شـــارون ..صــــورة الســيـاسي



ذهب عرفات.. أو لم يذهب. وعاد بوش.. أو جاء غيره. فالثابت أن شارون (شخصًا أو سياسة) باق في خلفية المشهد الشرق أوسطي. في دراسة إسرائيلية نشرت حديثًا عرفنا أن الميجور جنرال أرييل شارون فكر جديًا في «حبس» أعضاء الحكومة الإسرائيلية في غرفة ليتمكن من شن الحرب علي مصر عام 1967 دون الحاجة لموافقتهم!! هذا هو شارون؛ الباقي بعد عرفات. وهنا فصل من كتاب يصدر قريبًا للأكاديمي الفلسطيني البارز (عضو الكنيست الإسرائيلي) عزمي بشارة.
لا يعكس التقلب في صورة السياسي من تضخيمٍ إلي تحطيمٍ، خاصية الإعلام الإسرائيلي، الذي يبني تمثالا لفلان ثم يحطمه قبل أن يجف طينه فحسب، وإنما يعكس أيضا نزعات متصارعة فعلا في المزاج السياسي الإسرائيلي بين تمجيد ماضي رجل السياسة العسكري بدون قيد أو شرط، وبين المطالبة بمؤهلات مدنية تتجاوز ذلك من أجل إدارة المجتمع والدولة، بين الحنين إلي فردوس الاستيطان الزراعي العسكرتاري المفقود والذي يذكر به الجنرالات ذوو الصوت الأجش والأيدي الخشنة، وبين متطلبات الحياة المدنية المركبة. وهكذا لم يمنع ذم عقلية الآمر العسكري لدي باراك من انتخاب جنرال آخر مغامر متقاعد لرئاسة الحكومة الإسرائيلية. وتختلط في صورة شارون الشعبية المتخيلة صفات مطلوبة في مرحلة الصدام مع العرب، مثل: الحزم في التعامل مع العرب بالقوة إذا لزم، والماضي العسكري المغامر المختلط في الخيال الشعبي بصورة بطل هوليوودي أو«شيرف» يحارب الأشرار بطريقته دون أن يلتزم بالتعليمات والقوانين الشكلية إذا تطلب الأمر ذلك، والاستخفاف بالبيروقراطية الحكومية وتنفيذ المهام المطلوبة مباشرة كالـ «بولدوزر». هكذا عندما كان شارون وزيرا للزراعة، ثم للإسكان، وأيضا عندما كان وزيرا للبني التحتية. ناهيك عن الاستيطان والأمن. والحقيقة أن عقلية الرجل استيطانية خالصة، والـ «بولدوزر» من رموز الاستيطان التي تشق الطرق وتزيل العوائق (مثل العرب) دون أخذ أي أمر بعين الاعتبار سوي خدمة الهدف، ألا وهو الانتشار اليهودي الاستيطاني في البلاد، وإقامة بُنَاه التحتية الاقتصادية. ولذلك، فإن توجهات شارون دولانية رسمية، بحتة وأصوله الثقافية السياسية في الصهيونية العمالية، حيث الدولة هي أداة الاستيطان وإرساء البني التحتية، وهي أداة الحرب دون منازع. مقابل هذه الصورة الشعبية تبرز أيضا الصورة التي يرسمها اليسار الصهيوني الذي هيمن فترة طويلة علي ثقافة البلاد، ثم انحسرت هيمنته في ثقافة النخبة التي يسقط بموجبها قسم كبير مما يخجل فيه من ماضيه علي الآخر، أي علي اليمين الصهيوني. هكذا تتجمع صور كل المذابح التي نفذتها الـ «هغناه» ليختزل الغضب عليها في مذبحة دير ياسين التي قام بها اليمين (الايتسل). ولذلك أيضا، تتكثف كل نزعات العسكرتارية المغامرة بدءا بتمجيده للجندي العبري (الإنسان اليهودي الجديد بلغة بن جوريون) وانتهاء بالتسلل إلي خلف خطوط «العدو» لذبح المدنيين انتقاما وتتجسد في عسكريين مثل شارون ورفائيل إيتان، والحقيقة أن هذه النزعة لم تقتصر علي اليمين في يوم من الأيام. وما كانوا إلا جنودا نفذوا أوامر زعماء مثل بن جوريون. لقد تبين أن قتل المدنيين في مذبحة قبية مثلا انسجم مع أمرٍ بن جوريوني مباشر. شارون الذي يؤمن «بالتنازلات المؤلمة»، كما تسمي في القاموس الإسرائيلي، وفي قاموسه هو بشكل خاص، إعادة أجزاء صغيرة من الأرض لأصحابها بعد سلبها منهم بقوة السلاح، في سياق تحقيق السلام مع العرب، يعرف جيدا أن تنازلاته هذه لا تعتبر تنازلا، كما لا تعتبر كافية حتي بنظر العرب أصحاب الخيار الإسرائيلي الذين خفتت أصواتهم إبان الانتفاضة. ولذلك، فإن شارون اقترح المرحلة الانتقالية طويلة المدي في محاولة لإحلال «البراغماتية أو التوجه الواقعي» محل برنامج السلام كبرنامج سياسي. وعندما لم يلق اقتراحه تجاوبا فلسطينيا طرح شارون فكرة فك الارتباط من طرف واحد. وقد أثارت تصريحات شارون في جلسة كتلة الـ «ليكود» في الكنيست يوم الاثنين 26 أيار 2003، ضجة كبري في الأوساط السياسية العربية والإسرائيلية. وكان رئيس الحكومة الإسرائيلي قد صرح في معرض رده علي نواب الـ«ليكود» الذين هاجموا قرار حكومته بتبني «خارطة الطريق» ما يلي: «من المفترض برأيي أن نتوصل إلي تسوية. سأقوم بكل جهد من أجل التوصل إلي تسوية سياسية، لأنني أعتقد أن التوصل إلي تسوية سياسية مهم لإسرائيل. أنا أعتقد أيضا أن الآراء والأفكار الذاهبة إلي أنه من الممكن أن نواصل الإمساك بثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني تحت الاحتلال- تحت الاحتلال نعم، من الممكن ألا نحب الكلمة، ولكن هذا ما يحدث: تحت الاحتلال. وهذا برأيي أمر سيئ لإسرائيل أيضا وللفلسطينيين ولاقتصاد إسرائيل، هذا لا يمكن أن يستمر بلا نهاية. تريدون أن تبقوا بشكل دائم في جنين، في نابلس، في بيت لحم، دائما؟ لا أعتقد أن هذا صحيح». وقد أثارت كلمة «الاحتلال» جلبة خاصة، كما ألهبت لفترة قصيرة «قبول» الحكومة الإسرائيلية خارطة الطريق في اليوم الذي سبقه ـ أي الأحد 25 أيار2003 ـ خيال المعسكر العربي المتحمس للتحركات الأمريكية بعد العراق. في اليوم التالي اتصل المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية اليكيم روبنشطاين برئيس حكومته وطلب منه عدم استخدام مصطلح «المناطق المحتلة» بل «المناطق المتنازع عليها»، وأن مفهوم المناطق المحتلة يفيد العرب في المفاوضات. والحقيقة أن شارون لم يكن بحاجة إلي هذا التحذير، فهو لم يستخدم مصطلح المناطق المحتلة، بل تعامل مع عبارة «3.5 مليون فلسطيني تحت الاحتلال». وقد أوضح ذلك أيضا في جلسة لجنة الخارجية والأمن في الكنيست في اليوم التالي. وتنسجم هذه العبارة مع تصور شارون للحل السياسي وللتسوية. وقد طرح شارون تصوره للتسوية طيلة خمسة عشر عاما. ويقوم التصور بأكمله علي عدم إمكانية السيطرة إلي الأبد علي السكان الفلسطينيين والحفاظ علي حكم إسرائيلي عليهم لفترة طويلة، علي الرغم من قناعته بضرورة استخدام القوة طالما كانت السيطرة ضرورية. من هنا جاء تصور يجئال ألون «لحل وسط إقليمي» «يعيد» المناطق المكتظة بالسكان إلي الأردن، ومن هنا أيضا جاء اقتراح الحكم الذاتي لدي بيجن، واقتراح ضرورة إقامة كيان سياسي فلسطيني علي المناطق التي ترغب حكومة ألون بإعادتها إلي الأردن، وضم البقية إلي إسرائيل، وهو تصور شارون الذي تحدي به حزب العمل منذ منتصف الثمانينيات كما سوف نري. هل يعني هذا أن كلام شارون هذا لم يأت بجديد؟ نعم، لا جديد إلا لمن اختار ألا يري سوي شارون الجنرال وأصر علي تجاهل شارون السياسي منذ عقود. يؤكد شارون الجنرال ورجل الأمن علي استخدام القوة العسكرية لتحصيل نتائج سياسية. وصحيح أن شارون ليس فيلسوفا لنحلل أقواله ونفسرها كأنها تحليلات وأحكام نظرية، ولكنه، أيضا، سياسي يمثـل نمـوذجا مهما في سياسات القوة والردع الإسرائيليـة، وتتقـاطـع فيـه تيـارات إسرائيليـة عـديدة: نزعـات قومجيـة يهـوديـة، عسكرتاريـة الاستيـطان الزراعـي، وعلمانيــة. لقد ساهـم شارون مساهمـة أساسيـة في إقنـاع بيجن علي تطـوير «جاحال» إلي «ليكـود». ويعتبره الكثيرون مـؤسس الـ «ليكود». وكان تأسيسه الخطوة الأولي لليمين في رواق الحكم فعلا. وانتمي شارون بعد إتمام خدمته العسكرية مباشرة إلي «حيروت» بعد مغامرة قصيرة في قائمة انتخابية مستقلة لا تستحق أن تسمي حزبا، وبعد مغامرة قصيرة مع اليسار الصهيوني دامت أشهرا معدودة. وفي تلك المرحلة، وصل به الأمر أن حاول التواطؤ مع الأحزاب الصغيرة في الـ «ليكود» لكي ترشحه لرئاسة الحكومة بدل بيجن، ما أدي إلي أن يكتشف بيجن طبيعته التآمرية، ولكن بعد أن شارك بيجن نفسه في نفخ أسطورته العسكرية ضد العمل في الحكومة إبان حرب 73 وبعدها. وكان المس ببيجن أول أهداف تآمره السياسي. وقد وصل به الأمر في مرحلة تأسيس حزبه خارج الليكود أن أعرب عن استعداده لقاء ياسر عرفات، وخوَّل الكاتب اليساري الصهيوني عاموس كينان أن يرتب له الاجتماع. وقد كان عاموس كينان مبعوثه لصياغة برنامج سياسي مشترك مع «اللبراليم عتسمائييم» (الليبراليين المستقلين) بقيادة موشي كول. ولم يتم الاجتماع لأن عرفات عرض لقاءً مع مبعوثه عصام الصرطاوي. ولكن شارون أصر علي عرفات في حينه. ولم يتم الاجتماع طبعا. وتصالح شارون مع بيجن فيما بعد، وأصبح مضطرا للقبول بمنصب وزير زراعة في حكومته الأولي. شارون يميني حزبيا، ولكن جذوره الثقافية والنفسية أقرب إلي مباي بن جوريون وجولدا مائير، مباي المتصلبة في مواقفها قبل مرحلة السعي إلي التسوية. وكان دائما يحمل تصورا سياسيا أقرب إلي تصورات صقور حزب العمل في مرحلة تشدده حول طبيعة «الحل الوسط الإقليمي»territorial compromise منها إلي تصورات حركة أرض إسرائيل الكاملة العلمانية التي دعت إلي ضم المناطق المحتلة بعد العام 67، ومن معطفها خرجت الحركات اليمينية المتطرفة العديدة. كما أنه أقرب إلي هذه الحركات اليمينية العلمانية منه إلي أيديولوجية المستوطنين الخلاصية. وحتي عندما روج شارون لفكرة الدولة الفلسطينية في الأردن، فإنه لم يرغب بضم السكان الفلسطينيين في المناطق المحتلة إلي إسرائيل مثل ليكودي متوسط في تلك الفترة، ولم يعتقد أنه بالإمكان مواصلة الحكم الإسرائيلي عليهم إلي الأبد، بل أراد حكما فلسطينيا ذاتيا أو مواطنة أردنية للمواطنين الفلسطينيين في الضفة والقطاع، بحيث تعبّر الأردن عن طموحاتهم الوطنية في دولة. ولكن ما يميز شارون هو شخصية جنرال في داخل السياسي يؤمن بشكل حاسم بدور وتأثير سياسات القوة، وبأنه إلي أن يقبل العرب بحل سياسي مقبول علي إسرائيل، يجب ألا تتردد إسرائيل بالاعتماد علي القوة والقمع دون هوادة. ومن أجل أخذ فكرة عن طبيعة الحل الذي يقبل به شارون، ولفضح سطحية الحماس المؤقت الذي أثارته تصريحاته المتعلقة بالاحتلال، نورد اقتباسا آخر من الجلسة نفسها التي أبلغ فيها كتلته عن موافقته علي «خارطة الطريق». قال شارون في رده علي عضو الكنيست من كتلته يحيئيل حازان إن قبول خارطة الطريق (وبلغته هو خطة الطرق) لا يمنع البناء في المستوطنات: «بالإمكان البناء دون تحديد لأبنائك وأحفادك، وآمل أن يصح ذلك لأبناء أحفادك أيضا». وبعد مرور أقل من شهر علي هذا التصريح قال شارون في جلسة الحكومة موجها كلامه للوزراء: «ابنوا ولا تتكلموا... لا يتوجب أن نخرج راقصين كلما أعطي إذنا للبناء في المستوطنات». كما أضاف في الجلسة نفسها أنه يوجد بين إسرائيل والولايات المتحدة أساس عميق من الثقة والمصداقية. وقد اتضح هنا، لمن أراد أن يعرف، مدي مصداقية شارون عند حديثه عن «احتلال» وعند موافقته علي خارطة الطريق التي تتضمن تجميد الاستيطان. وحتي موافقة شارون علي مفهوم الدولة الفلسطينية واستخدام هذا المفهوم لم تكن جديدة كما بدت للمعلقين المتفاجئين مما قاله. وهي لم تعبر عن موقف أخلاقي لإحقاق العدالة النسبية أو الإنصاف. لقد استنتج شارون أنه لا توجد إمكانية لطرد الفلسطينيين في عملية تهجير، أو بلغة مؤيديه «ترانسفير»، شاملة .. ولا يمكن ضم الفلسطينيين إلي إسرائيل. والنتيجة هي حل وسط إقليمي مع الفلسطينيين أنفسهم بدلا من الأردن. وما المشكلة أن يصل شارون إلي مثل هذه النتيجة رغما عنه دون موقف أخلاقي؟ فالمهم هو النتيجة وليس الدافع، لأن النتيجة كيان سياسي فلسطيني يشمل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين علي أصغر رقعة من الأرض. وعلي هذا دار الصراع داخل الخارطة السياسية الإسرائيلية. ما هي طبيعة الدولة الفلسطينية؟ ما هي حدودها؟ ما هي صلاحياتها؟ هل تشمل مستوطنات إسرائيلية؟ كم من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة سوف يضم إلي إسرائيل بموجب هذا القرار؟ لقد أصبح الفصل الديموغرافي عن الفلسطينيين في كيان سياسي لهم مسألة إجماع إسرائيلي في المرحلة التي يعالجها هذا الباب، وهذا الكتاب بشكل عام. والنقاش الذي تبقي بين التيارات السياسية الرئيسية هو كم من الفلسطينيين علي كم من الأرض؟ أو للدقة: كيف يزداد عدد الفلسطينيين المنفصلين عن إسرائيل في دولة وتصغر رقعــة الأرض التي تقوم عليها هذه الدولة؟ لم توفر «خارطة الطريق» الأمريكية إجابات محددة عن هذه الأسئلة. ويبدو أن هنالك حاجة لتذكير القارئ بنص قرار الحكومة الإسرائيلية حول خارطة الطريق من يوم 25 أيار 2003: «تعلن حكومة إسرائيل أنها توافق علي إعلان رئيس الحكومة بتبني الخطوات التي تتضمنها خارطة الطريق (بالعبرية وردت كخارطة الطرق) وتؤكد أن تطبيق الخطة سوف يتم بموجب أربعة عشر تحفظا قدمتها إسرائيل للولايات المتحدة». وقد أضاف شارون بضغط من الوزراء البند التالي إلي القرار: «تشكل الدولة الفلسطينية الحل الوحيد لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين واستيعابهم». ولكن رسالة الضمانات من بوش إلي شارون يوم 14 نيسان 2004، والتي شُبِّهت عربيا بوعد بلفور، أزالت الالتباس حول هدف خارطة الطريق وذلك بتبني التحفظات الإسرائيلية عمليا، وبتبني الموقف الإسرائيلي مما سمي بلغة اتفاقيات أوسلو قضايا الحل الدائم. حسنا. ولكن هل كان بالإمكان معرفة هذه الأمور قبل ذلك؟ نعم ولنبدأ بالقراءة. قراءة ما هو مكتوب كما هو. ما هو نص إعلان شارون من يوم 23 أيار 2003 الذي تبنته الحكومة الإسرائيلية بعد ذلك بيومين؟ نورد هنا النص الحرفي كما هو قائم في موقع مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية: «علي ضوء إعلان الولايات المتحدة اليوم بالنسبة لملاحظات إسرائيل حول «خارطة الطريق» بأن الولايات المتحدة تشارك الرأي أن الملاحظات الإسرائيلية هي تعبير عن مخاوف حقيقية، وعلي ضوء تعهد الولايات المتحدة أن تعالج هذه الملاحظات بشكل كامل وجدي عند تطبيق خطة الطرق التي تهدف إلي تطبيق رؤية الرئيس بوش من يوم 24 حزيران 2002، يعلن رئيس الحكومة أريئيل شارون أن دولة إسرائيل توافق علي الخطوات المحددة في «خارطة الطريق»، وسوف يطرح الموضوع لموافقة الحكومة». لا يمكن تسمية هذا القرار وهذا الإعلان موافقة غير مشروطة علي «خارطة الطريق». ويتضح من تصريحات شارون في محاولته لإقناع وزرائه في تلك الجلسة حول «الضرورة الاقتصادية لقبولها» أن شارون رأي أهمية لإعلان الخارطة وقبولها كخطوة قائمة بذاتها كفيلة بتغيير الأجواء الدولية حول إسرائيل. لاحظ مثلا أنه بعد كل إعلان شاروني من هذا النوع يحصل تحرك عربي باتجاه إزالة الحرج من استقبال وزراء إسرائيليين ودعوتهم إلي مؤتمرات، رغم استمرار القمع الإسرائيلي، بل تصعيده منذ تصريحات شارون هذه. ولاحظ أيضا أن الحكومة الإسرائيلية لا تضيع الوقت وتبعث بدبلوماسيين بحثا عن دول عربية تستقبلهم كما بعد موافقة الحكومة القسرية علي اقتراحات شارون فك الارتباط من طرف واحد في غزة، والحقيقة أن الملاحظات الإسرائيلية علي «خارطة الطريق» لا تمر دون أن تأخذها الولايات المتحدة بعين الاعتبار، وذلك ليس فقط لأنها قد تتفق معها، وربما اتفقت معها حول هذه الملاحظات قبل أخذ موافقة إسرائيل علي خارطة الطريق، وإنما لأن خارطة الطريق الأمريكية لم تشمل إطلاقا أي تصور محدد لشكل الحل الدائم، واكتفت بتعيين القضايا المطلوبة منها. تماما مثلما أن خطة فك الارتباط من طرف واحد في غزة التي طرحها شارون لم تكن فعلا من طرف واحد بل تلقت ضمانات أمريكية، تلاها تعاون عربي. تلخص الجديد في «خارطة الطريق» أولا بأنها طالبت بتطبيق الالتزامات الإسرائيلية والفلسطينية بالتوازي وليس بالتوالي. ولكن إسرائيل في الواقع أنكرت ذلك وأصرت علي تنفيذ الالتزامات الأمنية الفلسطينية. وكان الجديد ثانيا هو شرط تجميد الاستيطان، وهو مطلب تكتيكي فلسطيني يهدف إلي تحسين الأجواء التفاوضية في الطريق نحو الهدف الاستراتيجي، وهو إزالة المستوطنات. ولم تتنازل إسرائيل عن موقفها من مواصلة الاستيطان لتغطية حاجات التكاثر الطبيعي. وحتي لو فككت إسرائيل بعض النقاط الاستيطانية، فقد كانت تلك نقاطا استيطانية غير قانونية بموجب القانون الإسرائيلي ذاته، وليس غير قانونية بموجب القانون الدولي. وقد حاولت حكومة شارون بذلك تأكيد الفرق بين مستوطنات قانونية وأخري غير قانونية، لتمرير مفهوم وجود مستوطنات قانونية. والفرق بين مستوطنة قانونية وأخري غير قانونية بسيط وإجرائي للغاية، فالأولي نشأت بترخيص وإذن من الحكومة، أما الثانية فلا. والجديد ثالثا هو ورود الدولة الفلسطينية في الخارطة خارج إطار الحل الدائم. وكررت مصادر إسرائيلية رسمية يوميا التأكيد أن الدولة الفلسطينية هي الحل لكافة القضايا. وفي الحقيقة لقد قَبِلَ شارون دولة فلسطينية كمرحلة انتقالية باتفاق لفترة طويلة بما فيه الكفاية: عشرة إلي خمسة عشر عاما. أرادت الولايات المتحدة موقفا وإعلانا من شارون بقبول «خارطة الطريق» بشكل عام ومبدئي، لأن الولايات المتحدة احتاجت سياسيا إلي هذه الموافقة في المنطقة العربية وفي أوروبا. فالاستثناء الإسرائيلي هو الحدبة التي تحملها الدبلوماسية الأمريكية علي ظهرها في أوروبا والعالم العربي. وحقق شارون لأمريكا مرادها. لقد أبدي شارون استعدادا للتوصل إلي تسوية سياسية. وطبيعي أنه احتفظ برأيه حول طبيعة هذه التسوية، وأنه عمل طيلة الفترة لإقناع الولايات المتحدة بقبول موقفه علي قاعدة خطابية مشتركة، هي قاعدة «خارطة الطريق». قال صموئيل لويس بعد سماعه تصريحات شارون حول الاحتلال إنه لا يصدق أن شارون قد تغير: «لقد تغير شارون بعد حرب لبنان في ناحية واحدة. لقد تعلم أن يضبط نفسه، وأن يلجم لذة تعذيب موفدي الولايات المتحدة إلي الشرق الأوسط .. تعلم شارون اللعبة الدبلوماسية، وعلَّم ذاته أن يلعب الكرة مع الرئيس الأمريكي. علاقة شارون بالرئيس بوش، هي علاقة المتدرب بوش بالمدرِّب شارون. الاعتقاد أن الولايات المتحدة ستضغط علي إسرائيل إلي أن تخضع الأخيرة هو ضرب من الخيال بسبب بنية الإدارة الأمريكية الأيديولوجية والسياسية، وبسبب شخصية شارون». وصموئيـل لويس هو السـفير الأمريكي الأكثر أهمية في تاريخ العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وهو الذي مكث أيضا في تل أبيب أطول مدة لسفير أمريكي إلي درجة التدخل في السيـاسة الإسرائيليـة الداخلية. وكانت عـلاقتـه بشــارون متـوترة منـذ اتهمه الأخـير بالإسـاءة له إبـان حـرب لبنان 1982. لقد تبلورت مواقف شارون من القضية الفلسطينية تاريخيا في السبعينيات. فقد جري لأريئيل شارون ما جري لغيره من ساسة المؤسسة الإسرائيلية بعد حرب 1973. لقد «اكتشفوا» أن هنالك قضية فلسطينية. تم ذلك ليس في العام 67، بل في العام 73، علي الرغم من أن الاحتلال المباشر لبقية الشعب الفلسطيني التي لم تُشَرَّد كان في العام 67. ولكن هنالك فرقا بين اكتـشاف الشعب واكتـشاف القضية. لقد فرض إنجـاز عسكري عربي واحـد عام 73، ولو دون انتصـار عسكري شامل، القضية الفلسطينية علي من أنكرها سابقا. ومع أنه ما زال يعتقد أن الجيش الإسرائيلي سوف يبقي مرابطا في كل المساحة الواقعة بين النهر والبحر، وهذا ما قـاله العام 1974: «ويجب ألا ننفعـل من تصريح كل زعيم عربي يعترف أو لا يعترف بوجودنا، نحن موجودون. ولكن الفلسطينيين موجودون أيضا .. يجب إزالة كافة المنظمات الفلسطينية، إبادتها، ولكن الفلسطينيين موجودون أيضا، وبرؤية بعيدة علينا أن نجد قنوات حوار معهم، إذا أرادوا الجلوس معنا والحديث عن السلام». عُين شارون وزيرا للزراعة في حكومة بيجن الأولي العام 1977 بعد فشل مغامرته في خوض الانتخابات في قائمة منفردة لم تحظ إلا بمقعدين في البرلمان. وكان لا بد لشارون أن يستخدم وزارة الزراعة لغرض تقدمه السياسي الشخصي، كما استخدم الجيش قبل ذلك. وكان هدفه أن يعين رئيسا للأركان، وبعد أن تقاعد من العسكرية دون تحقيق هذا المنال أصبحت وزارة الدفاع هدفه. جعل منه الجيش بطلا قوميا يناكف القيادات السياسية المترددة، ويتهكم عليها في الصحف باعتبارها تعيش في أبراج بيروقراطية ولا تفهم الجيش، أو اعتبرها ضعيفة غير قادرة علي صنع القرار باستثمار القوة العسكرية في السياسة كما يجب، أو مقيدة بما تمليه الولايات المتحدة. وفي مقابل ذلك، قام هو بتقديم نفسه كرجل الجرأة والعمل المباشر المغبر بجبال البــلاد وسهـولها، المضرج بجـراح إفهـام العرب بطريقة القـوة ألاّ أمل لهم بالانتصار. كانت هذه ــ وما زالت ــ برأيه مقدمة لأي سلام في المنطقة. إنه بنظر ذاته والصورة التي أراد أن ترسم عنه رجل الميدان والعمل والفعل والإقدام والمبادرة. ولم يعرف الجيش الإسرائيلي في تاريخه رجلا جسد أسطورة المقاتل الإسرائيلي، ابن العمل الزراعي والعسكري، المولود في البلاد إلي «تسابار»، واستثمرها بوعي في الإعلام من أجل ترويج آرائه وتحقيق طموحاته السياسية الشخصية وضد من يقف في طريقه ولو كان قائده العسكري نفسه، كما فعل ذلك أريئيل شارون. لقد شتم شارون رؤساءه أمام مرؤوسيهم، والضباط الأعلي منه رتبة أمام جنودهم، والقيادة السياسية أمام العسكر، واستخدم الكذب إذا لزم لتغطية مبادراته أو لتبريرها أمام صناع القرار ولكسب تأييدهم لها. وكان هنالك من القادة العسكريين والسياسيين في كل حالة من ادعي بأثر رجعي أمام الإعلام وأمام المؤرخين في أفضل الحالات، أو أمام لجان التحقيق في أسوئها، أنه خُدِع وأنه لم يفهم أن شارون سينفذ ما نفذ عندما وافقه الرأي. هذا ما ادعاه بيجن ذاته بالنسبة لأهداف شارون من حرب لبنان وخططه المتعلقة بتوسيع المعركة. علي كل حال اتضحت جهنمية خطط شارون بعد الحرب. وكان عام 1985 كما يبدو عام الاكتشافات الكبري عن خطط شارون من حرب لبنان. فقد كُشفت جلسات محادثاته مع المسؤولين الأمريكيين من العام 1981، ومنها أن الخطة تذهب إلي جلب بشير الجميل إلي الحكم «وطرد سوريا» من لبنان و«ترك اللبنانيين يعالجون شأن الفلسطينيين». كما تبين أن شارون كان علي علم بتحرك من بيجن نحو سوريا بخصوص لبنان، وأن شارون استفز مواجهات مع الجيش السوري لإحباط مثل هذا التحرك الذي يقطع الطريق علي خططه في لبنان، وقد بدا الاهتمام البحثي ببنية شارون النفسية ومنشئه وطفولته في هذه المرحلة بعد حرب لبنان. وانتشرت صفحات كاملة تبحث في شخصيته بشكل لم يخلُ من ديماجوجية اليسار الصهيوني وانتقائيته. ولكن لا شك أن نمط التضليل والخداع الذي ميز سيرته السياسية والعسكرية رافقه منذ بداية حياته السياسية. لقد عين وزيرا للزراعة في أول حكومة لليمين خلافا لرغبته بتولي حقيبة الدفاع. ولكن ماذا يفعل في وزارة الزراعة؟ كيف يحول هذه الوزارة إلي أداة تقدم؟ كانت كلمة السحر الاستيطان. ومنذ تلك الفترة وحتي اليوم بالإمكان اعتبار شارون أبا الاستيطان وصاحب المبادرات الأساسية فيه. وفي أيلول 1977، بعد أربعين يوما من تعيينه رئيسا للجنة الوزارية لشؤون الاستيطان، أعلن شارون عن خطة للاستيطان تتلخص بإقامة خط استيطاني داخل الضفة الغربية موازٍ للمدن الإسرائيلية علي الساحل، ويتضمن مدنا وتفرعات قروية عنها ومدنا (أقمارا) محيطة بالقدس. وقد يستغرب المرء من شدة الشبه بين برنامج شارون وخطته للاستيطان في تلك الفترة وبين واقع الاستيطان اليوم. وطيلة فترة وجوده وزيرا للزراعة، استمر شارون في اعتبار مهمته هي المهمة الأساسية في الدولة. واتهم الوزراء علنا بإهمال الاستيطان، معتبرا نفسه حامي حمي الاستيطان اليهودي. وعندما اجتمعت حكومة إسرائيل يوم 20 تشرين الثاني 1977 لسماع تقرير من رئيسها مناحيم بيجن، استمع شارون لأول مرة إلي مضمون اجتماعه السياسي الأول مع السادات في القدس. لم يتم التشاور معه قبل الزيارة كما في حالة ديان. ولم يعرف كيف رُتبت زيارة السادات. كما سمع يوم 13 كانون الأول 1977 في اللجنة الوزارية لشؤون الأمن لأول مرة عن برنامج السلام الإسرائيلي الذي قدم لمصر، بما في ذلك موضوع الإدارة الذاتية (الأوتونوميا) لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد تنازل شارون في نهاية الجلسة عن موقفه المعارض في بدايتها للتنازل عن سيناء بكاملها مقابل سلام كامل. وفقط رئيس الأركان مردخاي جـور ( نائب ووزير عن حزب العمل لاحقا) بقي معارضا للانسحاب الكامل، كما اقتنع شارون بموقف بيجن فيما يتعلق بالحكم الذاتي للفلسطينيين والضمانات التي قدمها للوزراء لكي لا يتحول إلي دولة فلسطينية. وفي يوم 3 كانون الثاني 1978، نجح شارون بإقناع الحكومة أن توافق علي خطة استيطانية تضمنت 3 مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، كما تضمنت تعزيز المستوطنات القائمة شمالي سيناء قرب رفح بواسطة توسيع مساحة الأرض الزراعية وحفر آبار مياه. والمرحلة مرحلة مفاوضات متقدمة مع مصر. كان الانطباع الذي تركه شارون عند مستمعيه الوزراء أنه يريد إضافة أراض للزراعة لغرض امتحان رد فعل مصر السياسي ومدي قبولها لبقاء المستوطنات القائمة. وقد تحمس بيجن للاختبار. ولكن شارون أمر في الواقع بتخطيط 23 نقطة استيطانية جديدة (التعبير «مأحاز» الذي يترجم كـ «نقاط استيطانية» في مرحلة «خارطة الطريق» بالعربية، استخدم أيضا في تلك الفترة outpost بالإنكليزية، ولكن في حينها لم يعر العرب بحق هذه التمييزات اهتمامهم). وبعد قرار الحكومة بثلاثة أيام، في يوم 6 كانون الثاني، استيقظ العالم علي أنباء استيطان إسرائيلي واسع في شمال سيناء. وثارت أزمة سياسية في المفاوضات مع مصر، وقد أنكرت حكومة إسرائيل هذه الأنباء، ووفرت حكومة اليمين بذلك فرصة أخري لشارون لاتهامها بالتلون السياسي والضعف والتخلي عنه وعن الاستيطان. وقد استمر شارون باختلاق الأزمات الاستيطانية إلي أن غادر عيزر فايتسمان، وزير الأمن المتحمس للسلام مع مصر، الحكومة في نهاية العام 1980، مفسحا المجال لشارون ليصبح وزيرا للأمن في حكومة بيجن الثانية بعد انتخابات العام 81. وعندما طُلِب من شارون أن يتدخل في مفاوضات كامب ديفيد مع مصر بالاتصال مع بيجن لإقناعه بالتنازل عن المستوطنات في سيناء، بما فيها يميت، إذ كانت هذه هي العقبة الوحيدة، وكل ما عداها متفق عليه- فعل ذلك. فمشاركته والتشاور معه شخصيا في المفاوضات يجعل مواقفه أكثر مرونة. شارون رافض بالكامل عندما لا يكون مشاركا. ومرن عندما يشارك في عملية صنع القرار. وينطبق ذلك حتي علي المراحل الأولي من حياته السياسية. فقد عارض اتفاقيات فصل القوات بين مصر وإسرائيل، وقد اشتهر عن شارون في حينه أنه يعتبر هنري كيسنجر أخطر وزير خارجية لإسرائيل. إلي أن عينه رابين مستشارا له فبدا بعدها رسميا في سلوكه السياسي ومتفقا مع الاتفاقيات الانتقالية مع مصر والتي عرفت باتفاقيات فصل القوات. هكذا أيضا تصرف شارون في مفاوضات «واي»، وكانت أداة الضغط في «واي» أيضا هي الاستيطان. فبينما كان نتنياهو يفاوض عرفات في «واي» في تشرين الأول العام 1998، وجه شارون ــ وزير خارجية نتنياهو في حينه ــ نداء إلي المستوطنين لاحتلال التلال وبناء النقاط الاستيطانية. ولكن عندما طُلِب منه الحضور إلي هناك فإنه حضر وبارك الاتفاقيات عمليا، بما في ذلك الانسحاب وإعادة الانتشار، من بعض أحياء الخليل. ولكن في فترة رئاسته للحكومة لم يشارك شارون في المفاوضات فحسب، بل هو الذي أدارها، وكان هو صاحب القرار. وبموجب نموذج السلوك أعلاه كان من المفترض أن يصبح أكثر مرونة. ومع ذلك نجده يقول إن إزالة مستوطنة يميت في شمال سيناء كان خطأ ويكرر ذلك بعد أن أصبح رئيسا منتخبا لحكومة إسرائيل: «لا أري سببا لتفكيك المستوطنات طالما لا يوجد سلام، فإننا علي أي حال موجودون هناك. وإذا حل السلام مع مرور الزمن فمن الطبيعي أنه لا مانع أن تبقي المستوطنات.. ألن تتكرر حالة يميت؟ لا، بالتأكيد لا». ثم يعود شارون ويؤكد علي ضرورة إزالة المستوطنات من قطاع غزة ومنطقة جنين في إطار خطته لفك الارتباط من طرف واحد. وللتدليل علي التغيرات التي مر بها المجتمع الإسرائيلي منذ تلك الفترة نجد أن شارون العسكري اليميني يساير متطلبات اللياقة السياسية بعد توليه منصب رئيس الحكومة كما يتطلب المجتمع الإسرائيلي في القرن الواحد والعشرين. فبعد فوزه في الانتخابات علي باراك كان أول اجتماع عقده كرئيس حكومة هو مع ممثلات للوبي النساء في إسرائيل، وكانت أول زيارة له كرئيس حكومة إلي ملجأ للنساء اللواتي تعرضن للضرب من أزواجهن في تل أبيب يوم 15 شباط 2001، وقد أكد في هذه الزيارة أنه في حكومته سوف يتبوأ عدد أكبر من النساء مناصب وزارية. وتشكل هذه الخطوة الشارونية دليلا علي اضطرار رئيس الحكومة الإسرائيلية إلي أن يساير التغيرات في المجتمع الإسرائيلي، ولكنها أيضا دليل علي كون هذه التغيرات ممكنة في إطار القبيلة، بحيث يستطيع رئيس حكومة يميني بالمقاييس كافة أن يحتويها دون أن يغير سياسته بالضرورة، ودون أن يدفع ثمنا مرتفعا لذلك. كانت نبرة شارون هذه محاولة لتحييد القوي الليبرالية الإسرائيلية التي خاب أملها من الفلسطينيين في كامب ديفيد، والمستعدة للتسامح مع سياسات القوة التي يبشر بها تجاه الشعب الفلسطيني في مقابل ظهوره بمظهر لائق سياسيا في قضايا داخلية تهم القوي الليبرالية الإسرائيلية. وخلافا لنتنياهو، لم يضع شارون نفسه في مواجهة النخب القديمة في قضايا السياسة الداخلية، ولم يدخل في مواجهة أيديولوجية مع الجهاز القضائي تاركا القضاء يأخذ مجراه في قضايا تمسه وتمس أبناءه دون تعليق منه. ولذلك، فضلته القوي المؤيدة لحزب العمل وحتي لحزب «ميرتس» علي نتنياهو وصوتت ضد حل الكنيست، وكان ذلك شرط نتنياهو للترشح عن الحزب. إنه أهون الشَّرَّين بالنسبة لها في قضايا السياسة الداخلية، ويبقي أنه أحد الوجوه المألوفة، وبإمكانه أن يفتخر وأن يفتخر معه شمعون بيرس بالصداقة الشخصية التي تجمعهما. لقد عين شارون وزيرا عربيا (درزيا خدم في الجيش) في حكومته الأولي كدليل علي أن المهم بالنسبة له هو الولاء السياسي، وأنه ليس لديه موقف عنصري من عرب خدموا في الجيش وموالين سياسيا لإسرائيل لمجرد أنهم عرب. لقد أصبح شارون أكثر مرونة وأكثر ثقة بالنفس، ولم يعد بحاجة إلي إطلاق التصريحات الديماغوغية بغرض التقدم جماهيريا ضد خصومه أو ضد العوائق التي تحول دونه ودون المنصب. إنه يحول المسائل المبدئية ببراعة إلي شكليات. ولكن يتضح أيضا أن هنالك حدودا لمرونة شارون يفرضها وجوده ومشاركته في عملية صنع القرار، كما ترتسم حدود لتأثير رغبته بالمناكفة والتشهير بغيره لغرض شق طريقه إلي المناصب التي أرادها في حالة استبعاده. تأثير الوصولية والانتهازية كان إذن قائما في فترة وجوده في المعارضة، ولكنه لا يفسر كل شيء. وقد أكد شارون بعد وصوله السلطة أنه لم يغير رأيه في الموضوع الفلسطيني: «لم أغير وجهة نظري. الأمر الوحيد الذي غيرته هو رأيي أن الأردن هي فلسطين. وقد حصل التغيير فقط لأنه تطورت حقائق علي الأرض. لم أرغب أبدا أن تكون هنالك دولتان فلسطينيتان. هذا هو التغيير الوحيد في الموقف». ولكن موقفه من الدولة، أو الكيان الفلسطيني علي رقعة صغيرة من الأرض سوية مع الفصل الديموغرافي، يدفع دون شك باتجاه الكيان الفلسطيني الأردني، أي أنه لم يغير رأيه تماما حتي بالنسبة لاعتبار الأردن هي فلسطين. ومن الواضح أن شارون يفضل اتفاق «لا حرب» مرحليا طويل المدي ترافقه تنازلات إسرائيلية محدودة علي اتفاق سلام دائم مع العرب، لأن رأيه، مثل رأي كيسنجر، أن هذا أكثر واقعية من اتفاقيات السلام الدائم. وهو لا يتضمن إزالة مستوطنات، كما كان من المفضل التوصل إلي اتفاق «لا حرب» مع مصر بدون إزالة مستوطنات شمال سيناء، ومنها يميت. وهو مثل كيسنجر لا يعتبر السلام مع مصر سلاما دائما يستحق مثل هذه «التضحية» بالاستيطان، إنه في الواقع اتفاق لا حرب .. ولكنه اتفاق علي الأقل. والمقصود أن شارون كان يرفض الانسحابات من طرف واحد. وطبعا من نافلة القول أنه شخصيا قد تقدم بخطة انسحاب من طرف واحد في فترة كتابة هذا الفصل من الكتاب. هذه مسألة تكتيكية إذن. فقد عارض شارون في حينه تحركات كيسنجر لاتفاقيات فصل القوات ثم عاد وأيدها بعد أن ضمه رابين كمستشار إلي عملية صنع القرار في فترته الأولي. وعارض الحكم الذاتي بدايةً باعتباره تمهيدا لقيام دولة ثم أيده، وعارض فكرة الدولة الفلسطينية ثم عاد وأيدها، وعارض فكرة الانسحاب من طرف واحد من القطاع ثم عاد وأيدها. ونحن ندعي أنه مع ذلك حافظ علي نفس الموقف، وأنه ليست المعارضة فقط كانت تكتيكية بل أيضا تأييد كل معارضيه لم يكن أقل تكتيكية وأخضع في النهاية لنفس التصور الاستراتيجي. أما السلام الدائم فممكن برأيه فقط عندما لا يعترف العرب بإسرائيل كحقيقة قائمة، كما في اتفاقيات كامب ديفيد مثلا، بل عندما يعترفون بأن لليهود حقا تاريخيا بإقامة دولة في هذه البلاد. هذا هو شرط الحل الدائم وليس هذه التنازلات أو تلك. وقد برر شارون في مقابلة أجراها مع يديعوت أحرونوت موقفه المعارض للبحث العقيم عن حل دائم بموقف هنري كيسنجر الذي سأله مندهشا: لماذا وافق علي تفكيك المستوطنات في سيناء في إطار اتفاقية السلام مع مصر؟ فأجابه شارون علي ذمة شارون، ذمة الراوي، إنه دون ذلك لم يكن بالإمكان التوصل إلي سلام دائم، فأجابه كيسنجر متسائلا: وهل تسمي علاقتكم الحالية مع مصر سلاما دائما؟. وشارون، الذي يروي هذه القصة، شريك في هذا التساؤل الأخير. تتضمن حالة اللاحرب مع الفلسطينيين ـ كحالة اتفاق برأي شارون ـ «دولة فلسطينية في حدود اتفاق واي الذي توقف عند إعادتي نشر قوات ضمن اتفاقيات أوسلو والقاهرة. تضاف إليهما إعادة الانتشار الثالثة، لتصل إلي 42% من الأرض باتفاق ونتيجة مفاوضات، أي ليس من طرف واحد». و«تكون هذه الدولة مقيدة محددة منزوعة السلاح، خلافا للوضع اليوم، ولها قوات شرطة فقط مع السلاح اللازم للحفاظ علي الأمن، وتحافظ إسرائيل لسنوات طويلة علي حدودها الخارجية، ولا توقع دولة كهذه علي تحالفات مع دول معادية لإسرائيل، ومن حق إسرائيل الطيران في أجوائها، وما دام لا يمس بأمن إسرائيل فلا مشكلة عندي». يضاف إلي هذا الوصف الحفاظ علي تواصل إقليمي فيها وإيجاد حل لقضية الحواجز الإسرائيلية، فبرأيه أن هذه هي المسائل التي تزعج الفلسطينيين في حياتهم اليومية. لنعد إلي جذور أفكار شارون في الكيان الفلسطيني. كان شارون قد أيد فكرة الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة كما عرضها بيجن، وجعلهما محور أفكاره السياسية المتشعبة في القضية الفلسطينية، وبخاصة بعد حرب لبنان 1982، والتي فشل فيها بتهجير الفلسطينيين إلي الأردن بالتواطؤ مع المليشيات اللبنانية المعنية بتهجيرهم. وبينما كان الهجوم الإسرائيلي علي لبنان في أوجه، كان شارون قد فضح العلاقة بين تلك الحرب وخطة الحكم الذاتي من كامب ديفيد. وهكذا صرح في مؤتمر صحافي من يوم 21 حزيران 1982 قبل انقضاء أسبوعين علي بدء الحرب: «علي سكان يهودا والسامرة وقطاع غزة أن يفهموا الآن أنه لا يوجد الآن سواهم يحل لهم مشاكلهم. تفهم العديد من الشخصيات كما يفهم السكان حاليا أن الطريق إلي السلام هو مفاوضات مباشرة بينهم وبين إسرائيل .. هذه القضية معلقة إلي أن يتضح إلي أي مدي سوف يقطَع رأس منظمة التحرير الفلسطينية .. أنا أعتقد أن عرب يهودا والسامرة وغزة سوف يجرون مفاوضات، وفي الأيام القادمة بعد أن تهدأ الجبهة سوف نبدأ بهجوم سلام علي غرب المناطق في محاولة لإيجاد اتصال مركز معهم من أجل الحوار لإقامة حكم ذاتي «أوتونوميا». ما لم يتوقعه شارون هو أن حرب لبنان سوف تستورد مركز ثقل منظمة التحرير إلي الأراضي المحتلة العام 67، فأدت عكس غرضها السياسي المعلن. وفقط سوء إدارة الصراع في الانتفاضة الأولي وحرب الخليج الثانية المسماة حرب الكويت ضربت منظمة التحرير إلي الحد الذي جعلها هي تضطلع بمهمة التفاوض بالشروط التي وضعها شارون في حينه، فتبدو حرب لبنان كأنها نجحت. وفي الواقع أن نتائجها تحققت علي المستوي الفلسطيني بفعل عوامل عربية وفلسطينية. ولكن من الواضح ما الذي تعنيه حرب شارون المستمرة ضد الفلسطينيين؟ والي أين من المفترض أن تؤدي؟ وبعد أقل من ستة أشهر علي مقال شارون المقتبس أعلاه، والذي نشره العام 1982، نجده يصرح أنه مستعد بسرور أن يفاوض الأردن علي أساس برنامج «الأوتونوميا» من كامب ديفيد. وفي فترة لاحقة يبلور شارون تصوره للحل مع الفلسطينيين بشكل أدق يوجب برأينا فهم موقفه من الدولة الفلسطينية في فترة حكمه علي ضوء هذا التطور من العام 1988 عندما كتب شارون حول الحكم الذاتي الفلسطيني وعلاقته بالأردن ما يلي: «أنا شخصيا أومن ببرنامج الأوتونوميا كجسر سلام بيننا وبين الدولة الفلسطينية القائمة في الأردن. في المستقبل الأبعد سوف تقود الأوتونوميا إلي فدرالية، أو كونفدرالية إسرائيلية فلسطينية علي ضفتي الأردن». وخلافا لما يعتقد البعض، فإن شارون قصد ويقصد أن الأردن هي الدولة الفلسطينية، ولكن ليس بالضرورة بمعني تغيير النظام السائد في المملكة الأردنية، فلا يهمه ولم يهمه في يوم من الأيام أن تكون الدولة الفلسطينية مملكة هاشمية طالما وجد الفلسطينيون في الضفة والقطاع تعبيرهم فيها. ويعرف شارون تمام المعرفة أن الدولة الفلسطينية بالمواصفات التي يقصدها، والتي طرحها رسميا لأول مرة في خطابه في اللطرون العام 2001 قبل أن يطرحها بوش، لا يمكن أن تعيش إلا من خلال علاقة مع شرق الأردن، وهذا هو الأساس: أن يتم الفصل الديموغرافي مع إسرائيل السيادية بشروطها الأمنية والتاريخية (القومية الرمزية الطابع)، وأن تكون العلاقة السيادية مع شرقي الأردن. بهذا المعني لم يغير شارون كثيرا من عقلية المؤسسة الصهيونية التي نشأ وترعرع فيها، عقلية بن جوريون و«مباي» عموما التي سيطرت علي ثقافة ضباط الجيش أولئك الذين انعطفوا في السياسة بعد الخدمة العسكرية يسارا أو يمينا. ولذلك يقول شارون في مرحلة مبكرة العام 1980 داعيا الملك حسين إلي لقاء مباشر:«لم أقل إنه يجب تحويل الأردن إلي دولة فلسطينية، وإنما أن الأردن هو دولة فلسطينية، 60% من سكانها فلسطينيون». والقصد هو أنه لا يدعو لقيام عمل فاعل في الأردن تغييرا أو قلبا للنظام، وإنما أن تعتبر المملكة كما هي دولة فلسطينية ولا تشغله بعد ذلك مسألة طبيعة النظام فيها. وفي مقال نشره في مرحلة بداية الانتفاضة الأولي التي دعا شارون باستمرار لاستخدام يد حديدية لقمعها، فصّل شارون «شروط الإطار» التي يجب علي إسرائيل أن توضحها للأمريكان كشروط لأية تسوية مقبلة: «القدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأبدية، يشكل نهر الأردن حدودا أمنية شرقية لإسرائيل، لن يوجد جيش آخر غير الجيش الإسرائيلي غربي الأردن، إسرائيل هي المسؤولة عن الأمن الداخلي والخارجي في كل «أرض إسرائيل الغربية» (كل ما يقع غربي نهر الأردن)، لن تكون هنالك سيادة في «يهودا والسامرة وغزة»، لن تقوم دولة فلسطينية ثانية غربي النهر، يجب حل قضية اللاجئين الفلسطينيين عربيا، الجولان جزء من أرض إسرائيل». وفي نهاية مقاله يقول شارون «يمكّن اقتراحي في المستقبل من تطبيق خط الـ«ليكود»؛ دولة فلسطينية في الأردن وإدارة ذاتية بموجب كامب ديفيد، كمرحلة انتقالية (ليس في كل المناطق) وتطبيق خط حزب العمل (إذا فازت في الانتخابات في المستقبل) بالتوصل إلي تسوية أراضٍ territorial compromise . لا يترك هذا الإطار مجالا إلا للحكم الذاتي للفلسطينيين، أقرأ دولة بلغة شارون الحالية وهو في الحكم، بالاتصال مع «دولتهم الفلسطينية في الأردن». متي بدأ التغيير؟ مع استمرار الانتفاضة الأولي وإعلان الأردن فك الارتباط بالضفة الغربية وقطاع غزة من طرف واحد. عندها اقترح شارون بشكل عيني ما يجمع بين برنامجي الـ «ليكود» والعمل. وقام بتحدي حزب العمل في مقال مهم أتبعه بمؤتمر صحافي أثار الانتباه، اقترح راميا قفازه بوجه هذا الحزب الرد علي خطوة الأردن هذه بضم المناطق غير الخاضعة لتسوية الأراضي مع الأردن إلي إسرائيل من طرف واحد. لقد تبني شارون خطة «ألون» عمليا، إذ اقترح ضم أراضٍ بموجبها لإسرائيل والتنازل عن الأراضي التي اقترح ألون التنازل عنها للفلسطينيين أنفسهم بدلا عن الأردن. لقد سحب الملك في حينه البساط إذن من تحت أرجل خيار حزب العمل الأردني، خيار ألون، الذي دعا إلي إعادة المناطق المكتظة بالسكان إلي الأردن. واقترح شارون عمليا استباق ولادة الخيار الفلسطيني علي أنقاض الأردني بتحديد مكانه في مناطق «خطة ألون»، وضم ما تبقي لإسرائيل. وإذا فحصنا الموضوع جيدا، نجد أن المناطق التي أفردها شارون في حينه للخيار الفلسطيني، استباقا لمحاولات منظمة التحرير الفلسطينية أن تحل محل الأردن بعد فك الارتباط، هي المناطق التي تشكل 42% من الضفة الغربية وقطاع غزة. مع الفرق أولا: أن منظمة التحرير الفلسطينية حلت محل الأردن في اتفاقيات أوسلو، وهذا واقع قائم بالنسبة لشارون ورثه عن رابين. وثانيا: أن الحديث يتم في مرحلة شارون في الحكومة عن دولة وليس عن حكم ذاتي. ولكن لو فحصنا مفهوم الدولة عند شارون حاليا نجد أنه يضيف إلي مفهومه عن «الحكم الذاتي» أن يتولي الفلسطينيون شؤون الأمن الداخلي، وأن تكون لديهم مظاهر سيادة.
ما يميز شارون هو شخصية جنرال في داخل السياسي يؤمن بسياسات القوة، وبأنه إلي أن يقبل العرب بحل سياسي مقبول، يجب ألا تتردد إسرائيل في الاعتماد علي القوة والقمع دون هوادة
«لقد تغير شارون بعد حرب لبنان في ناحية واحدة.لقد تعلم أن يضبط نفسه، تعلم شارون اللعبة الدبلوماسية، وعلَّم ذاته أن يلعب الكرة مع الرئيس الأمريكي.علاقة شارون بالرئيس بوش، هي علاقة المتدرب بـــوش بالمـــدرِّب شــــارون
لقد عين وزيرا للزراعة في أول حكومة لليمين خلافا لرغبته بتولي حقيبة الدفاع.ولكن ماذا يفعل في وزارة الزراعة؟ كانت كلمة السحر الاستيطان.ومنذ تلك الفترة بالإمكان اعتبار شارون أبا الاستيطان..
متـــي بـــدأ التغييـــر؟ مع استمرار الانتفاضة الأولي وإعلان الأردن فك الارتباط بالضفة الغربية وقطاع غزة من طرف واحد.عندها اقترح شارون بشكل عيني ما يجمع بين برنامجي الـ «ليكــود»والعمــــــل
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة