فلسطين..الأمان فى العمق



[ 1 ] فى السبعينيات، جنحت سفينة مصرية فى شاطئ الإسكندرية، وتهشمت جوانبها، أيامها قال لى صديق عزيز كان من ربابنة السفن الكبيرة: "إن ربان السفينة الجانحة أخطأ بالاقتراب من الشاطئ عندما اشتدت به الريح وعلا الموج، كان الأحرى به ألا يقترب من الشاطئ وأن يدخل بسفينته فى عرض البحر". سألته متعجبًا وكيف يكون عرض البحر الهائج آمن على السفينة من الشاطئ الأقل هياجًا، فأجابنى بأنه عندما يشتد الريح ويعلو الموج، فأمان السفينة فى العمق، إنها إن اقتربت من الشاطئ ضربتها الأمــواج على صخوره فتتكسر، أما فى العمق فهى كلها أمواج فى أمواج، إن ضربها موج تلقاها موج آخر وحملها.. وعندما تعصــف الريح ويثور الموج فالأمان فى العمق. وعندما يصف القرآن الكريم فى سورة "هود" حادث الطوفان، نعرف أنه لما علا الماء وتفجرت به ينابيع الأرض وهطلت به أمطار السماء، وظل يعلو على الأرض ويعلو. هرب ابن نوح من الماء وظل يصعد ويصعد لئلا يصله الماء، حتى بلغ قمة الجبل، ولكن المياه علت وعلت حتى أدركته فكان من المغرقين، أما نبى الله نوح عليه السلام، فأدرك بالحكمة الربانية أن الأمان ليس فى الهرب ولكن فى المواجهـة، وأن الأمان لا على صخور الشواطئ، ولكنه فى عمق البحار الهائجة، وأن الأمان من الموج فى الموج نفسه، فلما بلعت الأرض ماءها وأقلعت السماء وغيض الماء، ساعتها فقط استوى نوح بسفينته على الجبل. ونحن الآن، على هذه الأرض، منذ 11 سبتمبر 2001 بدأت الرعود الأمريكية، ومن 7 أكتوبر 2001 بدأ ضرب أفغانستان، ومن 28 مارس 2002 تصاعد الاجتياح الصهيونى الأمريكى لمدن فلسطين بالضفة الغربية.. فالعاصفة قوية والريح شديدة والموج هائج، وكل ذلك يتصاعد ويبلغ العراق حيث جبل الجودى الذى استوت عليه سفينة نوح، ومع ذلك فليس من بين ربابنة الدول العربية من أدرك حكمة نوح عليـه السلام، وليس منهم من ابتعـد عن صنيع ابن نوح، وما منهم إلا من جنـح بسفينته إلى صخور الشاطئ، هاربًا من الموج آويا إلى ما تتكسر عليه الضلوع. ونحن نعرف من فنون إدارة الصراع أنه فى مرحلة التصاعد المتبادل بين طرفى الصراع، فإن من يقف أولاً يكون هو الهالك والمهزوم. إلا أن يكون "متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة"، أى إلا أن يكــون باقيــاً على عزم القتال موصــول الأعمــال به ولم يلق ســلاحه، ومـا من مرة فى الصراع العربى الصهيــونى الأمريكى بادرنا فيهــا بقبــول إلقــاء السلاح إلا ودارت علينا الدوائر. ونحن يتعين علينا أن نستدعى الحكمة من شعر أبى الطيب المتنبى عندما يقول: تفرست فى الآفات حتى تركتها تقول أمات الموت أم ذعر الذعر [ 2 ] نحن هنا لا نتكلم عن العنف الحتمى، لكننا نتكلم عن وجوب المواجهة حتمًا بالطريقة المناسبة، وإن كان العنف هو الخيار المطروح والراجح الآن، وأنه هو السبيل الذى لابد من ولوجه فى الحالة الفلسطينية الراهنة والمعيشة، وإن السعى الصهيونى للضم القسرى للأراضى المحتلة والإبادة المقصودة للشعب الفلسطينى والتهجير المزمع بالقوة، كل ذلك لا يواجه إلا بالمقاومة العنيفة. وما كان يمكن لانتفاضة "أطفال الحجارة" فى 1987 إلا أن تتطور من طرفيها فى انتفاضة القدس فى 2000، فيصير الأطفال شبابًا وتصير الحجارة رصاصًا ومتفجرات. وإسرائيل مجتمع استيطانى لايزال ينشأ ويتوسع، والمجتمعات الاستيطانية لا تنشأ بالحق إنما تنشأ بالقوة، والمعادلة التى تتبناها هي: القوة، ثم الأمر الواقع، ثم ما يدعى بعد ذلك من حقوق، وهكذا قامت الولايات المتحدة ذاتها، ولا يقابل ذلك إلا بالمَنعَة المادية أولاً، والمقاومة العنيفة أولاً أيضًا، ولا يجرى إقناع المعتدين عن طريق الحقوق وإنما عن طريق الإفشال المادى للسعى العدوانى العنيف، وإلا بأن القوة سترتد أضراراً مادية للمعتدين وإيجاعًا جسمانيا لهم، وأن المعتدى لن يحقق كسبًا بعدوانه، بل إن خسارته المادية والبشرية تفوق ما يعوِّل عليه من كسب. ونحن لا نتنازع مع العدوان الإسرائيلى الأمريكى حول أرض غريبة عنا يطمع فيها كلانا، بمعنى أننا لسنا طرفًا فى صراع بين متنازعين، ولكننا نحن موضوع الصراع ذاته، نحن موضوعه وأحد طرفيه فى ذات الوقت، وهذا الوضع يعطينا مزية لا تكون لغيرنا قط، وهى مزية لا ينفد معينها، وما من بلد غلبه المعتدون على أمره وانتهى جهاده ضدهم إلا بردِّ الاعتداء. وقد تكسرت إمبراطوريات أمام هذا الصبر والتصميم. والصبر والمصابرة، وطول النفس يأتيان من أنه فى صراع الوجود وفى مجال الدفاع عن الذات، يمكن للجماعة أن تُغلب مرة ومرات، ولكنها مجتمعة ـ أو أيا من قواها منفردة ـ لا تملك أن تتنازل عن الحق فى الوجود الحاضر أو فى البقاء المستقبل، والأجيال تتوالى ولا يؤثر فى حقوقهم ما انضغطت به إرادة أسلافهم. ونلحظ الآن أن المعلقين يكتبون أن مسألة فلسطين هى أقدم مشكلة فى عالم اليوم، وهذا صحيح لأنه لا نهاية لمثل هذه المسائل إلا باسترداد الوجود لمن أُريد إفناؤهم أو إزاحتهم. وفلسطينيو الشتات وهم بضعة ملايين الآن، لايزال حقهم فى العودة إلى ديارهم قائمًا لديهم ولدينا جميعًا. أما المعتدون فهم ليس لديهم هذا النوع من الحقوق طويل المدى، أو هذا النوع من الحقوق العابر للأجيال، إنهم فى الغالب يبحثون عن المنفعة وعن الربحية، والأمر يتعلق بحساب الربح والخسارة ومجالات القوة والهيمنة، بمعنى أن الأهداف هنا تتعلق بالكسب المادى واستغلال الثروات، أو تتعلق بالمواقع الإستراتيجية والعسكرية لضمان الانتشار وتأمين طرق المواصلات الدولية، أو تتعلق بالوجود السياسى فى مواقع الهيمنة، وعلى أى من هذه الأهداف فإنه إذا فسدت إمكانات تحقق الهدف بسبب جدية المقاومة واستمرارها وتحديها للأهداف المطلوب تحققها، إذا حدث ذلك يكون فشل المشروع.. وهنا نجد أن نوع المنافع التى كانت مرجوة هى منافع قصيرة المدى نسبيا وقابلة للتغيير والاستبدال، وأن عدم تحققها وظهور عدم إمكان ذلك يؤدى إلى استبدال غيرها بها وإلى تنحيتها، فيحمل المعتدى عصاه ويرحل. وإذا كان يمكن القول بأنه لا مهرب من استخدام العنف عند مواجهة استعمار استيطانى قائم على كسب الأمر الواقع بالقوة أو يتوسل لذلك بإبادة أصحاب الحق وأصحاب الأمر الواقع القائم، بالإزاحة أو بالقتل، إذا كان هذا هكذا، فإنه يتعين القول بأن للمقاومة العنيفة ضوابط، فهى أولاً تمارس فى الأرض المحتلة عادة وليس خارجها، وهى تمارس ضد الطرف المعتدى عسكرياً كان أو متخذًا سمتًا مدنياً، وهى مع تنامى الصراع تتنامى وتتسع دائرتها الجغرافية. وتتصاعد وتتمدد وسائل القوة حسب خطط العدو المعتدى وحسب ما يستخدمه من أدوات العنف، والتصعيد حتمى لمن يبغى النصر بما يشمل ذلك من المصابرات والتحرف للقتال والتقاط الأنفاس، ولكن دون إلقاء السلاح ودون كسر إرادة الاسترداد، مع ملاحظة أنه لا عنف إلا فى الأرض المعتدى عليها، ولا عنف إلا ضد المعتدين، وهذا مما يسْتَقرأ من حالات المقاومة الوطنية التى عرفناها فى العالم عن التاريخ المعاصر. واستقراء هذه الحالات أيضاً، يظهر أن للعنف درجات، من حيث مداه الإقليمى، ومن حيث وسائله، بدءًا من الحجارة كما حدث فى انتفاضة 1987، حتى كل أشكال حروب العصابات، ولا يفرق أسلوب عن أسلوب إلا بالملاءمة الواقعية والخبرة العملية وفنون المواجهات، وهذا ما أظن أن القارئ المتابع المهموم بهذه القضايا يدركه جيدًا. إنما ما أقصد أن أشير إليه هما أمران: أولهما: أنه متى كان العنف بأى من أساليبه المناسبة لا محيص عن استخدامه فى مقاومة المعتدين، فإنه يصير هو الأسلوب الحاكم لغيره من الأساليب الأدنى، بسبب تكلفته وضحاياه، ولأن التكلفة البشرية له باهظة الثمن دائمًا، ولأنه لم يلجأ إليه إلا لثبوت عدم إمكان نجاح المقاومة بغيره، ومن ثم فهو مفترض فيه أنه الأبلغ مقصدًا. وثانيهما: إن كل أساليب المقاومة السلمية المشروعة بعد ذلك، سياسية أو اقتصادية أو إعلامية، تكون ممكنة ومطلوبة فى إطار خدمتها للأسلوب الأكثر حسمًا، وكلها مطلوبة وليست مستبعدة بطبيعة الحال، ما بقى التقدير السائد أنه لا مناص من استخدام العنف من أجل التحرير، وما بقى كل من هذه الوسائل محكومًا بالوسيلة الأحسم، تهيئة وتيسيرًا وإتاحة وتطويرًا وكفالة استمرار. إنه عند القول بلزوم استخدام العنف فى حركات التحرير ومقاومة المعتدين، فإن ذلك لم يكن أبدًا اختيارًا من بدائل متاحة.. تفضى كلها إلى ذات الغاية من مقاومة جادة وتحرير مرتقب، لأن اتباع سبل العنف، يعنى بالنسبة لحركات التحرير والجهاد الاستعداد لتحمل خسائر باهظة فى أعز ما تملك الجماعة المقاومة وهو النفوس البشرية والأرواح، وما من جماعة مستعدة لأن تقدم أرواح أبنائها إلا اضطرارًا، وذلك مصداقًا لقول الله سبحانه وتعالي: "كُتب عليكم القتال وهو كره لكم". لذلك فإن القول بأن السلام خيار إستراتيجى، يقال أمام مستعمر استيطانى يملك السلاح النووى، هو قول لا يفضى إلا إلى الاستسلام لأنه لا سلام إلا من خلال استخدام أساليب عنف مناسبة فى هذه الحالة. [ 3] بدأت انتفاضة الأقصى فى 28 سبتمبر 2000، وهى مستمرة بإذن الله حتى التحرير، ومضى عليها إلى الآن عشرون شهرًا، وخلال هذه المدة انعقدت مؤتمرات حكومية للدول العربية والإسلامية عدتها أربعة مؤتمرات، وانعقدت على مستوى القمم أى رؤساء الدول، كان أولها مؤتمر قمة الدول العربية الطارئ الذى انعقد مع بدايات الانتفاضة، ثم تلاه مؤتمر قمة الدول العربية الدورى الأول بالأردن فى مارس 2001، ثم مؤتمر قمة الدول العربية الدورى الثانى ببيروت فى مارس سنة 2002، وخلال ذات الفترة انعقد مؤتمر قمة الدول الإسلامية فى قطر. وقد أظهر الأمر مفارقة كبيرة بين الاستجابات الشعبية القوية للانتفاضة ووقائعها وبين الاستجابات الرسمية الحكومية بترددها وارتعاشها ولعثمتها قولاً وفعلاً. ومن الطبيعى أن يوجد دائمًا قدر معتبر من التباين بين المواقف الحكومية وبين المواقف الشعبية، والحكومات أبطأ حركة وأقل انطلاقًا وأكثر قيودًا، فى حين أنها أفعل وأكثر تأثيرًا. لأنها تملك اتخاذ القرار وتنفيذه، بما يقتضى ذلك من تجميع للمعلومات وشبكات تنظيم وقدرة تحريك وإمكانية مالية ومادية متاحة فى أيديها، ولكنها فى الوقت ذاته حكومات مسئولة عن إدارة الشئون العامة للجماعة من حيث المرافق العامة كلها، ومن حيث الخدمات العامة جلها، من أول الطرق والكبارى والترع إلى المدارس وسياسات الاقتصاد، وهى من ناحية أخرى عضو فى الجماعة الدولية وهى شخص من أشخاص القانون الدولى بما يفرضه عليها ذلك من علاقات وتبعات وبما ييسره لها أيضاً من مصالح ومنافع. وفى المقابل فإن الحركات الشعبية هى أخف حركة وأسرع استجابة وأقل قيودًا، وهى وإن كانت أقل خبرة وأضعف فى إمكانيات التنفيذ بما لا يقارن ، إلا أنها فى النهاية لابد مؤثرة فى الدولة وفى حركتها ونهجها، والدولة ما وجدت إلا لخدمة الجماعة، وما بقيت إلا لأن بقاءها على المدى الطويل يعيد انتظام حياة الجماعة واستقرار وضعها ورتابة حركتها المعيشية. وأن التباين بين الموقف الرسمى الحكومى والموقف الشعبى، وإن كان أمرًا واقعًا ووضعا مفهوماً، إلا أن اتساع هذا التباين عن درجة معينة، يهدد أمن الدولة واستمرارها بنظامها وسياستها المتبعة، ويلقى عليها عبء أن تعدل من هيئة السياسات المتبعة ومن جذورها العميقة، وإن لم تفعل فإنها تتعرض فى العاجل أو الآجل إلى أن تتعدل هذه السياسات والهياكل السياسية على رغمها، من خارج النظام القائم وبأساليب تتراوح فى الحدة واللين، وتتراوح فى الفجائية والتدرج، وتتراوح أحيانًا فى العنف والسلم، وكل مشروط بوقته وموازينه وملابساته الداخلية والخارجية. وما يستدعى التنبيه أن هذا التباين بين الحكومى والشعبى ليس فقط أكثر مما تحتمله علاقات الاستقرار بين الجانبين، وليس فقط مما يمكن رأب الصدع بشأنه بالدعايات الإعلامية وذكر أنصاف الحقائق، وباللف والدوران ووسائل التدويخ الفكرى من محترفى الصياغات الفكرية، ولكنه تباين يتعلق فيما أظن بأوثق المسائل التى تصل وتربط بين الحكومات وشعوبها، وهى مسائل الأمن القومى. وأقول للمرة الثالثة فيما كتبته أخيرًا أن كفالة الأمن القومى هى أهم من كفالة الماء والخبز، وتهديده هو أفدح من تهديد الجماعة فى مائها وخبزها، بل على وجه الدقة فإن قضايا الماء والخبز هى بعض عناصر الأمن القومى، ويفوقها خطرًا وجود دولة عنصرية توسعية تكتسح أهالينا اكتساحًا من أراضيهم وتبيدهم إبادة أو تزيحهم إزاحة، وشعبها المستوطن المجلوب من الخارج يؤيدها وينتخب الأكثر قدرة من ساسته وحاكميه على الإبادة والقتل والتدمير، وتمتلك كل أسلحة التدمير والقتل بما فى ذلك السلاح النووى، ولا تكف عن التطلع إلى كل الأراضى المحيطة. أن يصل الأمر إلى أن حكومات مهددة فى نفسها وشعوبها تكرر القول دائمًا بأن السلام هو خيارها الاستراتيجى الذى لا محيد عنه، وتصير الوسيلة هدفًا، ويصير السلام عنصرًا يطمئن المعتدى أنه لن يواجه ما يتهدده فى عدوانه، وأن يصل الأمر إلى أنه حتى بالنسبة للـ"أسلحة السلمية" مثل سلاح المقاطعة أو التأثير فى السياسة البترولية أو غيرذلك، تصدر تصريحات حكومية رسمية حازمة بأن أيا من ذلك لن يستعمل، وأنه إذا استعملته إحدى الدول العربية فستعوض الأخرى النقص الناتج عن ذلك، أن يصل الأمر إلى هذه الدرجة من الجانب الرسمى، وإلى نقيضه من الجانب الشعبى، فيتصل سيل المظاهرات الشعبية أسابيع فى البلاد العربية كلها حتى فى البلاد التى لم يعرف أهلها التظاهر من قبل قط، وفى بلاد لم يعتد أهلها على التظاهر السريع، وفى بلاد تواجه حكوماتها حركة التظاهر بما اعتادت مواجهتها به من قمع وتصفية، وأن تكون هذه المظاهرات واضحة التعاطف مع المقاومة المسلحة التى تستخدمها حركة تحرير الشعب الفلسطينى وتطالب بدعمه ومشاركته، أن يصل الأمر إلى هذا التناقض فإن الظاهرة خطيرة فعلاً فى إمكانية تحقق الاستقرار من بعد، ما بقى التباين بهذا الحد وفى هذه المسألة الفارقة. [ 4] إننا إذا حاولنا تلخيص تاريخنا السياسى عبر القرنين الماضيين، سواء فى مصر أو فى أى من بلاد العرب والمسلمين، فسنلحظ أنه من الناحية الشعبية يتلخص فى حركات التحرير الوطنى ضد الاستعمار الغربى، وسنلحظ أنه من الناحية الحكومية يتلخص فى موقف الحكومات الوطنية من قضايا الأمن القومى، وحيث يكون الحكم وطنيا يكون كل همه استكمال استقلالية الإرادة السياسية وكفالة استمرارها، وحيث لا يكون كذلك تتولى الحركات الشعبية نقد الحكومة ومقاومتها فيما تقاوم ومحاولة تصويب مسارها. إننا على مدى هذين القرنين بدأنا أولاً نعانى من الضغوط الاقتصادية والسياسية والمحاصرة والتغلغل البشرى الأوروبى من رجال الأعمال والمغامرين والامتيازات الأجنبية والتدخل باسم حماية الأقليات المسيحية (ذلك ما حدث فى الدولة العثمانية)، ثم جاء الاحتلال العسكرى الغربى لبلادنا قطرًا قطرًا مع هيمنة الدول المحتلة وسقوط الإرادة الوطنية لهذه الدول، وذلك على مدى خمسين سنة من الربع الأخير للقرن التاسع عشر حتى الربع الأول للقرن العشرين، ثم بدأت حركات التحرر الوطنى يشتد عودها لإجلاء الاحتلال العسكرى الأجنبى وذلك على مدى الخمسين سنة التالية حتى أوائل السبعينيات. وفى هذه الفترة من ظهور حكومات التحرر الوطنى، وجلاء القوات الأجنبية عن بلادنا ظهرت أشكال جديدة للسيطرة الغربية على بلادنا، بدأت فى الثلاثينيات من القرن العشرين فى صيغة معاهدات الدفاع المشترك بين دول الاستعمار القديمة الكبرى وبين أقطارنا حديثة العهد بالاستقلال، ثم تطور ذلك بعد الحرب العالمية الثانية إلى اتفاقات الأحلاف العسكرية بين تلك الدول الاستعمارية الكبرى وبين أقطارنا، وهناك من خضع من بلادنا وهناك من قاوم مجاهدًا من أجل استكمال إرادته السياسية. وفى هذه الأثناء ظهر الشكل الجديد، وهو إنشاء دول تستفيد من ضمانات القانون الدولى من حيث عدم جواز التدخل فى شئونها الداخلية ومن حيث الحماية الدولية لها باسم حماية استقلالها، ولكنها دول لا تؤدى من الوظائف إلا ما يناسب أهداف الدول الاستعمارية الكبرى وأطماعها، سواء بالنسبة لاستنفاد الثروات الطبيعية المحلية لصالح هذه الدول الكبرى، أو بالنسبة لتكوينها قواعد عسكرية تمكن من الهيمنة السياسية على الشعوب المحيطة بها أو القريبة منها، ويجرى ضمان أداء هذه الدول المصطنعة لهذه المهام دون غيرها عن طريق أنها تكون دولاً بغير شعوب ثابتة ومستقرة وقديمة فى أى من هذه الأقاليم، ويكون ذلك عن طريق التهجير إليها من الخارج، فيصير الأجانب بها أكثر من المواطنين، أو يصير حديثو العهد فيها أضعاف السكان الأصليين، أو تصير موطنًا للمهجرين إليها بدلاً من سكانها الذين تجرى إزاحتهم بالقوة المسلحة وبالإبادة أو الترحيل مثل ما يحدث فى إسرائيل. والمهم فى ذلك أن وجود قوة احتلال عسكرى تتخذ هذا الشكل الدولى. لا يعتبر فى يقينى أنها دولة مستقلة، ولا يعتبر فى ظنى أن من جاورها من دول وأقطار وأقاليم هى دول أو شعوب مستقلة بريئة من وصف الاحتلال العسكرى الأجنبى لها، يكفى أن هذه الشعوب والدول المسماة بالمستقلة تقع تحت التهديد المباشر "للقاعدة العسكرية/ الدولة"، يكفى أن هذه الشعوب والدول المسماة بالمستقلة لا تملك القدرة على درء هذا التهديد عن نفسها، والاحتلال الانجليزى لمصر عندما أجلى قواته المسلحة عن المدن المصرية وركزها كلها بالقاعدة العسكرية التى أنشأها فى منطقة قناة السويس فى سنة 1947 لم يشعر مصرى واحد أن ثمة استقلالاً تحقق، ونحن الآن بالمثل لا ينبغى أن نتوهم أن استقلالاً لنا تحقق ما بقيت إسرائيل (القاعدة العسكرية/ الدولة) المهددة لحدودنا ومجتمعاتنا ودولنا، وهكذا الأمر بالنسبة لسوريا ولبنان والأردن، وهو كذلك بالنسبة للسعودية وما جاورها والعراق وغيرها. والحادث أن إسرائيل حطمت المفاعل النووى العراقى فى أواخر السبعينيات لأنه يهددها، وأنها تنظر بريب إلى المفاعل الباكستانى وإلى تسلح إيران، والحال من قبل أن بريطانيا أعلنت الحرب على ألمانيا الهتلرية عام 1939 عندما سيطرت ألمانيا على ميناء دانزج فى بولندا، ودون أن تقترب ألمانيا من الجزيرة البريطانية. وعرف العالم كله أن بريطانيا بإعلانها الحرب لم تكن تبدأ حربًا ولا كانت تعتدى على غيرها، بل الظن الغالب أنها تدفع عن نفسها خطرًا وشيكًا ظاهر النية فى عدوانه جهير العزم على التوسع، وأن حالنا نحن العرب بالنسبة لإسرائيل أظهر من حال بريطانيا بالنسبة لألمانيا فى 1939. ومسائل الأمن القومى لا تقف عند الحدود الجغرافية، إنما تهتم بحجم الضغوط على الإرادة السياسية وحجم التهديد للجماعة. ونحن نعرف من تاريخنا الحديث فى مصر، أن موضوع الاستقلال الوطنى ومدى تحرر الإرادة السياسية الوطنية هو الموضوع الذى حكم كل نظمنا السياسية واستقرار حكوماتنا. وفى دراسة سابقة لى عن معدّل تغير الحكومات فى مصر بين الأحزاب السياسية فى ظل دستور 1923، وعلى مدى ثلاثين سنة تلت صدوره، تبين أنه ما من تغيير وزارى أساسى جرى فى هذه الفترة إلا وكان بسبب يرجع إلى فشل مفاوضات مع الإنجليز أو إفشال مفاوضات معهم، أى أنه ما من مسألة تتعلق بنظام الحكومة إلا وكانت متصلة اتصال سببية بالمسألة الوطنية. وهذا ما أدى بى إلى اعتناق مبدأ عن التقويم التاريخى للأحداث المصرية يتعلق بأن الديمقراطية كانت دائمًا منظورًا إليها فى إطار خدمتها للمسألة الوطنية، وأن الصلة بين المسألتين صلة لا تنفصم، وهى لم تنفصم. واتصل هذان الأمران بصورة أعمق وألزم لما ظهرت المسألة الفلسطينية، فتغير نظام الدولة كله فى مصر بعد هزيمة 1948 فى فلسطين، وتغير النظام السياسى والاجتماعى كله فى مصر كذلك بعد حرب 1967. وإذا ذهبنا إلى التاريخ البعيد فى بداية القرن التاسع عشر، وجدنا أن تهديد الأمن القومى للدولة العثمانية الذى ظهر فى هزيمتها أمام روسيا واضطرارها لإبرام معاهدة كشك فينارجى فى 1774 هى ما به بدأت مشكلة الأمن الجماعى لهذه الدولة، ومن يومها خلع سلاطين وقتل سلاطين وجرت ثورات، وأبيد جيش الانكشارية وقامت جمعيات سياسية سرية وعلنية، جرى كل ذلك بحثًا عن توفير عناصر الأمن الجماعى للدولة والمجتمع. وبالمثل فإن حملة عسكرية فاشلة على مصر جرت من الفرنسيين فى 1798 ولم تستطع أن تستمر أكثر من ثلاث سنوات، هذه الحملة قضت تمامًا على نخبة سياسية ظلت تحكم مصر منفردة مائتين وخمسين سنة وتشارك فى حكم مصر مع العثمانيين مائتين وثمانين سنة تالية، وهى نخبة المماليك، قضى عليها ظهور فشلها فى حماية مصر وأمنها من غارة الفرنسيين عليها. وسقطت إلى غير رجعة لها فى التاريخ كله. وقد قصدت أن أذكر هذه الأحداث فى غير ترتيبها الزمنى لكى تظهر دلالتها السياسية بأقوى مما تظهر دلالتها التاريخية المستقاة من تتالى أحداث التاريخ، كما قصدت أن أركز الأحداث المشار إليها فى رؤوس موضوعات حتى لا تصرفنا التفاصيل عن التنبه للدلالات العامة. [ 5 ] أظهرت الأحداث الفلسطينية الجارية الآن، أن بلادنا ليست فى تمام السيطرة على قرارها السياسى. وإن نقص السيطرة هنا عندما يتعلق بمسائل الأمن القومى إنما يعتبر نقصًا فى السيادة. لأنه يفيد عدم توافر القدرة على تحريك الإرادة السياسية إلى ما يوفِّر الحماية لأمن الجماعة تجاه مخاطر الخارج، وهذا قيد على الاستقلال السياسى. أخشى أن أصل إلى فكرة أن الأحداث الأخيرة تكاد تشير إلى أنه لم يعد للكثير من الدول العربية سياسة خارجية، أقصد سياسة تصدر فى الأساس ـ وقبل كل شيء وبعد كل شيء ـ عن صوالح الشعوب والجماعات العاجلة والآجلة، وإدراك بالالتزام بما يحقق هذه الصوالح، على مستويات الإعداد الداخلى والتوجه الاقتصادى والخيارات المتاحة من حيث العلاقات مع الدول الأخرى ووجوه تبادل المنافع معها. إن فلسطين محتلة، وسوريا فيها أرض محتلة من خمس وثلاثين سنة، ومصر عادت لها سيناء منزوعة السلاح لا تستطيع مصر أن تحميها بقواتها المسلحة إلا من غرب قناة السويس، ومن يذهب من المصريين إليها لعمل أو لترف لا يتمتع ـ فى عمله ولا فى ترفه ـ بحماية القوات المسلحة المصرية، ولا يطمئن على نفسه من عدوان إسرائيلى عسكرى يأتيه وهو فى طابا أو دهب أو نويبع أو شرم الشيخ، من على بُعد خطوات من المياه الإقليمية المصرية فى خليج العقبة ويمكن للإسرائيليين اختطاف أو اغتيال أى أحد منا فى سواحل خليج العقبة بأسهل مما حدث منهم فى لبنان وتونس من نحو عقدين من السنين، وجيش إسرائيل على بعد بضعة عشر كيلومترًا، وجيش مصر على بعد مائة كيلو متر وبضع عشرات من الكيلو مترات. والجزيرة العربيــة ومنطقــة الخليج بها دولنا العربية التى تعتمد فى كل دخلها على ناتج البترول، ووسط آبارها وحوافها. وفى المياه القريبة قواعد عسكرية أمريكية برية وبحرية. وفى مصر، نحن ننتج نصف القمح الكافى لكى يأكل المصريون الخبز، وذلك طبقًا للأرقام التى يدلى بها الرسميون فى صحف مصر السيارة، ومناطق إنتاج القمح فى العالم هى فى الأساس الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، وراسمو السياسة الإنتاجية فى مصر يعرفون ذلك من عشرات السنين، ولهم خطط وسياسات، والأرقام معروفة سلفًا ومتوقعة من حيث مستقبل الزيادة السكانية ومستقبل استهلاك القمح ومستقبل إنتاج القمح، كل ذلك معروفة حساباته من الستينيات والسبعينيات، فليس مما يتذرع به أحد الآن أن يقول إنه فوجئ بنقص أو أنه فوجئ بهذا القيد على سياسته الخارجية. وبالمقابل فإن وزارة الثقافة فى مصر ـ حسبما ذكرت صحيفة الأسبوع فى أول أعداد شهر مايو ـ أعدت حفلاً لفرقة فنون شعبية بالقلعة، ثم فوجئوا بأن السفير الإسرائيلى يبلغهم بعزمه على حضور الحفل للترفيه عن نفسه، ورفض ما ذكر له من أن وجوده يثير خواطر المصريين بما قد يهدد سلامته، فألغت الوزارة الحفل كله، لأن مصر لا تستطيع أن تقول للسفير الإسرائيلى "لا" ولا تستطيع أن تفرض عليه ما تراه من مسئولية عليها فى حفظ أمنها، وهكذا تسقط الإرادة الوزارية ما بين "الخبز" وما بين "المسرح"، ناهيك عن أن يكون ثمة شيء آخر. ونحن فى الفكر السياسى الذائع الآن، صارت أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية هما العالم، منذ السبعينيات، وصارت أقوال الساسة الأمريكيين وكتابات المفكرين السياسيين الأمريكيين هى العلم، ونكاد ـ إلا من عصم ربك ـ نكرر ما يقولون، على مدى خمس عشرة سنة، فإذا قيل "نظام عالمى جديد"، قلنا "نظامًا عالميا جديدًا"، وإذا قيل "العولمة" قلنا "العولمة"، وإذا قيل "صراع الحضارات" قلنا "صراع الحضارات" ثم قدمنا على استحياء تعديلاً بأنه "تواصل الحضارات" لأنه لا طاقة لنا اليوم بلفظ الصراع، وإذا قيل "الإرهاب" قلنا "الإرهاب"، والصفحات تملأ، والأحبار تهرق، والندوات تعقد، وموجـات الأثير تزدحم، ثم يأتى شارون ورجاله فنقول "لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" (الآية الكريمة من سورة البقرة). وأن موضوع استكمال الإرادة الوطنية يكاد أن يكون مغيبًا، ولا أحد يثير الآن أن لنا شوقًا إلى استكمال الإرادة الوطنية واستكمال ما يتعين أن نرنو إليه من توفير كفالات أمننا القومى من النواحى السياسية. والعجيب أن إسرائيل تبدى المزيد من القلق وادعاء الحق فى ألا يوجد سلاح ذو دمار شامل فى إيران مثلاً، وفى باكستان أيضًا على بعد آلاف الأميال منها، ونحن فى "مصر المحروسة" لا نكاد نشعر بخطر وجود سلاح نووى على بعد لا يكاد يذكر من حدودنا الشرقية، وعلى بعد أقل من مائتى كيلو متر من القاهرة، وهو فى يد دولة توسعية دخلت معنا فى أربع حروب من قبل ويحكمها استيطانيون متهوسون، ويحترفون القتل الجماعى للشعب العربى فى فلسطين. ونواجه ذلك بأننا ضد أن يستخدم الفلسطينيون المطرودون من ديارهم أو المهددون بالطرد والمضروبون أبدًا من مستعمريهم، نحن ضد أن يستخدم هؤلاء العنف مع جلاديهم. محسوم لدى فيما أظن أن الحرب النظامية لا مجال لها فى هذا الصراع القائم بين العرب وإسرائيل، ومحسوم فيما يظن أنه متى استبعدنا الحروب النظامية بحسبانها وسيلة فى هذا الصراع، فيتعين أيضًا أن نستبعد وأن نتفادى ما يفضى إلى حروب نظامية من سياسات وأوضاع. ولكن من المحسوم أيضًا أن بفلسطين أرضًا محتلة من إسرائيل وأن الاحتلال الإسرائيلى غير مشروع فى كل منطق ونظام دولى قائم، ومحسوم أيضًا أن إسرائيل تهدد الأمن الجماعى العربى وأن وجودها يجهض أبدًا إمكانيات النهوض والتنمية فى بلادنا. ومع تعارض "المحسومين الأولين" مع "المحسومين الأخيرين" فلا بد أن يوجد طريق ثالث، وهذا الطريق الثالث هو طريق المقاومة الشعبية بكل صورها وأشكالها، شريطة أن يشارك فيها الشعب العربى فى جميع الأقطار، فالصراع دامٍ ونحن العرب جميعًا طرف فيه. والطريق الثالث أيا كانت مسالكه، له مخاطره بالنسبة للشعوب فى المقام الأول وبالنسبة للدول فى نطاق ما، ولكن لكل سياسة ولكل قرار يتخذه فرد أو جماعة أو هيئة أو دولة، له دائمًا وجوه مخاطر، كما أن للسكوت والجمود وللمواقف السلبية مخاطرها أيضًا، وقد تكون مخاطرها أفدح. ومن يرد أن يتجنب المخاطر تمامًا فعليه ألا يأكل وألا يشرب لقيام احتمال حقيقى بأن ثمة "فيروس" فى الطعام، ويكفينا دائمًا أن نفكر فى احتمالات المخاطر المقدرة وأن نقلل من هذه الاحتمالات، وأن نفكر فى أساليب تدارك ما نستطيع من آثارها ونخفف من المضار المتوقعة، مع وجود الاستعداد لتحمل ما لا يمكن تفاديه مما يسعه البذل والفداء. ومن نحو عشرين سنة، وفى محاضرة كان يلقيها المؤرخ العسكرى الوطنى الغيور اللواء المرحوم حسن البدرى، عن الصراع العربى الإسرائيلى، سئل عن حجم الخسائر، فتكلم وأسهب فى الشرح، ثم قال إننا دائمًا سنجد أن الهزيمة فى الصراع أبهظ تكلفة وأفدح نفقات وأعظم خسائر وأشد خرابًا. [ 6 ] فى سنة 1951 عندما ألغت حكومة الوفد فى مصر معاهدة الدفاع المشترك بين مصر وبريطانيا، صارت القاعدة العسكرية البريطانية فى مصر والقوات المسلحة الإنجليزية فى وضع غير مشروع، وصارت مكافحة هذا الوجود العسكرى الأجنبى ولو بالسلاح مكافحة مشروعة، وحدث ذلك كله فى موجة من الحماس الوطنى العارم، وتكونت فرق الفدائيين للكفاح المسلح، حتى أنه أنشئ معسكر للتدريب على العمليات الفدائية داخل حرم جامعة القاهرة، كان يقبل المتطوعين فيه من طلبة الجامعة. وفى تلك الأيام كانت المظاهرات تملأ مدينة القاهرة والإسكندرية والأقاليم يوميا، واحدة منها بالقاهرة، قدر حجم المشاركين فيها بمليون متظاهر، وكانت الصحافة الوطنية مليئة بأخبار الحوادث المتتابعة للأعمال الفدائية وبالتحميس لها. فى هذه الأجواء ظهر ثمة شعار سياسى كتبت عنه الصحافة ورددته هتافات المتظاهرين، يطالب الحكومة أن تصدر قانونًا يلغى القانون الذى يمنع حمل السلاح بغير ترخيص والذى يعاقب على مخالفة ذلك بالحبس نحو ستة أشهر. وكنت أعجب من هذا المطلب، وأتساءل: هل هذا الفدائى الذى أعد نفسه للشهادة، ولأعمال يغلب على ممارسها أن يبذل حياته، هل يخشى من عقوبة يحتمل أن تطبق عليه تؤدى إن ثبت فعله إلى أن يحكم عليه بالحبس ستة أشهر؟ أم أنه يطلب الإقرار بشرعية فعله، ولكن شرعية فعله لم تكن وقتها تحتاج إلى تشريع يعترف له بها، لأن مصر كلها كانت على حماس بالغ بهذا الصنيع. الحقيقة أننى لم أعرف بعد ذلك وعلى مدى السنين أى جدوى لمثل هذا المطلب، إلا أنه صادر عن مجرد حماس وعن روح خطابية يمكن أن تؤذى أكثر مما تفيد، لأن استجابة الدولة لهذا المطلب من شأنها أن تضعها فى حالة حرب مع القوات البريطانية، بما يترتب على ذلك من نتائج مواجهات عسكرية نظامية غير متكافئة أبدًا. أتذكر ذلك جيدًا عندما أسمع اليوم أصواتًا كثيرة تدعو دولها العربية إلى ما أسمته هذه الأصوات "فتح الحدود" مع إسرائيل لوصول الفدائيين العرب إلى الانضمام إلى زملائهم فى فلسطين، كما لو أن الحدود عليها أسوار مبنية وأبواب مغلقة تفتح بقرار سياسى أو بقرار إدارى، وكذلك الدعوة التى تذيع أحيانًا تطالب الحكومات بأن تعلن "الجهاد" على إسرائيل، وكأن الجهاد يحتاج إلى إذن من الدولة لكى يبدأ ولكى يكون مشروعًا. والحاصل أن أيا من هذين المطلبين، لو أن دولة من دولنا استجابت إليه بالطريقة المطلوبة، لكان ذلك بمثابة اشتباك فى حرب نظامية مع إسرائيل، وهو أمر لا أظنه واردًا فى تفكير من يطالبون بأى من هذين المطلبين، إنما قد يكون الدافع إليه هو حث الحكومات لكى تتخذ موقفًا أكثر وضوحًا وصلابة فى مواجهة العدوان الإسرائيلى. وهذا الدافع مع مشروعيته إلا أن التعبير عنه بإعلان فتح الحدود أو إعلان الجهاد هو تعبير يجاوز حدود المعقول والمطلوب، كما أنه غير مفيد، لأن من المعروف أن ما يضبط من عمليات التهريب عبر الحدود لا يمثل أكثر من نسبة قليلة مما يجرى تهريبه فعلاً، وهذا يحدث بالنسبة لأقوى الدول العربية من حيث الانضباط الأمنى، ناهيك عن الدول الأقل قدرة فمن يريد أن يمارس لا يحتاج إلى سبق إجازة بفتح الحدود. ومن جهة أخرى، فإن من يطلب الجهاد وينضم للمقاومة بروح الفداء، لن يخشى أن تعتقله شرطة بلده، كما أنه لا يخشى يقينًا أن يتربص به المتربصون عند الطرف الآخر. والدول والحكومات لا تسمح مسبقًا بأى تحرك شعبى واسع ومطَّرد، إنما هو يحدث بموجب الأمر الواقع، وتضطر الحكومات إلى السكوت عنه فى إطار الملاءمات السياسية التى تقدرها. وكل ذلك فيه من الدفع والجذب ما فيه، وأن التحركات السياسية تبدأ بالممارسة، وتستمر بالإصرار وبالدأب وبقبول حجم ما من المخاطر وحجم ما من التضحيات. وأن مخاطر مواجهة تحرك شعبى لحكومته فى القضايا الوطنية، هى مخاطر أهون كثيرًا من مخاطر مواجهة قوى الاحتلال العسكرية، التى تبغى حركات المقاومة الشعبية مواجهتها فى النهاية. وفى النهاية فإن موضوع المواجهة فى الصراع العربى الإسرائيلى، وإن اختلفت الأوضاع بشأنه بين مواقف الحكومات ومواقف الشعوب، وإن ظهرت سياسات حكومية لا تحقق الوضع الأمثل لهذه المواجهة، وإن بدا فى مسلكها ما يعوق ويعرقل تحريك وجوه المقاومة الشعبية على قدر الطاقة التى يستطيعها شعبها، إن بدا كل ذلك مما يستلزم النقد والمواجهة بأساليب الحوار والمواجهات المشروعة السلمية، إلا أنه ينبغى ألا يغيب عن الذهن أمران:ـ أولهما: أن مسائل الأمن القومى وعلى رأسها بالنسبة لنا هذا الصراع العربى الإسرائيلى، هذه المسائل لا تتباين فيها مصلحة الجماعة عن مصلحة الدولة، إذا نظر إلى الأمر فى أبعاده السياسية العامة، وبالنظر المستقبلى البعيد. وإذا بدا أحيانًا استغراق من أجهزة الدولة فى حماية ما يسمى بأمن النظام والخوف من شعبها، وإذا بدا نوع من الوهن وخفوت الإرادة السياسية خوفًا من الخارج أو ارتباطًا بقواه الأجنبية، فلابد فى النهاية أن تتعدل الموازين لصالح حماية الأمن القومى، والوطنيون يضعون بعضًا من رهانهم على هذا التحول والتعديل. ثانيهما: أجهزة الحكومة كلها فى بلاد مثل مصر تتكون من مهنيين هم مواطنون ووطنيون فى الغالب الأعم من تكوينهم الاجتماعى والثقافى والسياسى. وهم بأصولهم الاجتماعية وتوجهاتهم السياسية وتشكلهم الثقافى يعكسون الطابع الغالب الذى يتشكل منه التيار السياسى الثقافى الأساسى فى بلادهم. وهم بحركتهم التلقائية فى نشاطهم، وفى حدود الانضباط المعتبر للخضوع الرئاسى وللهرمية الإدارية، يغلبون بقدر ما يستطيعون ما فيه الصالح الوطنى العام، وخاصة فى القضايا ذات الإجماع الشعبى المتعلق بأمن الجماعة وصوالحها القومية العامة، وأن جزءًا من رهاننا يتعلق بتقدير هذا العنصر وحساب آثاره الإيجابية فى أى تحرك شعبى يبغى فى النهاية الصالح الوطنى العام تجاه مخاطر الخارج. وأن المشكلة غالبًا فى مثل هذه الأمور تكون مع القرار السياسى ومع مبعث الإرادة السياسية، والوطنيون يضعون بعضًا من رهانهم هنا على تقديرهم لوطنية هؤلاء المهنيين الذين تتكون منهم أجهزة الحكم والإدارة والأمن الجماعى. ونحن فى النهاية شعبًا وأجهزة دولة، وفى مسائل الأمن الجماعى للأمة وفى المسألة الوطنية، يصيب الضارب منا ما يصيب المضروب، وإن أى رشاش ينجرح به الضارب بقدر ما يصاب به المضروب. [ 7 ] وفى النهاية فإن الولايات المتحدة الأمريكية هى التى أسقطت مفهوم الشرعية الدولية، وهى لا تترك أية فرصة لصديق لها ولا لعميل أن يقنع ساذجًا منا بأنها ليست خصمًا لنا، ولا أنها دون إسرائيل فى خصومتها للعرب، فى فلسطين وفى غيرها من القضايا المثارة. وهى وإسرائيل لا تتركان فرصة لصديق لهما أن يقنع ساذجًا وطنيا بأنهما تبغيان أى نوع من السلام معنا ولا بأن تعترفا بآدمية هذا الذى نسميه "نحن العرب". وليس أمامنا إلا الاغتراب الكامل عن المنطق الأمريكى الإسرائيلى. والولايات المتحدة الأمريكية، بمسلكها الدولى فى العقد الأخير، وبخاصة فى السنة الأخيرة، لم تعد تهتم بضرورة وجود أية صياغة فكرية لأى نمط للشرعية يستر تصرفاتها وأفعالها، ولم يعد يهمها أن يقوم ثمة نوع من التقبل العام لمنطقها أو لنمط شرعيتها، كما كانت تسعى قديمًا أيام حربها الباردة مع المعسكر الاشتراكى ودوله بقيادة الاتحاد السوفيتى. وهذا النمط من التجبر البواح ومن السفور العنصرى ومن استخدام القوة بغير ساتر شرعى ولا شبه شرعى لها، ومن الزهو والخيلاء، كل هذا يخفف عنا جهودًا فكرية كثيرة، كانت يمكن أن تصرف لكشف مستور أو تبيين عورات خفية، أو توضيح أضاليل أو تكذيب أكاذيب، وصارت القوة المادية المعتدية تواجه بقوة الصدور العارية وبروح الشهادة، وصارت الدنيا تواجه بالآخرة. والسؤال الأخير: ألم نلحظ من وقائع التاريخ بدوله وأنظمته المتتابعة، أن هذا التجبر والقهر والشراسة كانت فى الغالب من ملامح نهاية العصور ومن مظاهر الانحدار والأفول بالنسبة للدول العدوانية. إن القــول بأن السـلام خيـار إســتراتيجى، يقـال أمام مســتعمر اســتيطانى يمــلك السـلاح النـووى، هـو قـول لا يفضـي إلا إلـى الاستــــسلام
أن كفالة الأمن القــومى هـى أهــــم من كفالة الماء والخبز، بل عـــلي وجه الدقة فإن قضايا الماء والخبز هى بعــض عناصـــر الأمــــــن القومى، ويفوقهـــــــا خطــرًا وجــــود دولــــة عنصــريـة تـوسعية تكتسح أهالينا اكتساحًا مــن أراضيـــهم
فى الفكــــر الســياســـــى الذائــــــع الآن، صـــارت أمريكا الشـــمالية وأوروبـــا الغربيــة همــــا العالم، منذ السبعينيات، وصارت أقوال الساسة الأمريكيين وكتابات المفكرين السياسيين الأمريكيين هى العـــــلم، ونكاد ـ إلا مــــن عصـــــم ربك ـ نكــــرر ما يقولون، على مدى خمس عشرة سنة
إن الولايات المتحــــدة الأمريكية هى التـــــى أسقطت مفهوم الشرعية الدولية، وهى لا تترك أية فرصة لصديق لها ولا لعميل أن يقنع ساذجًا منا بأنها ليست خصمًا لنا، ولا أنهـا دون إســرائيــل فــي خصـومتـها للعــرب
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة