حقيقـــــة مشــكلـة الـرق فى السودان



منذ استيلاء الجبهة الإسلامية على السلطة فى السودان عبر الانقلاب العسكرى الذى تزعمه العميد عمر حسن البشير فى 30 يونيو 1989، والحديث عن ممارسة الرق فى القطر الشقيق ظاهرة تترى تباعًا ضمن الشواغل الإنسانية فى العديد من الصحف ومراكز الدراسات ومنظمات حقوق الإنسان فى أمريكا بوجه خاص، حيث أسفر هذا الاهتمام مؤخرًا عن خطة مبيتة لوصم العرب المسلمين فى الشمال بالقهر والجور فى تعاملهم غير الحضارى واللا إنسانى مع أبناء الوطن الواحد من الزنوج المسيحيين والوثنيين فى جنوب السودان، وتكمن خطورة هذا الاتهام فى كونه واحدًا من الادعاءات المغلوطة التى دأبت الإدارة الأمريكية على استخدامها فى تبرير مشروعية منح الجنوبيين حق تقرير المصير، إيذانًا بتقسيم السودان إلى دولتين وربما دويلات عرقية متناحرة يسهل السيطرة عليها. وإذا كان نظام الإنقاذ الحاكم فى السودان قد ارتكب جريمة سياسية وتاريخية فادحة حين أضفى القداسة على الحرب الأهلية، واعتبر قتال أبناء الشمال «جهادًا» فى سبيل الله، وضحاياهم شهداء أبرارًا فى جنة الخلد مع الملائكة والقديسين، بينما يعتبر الضحايا من أبناء الجنوب كفرة وملحدين ومأواهم النار وبئس القرار، فلا يلومن هذا النظام سوى نفسه إذا كان الرئيس بوش قد ابتلاه بالسيناتور جون دانفورث مبعوثًا شخصيا له فى السودان وهو أولاً قسيس الاعتراف للرئيس الأمريكي، وأيضًا مرشح التحالف المسيحى اليهودى واللوبى النفطى فى الكونجرس! ومنذ مباشرة دانفورث لمهامه فى السودان، وهو يذكى نيران الفتنة عرقيا تحت شعار الاضطهاد الدينى وانتهاك حقوق الإنسان الذى يكابده أبناء الجنوب، ومن ثم راح يدعم فى المقابل أنشطة المنظمات التبشيرية المشبوهة بنحو مليون دولار يوميا بدعوى الإسهام فى أعمال الإغاثة الإنسانية للمتضررين من ويلات المجاعات والأوبئة والمروعين بالحرب الأهلية، ولا شك أنه جهد مقدر ومشكور لدى الجنوبيين فى غياب الدور العربى وضعف إمكانات الحكومة السودانية، على أنه تزامن مع هذا النشاط شن حملة دعائية محمومة تستهدف وصم السودان بممارسة الرق، كان أول من روج لها الرابطة القومية الأمريكية المناهضة للرق (NAPS) تحت قيادة الدكتور أنطونى بول وهو رئيس شعبة الأحياء بكلية أوكورد فى هانتشفيل بولاية الباما، حيث تواصل إرسال أعداد من أعضائها إلى جنوب السودان ووضع التقارير الدورية عن تطورات ظاهرة الرق، فيما قامت الرابطة ببناء بعض المدارس ومساكن لإيواء التلاميذ فى عدد من القرى الجنوبية أوائل التسعينيات! وهكذا تسربت تلك التقارير إلى وسائل الإعلام الأمريكية، وراحت تتداعى لمأساة الرق فى السودان بشكل مثير للكراهية ضد العرب المسلمين فى السودان، وقد بدأت صحيفة «لوس انجيلوس تايمز» الحملة عام 1995 بتقرير نشرته حول غارة شنتها قوات الدفاع الشعبى التابعة للجبهة الإسلامية على إحدى قرى الجنوب لمطاردة فلول الحركة الشعبية التى تمارس التمرد تحت قيادة العقيد جون جارنج وقالت الصحيفة إن الغارة صرعت العديد من الرجال وأسفرت عن نهب الكثير من ممتلكات السكان و.. سبى بعض النساء والأطفال، ثم خلص التقرير إلى قصة تحرير الفتاة تريزا نيابول دينق ابنة الاثنى عشر ربيعًا من أسر الرق مقابل خمسين دولارًا! بعدها عرضت بربارا فوجل المدرسة بالصف الخامس فى إحدى مدارس مدينة دينيفر بولاية كلورادو الأمريكية قصة تريزا على تلاميذها، وسرعان ما انفعلوا بها وانخرطوا ضمن حملة دولية تهدف إلى شراء الأرقاء من سادتهم بغرض تحريرهم، ومن ثم تبرعوا مبدئيا بقيمة وجبة الغذاء لهذا الغرض. وفى أكتوبر عام 1996 دعا النائب دونالد.م. باين إلى جلسة استماع فى الكونجرس حول نفس القضية، ونجح فى تكوين هيئة خاصة لبحث المسألة السودانية فى الاجتماع السنوى للمؤتمر العام للسود، ثم لم تمض أيام حتى أطلق باين حملة مناشدة قومية تدعو إلى تحرير 103 بين نساء وأطفال من أسر الرق فى السودان، ونجحت الحملة فى الحصول على توقيعات الآلاف من الأمريكيين على المذكرة التى قدمت إلى الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون والأمين العام للأمم المتحدة كوفى أنان. وكان المفوض السابق لحقوق الإنسان فى الأمم المتحدة، كاسبار بيرو قد زار السودان عدة مرات وخلص إلى وجود ممارسات للرق فى إطار الحرب الأهلية بين القوات الحكومية وقوات المعارضة بقيادة جارنج، بينما تقول منظمة «هيومان رايتس واتش» أن الحكومة لا تعير انتباهًا إلى سلوك أفراد قواتها وميلشياتها فى مناطق القتال، فى الوقت الذى عرضت حالات صارخة خضع فيها أطفال جنوبيون للتجنيد العسكرى قسرًا بعد انتزاعهم من وسط ذويهم، ثم ينتهى التقرير الأول للمنظمة الصادر عام 1995 بعنوان «أطفال الشوارع الأرقاء والأطفال الجنود» ثم الملحق الإضافى الصادر عام 1996 بعنوان «خلف خط النار»، إلى وصف مسهب للمجاعة فى جنوب السودان وشهادات موثقة حول ممارسات الرق. وقد أدانت المنظمة ـ وهى أمريكية ـ الحكومة السودانية لعدم التزامها بالمواثيق الدولية وخاصة ما يتعلق منها بحقوق الطفل، واتفاقية الرق لعام 1926، وكذا الاتفاقيات الملحقة بها عام 1956 حول مناهضة الرق، فيما استنكرت «هيومان رايتس واتش» نفى الحكومة السودانية للاتهامات الموجهة لها بهذا الخصوص، رغم ثبوتها فى أضابير لجان الأمم المتحدة، وأهابت فى نفس الوقت بالمنظمات الدولية المعنية مثل «اليونيسيف» و«الصليب الأحمر» للنهوض بمسئولياتها عبر التدخل لوقف هذه المعاناة الإنسانية وإنهاء تلك التجارة غير المشروعة! والشاهد أن الحملة كانت لها تداعياتها المؤسفة فى أوساط الأمريكيين السود، الذين تتنازعهم ذكريات الاسترقاق التى تعرض لها جدودهم وجداتهم، حين جرى انتزاعهم من بيئتهم وعائلاتهم الأفريقية وبيعهم عبيدًا لفلاحة الأرض والقيام بالأعمال الشاقة فى القارة الأمريكية الجديدة بعد اكتشافها على يد البيض الأوروبيين. وتروى الصحافة الأمريكية قصة شايلا مونتجمرى وهى كانت طالبة لعلم الأحياء فى كلية دوثان بألباما، وكيف تمكنت مع 18 طالبًا وطالبة من السود من قضاء أعياد رأس السنة عامًا بعد عام فى إحدى القرى التى تعانى ويلات الحرب الأهلية فى جنوب السودان، وكم هى سعيدة لأن كونها أمريكية لم يفقدها صلتها بجذورها الأفريقية، الأمر الذى جعلها تأخذ على عاتقها مساعدة أبناء عشيرتها الذين يتعرضون للفقر والمرض والخوف والرق فى جنوب السودان! ولم تختص أمريكا وحدها السودان بالترويج لممارسة الرق، ولكن بريطانيا التى استعمرت السودان وتبنت سياسة المناطق المقفولة على جنوبه عبر وضعها إسفينًا حضارياً ولغوياً وثقافياً واجتماعياً بينه وبين الشمال، من هنا استثمرت البارونة كوكس تراكم الخبرات البريطانية بالسودان والحنين إلى أمجاد الدولة العظمى التى لم تكن تغرب عنها الشمس، وشنت أقوى وأذكى حملة ضد نظام الجبهة الإسلامية إبان كان الدكتور الترابى رجله ومفكره وعرابه، ثم لم تتوقف رغم استبعاده من السلطة عن مواصلة ما بدأته. وقد أثارت هذه المرأة حولها شخصيا وحول نشاطاتها السياسية والإعلامية جدلاً واسعًا سواء داخل بلادها أو على صعيد السودان، فهى قد بدأت حياتها ممرضة كرست حياتها للعمل الطوعي، فخلعت عليها الملكة إليزابث لقب بارونة، تقديرًا لجهودها فى العديد من مناطق العالم التى تعانى مآسى الحروب والنزاعات والأوبئة والمجاعات وبينها بورما والسودان الذى قامت بزيارته عدة مرات، وخاضت تجربة العمل تحت وابل الرصاص والقنابل والصواريخ، وقد حازت بشجاعتها ومبادراتها الإنسانية على العديد من الأوسمة والدكتوراة الفخرية فى بريطانيا وغيرها، حيث وقع عليها الاختيار كراعية لجامعة بورتموث! البارونة كوكس التى تشغل منصب نائبة رئيس مجلس اللوردات، تحظى باحترام المعارضة السودانية، لمعرفتها وتبنيها هموم وشجون السودان، ودعوتها لرموزه ومفكريه للتنوير بقضاياه وشرحها أمام مجلس اللوردات، بينما يكن لها نظام الجبهة الإسلامية عداء مستحكمًا إلى حد اعتبارها شيطانًا فى هيئة امرأة، بسبب انتقاداتها الصارخة له، واتهامه بالتعصب ضد المسيحيين سواء عبر ما يسمى «المشروع الإسلامي» أو التوجه الحضاري، ووصمه ـ وهو الأخطر ـ بممارسة الرق والعبودية المنافية للإسلام ضد الجنوبيين! وقد بدأ اهتمام كوكس بالسودان حين كان ابنها يعمل ضمن برنامج إنسانى لرعاية اللاجئين الإريتريين فى مدينة «الدمازين» بشرق السودان، وفى إحدى رسائله لها شكا من نقص شديد فى عدد الممرضات، وعندئذ قررت التوجه إلى هناك مع فريق من الممرضات الإنجليزيات المتطوعات، حيث عاشت ثلاثة أشهر فى منطقة «حمرة الوز» تؤدى واجبها حتى نقلت نشاطها بعدئذ إلى مدينة الأبيض عاصمة ولاية كردفان. أما عن اهتمامها بمشكلة الرق، فكان عبر قراءتها كتابًا مهمًا عنها بالإنجليزية بعنوان «الرق فى السودان» من تأليف الدكتور على بالدو والدكتور عشاري، وكلاهما يعمل ضمن هيئة التدريس بجامعة الخرطوم، حيث كان للأمانة العلمية والجهد المبذول فى جمع الوثائق والشهادات والتحقق من صحتها دور بارز فى رواج الكتاب داخل السودان وخارجه باعتباره أهم مرجعية علمية لمشكلة الرق فى السودان، وخاصة أنه شهادة من أهلها! وحين امتنعت حكومة الجبهة الإسلامية عن تقديم التسهيلات التى طلبتها البارونة كوكس لزيارة المناطق المنكوبة بالرق فى جنوب وغرب السودان وجبال النوبة، لم تعدم الوسيلة فى القيام بالتحقيقات الميدانية عبر بعض الدول الأفريقية المجاورة للسودان ومنظمات الإغاثة والتبشير وكذا الحركة الشعبية بزعامة جارنج. كوكس التى ولدت فى السادس من يوليو عام 1937 استطاعت بنفوذها وشهرتها فضح ممارسات العبودية فى السودان، وهى دائمًا تعزز ادعاءاتها بالحجج والوثائق والصور، مؤكدة على أن نظام الجبهة الإسلامية هو المسئول الأول عن تشجيع تلك الممارسات أو السكوت عليها، بل وإنكارها إذا لزم الأمر، وتقول إنها لمست خلال جولاتها فى المناطق المنكوبة تعاطفًا كبيرًا من جانب بعض التجار وزعامات القبائل العربية المسلمة تجاه ضحايا الرق، إذ كانوا يبادرون إلى دفع الإتاوات إلى خاطفيهم مقابل تحريرهم، مؤكدة على أنها كانت شاهدة عيان على تحرير 320 طفلاً وامرأة، وأنها التقت بهم وبالسماسرة الذين تولوا مهام التسوية ودفع مبالغ الفدية للخاطفين، كما أنها تحققت من تشغيل عدد آخر من الفتيات والنساء الجنوبيات خادمات لدى أسر عربية وأطلقت عليهم وصف «أسياد»، غير عدد آخر من الأطفال الذين جرى تشغيلهم غصبًا كرعاة لقطعان الماشية التى يملكها شماليون. واللافت للانتباه أن صدى اتهام السودان بالرق، وصل عبر البارونة كوكس إلى منظمة التضامن المسيحى التى تتخذ من سويسرا مقرًا لها، وقد تضمن تقريرها الصادر فى يوليو عام 1999 وبثته وكالة رويتر مزاعم خيالية حول نحو 600 صبى وفتاة من جنوب السودان كانوا مجتمعين تحت شجرة فى منطقة «يارجوت» بانتظار تحريرهم من الرق، وعلى لسانهم روى التقرير ألوان وأشكال القسوة والوحشية التى عوملوا بها من الشماليين، غير عشرات القصص حول عشرات الآلاف من العبيد الجنوبيين الذين يعمل غالبيتهم لدى العرب فى ولايتى دارفور وكردفان.. إلخ.
كل هذه الاتهامات والشهادات والتقارير الغربية حول ممارسات الرق فى السودان، لا تكاد تجافى فى الغالب الأعم منها الحقيقة والموضوعية، لكنها ـ وهنا بيت الداء ـ بعيدة كل البعد عن فهم أبعاد الظاهرة عبر اعتماد معايير الرصد والتقييم الغربي، وليس كما يجب فى سياقها التاريخى والتقاليد والقيم الشعبية الموروثة فى السودان، ولعل الأمر برمته يدعونا إلى حد استدعاء منطق المؤامرة فى الترويج المتعمد لمأساة الرق فى السودان على هذا النحو. هنا نضرب مثالاً بالافتراءات التى دأب المؤرخون الغربيون والإنجليز بصفة خاصة، حول جلب محمد على الرقيق من شباب السودان، بينما الحقيقة التى تؤكدها وقائع التاريخ وشهاداته ووثائقه، أن السودانيين كانوا مع المصريين قوام جيش محمد على ومتساوين فى الحقوق والواجبات والامتيازات، وهم قد تشربوا العلوم أو التدريبات العسكرية الحديثة فى الكلية الحربية ومعسكرات الجيش بأسوان، على يد نخبة متميزة من الضباط الأكفاء تحت رئاسة الجنرال سيف، وهو كان أحد قادة جيش نابليون، حتى أعلن إسلامه وعرف باسم سليمان باشا الفرنساوي، وهؤلاء الضباط والجنود السودانيون كانوا طليعة التنوير والتقدم فى المناطق التى جاءوا منها بعد عودتهم إلى السودان. وفى كتاب القاضى الأمريكى بيير كرابت «الخديوى إسماعيل المفترى عليه»، ما يشى بالحقيقة التى تبرئ ساحة مصر من تهمة ممارسة الرق فى السودان، حيث يؤكد بالوثائق الثبوتية أن تجارة الرقيق كانت وقفًا على الأجانب فحسب، وتحت حماية قناصل الدول الأوروبية وأمريكا المعتمدين فى الخرطوم عهدئذ، وكانت البواخر النيلية التى تنقل العبيد من جنوب السودان ترفع أعلام تلك الدول وفى مقدمتهم العلم الأمريكي، بينما كان معظم المقاولين والوسطاء والجلابة من السودانيين وفى مقدمتهم الزبير باشا، هذا فى الوقت الذى تغاضى فيه المؤرخون الأجانب عمدًا عن الدور الإنسانى والسياسى المشهود الذى لعبه الضباط والموظفون المصريون فى تنفيذ الأوامر المشددة الصادرة من الخديوى إسماعيل فى التصدى لتجارة الرقيق وحماية أبناء السودان من الاسترقاق ووقف مأساة انتزاع الأطفال من ذويهم وقطع دابر الأجانب وتأديب التجار والوسطاء المحليين، وفى وقت سابق لتحريم الرق دوليا! من هنا يجدر الحذر من الوقوع فى شراك الخطط المشبوهة والأساليب الملتوية والادعاءات الملتبسة التى تتهم السودان بممارسة الرق، غفلاً من الإدراك الواقعى المعايش لهذه الظاهرة ميدانياً، وكيف عادت تطل برأسها من جديد بعد صدور الحكم بإعدامها فى السودان وكافة دول العالم نهاية القرن 19. فالسودان الذى تبلغ مساحته مليون ميل مربع بما يوازى مساحة دول غرب أوروبا وجزر البحر الأبيض المتوسط، ويضم مئات القبائل وعشرات القوميات والأعراق والثقافات والأديان واللغات والرطانات، إلا أنه كأمة وكيان سياسى متناسق ومتماسك لم يتخلق بعد، ولا تزال السلطة المركزية فى الخرطوم عاجزة عن بسط هيبتها ونفوذها على مختلف ربوع السودان، ولعله من هنا كانت نشأة وضرورات «الإدارة الأهلية»، كونها الوكيل عن السلطة المركزية بحكم شعبيتها ونفوذها القبلى أو الدينى أو السياسى فى العديد من المناطق النائية ومناطق أطراف السودان! كانت للإدارة الأهلية محاكم وسجون وقوانين محلية موروثة وغير مكتوبة، وكانت لها سطوتها وكلمتها النافذة فى حل المشكلات، سواء بين الأفراد أو القبائل وفقًا لتقاليد «الأجاويد» التى كانت تغلب الحكمة والعدل والتسامح، وقد نجحت الإدارة الأهلية فى القيام بمهامها على خير وجه قرونًا بعيدة، حتى تبنى الرئيس نميرى دعوة اليسار السودانى لإلغائها بدعوى التحديث والتقدم حتى لو كان على حساب التطور الطبيعى. من هنا فقد السودان واحدة من أهم آليات الإدارة والأمن والتحكيم، خاصة فى النزاعات المستحكمة فى مناطق التماس بين القبائل العربية والقبائل الزنجية، فهذه القبائل السودانية كانت حريصة على تمييز أفرادها عبر ما يسمى «الشلوخ» أى تشريط الوجه أشكالاً معينة، ومثال ذلك حرف H الذى كانت تختص به قبيلة الشايقية وحرف T وكان وقفًا على قبائل دنقلة أو الدناقلة، وعلى غرارهم كانت القبائل الجنوبية الزنجية لديها ما يميز ملامح أفرادها عبر عمليات الكى والوخز بالإبر، بل إن هذا التمييز كان سائدًا حتى فى التعرف على ما لدى كل قبيلة من أبقار أو جمال أو أغنام. وكأى مجتمع قبلى موغل فى التخلف كانت المعارك غالبًا ما تندلع بين هذه القبائل عندما تثور الخلافات حول تحديد زماماتها من الأراضى أو نصيبها من المياه، وربما بسبب اختلاط الماشية أو الادعاء بسرقتها، بينما كانت الأسلحة التى يشهرها كل طرف تجاه الطرف الآخر لا تتعدى السيوف والحراب، ولعل من قرأ كتاب الزعيم والمفكر السودانى الجنوبى فرنسيس دينق (Dynamics of Identification) «القوى المحركة للهوية» يدرك إلى أى مدى كان يعود الوئام والصفاء وروح التكامل فى أعقاب المعارك التى كانت تنشب آنذاك بين قبيلة «البقاره الحمر» العربية فى الشمال وقبيلة «الدينكا أنفوك» الزنجية فى جنوب السودان. فى خضم تلك العلاقات والمنازعات بين القبائل فى مناطق التماس، كان الاختطاف المتبادل للأطفال والنساء جزءًا مكملاً لعمليات الغزو والانتقام أو الانتصار، كما كانت استعادتهم فى مقابل فدية من الماشية أو استبدالهم رهينة برهينة جزءًا مكملاً أيضًا لعملية المصالحة وفقًا لما يصدر عن الإدارة الأهلية فى الجانبين من أحكام بهذا الشأن. فلما اندلع التمرد الثانى لأبناء الجنوب عام 1983 بزعامة العقيد جون جارنج، وقويت شوكة ميلشياته عددًا وعتادًا وتنظيمًا عبر الدعم الأفريقى والعربى والدولي، ونجاحه فى اختراق الصفوف والخطوط العسكرية للقوات الحكومية فى عهد نميري، ثم تصاعدت قوة التمرد إلى حد الاستيلاء على المدن تباعًا فى عهد حكومات الصادق المهدى الائتلافية (86 ـ 1989)، بدأ فى استدراك الفراغ الذى تخلف عن إلغاء «الإدارة الأهلية» عبر تسليح القبائل من ميزانية الدولة لمواجهة زحف التمرد وقوته، ومن هنا تحديدًا تغيرت تقاليد المعارك وحسم النزاعات بين قبائل التماس، بالتزامن مع تصاعد موجة اختطاف الرهائن، وفيما غابت تقاليد الأجاويد برزت إلى السطح ظاهرة تحرير المختطفين مقابل فدية مالية ومن الإنصاف أن يوجه الاتهام إلى الغرب وأمريكا ومنظمات الإغاثة والتبشير وحقوق الإنسان الدولية بمسئوليتهم عن ابتداع هذا الأسلوب، ومن ثم تحولت عمليات الاختطاف تحت تهديد السلاح إلى لون من المغامرات التجارية وباب للإثراء غير المشروع! ومن الإنصاف كذلك أن يقال إن وصم هذه العمليات بالرق لا يستند إلى الحقيقة والواقع، وذلك لأن الهدف من الاختطاف ليس الاسترقاق فى الغالب ولا البيع والشراء فى سوق النخاسة، وإنما انتظارًا للربح عبر الفدية التى يتكفل بها القادرون من الشماليين والأجانب بوجه خاص، بمعنى أن هذه الظاهرة لا علاقة لها بالدين ولا لدوافع عرقية أو عنصرية، أولاً لكونها مشتركة بين القبائل العربية الشمالية والقبائل الزنجية الجنوبية، فى ضوء الاتهامات الدولية التى تلاحق جارنج حول اختطاف ميلشياته للأطفال الجنوبيين وتجنيدهم فى صفوفها، أو اختطاف أطفال شماليين واستعادتهم بالتبادل مع أطفال جنوبيين رهائن لدى القبائل الشمالية! والأدهى والأمر أن وكالات الأنباء فاجأت الجميع بخبر وصول أول فوج من الفتية الجنوبيين إلى أمريكا منذ نحو عامين، حيث أعلن عن تعاون الحكومة الأمريكية بإعاشتهم وتعليمهم وتأهيلهم لتولى الوظائف، ولا أحد يعلم كيف وبأى أسلوب تم تجميع هؤلاء الصبية، وهل بموافقة ذويهم أم لا؟ ولماذا اقتصر الاختيار على الجنوبيين فحسب، إلا أن يكون الهدف رعاية نواة السلطة فى الدولة الجنوبية الانفصالية المرتقبة! من جهتها لم تتوان الحكومة السودانية عن الرد على الافتراءات التى تتهمها بغض الطرف عن ظاهرة الرق، واتهمت البارونة كوكس باعتماد المعايير المزدوجة عبر التغاضى عن اختطاف ميلشيات جارنج للصبية والشباب ودفعهم إلى ميادين القتال، باعتبار أن هذا التعامل يخضع لمعيارها للرق، وقالت إن كوكس دأبت على الدخول بدون تصريح رسمى إلى المناطق التى يحتلها جارنج، وأنها لذلك تتبنى ادعاءاته الكاذبة على غرار اتهام السودان بصناعة أسلحة الدمار الشامل، وقصف أمريكا لمصنع أدوية الشفاء بالخرطوم لهذا الغرض، فيما روجت حكومة السودان للنقد العنيف الذى وجهه رئيس صندوق حماية الطفولة العالمى «يونسيف» كارول بيلامى إلى نشاط منظمة التضامن المسيحى فى السودان عبر مقولته الشهيرة «عندما تدفع 50 دولارًا على الرأس فى بلد يعيش غالبية الناس فيه على أقل من دولار فى اليوم، فإن هذا يشجع على تفاقم هذا النشاط الإجرامي، بينما قال جيمس جاكوسن الذى عمل فترة فى مهام خاصة بمنظمة التضامن المسيحى فى السودان، إنه وجد خلال رحلة قام بها فى السودان عام 1999 أن أطفالاً وفتية جنوبيين كانوا يدعون خضوعهم للاسترقاق حتى يجتذبوا الدولارات الغربية حسبما نشرته صحيفة «الحياة» اللندنية يوم 9 سبتمبر1999! وقد طعنت حكومة الجبهة الإسلامية فى صحة ومصداقية الصور الفوتوغرافية والأفلام التسجيلية حول عمليات أسر الرهائن ومشاهد تسليم الفدية للمختطفين، بدعوى التزوير والتلفيق، استخفافًا بالرأى العام العالمى أو لتحقيق انتصارات صحفية مزيفة. والحقيقة التى لا خلاف حولها أن أبناء الجنوب عانوا ومازالوا يعانون وطأة المظالم التاريخية والحرب الأهلية وفداحاتها غير الجوع والمرض والقسمة غير العادلة للثروة والسلطة.. ما فى ذلك شك، لكن النظام الحاكم فى الخرطوم رغم كل سوءاته وكم وألوان المصائب التى يعانى السودان من ويلاتها، ليس المسئول الأول عما يثار حول قضية الرق، فهو قد ورث تلك المتناقضات عن الأوضاع السابقة.. وصحيح أن نحو ثلاثة ملايين فروا من الجنوب، لكن معظمهم لم يلجأ إلى أى من دول الجوار وفضلوا النزوح إلى الشمال والعيش فى أمان ووفاق مع إخوانهم الشماليين من العرب والمسلمين. استكمالاً لبانوراما المأساة، يبدو قصور حكومة الجبهة الإسلامية إما عن عمد أو جهل بمخاطر اختيار موقع الدفاع عن نفسها عبر أفكار مسئوليتها حول ما يثار عن الرق، بينما المطلوب دون تراخٍ أن تبادر إلى التعامل مع المشكلة بجدية ومسئولية، عن طريق سدّ المنافذ والثغرات الخاصة باستغلال ظروف الحرب الأهلية فى تسخير الأطفال والنساء للعمل قسرًا، وتشديد العقوبات حول شبهات الاسترقاق إلى الإعدام شنقًا وعلنًا فى مواقع الجريمة على حد دعوة البعض من القانونيين فى السودان. وكذلك فإن المطلوب من «التجمع الوطنى الديمقراطي» الذى يضم فصائل المعارضة فى شمال وجنوب السودان الامتناع فورًا عن استغلال قضية الرق فى الهجوم على الجبهة الإسلامية. إذ أنه برغم أن زعامات التجمع تمثل قمة الثقافة والاستنارة فى السودان وهم على علم تام بأبعاد وتعقيدات القضية، إلا أنهم على ما يبدو يقللون من شأن استغلالها من قبل أمريكا والغرب وإسرائيل بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر فى الزراية بالعرب وبالإسلام والمسلمين وتوسيع شقة الخلاف بين الشمال والجنوب! النظام الحاكم فى الخرطوم رغـــم كل ســوءاته وكم وألــوان المصـائب التى يعانى السودان من ويلاتها، ليس المسئول الأول عما يثار حـــول قضيـــة الـــــرق، فهــــو قـــــد ورث تلك المتناقضات عن الأوضاع السابقة إن وصم هذه العمليات بالــرق لا يستند إلى الحقيقة والواقع، لأن الهــدف من الاختطــــــــــــــاف ليس الاســــــترقاق فى الغــــــالب ولا البيــــــــــع والشـــــــراء، وإنما انتظــــارًا للربــــــــح عبر الفدية التى يتكفــــل بهــا القــــادرون من الشـــــماليين أو الأجـانب
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة