الستالينية الأمريكية



المحافظون الجدد في أزمة ربما تكون الأسوأ منذ أن سيطروا علي مقاليد السياسة الأمريكية عقب تولي الرئيس جورج بوش الرئاسة عام 2000. وللمفارقة فإن أسباب الأزمة رغم تشعب عناصرها تعود إلي قضية واحدة «جاهد» المحافظون الجدد طويلاً من أجل الانتصار فيها وهي العراق، فقد كانوا المحرض الأول علي غزو العراق، بل أجبروا كافة الأجهزة والمؤسسات الأمريكية بما فيها أجهزة المخابرات علي دعم هذا التوجه من خلال إعداد وربما تلفيق تقارير تتهم صدام حسين بامتلاك أسلحة دمار شامل والسعي للحصول علي السلاح النووي. والآن وبعد مرور أكثر من عامين ونصف العام علي الغزو تحول العراق إلي مستنقع لا تعرف الولايات المتحدة كيفية الخروج منه، اتجهت أصابع الاتهام إلي جماعة المحافظين الجدد المنتشرة في كل المواقع الحساسة للإدارة الأمريكية، تحملها المسئولية عن الكارثة التي وصلت إلي مستوي غير مسبوق من الخطورة بعد تجاوز عدد القتلي الأمريكيين رقم الألفين في بداية نوفمبر الماضي. لعنة العراق علي المحافظين الجدد لم تقف عند هذا الحد، فقد أوصلت أحدهم وهو لويس ليبي مدير مكتب نائب الرئيس ديك تشيني إلي المحاكمة بعد أن أجبرته علي الاستقالة، وذلك عقب توجيه المدعي المستقل باتريك فيتزجيرالد اتهامات له بالكذب وإعاقة العدالة. ورغم أنه لم يتم توجيه اتهام في نفس القضية إلي عنصر آخر بارز في جماعة المحافظين الجدد وهو كارل روف أحد أهم مستشاري بوش إلا أن كثيرين يعتقدون أن روف لن ينجو هو الآخر من هذه القضية. هكذا تحول المحافظون الجدد الذين حلموا قبل سنوات قليلة بتغيير العالم، إلي عبء علي إدارة بوش بل إلي كابوس مزعج. «وجهات نظر» تعالج أوضاع المحافظين الجدد في مقالين.. الأول يركز علي الأسس الفكرية للمحافظين الجدد، والثاني يعرض طروحات بعض المؤلفين الأمريكيين حول وضع اليمين الأمريكي.

في ربع القرن الأخير، صاغ تيار المحافظين الجدد مفاهيم جديدة عن دور الولايات المتحدة في العالم، وعن وظيفة أصدقاء الولايات المتحدة في العالم في هذا الدور. وتيار «التبعية الجديدة» في العالم العربي يأخذ أطروحاته ومفاهيمه الرئيسية من تلك الوظيفة التي حددها قادة تيار المحافظين الجدد. ولهذا، فإن فهم تيار التبعية الجديدة يتطلب منا فهم تيار المحافظين الجدد. في الولايات المتحدة، ليس هناك تنظيم حزبي يحمل اسم «المحافظين الجدد»، كما أن الأشخاص الذين يلتزمون بمفاهيم التيار لاينتسبون إلي حزب سياسي واحد. صحيح أن غالبيتهم من الحزب الجمهوري، ولكن هناك أيضاً، أعضاء منهم في الحزب الديمقراطي، وآخرين مستقلين. تصف وسائل الإعلام الأمريكية «إيرفنغ كريستل» (Irving Kristol) بأنه عراب المحافظين الجدد، وهو يصف التيار بأنه أقرب ما يكون إلي قناعة معينة (Persuation)، أي أنه يضم مجموعة من الناس الذين لهم قناعة محددة بالنسبة لدور الولايات المتحدة في العالم. وأن هذه المجموعة تقوم بإعداد الإستراتيجيات والسياسات الكفيلة بإنجاح ذلك الدور وتطويره وفق المتغيرات العالمية. تقوم هذه المجموعة بالتأثير علي الرأي العام الأمريكي وصناع القرار الأمريكي من خلال ثلاث قنوات. الأولي، هي القناة الإعلامية، حيث يوجد صحفيون بارزون في الجرائد والمجلات المشهورة مثل «الواشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و «نيوزويك»، ومعلقون مشهورون في المحطات التلفزيونية، مثل محطات ABC و Fox ، يكتبون ويعلقون، بشكل يومي، علي الأحداث من وجهة نظر التيار. كما أن هناك مجلات أسبوعية وأخري شهرية أصدرها، ويشرف عليها بعض قادة التيار، ومهمتها بث آراء التيار والدعاية لتلك الآراء، ومن أهم هذه المجلات، مجلة التعليق (Commentry) التي تصدرها اللجنة الأمريكية اليهودية (AJC) ويشرف علي رئاسة تحريرها «نورمان بوردهارتز» (Norman Pordhartez) وهو يعتبر، إلي جانب إيرفنج كريستول من مؤسسي التيار. أما القناة الثانية، فهي مجموعة مراكز الدراسات والأبحاث التي تحمل صبغة أكاديمية، ولكنها في الحقيقة تسخر أكاديميين للعمل الدعائي، وهي تمول من مؤسسات وشخصيات يمينية معروفة، وعلي علاقة بالشبكة التي تعرف في الولايات المتحدة بالشبكة الصناعية-العسكرية (Industrial-Military- Complex)، ومن أشهر المؤسسات مؤسسة راند (Rand) ، ومعهد أميركان إنتربرايز (American Enterprise Institution). أما القناة الثالثة، فتتمثل بوجود شخصيات من التيار في مراكز هامة وحساسة من مراكز صناعات القرارات. فمنذ مطلع الثمانينيات بدأت شخصيات من التيار تسيطر علي دوائر رسم الإستراتيجيات والسياسات في وزارة الدفاع الأمريكية. وقد أصبح للتيار نفوذ هائل في إدارة الرئيس «بوش» الحالية، إذ أن هناك شخصيات متطرفة من التيار تقوم بصياغة قرارات الإدارة الهامة في كل مايتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة. فالرجلان الثاني والثالث في وزارة الدفاع هما من أشد شخصيات التيار تطرفاً، «بول وولفوتز» الذي يشغل حاليا منصب مدير البنك الدولي و «دغولس فيث». وفي مجلس الأمن القومي هناك المساعد الخاص للرئيس «بوش» ومدير إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب غرب آسيا، «آليوت آبرامز»، وفي وزارة الخارجية هناك السكرتير الثاني «جون بولتن» الذي أصبح مندوبًا لبلاده في الأمم المتحدة، وفي مكتب نائب رئيس الجمهورية هناك «لويس ليبي» الذي قدم استقالته الشهر الماضي بعد فضيحة مدوية، هذا إضافة إلي نائب الرئيس نفسه «ديك تشيني»، والمعروف بمواقفه المتطرفة في تأييد التيار. إضافة إلي ذلك، هناك في الكونجرس ومجالات الإعلام لجنة الخطر الراهن (Committee on Present Danger)، وهي لجنة تم تأليفها في صيف عام (2004) من شيوخ وأعضاء الكونجرس جمهوريين وديمقراطيين ورجال صحافة وإعلام وشخصيات عامة لمواجهة «الخطر الإسلامي». ولقد أخذت اللجنة اسمها من لجنة سابقة كانت نشيطة في ذروة أيام الحرب الباردة لمواجهة «الخطر الشيوعي». بدأت وسائل الإعلام الأمريكية تتحدث عن المحافظين الجدد كتيار سياسي جديد في مطلع السبعينيات، وفي البداية كان التركيز علي شخصيتين هما «نورمان بودهارتز» و«إيرفنج كريستل»، وهما يهوديان من مهاجري أوروبا الشرقية، وكانا في الأربعينيات والخمسينيات أعضاء في الجماعات التروتسكية، وانقلبا في أواخر الستينيات علي المبادئ الإشتراكية والسياسات اليسارية الثورية، وانضما إلي اليمين المحافظ. وكما كانا من العناصر المتطرفة في التيار التروتسكي، أصبحا من العناصر المتطرفة في التيار المحافظ. وقد عللا أسباب انقلابهما الكامل هذا بسبب خيبة أملهما من تصرفات اليسار الجديد في أواخر الخمسينيات وفي الستينيات أثناء الحرب الفيتنامية إذ وجدا أن معاداة اليسار الأمريكي الجديد للحرب في فيتنام قد شطحت كثيراً حتي أصبحت معاداة لكل ما هو أمريكي (Anti- american) ، كما أن الموقف المعارض لإسرائيل، الذي تبنته مجموعات اليسار الجديد بعد حرب عام 1967 قد زاد من خيبة أملهما أيضا. وأخذت أطروحات «بوردهارتز» و«كريستل»، ومن أخذ يسير في ركابهما، تظهر في أوائل السبعينيات علي شكل عداء «متطرف» للاتحاد السوفيتي، ومعارضة أسلوب «نيكسون-كيسنجر» في محاولة تطوير العلاقات مع الاتحاد السوفيتي عبر مفاوضات الحد من الأسلحة النووية وفتح أبواب الحوار في مجالات أخري في أجواء المناخ الذي عرف يومها بمناخ الانفراج الدولي (Detente) . ولقد انحصر تأثير التيار أيامها في المقالات والكتب التي صدرت عن بعض عناصره وأثارت كثيراً من النقاش والجدل في أروقة السياسة الأمريكية ومجالات الإعلام. ولم يبدأ تأثير التيار ينعكس علي صنع القرار الأمريكي إلا بعد أن تسلمت إدارة الرئيس «ريجان» الحكم عام 1982. ففي ذلك الوقت بدأت عناصر من التيار تعمل في وزارة الدفاع، وخصوصاً علي مستوي رسم الاستراتيجيات الأمريكية في مجال التسلح. كما أخذت عناصر أخري تسيطر علي مراكز البحث المعروفة بميولها اليمينية، كمعهد الإنتربرايز الأمريكي. ولقد ظهر تأثير التيار الجديد في السياسة الخارجية الأمريكية عندما تبني الرئيس «ريجان» أطروحة: «الاتحاد السوفيتي هو إمبراطورية للشر في العالم»، إذ كان ذلك خروجاً علي استراتيجية الاحتواء (Containment) التي سارت عليها السياسة الأمريكية أيام «أيزنهاور-دالاس»، واستراتيجية الانفراج (Detente) التي اعتمدتها سياسة «نيكسون- كيسنجر». انحسر تأثير المحافظين الجدد في آخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، وذلك لأن زوال الاتحاد السوفيتي أفقدهم العدو الذي كانوا يبنون كل مواقفهم السياسية علي أساس الخطر القادم منه. كما أن تورط بعض عناصر التيار في فضيحة «إيران - كونترا» قد نال من سمعتهم السياسية. استمر نفوذ المحافظين الجدد بالانحسار أثناء السنوات التي حكم فيها الديمقراطيون برئاسة «بيل كلينتون»، ولم تظهر منهم إلا مبادرتان اثنتان حازتا علي اهتمام واسع في الدوائر السياسية ووسائل الإعلام في العالم. الأولي، في عام 1996 عندما نشرت وسائل الإعلام دراسة أعدها أحد أهم عناصر المحافظين الجدد وهو «ريتشارد بيرل» (Richard Perle) وقدمها إلي حكومة الليكود التي تسلمت الحكم في إسرائيل برئاسة «بنيامين نتنياهو». كان «ريتشارد بيرل» قد عمل خلال الفترة 1983-1987 مساعداً لوزير الدفاع الأمريكي لشئون سياسات الأمن القومي وكان قد عمل علي تأسيس مؤسستي بحث (Think tanks) هما «مركز سياسة الأمن» و«المعهد اليهودي للأمن القومي». وكان عنوان الدراسة التي قدمها إلي حكومة الليكود هو: «الانقطاع الكلي: استراتيجية جديدة لتأمين إسرائيل»، وفيها استخدم أسلوب الهدم الخلاق (Creative Destruction) لترتيب أولويات إسرائيل بشكل يضمن انتصارها في كسب الأمن والسلام معاً، وبدون تقديم أية تنازلات للعرب. وهو يري أنه يجب هدم الأسلوب الذي سار عليه حزب «العمل» الذي اعتمد علي مقولة مقايضة الأرض بالسلام، والتوصل إلي اتفاق مع الفلسطينيين عن طريق المفاوضات. ورأي أن تتبني حكومة الليكود أسلوباً جديداً يرتكز علي تحطيم الأخطار المحيطة بإسرائيل ثم فرض السلام علي الفلسطينيين والعرب بدون تقديم أية تنازلات. ولقد رأي أن أول تلك الأخطار هو النظام العراقي، لذلك فإن علي إسرائيل أن تعمل علي إقناع الولايات المتحدة بضرورة غزو العراق وتحطيم نظام صدام حسين. أما الحدث الثاني الذي أقدم عليه المحافظون الجدد أثناء فترة حكم الرئيس «كلينتون»، فقد تم عام 1998 عندما أقدموا علي توجيه رسالة مفتوحة إلي الرئيس «كلينتون» تطالبه فيها بضرورة غزو العراق وتحطيم النظام الحاكم فيه. إذا كان كل نشاط تيار المحافظين الجدد طوال حقبة التسعينيات يقتصر علي هذين الحدثين، فلقد اكتملت في هذه الحقبة أيضاً بلورة الفلسفة السياسية لهذا التيار بالنسبة لدور الولايات المتحدة في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة. وقد اتضح أن تلك الفلسفة ماهي في الواقع إلا انعكاس للفلسفة المعروفة بإسم «الستراسينية» (Straussian) التي حققت انتشارا محدودا ً في الثمانينيات والتسعينيات في بعض الأوساط الأكاديمية، وخصوصاً في كليات العلوم السياسية. يعود اسم الفلسفة الستراسينية إلي أستاذ الفلسفة في جامعة شيكاغو «ليو ستراس» (Leo Strauss) (1899-1973) وهو يهودي ألماني انخرط في النشاط الصهيوني وهو في السابعة عشرة من عمره. درس الفلسفة وحصل علي الدكتوراه وترك ألمانيا هرباً من النازية عام 1932. عمل أربع سنوات مدرساً في الجامعات الإنجليزية، وعام 1938 هاجر إلي الولايات المتحدة، وهناك عمل أستاذاً جامعياً في جامعات نيويورك، ثم استقر في جامعة شيكاغو عام 1947، وبقي فيها حتي مات عام 1973. تشكل المدرسة الستراسينية أعنف نقد للفكر الليبرالي، علي أساس أن معارضتها لليبرالية ليست مبنية علي أساس الدين (كالمحافظين الأصوليين)، ولا علي أساس التراث والتقاليد (كالمحافظين العلمانيين). إن الستراسينية تدعي أنها قادرة علي إثبات خطأ الليبرالية من منطلق عقلاني. يعتقد «ليو ستراس» أن فلسفة اليونان القديمة، وخصوصاً فلسفة «أفلاطون»، هي أقرب إلي طبيعة الإنسان من أي فلسفة أخري جاءت بعد ذلك. وهو يؤكد أن فهم تلك الفلسفة لايتم إلا بقراءة متمعنة متأنية، علي أساس أن الفلاسفة العظام، أمثال «أفلاطون» و«أرسطو»، وحتي «لوك» و«هوبز» لم يكتبوا بطريقة شعبية ومبسطة (Exoterics) يفهمها عامة الناس، ولكن كانوا يكتبون بطريقة غامضة (Esoterics) ولكنها تتضمن المعني بين السطور، وغير قابلة للفهم إلا من قبل العقول الراجحة من النخبة. وكان الفلاسفة العظام يفعلون ذلك لأن طرح الأسئلة الفلسفية بأسلوب يفهمه الناس سيعمل علي تشويش عقولهم وتحميلهم هموماً ليسوا قادرين علي حملها، وبالتالي فهو مضر بالمصلحة العامة. ولهذا، فعندما خرج «سقراط» عن ذلك التقليد، وراح يناقش عامة الناس ويحاورهم، فلقد اعتبره ستراس مذنباً، والتهمة التي وجهت إليه صحيحة، وعقاب الموت الذي حل به كان عقاباً عادلاً! يدعي ستراس أنه تمكن من قراءة الفلاسفة الكبار، الذين يشكلون الإرث الفكري للحضارة الغربية، وأن تلك القراءة أكدت له أن الفلاسفة العظام يعتقدون أنه لاتوجد آلهة لمعاقبة الخاطئين، وليس هناك نظام أخلاقي يحدد ماهو خير وماهو شر، ولايوجد حق طبيعي غير حق تحكم القوي في الضعيف. وأن الحقيقة الوحيدة في العالم هي عدم وجود حقيقة. وهو يدعي أن ذلك كان مفهوماً من قبل الفلاسفة الكبار عبر التاريخ، ومن قبل قلة من النخبة التي تمكنت من الاحتفاظ «بالحقيقة» لوحدها، وتمكنت من أن تقدم لعامة الناس مفاهيم مناسبة عن الدين والحقيقة والخير والشر والحقوق والواجبات، كلها مفاهيم تساعد علي حفظ النظام والاستقرار وتقود إلي التطور والتقدم والازدهار. ثم يؤكد أن الخطأ الذي وقع فيه عصر النهضة أن فلاسفته تخلوا عن أسلوب الفلاسفة الكلاسيكيين العظام وراحوا يناقشون الأسئلة الفلسفية بشكل يفهمه عامة الناس. وهو يعتقد أن هذا الأسلوب الذي خرج عن تقاليد استمرت مئات السنين قد أضر بالحضارة الغربية، إذ أنه خلق في رحم الحداثة ميلاً نحو الفوضي والعدمية. وهو يري أن الإستمرار في أسلوب الحداثة الليبرالية، الذي يلتزم به جزء كبير من المثقفين الأمريكيين، سيقود إلي إضعاف المجتمع الأمريكي والدولة الأمريكية. ولهذا، فإن من واجب النخبة الأمريكية أن تتوقف عن ممارسة الأسلوب الليبرالي في النقاش والحوار، بل عليها العودة إلي أسلوب الفلاسفة الكلاسيكيين في حجب الحقيقة عن عامة الناس وتزويدهم، فقط، بما يحتاجون إليه في حياتهم العملية. وهكذا، يتضح لنا أن الفلسفة الستراسينية في جوهرها معادية لروح الحداثة، إذ أنها تقول بأن «الحقيقة» موجودة خارج الإنسان، وأن النخبة، فقط، قادرة علي فهمها واستيعابها والتعامل معها. ولقد رأينا أن جوهر الحداثة يقوم علي أن «الحقيقة» هي من نتاج الإنسان وليست من خارجه، وأن التطور والتقدم والازدهار الحضاري يقاس بمقدار ازدياد حجم ذلك الإنتاج الإنساني الخلاق. الفلسفة الستراسينية تري أن مصلحة المجتمع تتحقق عندما تقوم النخبة بممارسة عمليات الكذب علي عامة الناس لأنهم غير قادرين علي تحمل تبعات الحقيقة. بينما تري الحداثة أن الكذب هو الذي يفتت النسيج الاجتماعي ويفرق بين الناس ويقضي علي السلام الاجتماعي. قامت الأكاديمية الأمريكية «شادية دوروري» بدراسة علاقة تيار المحافظين الجدد بالفلسفة الستراسينية، فرأت أن تلك الفلسفة هي الأساس الفكري لعملية الخداع (Deception) التي يمارسها المحافظون الجدد بالنسبة لموضوعي الدين والقومية. أما بالنسبة إلي الدين، فإن المحافظين الجدد يعملون علي تقوية نفوذ المؤسسات الدينية في المجتمع الأمريكي، علي أساس أن ذلك يساعد الإنسان العادي علي العيش وفق مفاهيم واضحة من الخير والشر، والحق والباطل. وبنفس الوقت، فإنهم يرون أن من الضرر التزام النخبة الحاكمة بتلك المفاهيم، فهي في الحقيقة مفاهيم كاذبة ليس لها أي أساس حقيقي، ولكنها مفيدة فقط في توجيه عامة الناس لإبعادهم عن الفوضي والعدمية. ونتيجة لذلك، نري أن «إيرفنج كريستل» ينتقد الآباء المؤسسين الذين صاغوا الدستور الأمريكي لأنهم كرسوا فكرة فصل الدين عن الدولة. ونتيجة لذلك أيضاً نري أن المحافظين الجدد يعقدون تحالفاً مع التيار المسيحي الأصولي في الولايات المتحدة، مع أن أغلبهم من اليهود أو من غير المؤمنين. وفي هذا المجال فإن وجهة نظر المحافظين الجدد في موضوع الدين تتطابق مع النظرة الماركسية التي تري فيه أفيوناً للشعوب، والفرق بين النظريتين أن الماركسية تري في الدين أفيوناً ضاراً، بينما المحافظون الجدد يرون فيه أفيوناً مفيداً. أما اهتمام المحافظين الجدد بالقومية فيعود إلي نظرتهم الستراسينية التي تري أن الإنسان، بطبيعته، عدائي وشرير، وأن هذه الطبيعة إذا لم يتم توجيهها نحو عدو خارجي فإنها سوف تعبر عن نفسها في الداخل مما يقوض السلام الاجتماعي ويفتت التماسك الوطني. ولهذا، فإن من الضروري تكريس الرابطة القومية وتوجيهها نحو عدو خارجي، و«إذا لم يكن هذا العدو موجوداً، فإن من الضروري اختراع عدو وهمي». في السنوات الأولي من السبعينيات، حين ظهر تيار المحافظين الجدد، وصفت بعض وسائل الإعلام التيار بأنه «التروتسكية بشكل معكوس : التروتسكية تصدر الاشتراكية، والمحافظون الجدد يصدرون الديمقراطية». ومن المعروف أن التروتسكية هي عكس الستالينية، ولكن المعلقين في بداية السبعينيات لم يفطنوا لذلك لأن النزعات الستالينية لم تكن ظاهرة بعد في أطروحات وممارسات التيار الجديد. ففي تلك السنوات المبكرة، كان التيار معنياً بالدرجة الأولي بمحاربة الإشتراكية والماركسية، حتي يتمكن من الحصول علي عضوية نادي المحافظين. ولم يكن قد خاض بعد، المعارك داخل التيار المحافظ ليتمكن من قيادته.أما الآن، وبعد أكثر من ثلاثة عقود، فقد أصبح واضحاً أن دور المحافظين الجدد التاريخي هو تكريس الاتجاه الستاليني في اليمين الأمريكي. لنلاحظ المفارقة التالية: أيام حكم ستالين كان الاتحاد السوفيتي يرفع شعار محاربة الاستعمار ونشر الاشتراكية، أما في الواقع فلقد أقام أنظمة اشتراكية في بلدان أوروبا الشرقية تعتمد في بقائها علي دبابات الجيش الأحمر. وفي أيامنا هذه تنادي إدارة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة بشعار محاربة الاستبداد ونشر الديمقراطية. ولكنها في الواقع فلقد أقامت أنظمه «ديمقراطية» في أفغانستان والعراق تعتمد في بقائها علي دبابات الجيش الأمريكي في هذه البلاد. ولنلاحظ أيضا المفارقة التالية: أيام حكم ستالين، ولسنوات طويلة بعد وفاته، كانت كل الأحزاب الشيوعية في العالم العربي تطالب بضرورة قيام جبهة وطنية لكل الأحزاب والشخصيات المناوئة للاستعمار والملتزمة بقيام حكومات ديمقراطية، وفي نفس الوقت كانت تلك الأحزاب تؤيد قيادة الاتحاد السوفيتي التي قضت علي كل الأحزاب والشخصيات المعارضة وأقامت نظاماً شمولياً دكتاتورياً كاملاً. بينما الآن في أيامنا الحاضرة، أيام حكم أنصار تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، تنشط أحزاب وشخصيات تيار «التبعية الجديدة» في العالم العربي إلي الدعوة من أجل السلام مع إسرائيل وضرورة إعطاء السلام الأولوية المطلقة، وفي نفس الوقت، فإن تلك الأحزاب والشخصيات تؤيد قيادة الولايات المتحدة التي ما تكاد تنتهي من حرب حتي تبدأ بالإعداد للحرب القادمة. ولنتذكر كيف كانت قيادات الأحزاب التي تدور في فلك التبعية الستالينية الشيوعية في العالم العربي تقوم بمراسم الحج الدورية إلي موسكو، وكيف أخذت الآن القيادات التي تدور في فلك التبعية الستالينية الأمريكية تقوم بمراسم الحج الدورية إلي واشنطن. وبإمكاننا أن نلاحظ أن بعض الشخصيات التي قامت لسنوات عديدة بمراسم الحج اليسارية هي نفسها التي تقوم الآن بمراسم الحج اليمينية. وهناك أيضاً المفارقة التالية: اعتمد «ستالين» في فرض هيمنته علي الحزب الشيوعي السوفيتي وعلي الأحزاب الشيوعية في العالم، علي ادعائه بأنه الوريث الشرعي «للينين»، وأن ما يقوم به هو تطبيق لمبادئ الماركسية-اللينينية. ولكنه في الواقع كان يبني نظاماً متعارضاً كلياً مع أفكار «لينين». «فستالين» بلور نظرية «الاشتراكية في بلد واحد»، وكان «لينين»، حتي آخر أيامه، يؤمن باستحالة ذلك. إذ قال في آخر مقال له قبل مماته: «نحن لسنا متمدينين بصورة كافية حتي نسير مباشرة باتجاه الاشتراكية، مع أننا نملك السلطة السياسية». وعلي العكس من ذلك كان «ستالين» يتصرف علي أساس أن الاشتراكية قد انتصرت في روسيا. في أيامنا الحاضرة، يتحدث المحافظون الجدد في الولايات المتحدة عن بطلين لتيارهم السياسي. فهم يرون أنفسهم الورثة الشرعيين للرئيس «تيودور روزفلت» (1901-1909)، والرئيس «ودرو ولسون» (1913-1921). فهم يدعون أن هذين الرئيسين كانا يؤمنان بالمهمة التاريخية الملقاة علي عاتق الولايات المتحدة في نشر القيم الأمريكية الديمقراطية في العالم. ولهذا فهم دوماً يستشهدون بأقوال لهذين الرئيسين تدعم مواقفهم السياسية الراهنة. وعندما نعود إلي السجل التاريخي، نري أن هذين الرئيسين كانا في مقدمة حياتهما السياسية مؤيدين لدور الإمبريالية الأمريكية في تمدين الشعوب الأخري، وكلاهما كان متحمساً ومؤيداً للاحتلال الأمريكي للفليبين وطرد الاستعمار الأسباني (1898) من هناك. ولكن ما يتجاهله المحافظون الجدد هو أن الرئيسين المذكورين قد غيرا من قناعاتهما بعد التجربة التي مرا بها في البيت الأبيض. لقد رأي «تيودور روزفلت» أن «تحرير» الفليبين يتحول إلي حرب يخوضها الجيش الأمريكي ضد المقاومة الوطنية التي يذهب ضحيتها 200 ألف فليبيني و 4 آلاف جندي أمريكي، فاعترف بأن احتلال الفليبين أيام حكم الرئيس «ماكينلي» كان خطأً، وأثناء فترة حكمه تعرض إلي ضغوط كبيرة من أجل التدخل في جمهورية الدومينيكان فرفض ذلك بشدة. أما الرئيس «ودورو ويلسون»، فلقد أقدم علي التدخل في المكسيك لتحريرها من طغيان الدكتاتور «فيكتورينا هوريتا»، معلناً أنه سيعلم أمريكا اللاتينية كيف «تختار الحكام الصالحين»، ولكنه بعد أن وجد أن أعداء الدكتاتور وأنصاره أيضاً، قد اتحدوا في حرب مقاومة للمحتل الأمريكي، انسحب من هناك ليقول بأن «الديمقراطية شيء لا يعطي». ومن المعروف أنه بعد الحرب العالمية الأولي أصبح معادياً للإمبريالية التي كان يؤمن بها في السابق، وأصبح مؤمناً أن الطريق الوحيد لإنهاء الحروب هو تفكيك النظام الإمبريالي في العالم. ومع هذا، فإن التشابه بين التيار الستاليني في اليسار (الاتحاد السوفيتي) والتيار الستاليني في اليمين (الولايات المتحدة) هو أعمق من مجرد التشابه الظاهري. هناك في الواقع تشابه في الظروف الموضوعية التي أدت إلي ولادة الستالينية اليسارية في الثلث الأول من القرن الماضي في الاتحاد السوفيتي، وولادة الستالينية اليمينية في ربعه الأخير في الولايات المتحدة الأمريكية. إذا عالجنا الموضوع من منظور العلاقة بين الوسيلة والغاية في العمل السياسي، فإننا نري بوضوح أن التيارين يشتركان في أنهما يؤكدان أن غايتهما هي الديمقراطية. ويشتركان في أن كل واحد منهما يستعمل وسيلة تعمل علي تكريس أوضاع معادية للديمقراطية. كانت الستالينية تعمل علي الوصول إلي الديمقراطية عن طريق دكتاتورية الطبقة العاملة، ولقد قادت تلك الدكتاتورية، كما هو معروف، إلي مزيد من الدكتاتورية، من دكتاتورية الطبقة، إلي دكتاتورية الحزب، إلي دكتاتورية المكتب السياسي، إلي دكتاتورية الأمين العام. وفي هذه الأيام، يستعمل تيار المحافظين الجدد أسلوب الحرب لفرض الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، ولكن فقد قادت الحرب، كما هو معروف، إلي مزيد من الحروب. فمن الحرب علي الإرهاب، إلي الحرب في أفغانستان، إلي الحرب في العراق، والتكهنات حول الحرب القادمة تتمحور حول إيران وسوريا. من الطبيعي، إن التناقض بين الغاية والوسيلة في العمل السياسي لا يصدر عن تناقض في المنطق. إنه، دوماً، تعبير عن تناقض في الظروف الموضوعية. ليس من الضروري الخوض في شرح التناقض الموضوعي الذي قاد إلي ظهور نظرية دكتاتورية الطبقة العاملة، فالموضوع أشبع بحثاً ودراسة. ولكن يكفي أن نتذكر أنه كان تعبيراً عن التناقض بين «الحلم» الذي صاحب ثورة 1917 في بناء أول دولة اشتراكية تفتح صفحة جديدة في تاريخ الإنسان، يبدأ فيه لأول مرة بالانتقال من عالم «الضرورة» إلي عالم الحرية، وبين «الواقع» الذي عاشته روسيا بعد الثورة وبعد أربع سنوات من الحرب الأهلية، حيث وصل فيه الدخل القومي في روسيا إلي ثلث ما كان عليه قبل الثورة، وحيث أصبح فيه عشرات الملايين يعيشون تحت خطر تهديد المجاعة. هذا التناقض الصارخ بين «الحلم» و«الواقع» أوجد التناقض بين «الغاية والوسيلة»، ومهد الطريق إلي ظهور الستالينية، التي عملت علي تغيير الواقع «الهمجي» بأساليب «همجية» كما وصفها «إسحاق دوتيشر». بشكل مماثل، ومع الاختلاف الشديد في الظروف، فإن التناقض بين «الحلم الأمريكي» و«الواقع الأمريكي» في الستينيات، هو الذي أدي إلي ظهور تيار المحافظين الجدد في السبعينيات. كما أن تكريس النزعات الستالينية في ذلك التيار كانت نتيجة لتجدد ظهور التناقض بين «الحلم» و«الواقع» بعد انتهاء الحرب الباردة في التسعينيات. إن كل قادة تيار المحافظين الجدد جاءوا من عائلات يهودية من أوروبا الشرقية، هاجرت إلي الولايات المتحدة إبان الهجرة اليهودية الكبري في مطلع القرن العشرين. ولقد تركت تلك العائلات أوروبا هرباً من أوضاع معاداة اليهود، ومن أوضاع الفقر والعوز، وجاءت إلي العالم الجديد وهي تحلم بتحقيق «الحلم الأمريكي»، والذي يعني أن كل مهاجر إلي لأمريكا يستطيع أن يعيش بحرية وكرامة وبدون أي اعتبار لقوميته أو دينه أو وضعه الطبقي. ولكن أول ما واجهه أولئك المهاجرون كان الضائقة الاقتصادية الكبري في الثلاثينيات. إذ فجأة، وبدون مقدمات انهار النظام المالي الرأسمالي، وبدأت الشركات الكبري تعلن إفلاسها وتغلق مصانعها وتستغني عن خدمات عمالها. وفي خلال سنتين فقط أصبح ربع اليد العاملة بدون عمل، فانتشر الفقر وتحطمت وعود «الحلم الأمريكي» في منظر الصفوف الطويلة من الرجال والنساء، المرتجفين من البرد أمام مبني مؤسسة خيرية تتصدق عليهم بكوب من الحساء الساخن. هذا التناقض الصارخ بين «الحلم» و «الواقع» قاد بعض أولئك المهاجرين إلي استبدال «الحلم الأمريكي» بـ «الحلم الاشتراكي»، إذ أنهم رأوا في الأزمة الاقتصادية تعبيرا عن أزمة النظام الرأسمالي. انتهت الأزمة الاقتصادية بدخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية، وبعد الحرب خرجت أمريكا منتصرة ومحتفظة بكل قوتها، علي أساس أن الحرب لم تصل إلي أراضيها، بينما خرجت منها أوروبا والاتحاد السوفيتي منهكين وبأوضاع اقتصادية صعبة. فكانت حاجة أوروبا إلي الاعتماد علي الولايات المتحدة في برامج إعادة الإعمار، وبداية الحرب الباردة هي التي أبقت معظم جنود الجيش الأمريكي دون تسريح كما يحدث بعد انتهاء الحروب، وارتفاع حجم الإنفاق العسكري، وتوسيع صناعة الأسلحة. كل ذلك أدي إلي فترة نمو وازدهار في الاقتصاد الأمريكي لم يسبق لها مثيل. ثم أن فترة النمو والازدهار والثراء أوجدت تناقضاً آخر بين «الحلم الأمريكي» و «الواقع الأمريكي» بالنسبة للمهاجرين اليهود الذين كانوا قد اعتنقوا المبادئ الاشتراكية أيام الأزمة الاقتصادية. عاد أولئك «الاشتراكيون» من الحرب، في منتصف الأربعينيات، فانتسبوا إلي الجامعات علي نفقة الحكومة. وفي مطلع الخمسينيات، تخرجوا من الجامعات وعملوا في مجالات الإعلام والثقافة والمؤسسات الجامعية. وبسرعة، اكتشف «الاشتراكيون» أنه إذا كانت الأزمة الاقتصادية قد انتهت، إلا أن أزمة أخري أشد خطراً قد استفحلت وتكرست في حياة المدن الأمريكية الكبري. إذ أخذت تلك المدن تعيش حياة قلق واضطراب من جراء تراجع هيبة القانون وتعاظم حوادث الاعتداء والسرقة. كان هناك جزء هام من نقابات العمال قد وقع تحت سيطرة عصابات المافيا التي تمارس ما أصبح يعرف باسم «الجريمة المنظمة»، وتقدم علي قتل كل من يقف عائقا أمام مصالحها وكانت أحياء المواطنين السود الفقيرة (الجيتو) تعيش في توتر دائم نتيجة الصراع الدائر بين رجال البوليس وأنصار حركة الحقوق المدنية المناهضة للتمييز العنصري. وبشكل عام، أصبحت شوارع المدن الكبري غير آمنة، إذ كانت تحت سيطرة العصابات التي تشرف علي بيع المخدرات، وتجارة الدعارة، والسرقة. وهكذا، وجد «الاشتراكيون» أنفسهم وقد حصلوا علي مهن تدر عليهم دخلاً ممتازاً، ولكنهم في نفس الوقت لا يستطيعون أن يتمتعوا بهذا الوضع المريح، لأنهم غير آمنين ولا يشعرون بالاطمئنان، بل يعيشون مع عائلاتهم في قلق وإحساس دائمين بالخطر. وكذلك يمكن لنا فهم سبب انقلابهم علي مبادئهم، وانتقالهم إلي مواقع اليمين من التبريرات التي قدموها هم أنفسهم. يقول «إيرفنج كريستل» (عراب المحافظين الجدد) أن المحافظ الجديد هو ليبرالي وقد وقع ضحية اعتداء من «الواقع» فتقدم بالشكوي إلي البوليس. ثم يقول أن الليبرالي هو الذي وقع ضحية اعتداء من «الواقع» ورفض أن يتقدم بشكوي إلي البوليس. هذا التمييز بين الذي يرفض تقديم الشكوي إلي البوليس (الليبرالي)، وبين الذي يتقدم بالشكوي (المحافظ الجديد)، هو تمييز بين أولئك الذين ينظرون إلي المشكلات التي تتفاقم في جسم المجتمع الأمريكي علي أنها من إفرازات النظام الاقتصادي-السياسي الذي يتحكم بالمجتمع، وأن حل هذه المشكلات لا يتم إلا عن طريق إجراء إصلاحات جوهرية في النظام تضيق فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتقضي علي التمييز العنصري وتزيد من حجم الإنفاق علي المرافق والخدمات العامة، وأولئك الذين ينظرون إلي تلك المشكلات علي أنها ناجمة عن اعتداءات من عدو خارجي يعمل علي تفتيت المجتمع والقضاء علي وحدته وتماسكه، وأن حل تلك المشكلات لا يتم إلا عبر القضاء علي كل أنصار ذلك العدو في المجالات السياسية والاجتماعية. وهكذا، انقلب« الاشتراكيون» إلي دعاة لمحاربة أعداء المجتمع الأمريكي، ودعاة للحفاظ علي «نقاء» المجتمع الأمريكي وتخليصه من كل الشوائب الخارجية التي اختلطت به نتيجة لاعتناق بعض أفراده مبادئ وأفكار معادية لكل ما هو أمريكي. ولقد تمت مكافأتهم علي ذلك بأن انتقلوا من الأحياء التي تعشعش فيها الجريمة، إلي الأحياء الراقية (Park Avenue) حيث هناك لكل عمارة حارس وأجهزة إلكترونية للأمن، وحيث يذهب أولادهم إلي المدارس الخاصة، فلا يحتكون بأولاد المواطنين السود أو بأولاد المهاجرين المكسيكيين، ويتلقون الثقافة التي تؤهلهم للانضمام إلي الطبقة الحاكمة. بعد انتهاء الحرب الباردة في مطلع التسعينيات، ظهر التناقض في الحياة الأمريكية مرة أخري بين «الحلم» و«الواقع»، وإن كان بشكل مختلف عن الماضي. فعقب انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية وانتهاء الخطر الشيوعي، كان الرأي العام الأمريكي يتطلع إلي قطف ثمار الانتصار في الحرب الباردة التي استمرت أربعة عقود طويلة، قدمت فيها أمريكا تضحيات هائلة بالإنفاق علي التسلح الذي تم عبر تقليص الإنفاق علي المرافق والخدمات العامة. ولقد أصبح واضحاً للرأي العام الأمريكي أن بلاده قامت بدفع أكبر نصيب من تكلفة الحرب الباردة، وخصوصاً عند عقد مقارنة بين أحوال أوروبا الغربية وأحوال الولايات المتحدة، وبخاصة ً في خدمات الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي إذ تخلفت الولايات المتحدة عن أوروبا في كل تلك المجالات. كان الرأي العام الأمريكي يتطلع إلي قطف ثمار انتهاء الحرب الباردة، والحصول علي أرباح السلام (Peace dividends) ، كما دأبت وسائل الإعلام الأمريكية علي تسميتها. ولكن الذي حدث كان شيئاً مختلفاً بشكل كلي. ففجأة ظهرت الأزمات التي تستدعي العودة إلي الحرب الساخنة في البوسنه والعراق. وفجأة ظهر خطر «الإسلام»، وخطر «الإرهاب». ثم جاءت صدمة اعتداءات الحادي عشر من أيلول عام 2001 علي مدينتي نيويورك وواشنطن كالصاعقة، فلأول مرة في التاريخ الأمريكي يحدث مثل هذا الهجوم علي أراضٍ أميركية. لقد استغل تيار المحافظين الجدد شعور الخوف والقلق الذي أصاب المجتمع الأمريكي بعد أحداث 11/9 بشكل كامل. فبدل أن ينظروا إلي الحادث علي أنه من إفرازات النظام العالمي الذي أقامته الولايات المتحدة في العالم، كما هو بالفعل، وعلي أنه نتيجة للنظام الذي رعته الولايات المتحدة ودعمته في الشرق الأوسط، وبدل أن ينظروا له علي أنه نتيجة للسياسة الأمريكية المؤيدة للإرهاب الصهيوني بشكل غير عقلاني، وأنه نتيجة لتجنيد الآلاف من العرب والمسلمين ليحاربوا في أفغانستان، وأنه نتيجة لدعم حكومات قمعية في العالم العربي تمارس كل أنواع انتهاكات حقوق الإنسان. بدل كل هذا وجد المحافظون الجدد في الحادث هدية من السماء لخلق العدو الذي يستطيعون أن يوحدوا الشعب الأمريكي لمحاربته تحت قيادتهم وتحقيق دور الولايات المتحدة في العالم كما يرونه. ولقد وجدوها فرصة سانحة لكي يستغلوا شعور القلق والخوف الذي شعر به المواطن الأمريكي، وشعور الإحباط وخيبة الأمل من التناقض الهائل بين الحلم الذي يعني قطف ثمار الانتصار، والاستمتاع بأرباح السلام، وبين واقع الاعتداءات علي قلب المدن الأمريكية التي بدت وكأنها صواعق من نار وجحيم. وهكذا، تكرس الاتجاه الستاليني في اليمين الأمريكي، اتجاه يعمل علي فرض هيمنة الولايات المتحدة علي العالم بقوة السلاح من ناحية، وبأسلوب الكذب الشامل والمنظم من ناحية أخري.وكما وجدت الستالينية السوفيتية في السابق أحزابا ومفكرين وكتابا مستعدين لقبول تبعيتها والنضال تحت أعلامها، فإن الستالينية الأمريكية تجد اليوم أحزابا ومفكرين وكتابا يتزاحمون علي أبوابها أيضا من أجل أن يتم اعتمادهم حماة للمصالح الأمريكية في المنطقة العربية بديلا عن المعتمدين الحاليين الذين انتهت مدة صلاحيتهم وأعلنت الولايات المتحدة أنها راغبة في تغييرهم. وهكذا يظهر لنا بكل وضوح أن دعاة التبعية الجديدة ليسوا دعاة حداثة وتقدم بل إنهم في الواقع كما وصفهم بلال الحسن دعاة استسلام وهدم للثقافة العربية.
فـــي الولايـــــات المتحـــــدة، ليــــس هنــــــاك تنظيم حزبي يحمل اسم «المحافظين الجدد»، كما أن الأشخاص الذين يلتزمون بمفاهيم التيار لاينتســبون إلي حـــزب ســـياسي واحــــد
انحسر تأثير المحافظين الجدد في آخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، وذلك لأن زوال الاتحاد السوفيتي أفقدهم العدو الذي كانوا يبنون كل مواقفهم السياسية علي أساس الخطر القادم منه.
المحافظين الجدد يعملون علي تقوية نفوذ المؤسسات الدينية في المجتمع الأمريكي، علي أساس أن ذلك يساعد الإنسان العادي علي العيش وفق مفاهيم واضحة من الخير والشر، والحق والباطل. وبنفس الوقت، الحاكمة بتلك المفاهيم
لقد استغل تيار المحافظين الجدد شعور الخوف والقلق الذي أصاب المجتمع الأمريكي بعد أحداث 11/9 بشكل كامل.
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة