المشــهـد الأمريكي فـى أســتراليا



العـلاقــات الوثيقـة.. وهـواجــس الهـجــرة فى يوم الثلاثاء الحادى عشر من سبتمبر سنة 2001م، نقلت شاشات التليفزيون إلى الناس فى كل ركن من أركان الأرض اثنتى عشرة ساعة من دراما مذهلة مروِّعة، وصفها أحد الكُتَّاب الأستراليين بأنها أقرب إلى سيناريو يوم القيامة، وقال آخر: "كأن قوة عظمى شنت هجوماً نووياً مفاجئاً على الولايات المتحدة". فجّرت الواقعة زلزالاً من الهلع والاضطراب انداح من مركزه فى نيويورك إلى كل شبر فى الولايات المتحدة، ومن ثم إلى العالم كله.. حتى "أستراليا" تلك الجزيرة /القارة. وتمثلت ذروة هذا السيناريو بصورة نشرتها صحيفة "كانبرا تايمز" الأسترالية على صدر الصفحة الأولى تحت عنوان كبير: "صناعة رئيس"، أما الصورة فكانت لجورج دبليو بوش يعتلى كومة من أنقاض مركز التجارة العالمى رافعًا بيده العلم الأمريكى وحوله عمال الإنقاذ، وكانت خلاصة الكلام المنشور والتحليلات المصاحبة له أن جورج دبليو بوش ارتفع بين عشية وضحاها من رئيس عادى فاز فى انتخابات الرئاسة بحفنة من الأصوات ثار حولها جدل كبير، إلى رئيس حقيقى وزعيم لشعبه وقائد فذ يوشك أن يقود الأمة فى معركة ضد أعدائها، وهو أمر لم يكن بوش نفسه يتوقعه أو يحلم به.. تقول الصحيفة إن هذا الانطلاق الصاروخى للرئيس بوش صنعته ـ فى حقيقة الأمر ـ هذه الأنقاض التى كان يعتليها. ونشير هنا إلى عوامل بعينها جعلت تأثير الفجيعة الأمريكية على الشعب الأسترالى ربما أقوى منه فى أى مكان آخر.. من أهم هذه العوامل أربعة: الأول: الكتلة السكانية الأساسية للشعب الأسترالى تتألف من العنصر الأنجلوساكسوني، ويتوزع الانتماء الدينى فى أستراليا بين الكنيستين الرئيسيتين الأنجليكانية والكاثوليكية، ومن ثم يشترك الأستراليون والأمريكيون فى أصول عرقية ودينية وثقافية واحدة. الثاني: صحيح أن أستراليا لاتزال تتبع من الناحية السياسية للتاج البريطاني، فالملكة إليزابيث هى ملكة أستراليا ويمثلها الحاكم العام فى كانبرا، إلا أن الشعب الاسترالى يرى أن نموذج الحياة الأمريكية مثله الأعلى الذى يحاول أن يحتذيه. الثالث: تعرضت أستراليا فى الحرب العالمية الثانية لخطر الهجوم اليابانى الذى اكتسح فى زحفه على جنوب شرق آسيا جيوش الإمبراطورية البريطانية، والقوات المسلحة الأمريكية التى كانت تحتل جزر الفلبين المستعمرة الأمريكية الوحيدة فى هذه المنطقة. وعندما لاذت بريطانيا بالفرار شعرت أستراليا بأنها فى مهب الريح أمام عدو كاسح لا قبل لها به، ولكن سرعان ما عاد الجنرال الأمريكى مكارثر ليضع قدمه فى أستراليا كخطوة أولى فى طريق زحفه إلى الفلبين ومنها إلى اليابان نفسها، وبذلك تحررت أستراليا من الخطر الياباني. ومن ثم لا ينسى الأستراليون هذا التاريخ ولا هذا الفضل للقوات الأمريكية المنقذة. الرابع: تُعانى أستراليا من عقدة كامنة، فالشعب الأسترالى يشعر بانتمائه العرقى والثقافى للغرب ولكن يجد نفسه ـ جغرافياً ـ فى قلب شعوب آسيوية ملونة، وهذا مصدر خوف دفين يتغلغل إلى الأعماق، خصوصاً أن أستراليا تشعر أنها محط أطماع إقليمية من جانب جيرانها الأقربين مثل إندونيسيا وجيرانها الأبعدين مثل الصين واليابان. وكذلك كانت أستراليا ـ ولاتزال ـ عبر تاريخ سياستها الخارجية تتأرجح بين قطبين: الانتماء الغربى والانتماء الآسيوى الجغرافي. كان الانتماء الجغرافى يتغلب أحيانًا فى السياسة الخارجية خصوصًا تحت الحكومات العمالية وكان يتزعم هذا الاتجاه "جوف ويتلام" رئيس الوزراء الأسبق الذى كانت له مشروعات تعاون مشهورة فى المنطقة، وكانت له صداقات قوية مع رؤساء دول جنوب شرق آسيا، وعلى النقيض منه تماماً "جون هوارد" رئيس الحكومة الحالية المحافظة، الذى أحدث بسياسته وتدخله العسكرى فى جزيرة تيمور شرخًا داميا بين أستراليا وإندونيسيا، حيث رفضت ميجاواتى سوكارنو استضافته فى بلادها، بل أهملت الرد على رسائله إليها بشأن المهاجرين من طالبى اللجوء السياسي، وكان يأمل فى مساعدتها لوقف تدفق اللاجئين. وبشيء من التحليل سنرى أن الوجود الأسترالى فى تيمور الشرقية لا يعبر عن طموحات أسترالية إقليمية بقدر ما يعبر عن دعم الولايات المتحدة ورغبتها فى انفصال تيمور الشرقية وإيجاد موضع قدم لها هناك من خلال حليفتها الأسترالية، أما لماذا تريد الولايات المتحدة موضع قدم لها فى هذه المنطقة بالذات وهو وضع يؤدى إلى إضعاف أى حكومة فى جاكرتا، وهى تواجه مشكلات اقتصادية وسياسية وأمنية متفاقمة قد تنتهى بتفكيك هذه الدولة؟ فذلك أمر يحتاج إلى دراسة مستقلة. المهم هنا هو أن أستراليا لم تكن لتشعر بالأمن فى هذا الموقع الجغرافى الصعب بسواحلها المفتوحة على البحار ممتدة لآلاف الأميال، وبكتلتها السكانية الصغيرة التى لم تبلغ بعد العشرين مليونًا، لم تكن لتشعر بالأمن إلا فى ظل القوة الأعظم على هذا الكوكب وهى الولايات المتحدة الأمريكية، لا تنس أننا عندما نتحدث عن أستراليا فإننا نتحدث عن قارة واسعة الأرجاء تبلغ مساحتها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع أى أقل بقليل من مساحة القارة الأوروبية. ربما يفسر لنا هذا الوضع: لماذا أسرع جون هوارد بإعلان التزامه بمساندة الولايات المتحدة فى حربها ضد الإرهاب، قبل أن تطلب منه شيئاً بل قبل أن يعلن حلف الأطلنطى نفسه موقفه من الهجوم على نيويورك وواشنطن. تصادف أن كان جون هوارد فى زيارة رسمية لواشنطن وشاهد بنفسه الانفجار الذى أصاب البنتاجون، وكان على موعد فى يوم 12 سبتمبر للقاء الرئيس بوش فى مهمة محددة تتعلق برغبة حكومته أن تخفّض الولايات المتحدة دعمها السخى لزرَّاع القمح الأمريكيين، لأن هذا الدعم يضعف قدرة الزرَّاع الأستراليين فى المنافسة بالأسواق العالمية. لم يتمكن جون هوارد من لقاء بوش ولم يستطع العودة إلى بلاده، فاضطر للبقاء فى واشنطن حتى وفرت الحكومة الأمريكية طائرة عسكرية لتقله إلى بلاده حيث كان الطيران فى ذلك الوقت محظوراً فى الأجواء الأمريكية. وحتى عندما عاد مرة أخرى إلى واشنطن لم يتمكن من عرض قضية القمح على الرئيس بوش، وإنما اكتفى بتقديم العزاء وأكد وعده بالتزام بلاده بالدعم العسكرى لواشنطن فى حربها ضد الإرهاب، وكان حريصًا لدى رجوعه إلى كانبرا أن يجمع مجلس الوزراء ثم البرلمان فى اجتماعين طارئين ليحصل على موافقة الحكومة والبرلمان فى الوفاء بوعده للولايات المتحدة. هاجس الهجرة الملونة: على رأس ثلاث قضايا شغلت الإعلام الأسترالى قبل حادثة 11 سبتمبر مباشرة.. كانت مشكلة المهاجرين غير القانونيين من طلاب اللجوء السياسي، الذين يأتون إلى الشواطئ الأسترالية فى قوارب تنطلق من إندونيسيا وغالبيتهم من الأفغان والعراقيين، أمام هذه الموجة من قوارب اللاجئين فكان موقف الحكومة الأسترالية متصلبًا رافضًا لاستقبال هذه القوارب مع استخدام القوة إذا لزم الأمر، وقد صاحب ذلك حملة إعلامية شرسة ضد الهجرة والمهاجرين العرب والمسلمين بصفة خاصة. القضية الثانية تدور حول الاستعداد لحملة انتخابية فيدرالية وانتخابات محلية خاصة بحكومة كانبرا. أما القضية الثالثة فتتعلق بمشكلة انهيار شركة طيران "آنست" المفاجئ وتشريد آلاف العاملين بها، وهى شركة ملكيتها موزعة بين كل من أستراليا ونيوزيلندا. اعتاد الأستراليون أن ينظروا إلى هجرة الملونين إلى بلادهم باعتبارها خطرًا طالما أرَّق قياداتهم السياسية منذ زمن بعيد. من أجل هذا صدرت قوانين أستراليا البيضاء فى الماضى لتكون حاجزاً مانعاً لتدفق الهجرة الملونة، ولكن اضطرت الحكومة الأسترالية لإلغاء هذه القوانين العنصرية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، هذا من الناحية الرسمية. أما على مستوى المنفذين فى الإدارات المعنية وفى القنصليات الأسترالية التى تقوم باستقبال الطلبات والرد عليها فقد بقيت الآثار النفسية والاجتماعية بظلالها الكثيفة على الموقف. كانت الحاجة الملحة إلى عناصر معينة من المهاجرين هى التى تفتح باب الهجرة اضطرارًا للملونين وللمسلمين منهم خاصة. فمثلاً حدث أن توسعت أستراليا فى التعليم العام توسعًا هائلاً خلال عقدى الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ولأن مصادرها المفضلة فى القارة الأوروبية لم توفر لها العدد الكافى من المدرسين اضطرت أستراليا لفتح الباب قليلاً أمام المهاجرين المتخرجين من الجامعات فى الشرق الأوسط، وأنشأت لهم برامج التأهيل التربوى على أوسع نطاق. وحدث انفتاح اضطرارى آخر بعد انتهاء حرب فيتنام، حيث تدفقت قوارب اللاجئين من أبناء فيتنام الجنوبية الذين وقفوا مع الولايات المتحدة فى حربها ضد الفيتكونج وكان لزامًا على الولايات المتحدة وحلفائها أن توفر لهم المأوي. وترجع حساسية أستراليا من أمثال هؤلاء المهاجرين الملونين إلى حقائق موضوعية؛ فعدد سكانها قليل كما ذكرنا حيث لا يصل عددهم إلى عشرين مليون نسمة بينما يمكن لهذه القارة باتساع أراضيها ووفرة ثرواتها الطبيعية أن تستوعب أكثر من مائة مليون نسمة، ولكن العنصر الأنجلوساكسونى أو الأبيض الذى يسيطر على مقدرات أستراليا وسياستها يخشى أن يتحول إلى أقلية صغيرة تابعة، فى بحر من العناصر الصفراء والسوداء بأطيافها ودرجاتها المتنوعة، وبذلك يفقد المجتمع الأسترالى الأبيض سيطرته وتتلاشى ثقافته وهويته. ولعل هذا يكمن وراء تشبث الأغلبية الأسترالية البيضاء بتبعية أستراليا للتاج البريطانى إلى آخر رمق فيه. وقد ظن "بول كيتنج" رئيس الوزراء العمالى السابق أنه قد آن الأوان لانفصال أستراليا عن التاج البريطاني، وكان مقررًا إجراء استفتاء عام ـ سنة 2000م بهذا الخصوص، ولكن عندما حل موعد الاستفتاء كان بول كيتنج خارج السلطة، فجرى تحت حكومة المحافظين برئاسة جون هوارد، وكان معارضاً للانفصال فشن حملة دعائية ناجحة ضده وبذلك أجهض محاولة بول كيتنج. لم يتعلم بول كيتنج من الدرس القاسى الذى تلقاه سلفه الكبير "جوف ويتلام" الذى كان له اتجاه انفصالى عن بريطانيا، ورغبة فى بناء سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة فى آسيا وفى الشرق الأوسط، فتضافر عليه الجميع فى مؤامرة غير مسبوقة فى تاريخ أستراليا حيث أسقطت الحكومة المنتخبة وقام الحاكم العام بتعيين حكومة مؤقتة غير منتخبة من حزب المعارضة، وتلك قصة أخرى ليس هنا مجالها. أردت أن أوضح أن لأستراليا خصوصيات تقليدية، وتكمن لديها هواجس تتعلق بالهجرة الملونة وعلى الأخص بالنسبة للمسلمين حتى قبل حادث 11 سبتمبر. وقد كان لهذه الهواجس حضور واضح إزاء السفينة الإندونيسية "تامبا" التى كانت تحمل على ظهرها أربعمائة مهاجر من أفغانستان والعراق، ولم تسمح لهم القوات الأسترالية بالاقتراب من شواطئها، واضطرتهم للنزول فى إحدى الجزر البعيدة رغم إرادتهم، ثم تلتها سفينة أخرى بدفعة من المهاجرين المسلمين غرقت بركابها أمام الشواطئ الأسترالية، وشاع وقتها أن قوات البحرية أطلقت عليها النار فاخترقتها، وهو أمر نفته الحكومة الأسترالية، وتبين ـ فيما بعد ـ وجود عدم تطابق بين تصريحات رئيس الوزراء بهذا الصدد وبين تقارير قائد القوات البحرية حيث أعلن أن سيناريو الحكومة لواقعة السفينة الغارقة ليس صحيحًا. تفجُّر الغضب ضد العرب والمسلمين: احتدَّت حملة الاضطهاد ضد العرب والمسلمين فى المدن الأسترالية بعد عرض مشاهد تليفزيونية لمجموعة من الفلسطينيين ـ قيل إنهم فى لبنان ـ وكانوا يرقصون ابتهاجًا بالهجوم الناجح على نيويورك وواشنطن كما ذكرت الأنباء، ولكن قيل بعد ذلك أن هذه المشاهد هى شريط فيديو (فبركته) إسرائيل أو استلّته من سياق مختلف فى واقعة سابقة. وأنا أميل إلى هذا الاعتقاد لأن لى تجربة شخصية فى الكشف عن تزييف إسرائيلى مماثل لأفلام وثائقية أهدتها إلى المكتبة الأسترالية الوطنية سنة 1975م عن الحروب العربية الإسرائيلية، فقد لاحظت عند فحص فيلم عن حرب 1973م أنه يحتوى على عدة أمتار منتزعة من فيلم قديم عن حرب 1967م يظهر فيها عدد كبير من أسرى الجيش المصري، وهذا لم يحدث فى حرب 1973م. كانت هناك أصابع خفية تدفع الإعلام فى طريق الكراهية والغضب ضد الإسلام والمسلمين لتشويههم وتشويه عقيدتهم الدينية.. وهذا نموذج لما سمعته بأذني: فى أحد المطاعم بمدينة ملبورن جلس مجموعة من الأستراليين لتناول العشاء، وكان الحديث عن المسلمين وما يفعلون وما يأكلون.. سأل أحدهم: لماذا لا يأكل المسلمون لحم الخنزير؟ وكانت الإجابات المبدئية بعض تعليقات ساخرة، ولكن تطوع النادل الأنيق المثقف بالإجابة الجادة حيث قال: "إن المسلمين لا يأكلون لحم الخنزير لأنهم يعبدون الخنازير تماماً مثل الهندوس لا يأكلون البقر لأنهم يعبدون البقر".. وهى إجابة منطقية ومقنعة جلبت كثيرًا من الرضا والاستحسان، فلا غرابة أن يتورط أناس على هذا القدر من الجهل بالإسلام والمسلمين فى أعمال عنف ضدهم. محاولات لتطويق طوفان الغضب: كان لابد من محاولات جادة لوضع حد للعنف والاضطهاد والإهانات التى يتعرض لها المسلمون فى الشوارع حتى أن بعضهم وعلى الأخص الأطفال والمحجبات لزم البيوت فلم يبرحوها. وفى هذا الصدد خرجت القيادات الدينية تنبه إلى هذا الخطر المتفاقم، ففى ولاية "كوينز لاند" أكثر الولايات الأسترالية عنصرية وتعصبًا خرج "سلطان دين" رئيس المجلس الإسلامى بالولاية يستغيث بالقيادات السياسية وبالحكماء والعقلاء أن يفعلوا شيئاً لكبح جماح العابثين المخربين، وحماية المسلمين الأستراليين، الذين لا ذنب لهم ولا علاقة لهم بالحادث المشئوم فى الولايات المتحدة. قال "سلطان دين" فى نداء له على التليفزيون بثته جميع القنوات: "إن المسلمين الأستراليين يتعرضون لإهانات واضطهادات فى الشوارع ويتلقَّون فى بيوتهم تهديدات بالقتل عبر الهاتف.. ونصح المسلمين أن يتجنبوا المناقشات مع السكان المحليين". أما فى سيدنى عاصمة ولاية "نيوثوس ويلز" فقد أمَّ الشيخ الهلالى مفتى أستراليا صلاة جامعةً فى مسجد "لاكمبا" من أجل السلام وأدان العدوان على المدنيين الأبرياء. ولما تعددت حوادث الاعتداء على الأطفال المسلمين فى المدارس من قرنائهم المسيحيين توجَّه الأسقف "جورج بل" رئيس الكنيسة الكاثوليكية فى "سان ماري" بموعظة خاصة بهذا الشأن، نصح فيها التلاميذ المسيحيين ألا يضعوا اللوم على قرنائهم المسلمين لشيء حدث فى نيويورك وواشنطن لا ذنب لهم فيه. لكن حملة التخريب والاضطهاد مضت فى طريقها لتمتص الغضب والكراهية المخزونين فى الأنفس، حيث تم إحراق مساجد فى مدن عدّة وتعرضت النساء والمحجبات فى شوارع سيدنى للإهانة والضرب وتمزيق الملابس، ولم تنج حتى الكنائس التى ترفع الصلبان على مبانيها من هجمات الرعاع الذين أحرقوا بعضها لمجرد أنهم رأوا المترددين عليها من جنس العرب، لا يهم بعد ذلك إن كانوا مسيحيين أو مسلمين. اعتذر الرئيس بوش أو بالأحرى عدّل قليلاً من خطابه السياسى الذى أشعل النار فى قلوب الأمريكيين ضد المسلمين، فتجاوز عبارات "الحرب الصليبية" و"الإرهاب الإسلامي"، حيث أعلن أنه ليس ضد الإسلام والمسلمين وإنما هو ضد "الإرهاب".. والتقى مع قادة المسلمين وتناول معهم الإفطار فى رمضان المبارك.. شيء من التكتيك الإعلامى لا يضير القضية الأساسية! انتقلت هذه (السُّنة) إلى أستراليا فقامت قيادات سياسية ودينية بزيارة بعض المساجد والتحدث إلى المسلمين فيها، ولكن القيادات العليا للأحزاب كانت منشغلة بالمعارك الانتخابية؛ فوجدنا زعيم المعارضة العمالى "كيم بيزلي" يحث ما سماهم بالجماعة الإثنية أن يقوم أفراد منهم (وطنيون) بالتبليغ عن العناصر الإرهابية بينهم سواء فى أستراليا أم خارجها...! أما "جون هوارد" رئيس الوزراء فقد اتخذ من الهجوم على أمريكا ذريعة للهجوم على اللاجئين فى القوارب مشيراً إلى احتمال وجود إرهابيين مدسوسين بينهم، وأكد وزير دفاعه "بيتر ريث" هذا المعنى حيث صرح بأنه "من الممكن وجود إرهابيين بين طالبى اللجوء السياسي.. ولابد أن نحمى شواطئنا على أى حال ضمانًا لأمن البلاد من الإرهابيين المتسللين"، وعندما سُئل هل يتوقع عمليات إرهابية فى أستراليا قال: "ينبغى أن نفكر فى المستحيلات فإن ما حدث فى الولايات المتحدة كان يعتبر فى عداد المستحيلات". فى 5 أكتوبر خرجت مسيرة كبيرة يتقدمها مجموعة من النساء يلبسن البرقة الأفغانية المشهورة، من جامعة أستراليا الوطنية متجهة إلى وسط العاصمة كانبرا، وذلك لإبراز معاناة المرأة الأفغانية. ونظمت هذه المسيرة المؤسسة الخيرية "أوست كير" وقد صرح أحد قادة المؤسسة هو "وليام مالي" تعليقًا على الغرض من المسيرة فقال: "نأمل أن يفكر سكان كانبرا ملياً فى الظروف القاسية التى يعانيها اللاجئون الأفغان فى معسكرات الاحتجاز فى أستراليا.. هؤلاء اللاجئون اضطروا اضطرارًا للهجرة من وطنهم وتمزقت أسرهم بسبب الحروب الأفغانية التى استمرت ثلاثة وعشرين عامًا بلا انقطاع". وفى 24 أكتوبر نشرت صحيفة الـ "أستراليان" صورة لامرأة عراقية فى حالة انهيار وبكاء على صفحتها الأولي، وفى الصفحات الداخلية نشرت قصتها المأساوية بالتفصيل، إنها "سندس إسماعيل" التى قدمت على سفينة اللاجئين سيئة الحظ، التى انشقت وغرقت فى المحيط أمام أعين القوات البحرية الأسترالية.. جاءت سندس مع بناتها الثلاث لتلحق بزوجها العراقى المقيم فى سيدني، ولكنها مُنعت من الوصول إلى الشواطئ الأسترالية وغرق كل أطفالها.. وفى الصحيفة قصص أخرى حزينة تقطع نياط القلوب: قصة "فوز القاسم" الذى فقد كل شيء: زوجته وابنين وثلاث بنات، وقصة "أمل حسن" التى فقدت خمسة هم كل أسرتها تقول: "رأيت عشرات الأطفال يموتون غرقًا أمام عينى ولا أستطيع عمل شيء لإنقاذهم لأننى كنت أقاوم خطر الغرق الذى أحاط بي.. ولن أنسى ماحييت منظر طفلة فى الخامسة من عمرها تقول لأبيها وهى تغرق إذا متُّ هنا فلا تتركنى فى البحر.. ثم جرفها التيار واختفت إلى الأبد". يعلق الصحفى إيان هندرسون على مأساة اللاجئين الغرقى فيقول: "إن سياسة الحكومة إزاء هذا الحادث المروع سياسة بشعة". ولا يكتفى الساسة بذلك بل يتخذون من المأساة ورقة يلعب بها كل حزب فى حملته الانتخابية تملقًا لمشاعر الناخبين، ويتفقون جميعًا على أمر واحد وهو أن الذنب ليس فى أستراليا وإنما عند الذين ساعدوا على تهريب اللاجئين من إندونيسيا وباكستان.. خدعوهم وحملوهم على قوارب غير صالحة للملاحة. لعب الإعلام دورًا خطيرًا فى إثارة مشاعر الكراهية الدفينة فى نفوس الناس، وقدم التليفزيون للمشاهدين أناسًا سماهم بالخبراء والمتخصصين: هذا فى الإرهاب وذاك فى الحضارات الشرق أوسطية وآخر فى التاريخ الإسلامي، أكثرهم من اليهود والصهاينة، كلهم بدون استثناء كانوا يؤكدون صراحة أو تلميحًا أن المسألة ليست مسألة جماعات متطرفة اتخذت الإرهاب أسلوبًا لعملها وإنما تكمن المشكلة فى الإسلام نفسه عقيدة وفكرًا، فهو عقيدة لا تعرف غير الاستئصال لمخالفيها. سلمان رشدي: نشرت الـ "إيدج" الصادرة فى ملبورن يوم 6 نوفمبر 2001م مقالاً لسلمان رشدى بعنوان: "هذه الحرب هى حول الإسلام"! يرفض فيها حتى اتجاهات المعتدلين من أصحاب النظرة البراجماتية، الذين ينصحون الساسة الأمريكيين بألا يعلنوا أن الإرهاب والإسلام متلازمان إذا أرادت أن تحافظ على تحالفها مع الدول المسلمة فى حربها على الإرهاب. يقول سلمان رشدى إنهم مخطئون فالتلازم قائم بين الإرهاب والإسلام، ثم يورد عشرات الأمثلة كما فعل صامويل هانتنجتون فى كتابه "صدام الحضارات" وهو فى أمثلته يعتسف ويحرِّف الحقائق مثل هانتنجتون ويبالغ فى دلالات الأحداث والوقائع مستهدفًا التحريض السافر. هذه بعض أمثلة سلمان رشدى يسوقها على شكل أسئلة استنكارية: ـ فيم هذه الاحتفالات التى عمت البلاد الإسلامية بالجرائم الإرهابية التى ارتكبها بن لادن والقاعدة؟ ـ ولم يتظاهر عشرة آلاف باكستانى على الحدود الأفغانية يشهرون سيوفهم ويقودهم الملالى (رجال الدين).. يصرخون الجهاد.. الجهاد؟! ـ لماذا يقاتل بريطانيون مسلمون فى صفوف طالبان؟! ـ لماذا كل هذا العداء للسامية من جانب المسلمين الذين يحاولون إلصاق تهمة التفجيرات فى حادثة 11 سبتمبر باليهود، بدعوى أن المسلمين ليست لديهم تكنولوجيا متقدمة ولا منظمات على هذه الدرجة من القوة والإحكام؟ ـ ولماذا ينصح قادة القاعدة المسلمين ألا يسكنوا الأبراج المرتفعة فى أمريكا حتى لا تصيبهم الطائرات الجهادية القادمة؟ ـ وفيم الحديث عن تلويث القوات الأمريكية الكافرة للأراضى المقدسة فى السعودية؟ وما هذه القداسة التى يزعمون؟! يستخلص سلمان رشدى من أمثلته أن المسلمين يحيط بثقافاتهم ركام من تقاليد عتيقة وأفكار بالية وتعصبات ولّدت عندهم أفكارًا متدنية عن المرأة وشاعت لديهم مواعظ شيوخ يكفرون الموسيقى والجنس والشرك، ويبثون الكراهية والاحتقار لأسلوب الحياة الغربية، وظهرت عندهم خلال العقود الثلاثة الماضية جماعات تتغذى على هذه الأفكار وتنشر الإرهاب فى العالم. ويرى سلمان رشدى أن هزيمة الإرهاب لن تتحقق فى النهاية إلا بأن تأخذ الأنظمة الحاكمة فى الدول المسلمة بالمبدأ العلماني.. كأنه كان يتنبأ بالأجندة الأمريكية لإعادة تشكيل المجتمعات المسلمة على غرار النموذج التركى الفذّ..!، (لاحظ أن سلمان رشدى يمجد الشرك بالله باعتباره من حسنات الحضارة الغربية)! وفى هذا يبدو "فوكوياما" نفسه أقل تطرفّاً من سلمان رشدي، حيث صرح مؤخرًا بأن الصراع الحالى ليس ضد الإسلام كدين بل ضد الفاشية الإسلامية، وليس حرب الغرب ضد الإسلام. بل إن هناك تقارير صحفية وتحليلات لكتَّاب يهود أقرب إلى الاعتدال والتوازن من كلام سلمان رشدى الذى يقطر حقدًا على الإسلام والمسلمين.. فهذا "أبراهام رالونوفيتش" يكتب عن القدس لصحيفة الـ"أستراليان" فى 14 سبتمبر ص6 يتحدث عن مشاهداته لردود الأفعال فى بلاد الشرق الأوسط، حيث ينقل على لسان أشخاص قابلهم هناك يقولون: لقد حصدت الولايات المتحدة ما تستحقه بسبب مواقفها الداعمة للإرهاب الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطيني..، ويذكر رالونوفيتش أن النغمة السائدة على لسان رجل الشارع فى البلاد العربية أنه كان على الولايات المتحدة أن تضغط على إسرائيل لوقف حربها ضد الفلسطينيين.. بل يبرز رالونوفيتش فى تقريره صورة لنموذج عربى أكثر تعاطفًا وولاءً للولايات المتحدة وجده فى الكويت، فقد ألقت حكومة الكويت القبض على عشرين فلسطينيا قاموا بتوزيع الحلوى على الجيران احتفالاً بالهجوم على أمريكا، كما ينقل تصريحًا لأحد كبار رجال الأمن الكويتى قال فيه: "إننا لا يمكن أن نسمح بمثل هذه الاحتفالات على أرضنا.. نحن ضد الإرهاب ونتعاطف مع الشعب الأمريكى فى محنته". فى هذا السياق نذكر الصحفى "جون بيرنز" الذى كتب لصحيفة "صن داى هيرالد" فى 17 سبتمبر تحت عنوان لماذا تولِّد أمريكا عند الناس هذا المزيج من الحب والكراهية، يحدد فيه أسباب الغضب عند الشعوب العربية فى أربع نقاط: ـ دعمها المتواصل لإسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. ـ وجود قواتها المسلحة فى الأراضى المقدسة بالسعودية والخليج. ـ حصار العراق إلى درجة الاختناق. ـ تحالفها مع حكومات فى الشرق الأوسط وآسيا مشهورة بالفساد والطغيان. وينتقل جون بيرنز ليحلل أسباب التعلق بالولايات المتحدة مشيرًا إلى طوابير الشبان الذين يقضون أيامًا مضنية واقفين فى طوابير أمام السفارات الأمريكية فى القاهرة وإسلام أباد وغيرها من العواصم، للحصول على تأشيرة الدخول إلى الجنة، فالولايات المتحدة بالنسبة لهؤلاء الشبان هى المكان الذى يمكن فيه أن ينعموا بالحرية التى حُرِموا منها فى بلادهم، وهى المكان الذى يستطيع كل إنسان أن يحقق فيه أحلامه. أما "نورمان أبچوينسن" فلأنه صهيونى يحاول تبرئة الولايات المتحدة وإسرائيل ويلقى باللوم كله على الأنظمة الحاكمة فى الدول العربية والإسلامية، ويرى أن المآسى التى تعانى منها شعوب هذه الدول ترجع إلى أوضاع داخلية سيئة لا شأن للولايات المتحدة بها، فهذه الدول غير ديمقراطية ولا تعبأ بحقوق الإنسان لمواطنيها.. ويرى أن الحملة ضد إسرائيل غير عادلة ومن ثم يتجاهل الجرائم البشعة التى تقترفها كل يوم ضد الشعب الفلسطيني، محاولاً توجيه الأنظار إلى أسباب أخرى يفتعلها ـ مثل غيره ـ فيزعم أن العداء لإسرائيل إنما يرجع إلى كونها دولة ديمقراطية صغيرة فى وسط شعوب متوحشة غير ديمقراطية. لايزال للعقل والحكمة مكان! فى خضم هذا السعار الإعلامى المتطرف هناك أصوات أخري. "جورج نيجوس" صحفى عريق بهيئة الإذاعة الأسترالية جاء إلى كانبرا فى أواخر شهر سبتمبر 2001م ليلقى كلمة الشرف بمناسبة افتتاح برنامج دراسى جديد عن العلاقات الدولية بجامعة أستراليا الوطنية، قال فى كلمته: "إن فهم العالم الإسلامى وليس الانتقام هو الذى سيساعد على حل مشكلة الإرهاب على المدى البعيد.. لن يضمن الانتقام لنا توقف الإرهابيين عن الهجوم على أمريكا أو دول الغرب فى المستقبل.. وما لم نعرف لماذا فعل هؤلاء الناس ما فعلوه فلن يكون هناك ضمانات ضد الإرهاب.. ربما يكون الانتقام مردودًا سريعًا، ولكن ليس هذا ضمانًا حقيقيا بل ربما تولدت منه مواقف أشد تطرفًا وأكثر خطرًا"، ولأنه عاش فترة طويلة بين المجتمعات المسلمة يرى أن هناك جهلاً متبادلاً بين المسلمين والشعوب الغربية، ويعتقد أن ما يحتاجه الغرب هو علاقات دولية أفضل وليس الحرب، فإذا كان لا بد من الحرب فلتكن حربًا على الجهل، فالمعرفة والفهم هما أكبر علاج للإرهاب. فى هذا السياق يأتى الأستاذ "آلان بيشنس" وهو رئيس قسم الدراسات الآسيوية والدولية بجامعة فكتوريا (ملبورن)، ويعمل حاليا أستاذًا زائرًا فى الجامعة الوطنية بكانبرا. وهو يلفت النظر إلى حقيقة نفسية عميقة الجذور فى الثقافة الأمريكية حيث يقول: الكثرة الغالبة من الأمريكيين ضحايا لأيديولوجية "القوة الأعظم" التى يعتقدون أنهم يملكونها، هذه القوة المتضخمة توحى إليهم أنهم دائمًا على حق وأن الملائكة دائمًا فى جانبهم حيثما اتجهوا ومهما فعلوا.. حتى وهم يقومون باضطهاد الآخرين وقهرهم فيما يعتقدون أنه خدمة لبلادهم ومصالحها المقدســة. لذلك نراهم يفعلون أى شيء مهما كان بشعًا خدمة لمصالحهم ولو على حساب الكون كله". ويطالب "بيشنس" بإنشاء مراكز نشطة فى أنحاء العالم يدور فيها حوار جاد وحقيقى بين الحضارات، ويرى أن أستراليا ـ ربما تكون ـ أنسب بلاد العالم لأن تأخذ بالمبادرة فى هذا المجال، فأستراليا بما تتمتع به من تعددية ثقافية أرض خصبة لهذا الحوار العالمي، تدعو فيه علماء الدين المسلمين والبوذيين والمسيحيين والكونفوشيين والهندوس واليهود، لرسم خريطة عامة يوضحون عليها القيم والمبادئ المشتركة السائدة فى هذه الحضارات، فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان والمساواة الإنسانية والعدالة الاجتماعية... بهذا الفهم المشترك يمكننا أن ندفع إلى زوايا الإهمال والنسيان تلك الأيديولوجيات قصيرة النظر التى يتقوقع فيها بعض مجموعات من الناس منغلقين على أنفسهم، ويشير فى هذا الصدد إلى رأى الأستاذ الصينى "وانج جنج فو" (وهو مؤرخ عالمى) فى نبوءة صامويل هانتنجتون "صدام الحضارات" حيث يقول: "إن خطورة هذه النبوءة تتمثل فى أنها يمكن أن تحقق نفسها.. وأن تأخذ من حادثة مركز التجارة الدولى بداية لذلك". ماذا قال الخبراء العسكريون؟ الحرب على الإرهاب العالمى وما قيل عنها من أنها نوع جديد من الحرب، فما حقيقة هذه الحرب وما قيمتها وفاعليتها؟ لهذا الغرض التقت مجموعة من الخبراء العسكريين الدوليين جاءوا من بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا ليتناقشوا فى مؤتمر بكانبرا حول هذا الموضوع خلال شهر أكتوبر. وقد انقسم خبراء استراتيجيات الحرب إلى فريقين أو مدرستين مختلفتين إلى حد التصادم فى بعض القضايا. لقد وافق الجميع تقريبًا على استخدام نوع من القوة العسكرية فى بعض المراحل ولكن بقى السؤال قائمًا: هل الحملة العسكرية وحدها تكفى لوقف الإرهاب؟ فى الإجابة عن هذا السؤال اختلفت المواقف.. يقول "رالف بيتر" الخبير العسكرى الأمريكى قائد الجناح المتطرف فى المؤتمر: "كثيرمن الناس فى هذا العالم يحسدون الولايات المتحدة ويحقدون عليها حقدًا شديدًا، وهم يعلمون أنهم لن ينجحوا أبدًا فى النيل منها، إلى الحد الذى يشلهم عن التفكير فى مهاجمتنا". منطق رالف بيتر كما صرح بنفسه قائم على افتراض أن أولئك الإرهابيين ومن يدعمهم لن يشفى غليلهم شيء ولن يرضوا بأى قدر من التنازلات، والحل عند رالف بيتر وأمثاله هو سحقهم سحقًا بلا رحمة. هذا الاتجاه المتطرف فى فهمه وأسلوبه وجد تعبيره العسكرى فى معاملة إسرائيل للفلسطينيين، فالحكومة الإسرائيلية الحالية تتبنى فكرة أن أى إخفاق فى استخدام أقصى القوة لسحق الأعداء، فكأنك أسلمت نفسك لمن لا يرضيهم ما حصـل عليه الفلسطينيون ليتلاعبوا بك!. وقد رد على هذا الاتجاه فى المؤتمر الفريق الآخر الذى رأى أن ما يزعزع مصداقية هذا الاتجاه هو أن القوة الإسرائيلية الهائلة من الدبابات والطائرات والصواريخ لم تنجح فى وقف الانتفاضة الفلسطينية، ولذا يرى هذا الفريق أنه رغم أن استراتيجية القوة قد تحقق نجاحًا سريعًا إلا أنه لا مناص من مواجهة الأسباب الكامنة التى تدفع إلى أعمال العنف والإرهاب. وقد تركزت فى هذا المؤتمر الانتقادات الموجهة إلى سياسة الولايات المتحدة فى الحرب الأفغانية فى ثلاث نقاط: الأولي: أن الولايات المتحدة تقوم بهذه الحرب كحملة وطنية دون الاستناد إلى المرجعية الدولية الشرعية وهى الأمم المتحدة، مما يدمغ هذه الحرب بأنها مجرد غزو عسكري، ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تستغنى عن هذه الشرعية بالتحالف الذى جمعته حولها من الدول الإسلامية لأنه تحالف هش ومؤقت ـ كما يرى المؤتمرون ـ سرعان ما سيتفكك بمرور الوقت، وخصوصًا مع إصرار الولايات المتحدة على المضى فى خطتها لتوسيع نطاق هذه الحرب ليشمل دولاً أخرى مسلمة وحركات مقاومة وطنية تحظى بتعاطف واحترام الشعوب المسلمة. الثانية: تتعلق بالهدف الذى أعلنته الولايات المتحدة لحربها ضد الإرهاب، فقد جعلت على رأس قائمة الأهداف أسامة بن لادن (حياً أو ميتّاً) مع أسماء أخري، ومعسكرات تدريب القاعدة. هذا الهدف الأخير تحقيقه ممكن حيث يمكن التصويب عليه باعتباره هدفًا ثابتًا، أما الأشخاص فهدف مراوغ ومن ثم لن يتم تدمير شبكة الإرهاب.. وحتى لو قُضى على بعض خلايا هذه الشبكة فستبقى خلايا أخرى قادرة على مواصلة العمل، وبذلك تواجه الآلة العسكرية الرهيبة هواء فارغًا. الثالثة: إن القضاء على نظام طالبان فى أفغانستان لن يؤدى أوتوماتيكيا للقضاء على الإرهاب فإنك إذا تخلصت من نظام دولة دون أن تحل مكانه نظامًا آخر قويا وقادرًا على الإمساك بزمام الأمور فإنك بذلك تخلق فوضى ضاربة، وهذا الوضع من شأنه أن يهيئ ظروفًا يفرخ فيها الإرهاب مرة أخري. يؤكد هذا الرأى بقوة الجنرال "سير مايكل روز" الذى كان يعمل قائدًا لقوات الأمم المتحدة فى حرب البوسنة حيث قال: "يمكن تحقيق النصر فقط عندما تكون العدالة هى الهدف لا مجرد الانتقام.. إن حل هذه المأساة ينبغى أن يكون حلاّ سياسياً فإن القوة العسكرية وحدها لا تكفي". فى هذا السياق يحذر الكولونيل "مجرجور" من أن خطر التمحور الأمريكى حول الحل التكنولوجى لمشكلة الإرهاب هو خطأ محوري.. فالتكنولوجيا مهما عظم قدرها لا يمكن الاستغناء بها عن الفهم والخيال.. وإذا كانت الولايات المتحدة تعتمد فى حربها ضد الإرهاب على ضرب القيادات فإن هذا قد يصلح مع حرب الجيوش المنظمة، فإن الجيوش تنهار بالقضاء على قياداتها، أما ضرب القيادات فى حرب الإرهاب فمن شأنه أن يجعل المقاومة أشد شراسة. أما "كريسبين هَلْ" فقد لفت نظره الاستعداء الغبى للإسلام فى معركة الأمريكيين ضد الإرهاب، لذلك يحذر من إقحام الإسلام فى هذه المعركة، لأنه يرى أن الإيمان الراسخ فى الإسلام سلاح بالغ القوة، وأن عقيدة القنابل البشرية التى يسميها المسلمون استشهادًا قوة فعالة ومؤثرة فى مواجهة القوة العسكرية المجردة. ويفصح عن هذا المعنى بوضوح شديد "روبرت فيسك" الكاتب والصحفى البريطانى فى مقال له نُشر فى كانبرا تايمز تحت عنوان "قسوة الشعب المطحون" يقول: "لقد احتضنت الولايات المتحدة إسرائيل لسنوات عديدة اعتقادًا منها أن ذلك لن يكلفها شيئًا يذكر، أما الآن فقد اتضح أن الأمر لم يعد كما كانت تظن.. وإنه لمن الشجاعة والحكمة أن تتوقف ولو لبرهة قصيرة لتراجع دورها فى العالم، وتتأمل فى نتائج تجاهلها لما يعانيه العرب فى فلسطين..". ثم يستدرك قائلاً: "أعلم أن أناسًا كثيرين سوف يعترضون على دعوتى هذه إلى تحليل الأسباب الكامنة وراء هذه الحرب ذات الأبعاد العالمية" ويحذر قائلاً: "إننا إذا لم نفعل هذا ونقوم بالمراجعة الآن فإن علينا أن نواجه صدامًا لم نشهد مثله منذ موت هتلر واستسلام اليابان وانتهاء الحرب فى كوريا وفيتنام.. فكل هذا يتقلص ويتضاءل أمام المقارنة بما هو قادم إلينا فى المستقبل".
تُعانى أســتراليا من عقــدة كامنة، فالشعب الأســترالى يشـعر بانتمـائه العرقي والثقـافى للـغــرب ولكن يجـد نفسه ـ جغـرافياً ـ فى قلب شـعوب آســيوية ملونة، وهـذا مصـدر خوف دفين يتغلغل إلى الأعمــاق
"جون هوارد" رئيس الحكومـة الحالية المحافظــة، أحــدث بسياســته وتدخـله العسـكرى في جـزيرة تيمـور شـرخًا داميـا بين أسـتراليا وإندونيسيا، حيث رفضت ميجاواتى سوكارنو اســتضافته فى بلادهـا، بـل أهمـلت الـرد عـلى رسـائله إليهـا بشـأن المهاجــرين مــن طــالبي اللجــوء الســـياسي
اعتـاد الأســتراليون أن ينظـــروا إلي هـــجــرة الملـونين إلى بلادهــم باعتبارها خطــرًا طـالما أرّق قياداتهم الســياسـية منذ زمن بعيد. من أجل هذا صدرت قوانين أستراليا البيضاء فى الماضى لتكـون حاجـزاً مانعاً لتدفق الهجرة الملونة، ولكن اضطرت الحــكومة الأسـترالية لإلغـاء هـــذه القوانين العنصرية بعد انتهاء الحـرب العالمية الثانيـة
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة