انتِ بيروت أنتِ لي؟



بين ألفــــة الحنين.. وبريق المعاصـــرة، تظل هناك علامة استفهام، أزليــــة الوجــــود.. أبـــدية الإلحــاح. وتظــــل هنــــاك ـ بيــــن القطــــبين ـ «وجهات نظر». ماذا بعد الحرب.. غير الدمار. سواء جاء رُخ الخراب الأسطورى عبر البحار.. والمحيط، إلى الفرات. أو أفرخت الأفاعى بيضها المطمور فى تربة قلبتها وعبثت بها كل الأصابع، والحوافر.. بل والحناجر. هكذا بيروت (العروس) كانت لعقد كامل من الزمان. لم تكن فيه تعرف على وجه الدقة، من يحارب من؟ أو بالأحرى من يحارب لمن؟! وللحروب ثمن. يعرفه من زار تلك المدينة الجميلة بعد الحرب. ويعرفه من شاهد هذا الكتاب. انتهت الحرب/الملهاة. وعادت بيروت إلى أهلها الطيبين وعادت «أجيال الغربة» إلى وطن، ربما لا يعرفون مذاقه ولم يشموا عبقه الذى عشقه عرب نصف القرن المائج المدعى اختصارًا: (العشرين): مفكرون، وسياسيون، وأدباء.. وبسطاء. ومدمنون لرائحة الزعتر.. وصوت فيروز. بيروت تعافت. وكالطائر الفينيقى فى الأسطورة الشهيرة، ها هى تخرج من تحت الرماد. قبل أشهر صدر كتاب مصور بعنوان «ذاكرة بيروت» وهنا وجهتا نظر فى المشهد البيروتى «الآن» صور الكتاب رصدت تغيرًا إيجابيا حدث فى المكان. وقلم كاتبتنا شاهد تغيرًا عولميًا حدث فى البشر وبين الرؤيتين.. ستظل دائمًا علامة الاستفهام. المحـــرر
فى تلك الليلة لم أنم، وتملكنى ألم فظيع فى المعدة جعلنى أتقلب فى فراشى حتى بزوغ الفجر.. فجر نهار بدأته فى القاهرة وأنهيته فى بيروت بعد غياب دام ثلاثة أشهر، كيف سأراها يا ترى وكيف ستراني؟ هى التى هربت منها بعدما انسابت بين أناملى يوماً بعد يوم حتى فقدتها فى كل شيء إلا فى صوت فيروز تغنى سحر بحرها وخضرتها وبركة مياهها والجبال.. ودّعته وأنا أعده بتوفير مسرحيات فيروز وعاهدت نفسى على أن تكون أول ما أبحث عنه.. وصلت لبنان وتهت فى شوارعه النظيفة، المبتلة بالمطر أفّتش.. قصدت وسط المدينة، بيروت العروس فى أبهى حللها وأرقى تجلياتها فلم أجد فيروز.. غابت فيروز عن مربع منتجع «سوليدير» السياحى فى وسط البلد، حيث تمركزت أفخم محلات بيع الأشرطة والتسجيلات، أُسقطت فيروز «بيت الدين» و«بعلبك»، ولم يعتل الأرفف المنمقة أمامى سوى حفلة واحدة فقط: «فيروز فى لاس فيجاس»، هذا بالضبط، وهذا فقط ما يعرفه السائحون ويهمهم.. خرجت أجر ذيول الخيبة ورائي، وقلت ربما يعزينى تجوال حالم فى شوارع وسط المدينة الجديدة الباهرة. لم أعرف المكان ولم يعرفنى.. باعتنى المدينة.. باعت ذكرياتنا ودفعت الثمن مهرًا لقواد تألقت له بأحلى حلة مستوردة. فرضت عجلة الاقتصاد والسياحة على بيروت نمطًا استهلاكيا علمها أن تحذو حذو مراهقة أمريكية: لا قيمة للعلاقات مع المكان والإنسان أمام ضرورة التجديد للمحافظة على الموقع الأول فى صف المنافسة فى مباريات ملكات الجمال.
(جدو أبو حسن) الذى كان محطتى لأشترى منه كل يوم مخزونى من منتج شــــوكولا لبنــــانى لشـــــركة غنـــدور اللبنانية (رأس العبد) لم يعد موجودًا، وحــل محــــله مطعـــم فخم ذو زجاج لامع. لم يعد هناك من مجال لبناء تاريخك الشخصى فى مدينتك فهى باعتك بثمن بخس، واستبدلت بك جوقة من المرتزقة يغتصبون جمالها يوماً بعد يوم. لم أجد بيروت. قناع الراقصة المتأنقة أخفى تجاعيد الأم الحنون وبت أشعر فى أحضانها بالصقيع. الجو برد فعلاً، لكن هذا لم يمنعنى من إكمال نزهتي، ربما أجدها تفترش إحدى النواصى على شكل زهرة تقوم يد المستثمر التى ترشها كل يوم بمادة كيميائية لتزهى ألوانها الاصطناعية. شددت معطفى على جسدى أحايل الهواء الذى يحاول الوصول إلى ضلوعى ومشيت. ساحة النجمة، البرلمان. شارع طويل يمتد بين رصيفين يعجان بالمقاهى الفخمة يعتلى كراسيها أقرباء لنا يحدجون الفاتنات اللبنانيات بنظرات شبقة، ويستعدون مسبقًا لتمتمة بعض الكلمات وربما لتبادل أرقام التليفونات معهم. آه يا بلد. لكننى سأمر.. وسأجد بيروتي، مدينتي، زهرتي، بحرى وأمى. مبان مرممة بتأنٍّ، ودقة لا تترك مجالاً للفوضى الجميلة. مبان وشوارع محت 17 سنة من الحرب وشركة استثمارية سعيدة بنجاحها لم توفر على نفسها فرصة التغنى بما اقترفت يداها: معرض صور على طول الشارع زاخر بعرض إنجازاتها بعد الحرب، جسد المدينة المشوة وعمليات التجميل التى أجريت له، غاب عنهم أن الجمال مرتبط بالمعني، وأن التشوه هو فى كمال الصورة التى تفتقر إلى العمق لا فى عيوبها الإنسانية الحقيقية. كان المتحف جميلاً حين اعترف بالحرب.
حين دخلته أول مرة بعد افتتاحه، أحببت أن أحتضن جدرانه الوسخة الملطخة بذكريات القناصين والمتحاربين الذين تركوا عليه رسائل حـــب ووداعات وجمـــل حشاشين يائسين. بيروت الجديدة محت تاريخها، وخلت من الذكريات. نظرت إلى اللوحات بأسى وحنين لماض سرقوه منى قبل أن أعيشه ويعيشني، ولم ينبهنى غير صوت يرطن بالفرنسية لفتاة بيروتية تعبر بتأثر عن مدى جمال ما آلت إليه بيروت فأحسست بالغربة. لفظتنى مدينتى ونفتني، اقتلعت تاريخ أهلى وفتحت يدين مجليتين للوافد الأغر.. لست ضد الترميم لكننى ضد التنميط.. لست ضد الجمال لكننى ضد السطحية.. لست ضد مهرجانات التسوق ومفخرة بيروت سويسرا الشرق لكننى ضد بلد يلفظ أبناءه، ويمزق تاريخه فى سبيل بيع جسده. أنا لا أنكر أن التحدى كان كبيرًا على المرممين، وأعرف أنهم بذلوا مجهودات وطاقات خرافية للحفاظ على نفس الطراز المعمارى للأبنية، مرتكزين على تمويل الشعب الذى دفع من عائداته الشخصية نقودًا على شكل ضرائب للنهوض ببيروت. لكننى ألوم عيونهم الأوروبية، كيف أنها لم تلحظ تفتت الهوية بين أياديهم البناءة وانسياب الوطن من بين أنامل أهاليه. وسط بيروت. لمن هو؟ هو بالتأكيد ليس لمن دفع من عرقه ودمائه فى ترميمه، لأنه آل إلى منطقة باذخة ومترفة لا يستطيع رشف قهوته الصباحية فيها دون أن يدفع مبلغًا يفوق طاقته. (ســــــــوق ســـرســـــق)، (ســــــــــــوق النــــورية) وأسواق أخرى اختفـــت أمام El Parlamento, Diva Bar, Casper and Gambini ومحلات لبيع الألبسة الإيطالية، فمن هو اللبنانى رائد وسط بيروت؟ Cut!! مشهد آخر، شارع الحمرا الطويل وأصوات باعة الجرائد على الأرصفة. ساحة الشهيد (خالد علوان) بالتحديد. هذا البطل الذى فجر نفسه على ناصية (الومبي)، المقهى الذى كان يشرب فيه ضابط إسرائيلى قهوته أيام الاجتياح، فمات قبل إنهاء فنجاله الساخن. كلا لن أدخل إلى الومبي، فأنا أشتم فيه رائحة نخبــوية رواده. سأدخل المودكا، هذا المقهى ابن العشرين ربيعًا المنفتح على كل أشكال الحياة وأنواع الزبائن.. مناضلو الستينيات تركوا بصماتهم على طاولاته، منظرو كل الأزمان يرتادونه. الفنانون والرسامون، الكتاب والشعراء، البسطاء والناس العاديون يحبون الجلوس على كراسيه المرصوصة على الرصيف المشمس.
سأطلب القهوة وأشترى الجريدة من عم (رمّال) قريب (رمّال رمّال)، ذلك النابغة اللبنانى الذى درس فى الغرب بمنحة، وعمل فى الغرب بلعنة جعلتهم يصفّونه جسديا عندما طلب زيارة أهله فى لبنان حتى لا يحمل معه أسرار مختبراتهم العلمية. اعتقدت لوهلة أننى أخطأت الشارع، لكن يا ربى.. هذا لا يعقل.. هذا هو الومبى ثابت فى مكانه. وCafé de Paris على الرصيف المقابل، وبيروت لم يضـــربها زلــــزال عن قريب.. فأين المودكا؟ لماذا يحتل زاويته عمال وخشب وتفـــــــوح مــــن قبــــره رائحــــــــة تـــــراب وغبــــار؟ هذا لأن صاحب المودكا المصون باعه لشخص جديد علّق على بابه يافطة مكتوبًا عليها: قريبًا افتتاح محلات Vero Moda للألبسة. كادت أن تفلت منى صرخة كبتّها فاستحالت غصة مازالت فى صدرى حتى الآن. ما هذا التحامل على الذاكرة؟ لم هذا الإصرار على النهج الاستهلاكي؟ ولماذا تدهسنا عجلة الرأسمالية المتوحشة وتطمس عوالمنا وتمحو تاريخنا؟
ومن ألوم؟ عـــدت أحمــــــل المــــــرارة فى نفســي، وفى يــــــدى جــــــــريدة ســــــأقرأها فى المنـــــزل. لــــــــن أقـــــــــــــرأ الجـــــــــــــــــرائد فــــى Star Bucks Café إن كان هذا هو ما يريدونه. لن يحصل. وبالمناسبة، لم أعد إلى القاهرة دون أشرطة فيروز، وجدتها فى زقاق قديم بمنطقة حزام البؤس البيروتى فى الضاحية الجنوبية، هناك حيث مازالت تطفو أقنية الصرف الصحى حين تمطر بغزارة.. هناك عاش صوتها ولم يمت بين بشر نجوا من موجـــة التحـــديث الهوجاء، فعــــاش الوطـــن فيهم، وعاشـــوا على هامشــه. ذاكرة بيروت
صور: أيمن تراوي
بيروت: أيمن تراوي، 2003
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة