي التنوع العقائدي ــ زخمه وهدفه، وأصبح مجرد شكل بغير مضمون. بل أصبح في بعض الأحيان قناعًا لعملية تفكيك منظمة أوشكت أن تعيد العلاقات بين الغرب والإسلام إلي نقطة الصفر. فتصاعدت حملات الوقيعة لتعميق الهوة وإيجاد الذرائع الكفيلة بحصار الجاليات المسلمة وتضييق الخناق عليها، والنظر إلي ظاهرة الهجرة من الجنوب باعتبارها تمثل تهديدًا للمجتمعات الأوروبية وتقاليدها وعاداتها. وجاءت حوادث التفجيرات في مدريد ولندن لتضفي جوًا من التوتر والتوجس في العلاقات بين الجاليات المسلمة وبين المجتمعات التي تعيش بين ظهرانيها. وأصبح الاتهام الجاهز أن هذه الجاليات تقاوم الاندماج في المجتمعات الأوروبية وتحاول فرض قيمها ومعتقداتها علي الآخرين. وبذلك هيأت الجرائم التي ارتكبها بعض المسلمين في هذه البلاد أسبابًا لتغذية الحملات الموجهة ضد الإسلام.. أسفرت عن مسلسل لا يكاد يتوقف من الاستفزازات والإساءات الناجمة عن سوء الفهم أو عن الرغبة في إثارة ردود فعل حمقاء من الجاليات المسلمة، تكرس الصور السلبية المسبقة التي تعمق روح العداء والاستعلاء. أخشي ما نخشاه أن تكون العلاقات بين الإسلام والغرب قد دخلت مرحلة حرجة، تتحرك في حلقات مفرغة من الفعل ورد الفعل الذي يمكن أن ينسف جسور التواصل ويذكي نار الخصومة وينزل أضرارًا جسيمة بملايين المسلمين والعرب المقيمين في أوروبا وأمريكا. ولأسباب عديدة، فليس في مقدور العالم الإسلامي وليس في مصلحته أيضًا، أن يوسع الفجوة أكثر مما اتسعت مادام الوضع العربي الإسلامي متخلفًا، عاجزًا عن اللحاق بالطفرة العلمية والفلسفية الهائلة التي تشكل ملامح العصور الحديثة وتحديات العولمة، وما دمنا نعيش في عالم متخلف يتخبط في مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية لا نهاية لها. هنا لابد من البحث عن أساليب جديدة في التفكير، وفي التخاطب مع الغرب.. من أجل إيجاد أرضية لحوار نقدي وخطاب عقلاني يسعي إلي كسب النخب الغربية من ناحية، والارتقاء بمفاهيم الجاليات المسلمة وسلوكياتها من ناحية أخري.. علي أن نأخذ في الاعتبار أن هذه المجتمعات الغربية تعيش في ظل نظم علمانية، لا تحتل فيها السلطة الدينية وضعًا مركزيا كالذي تحتله السلطة الدينية في المجتمعات الإسلامية. كما أن التنوع الثقافي والديني في مجتمعات الغرب، حررها من الوصاية التي يمارسها رجال الدين عندنا، وأطلق العنان لمناقشة المقدسات والإلهيات دون حساسية أو تحفظ، بل ودون مبالاة بمشاعر الآخرين ومقدساتهم. وعلي هذا الأساس، وباختصار شديد، فإن تحسين صورة الإسلام لن يتحقق من خلال محاولة دعوة الغرب أو هدايته إلي الإسلام أو إقناع الفاتيكان ورجال الدين المسيحي بصحة المعتقدات والتصورات الإسلامية، كما بدا في الخطابات والرسائل والمقالات التي حررها علماء الدين والإفتاء وأئمة الأزهر والمؤسسات الإسلامية موجهة إلي بابا الفاتيكان أخيرًا علي صفحات الصحف العربية. ولكن المطلوب هو التعريف بالإسلام ومبادئه، واستثمار منظومة القيم التي تحكم هذه المجتمعات في الدفاع عن الحرية والمساواة والعدالة الدولية، ومبادئ التنوع الثقافي والتعددية السياسية والتكامل الحضاري للإنسانية.. دون أن نفرض معتقداتنا علي الآخرين، ودون أن نجد أنفسنا في موقف يعادي حرية الفكر والتعبير. إن حاجتنا لخطاب ديني جديد موجه للخارج، لا تقل عن حاجتنا إلي تجديد الخطاب الديني في الداخل!
لم يكن غريبًا أن تظهر حينذاك فكرة «البحث عن عدو» بعد أن اختفي العدو الشيوعي وسقطت هيبة موسكو. وظهر ما سمي بالعدو الأخضر
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة