هــــَــذا الإعصـــَـــارالأمريكي!



أسلوب جديد فى استخدام السلاح لكى يمكن فهم وتحليل مشهد هذا الإعصار الأمريكى الذى يضرب المنطقة العربية هذه اللحظة (أبريل 2003) ـ فقد يلزم الاتفاق كمقدمة ـ على مجموعة من الطبائع والأحوال، وبقع اللون والظل والفراغ فى هذا المشهد ـ حتى تبين الصورة وتتضح التفاصيل. ومع أن مشهد هذا الإعصار الأمريكى العاتى فيه الكثير مما هو مألوف ومعروف ـ إلا أنه فى بعض الأحيان وعندما تحل الطوارئ ـ يكون استرجاع المألوف والمعروف ضروريا ولازما لسببين: ـ من ناحية ـ إعادة التأكيد ـ حتى مع محظور التكرار. ـ ومن ناحية ثانية ـ فرز المألوف المعروف عما هو طارئ مستجد ـ وذلك هو الطلب! 1 ـ وبداية فإنه يلزم الاتفاق على أن حركة التاريخ مجرى إنسانى عريض وعميق صبت فيه الجماعات والشعوب والأمم ملكاتها الفكرية والعقلية، ومنجزاتها فى العلوم والتكنولوجيا، وما حققته من حصيلة الإنتاج والتراكم، وما تجمع لديها من مطالب القوة والتفوق ـ محفوفة بما توفر لديها من حكمة وقيم وفلسفة وفن. 2 ـ ثم إنه يلزم الاتفاق ـ أيضا ـ على أن التدافع الهائل للحركة الإنسانية عبر التاريخ هو الذى سمح بظهور مجتمعات ودول وإمبراطوريات ضخمة برزت على طول مجراه، وأن هذه المجتمعات والدول والإمبراطوريات حافظت وأضافت فى أحوال صعودها أو انحلالها على مستودع ذاكرة إنسانية متعددة فى منابعها الثقافية متلاقية فى مجرى واحد أصبح منهلا وموردا لكل من يريد أن يدرس ويستوعب قصة الحضارة من بدايتها وحتى اللحظة الراهنة. 3 ـ ويلزم الاتفاق بعدها مباشرة ـ على أن قصة الحضارة يقوم على تمثيلها كل بطل علا صيته فى زمانه. وفى أزمنة قريبة فإن تمثيل الحضارة الإنسانية تجلى مرة بملامح فرنسية على عهد «لويس الرابع عشر»، ومرة بملامح إنجليزية على عصر «فيكتوريا»، وأخيرا تجلى بملامح أمريكية ابتداء من رئاسة «فرانكلين روزفلت» للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ـ دون أن يعنى ذلك أن عصور «لويس الرابع عشر» أو «فيكتوريا» أو «فرانكلين روزفلت» هى كاتبة النص الحضارى ـ فذلك النص كتبته الثقافات الإنسانية جمعاء، وتعاقب على تمثيله النجوم مع اختلاف العصور، وقامت عليه الإمبراطوريات بأحكام التقدم والغلبة! 4 ـ ويلزم الاتفاق ـ كذلك ـ على أن الإمبراطورية الأمريكية حلقة أخيرة فى سلسلة متوالية من الإمبراطوريات ـ لكن هذه الإمبراطورية الأمريكية جاءت لأول مرة فى التاريخ مستغنية عن وطنية شعب على أرض ـ أو جامع أمة بعلاقة قرابة أو لغة أو تاريخ، لأن قيامها بالدرجة الأولى لم يكن له رابط غير المصلحة ـ تعبر عنها «السوق» فى نهاية المطاف، وكان توسيع السوق هو حافز الحرب الأهلية الأمريكية كى تضم الجنوب الزراعى إلى الشمال الصناعى وتتمدد غربا، ثم تعبر المحيطات إلى عوالم أبعد ـ أى سوقا أكبر. 5 ـ ويلزم الاتفاق ـ أخيرا ـ على أن هذه الإمبراطورية الأمريكية وبأحوال وظروف نشأتها وصعودها، أخذت بنزعة القوة لبلوغ غاياتها حتى وإن جاء ذلك على حساب قيامها على التراكم الحضارى الإنسانى، ولأن منطق السوق الذى هامت غراما به هو بطبائعه عملية إزاحة لأى منافسة ـ وإصرار يسعى بالضرورة نحو سيطرة غير مشروطة ـ وذلك طبع الاحتكار. وكان استعمال القوة فى عهود إمبراطورية سبقت ـ مغلفا على الأقل ـ باعتبارات ملاءمة إنسانية جرى عليها العُرف واستقرت التقاليد. [وفى هذا الموضع أتذكر حوارا أشرت إليه من قبل ـ دار بينى وبين القائد العسكرى البريطانى ذائع الصيت الماريشال «مونتجمري» (بطل العلمين، وهى واحدة من أهم معارك الحرب العالمية الثانية ـ وقد جرت على صحراء مصر الغربية خريف سنة 1942 ضد الجيش الألماني) ـ وفى هذا الحوار أورد الماريشال العتيد ما أظنه نوعا من التوصيف «المحترم» لشروط استعمال القوة المسلحة (الحرب) ـ وقال الماريشال فى كلامه: «إنه لابد فى استعمال قوة السلاح من توافر عناصر مبدئية لتسويغ الحرب مؤداها: أن يكون لدى شعب أو أمة أو إمبراطورية هدف مطلوب سياسيا، وممكن عمليا، وجائز قانونيا، ومبرر أخلاقيا». ومع أن القوانين والأخلاق فيما سبق من تجارب التاريخ ـ تعرضت للذرائع والأهواء، إلا أن استعارة مبادئها ـ حتى تعسفا ـ لم يغب قط عن ساحات الحرب. وبساتر المبادئ فإن الحروب الاستعمارية لم تكن للاستيلاء على موارد وأقدار شعوب ـ وإنما كانت «لنشر الحضارة فى قارات الظلام»، أو «منع الرق» وتحريم استغلال الإنسان للإنسان (رغم أن الجماعات المهيمنة لم تؤرق نفسها ببؤس الرق إلا عندما اطمأنت إلى أن طاقة البخار حاضرة لتعويض عضلات العبيد، وأنها كذلك طاقة أرخص!). وعلى نفس القياس فإن الحرب العالمية الأولى لم تكن مذبحا هائلا للبشر من أجل توزيع المستعمرات ـ وإنما كانت حربا من أجل الحرية والتحرر. والحرب العالمية الثانية التى انتهت بكابوس نووى، لم تكن حربا ورثت بها أمريكا ما سبقها من إمبراطوريات ـ وإنما كانت حربا لتصفية شرور النازية والفاشية. والمعنى أن الحروب على طول التاريخ، احتاجت إلى سواتر أو ذرائع قانونية وأخلاقية أو شبه قانونية وأخلاقية، وأما فى حالة الإمبراطورية الأمريكية فإن استعمال القوة مع تركيزها أو احتكارها ـ جاء مكتفيا بما لديه، مستغنيا عن أية إضافات إنسانية «جمالية» ـ فوقه! ......................
...................... [وهنا فإن منطق القوة الأمريكية حين تمارس دورها ـ عبر عن نفسه بأصرح وأصدق ما يمكن بنظرية الدكتور «هارلان أولمان» (وهو أحد المستشارين المسموعين فى البيت الأبيض، وفى الأصل أستاذ علوم سياسية فى كلية الدفاع الوطني) ـ وكان تعبيره عن نفسه أقرب إلى البوح ـ بحيث يصح أن يستعاد للتذكر والتفكر. فقد كتب الدكتور «أولمان» مذكرة بعنوان «الصدمة والرعب» (Shock and awe) وُضعت أمام الرئيس الأمريكى ونشرتها الصحافة الأمريكية (وبينها جرائد نيويورك تيمس، وواشنطن بوست، ولوس أنجلوس تيمس) ـ وفيها يقول بالنص: «إن الولايات المتحدة عليها أن تستعمل أقوى شحنة من القوة المكثفة والمركزة، والكاسحة ـ بحيث تنهار أعصاب أى عدو يقف أمامها، وتخور عزيمته قبل أن تنقض عليه الصواعق من أول ثانية فى الحرب إلى آخر ثانية، ويتم تقطيع أوصاله وتكسير عظمه وتمزيق لحمه دون فرصة يستوعب فيها ما يجرى له!». ومن المقلق أن الدكتور «أولمان» ظهر بنفسه على شبكة C.B.S (وهى أكبر شركات التليفزيون الأمريكية) فى 9 فبراير الماضى يتحدث عن «نظريته فى الحرب» مركزا على عدة شروط: ـ أن استعمال أقصى درجات العنف من أول لحظة كفيل بتوليد إحساس بالعجز لدى العدو، يجعله مأخوذا بطغيان تفوق عليه لا مثيل له (ولعل ذلك الأثر هو المقصود من مشاهد الحشد العسكرى الأمريكى المتوحش حول العراق من قبل بدء أية عمليات، والظاهر أنه أحدث أثره ساحقا فى عدد من العواصم العربية وصلت إلى التسليم اليائس بأنه طوفان كاسح لا يمكن إيقافه ـ ومن قبل أن تقتحم الجيوش حدود العراق!). ـ أن تكون بداية الضربة الأولى على بغداد حاملة لـ 800 صاروخ من طراز كروز متلاحقة على مدى يومين أى بمعدل صاروخ كل أربع دقائق، وفى هذين اليومين ـ طبقا لأولمان ـ فإنه لابد من تدمير كافة محطات الطاقة والماء، وعليه فإنه عندما يجيء اليوم الثالث يكون «سكان العاصمة العراقية قد تأكد استهلاكهم نفسيا ومعنويا ـ قبل ماديا وجسمانيا». ـ والأثر الذى يجب أن تُحدثه اللحظة الأولى من الحرب، لابد أن يكون مقاربا لأثر قنبلة هيروشيما التى أقنعت القيادة العليا اليابانية والإمبراطور «هيروهيتو» بأن حياتهم ذاتها تحت رحمة الغزاة، وفى رأى «أولمان» أن ذلك ممكن فى حالة العراق حتى إذا لم يقع استعمال قنابل نووية، اكتفاءً «بأسلحة متفوقة» لها قوة فتك غير محدودة. ثم يختم الدكتور «أولمان» شرحه لنظريته فى حديثه التليفزيونى بقوله: «إنه قام بتدريس منهج كامل عن نظريته لكبار القادة السياسيين والعسكريين فى كلية الدفاع الوطنى، وكان بين الجالسين على مقاعد الدرس والتحصيل أمامه: «كولين باول» (رئيس هيئة الأركان السابق فى إدارة بوش (الأب)، ووزير الخارجية الحالى فى إدارة بوش (الابن)!». (وذلك فى الوقت نفسه ـ حتى تتصل الجذور بالفروع ـ منطق يختصر الوقت، ويقلل فى التكاليف، ويوفر الخسائر فى أرواح المهاجمين الذين تربوا على أن الوطن مساهمة فى شركة وليس تضحية بدم)]. ......................
...................... 6 ـ يجيء بعد ذلك فى سياق ما يلزم الاتفاق عليه ـ أن هذه الاستراتيجية فى استعمال القوة المسلحة الصاعقة، لم يكن ممكنا تطبيقها فى زمن الحرب الباردة، لأن وجود الاتحاد السوفيتى فى مواجهة الإمبراطورية الأمريكية فرض درجة من التحفظ استوجبها ميزان الرعب النووى. ومع أن كلا من «القوتين الأعظم» زمن الحرب الباردة، كلتاهما اهتمت بالحروب المحلية المحدودة وربما شجعتها وحرضت عليها كميادين لاختبار القوة، واحتلال ـ أو إخلاء ـ المواقع، فإن «الإمبراطوريتين الأكبر» فى نفس الوقت وعلى امتداد قرابة نصف القرن حرصتا على حصر دائرة النار وإبعادها بكل وسيلة عن خط التماس المباشر بينهما. وهكذا فإن الصراع بين الإمبراطوريتين ـ إمبراطورية السوق وإمبراطورية الشيوعية ـ دار بالوساطة، ودار بالأساليب الخفية والنفسية والاقتصادية، أملا فى اتقاء المحظور وتجنب الدمار المتبادل فى جحيم نووي! 7 ـ وأخيرا يلزم الاتفاق على أنه فى تلك الفترة الحرجة (من الحرب الباردة) ـ فإن الولايات المتحدة الأمريكية، منحت تفويضات مفتوحة فى مناطق مختلفة من العالم لقوى إقليمية كلفتها بدور رجل البوليس المحلى ينوب عنها فى استعمال السلاح عندما تقتنع الولايات المتحدة بأن دور السلاح قد حان فى التعامل مع بؤر مقاومة فى إقليم معين ـ ثم إنه فى إطار هذه التفويضات برز دور إسرائيل فى الشرق الأوسط قبل أى وكيل غيرها (مثل كوريا الجنوبية أو جنوب أفريقيا العنصرية أو إيران الشاهنشاهية)، وزاد أن إسرائيل نتيجة اعتبارات إضافية، تمكنت من خلق توافق استراتيجى مع الولايات المتحدة شجعته الإمبراطورية الأمريكية واستفادت من نتائجه. والشاهد أن إسرائيل إلى جانب التوكيل الممنوح لها فى حفظ المصالح الإقليمية للولايات المتحدة ـ بدت قادرة ـ بالزيادة فوقه ـ على تعبئة يهود العالم وراء الولايات المتحدة ـ وعلى التأثير فى أهم وسائل الإعلام والترفيه ـ وعلى جمع المعلومات من قلب الاتحاد السوفيتى ومحيطه ـ ومستعدة لأية مهمة تكلف بها دون تدقيق فى المقاييس والمعايير ـ وذلك خلق فى الشرق الأوسط ـ ضمن ما خلق ـ تناقضا بين الحقائق وخللا فى الموازين: بحكم أن المصالح الأمريكية كلها عند العرب، وتأمين نفس المصالح موكول إلى إسرائيل ـ مع تفويض لها تتصرف كما ترى ـ أو كما يُطلب منها! 2 ســـــباق بــين «البيــــــان» ـ و«الإعـــــلان»! بعد ذلك وفى طلب مزيد من الفهم والتحليل لمشهد هذا الإعصار الأمريكى العاتى الذى يضرب المنطقة العربية، فقد يكون مطلوبا استعادة بعض المشاهد ـ بعد لزوم الاتفاق على مقدمة له سبقت. ومع أن المشاهد فيها ـ بدورها ـ ما هو مذكور ومشهور، إلا أن مراجعة المذكور والمشهور قد تكون ضرورية ـ لسببين أيضا: ـ استثارة الذاكرة وتحفيزها ـ من ناحية. ـ والربط والوصل بين المواقف إذ يتضح سياقها ـ من ناحية ثانية. 1 ـ وعلى سبيل المثال فقد يكون مطلوبا استعادة أسلوب الدعوة والترويج التى اتبعتها القوتان الأعظم فى فترة الحرب الباردة، لأن الحرب الباردة كانت على الواجهة محاولة من كل طرف لتقديم نفسه للعالم، وتزكية نظامه أمام الشعوب، وتصويره على أنه شكل المستقبل، وبضرورة الأشياء فقد كانت طبيعة كل واحدة من القوتين موجهة لأسلوبها فى الدعوة والترويج. وفى حين أن الإمبراطورية الشيوعية اعتمدت أسلوب التبشير بفردوس تصنعه الطبقة العاملة بريئا من الاستغلال ـ فإن الإمبراطورية الأمريكية ـ وهى بالدرجة الأولى «إمبراطورية سوق» ـ اعتمدت أسلوب الإعلان فى توزيع وبيع السلع! وفى حين أن الإمبراطورية الشيوعية أخذت بالخطب الرنانة والبيانات الحماسية، يجيء ختامها دائما هتافا بالتحية «لنضال الشعوب» و«بسالة كفاحها» ـ فإن الإمبراطورية الأمريكية أخذت بفنون الإعلان، وأهمها أنه شعار واحد يقول كل شيء فى عبارة واحدة مختصرة تستثير صورا حافلة بالتشويق والإثارة. وفى حين أن الفردوس الشيوعى (مثل أى نعيم مقيم) مؤجل إلى ما بعد إتمام «بناء الشيوعية» ـ فإن السلع الأمريكية معروضة للكافة وفى إيحاءاتها أن شكل زجاجة الكوكاكولا وحده وإلى جانبه عبارة «هى الأصل» جاهز لاستدعاء مذاق منعش، وأن صورة ملونة للهامبورجر وإلى جانبها عبارة «لحم صاف» جاهزة لاستدعاء الشبع والامتلاء، (بل إن صورة الشارة المعدنية الصغيرة لسيارة كاديلاك جاهزة دون زيادة كلمة واحدة، لخلق جو من الفخامة والعز يجرى على أربع عجلات!). وبالفعل فإن معروضات السوق الجاهز فعلا، تمكنت من إزاحة وعد الفردوس المنتظر! كان أسلوب الإعلان الأمريكى يقول كل شيء فى عبارة واحدة أو صورة واحدة، وكان البيان الشيوعى وعدا مبهما يكرر ويزيد إلى درجة القتل بالملل! ومن المدهش أن الإعلان الذى يكتفى بعبارة واحدة وصورة واحدة، أدى فى مجال السياسة إلى مشاهد ملفقة، لكنها ـ اعترافا بالواقع ـ حققت غرضها. ......................
...................... [وأتذكر أيام كنت أغطى وقائع الثورة الإسلامية فى إيران أننى صادفت طواقم عدد من شركات التليفزيون الأمريكية تبحث فى «طهران» و«قم» و«أصفهان» عن مظاهرات تحرق العلم الأمريكى، وكانت تلك هى الصورة المطلوبة لإظهار أن الثورة الإسلامية عدو للولايات المتحدة وللغرب، وبالتالى فإن الرأى العام الأمريكى والأوروبى عليه أن يعاديها. وفى مرة من المرات فى ساحة «الشاهياد» فى طهران، صادفت موقفا لا يكاد يُصَدَّق، فقد وصل طاقم إحدى وكالات التليفزيون الأمريكى جاهزا بمصوريه وعدساتهم، واللافت أنهم جاءوا معهم أيضا بمجموعة من الأعلام الأمريكية يسلمونها بأيديهم إلى المتظاهرين كى يحرقوها أمام الكاميرات، وكان المتظاهرون بحماستهم متلهفين على تخاطف الأعلام الأمريكية وإشعال النار فيها إظهارا لمشاعرهم، دون أن يخطر لهم أنهم وقعوا ـ غير مدركين ـ فى شراك فخ الصور، الذى يبغى تسجيل المشهد الذى يقول كل شيء ـ ويعبر عن كل «واقع» ـ فى لقطة واحدة. وفى الممارسة العملية فإن الخطاب على الناحيتين لم يلبث أن فقد مصداقيته: ـ فخطاب الإعلان الأمريكى ظل سطحيا كالقشرة يحرض على شراء سلع، ولا يستطيع تأصيل قيم. ـ وخطاب البيانات ـ السوفيتى ـ أصبح تناقضا مع الواقع يبشر بالجنة ويسوق الناس نحوها على الطريق ـ بعصا غليظة (على حد تعبير الزعيم السوفيتى «نيكيتا خروشوف» فى نقده الشهير للزعيم الشيوعى «جوزيف ستالين»!). ......................
...................... [ولعل نفس الكلام يصدق من ناحية أخرى على الرئيس الأمريكى الحالى «جورج بوش» ـ ففى خطابه العام دعوة تقول أنها تريد تكريم الشعوب العربية بنعمة الديمقراطية ـ ولكن بإطلاق الصواريخ على من تشاء بينها!]. ......................
...................... وفى مجال الخطاب بعد مجال الصور، فإن أسلوب الكلمة الواحدة زاد واستفحل، لأن أى معترض على السياسة الأمريكية لاحقه وصف واحد يدمغه مرة بأنه «شيوعي»، أو «إسلامي»، أو«إرهابي» إلى آخر القائمة. كما أن أى رافض لهيمنة واشنطن أعيدت تسميته بـ: «هتلر» ـ أو «موسوليني» ـ أو «ستالين» ـ أو«أسامة بن لادن» أخيرا، وكأن لا فارق بين صروح برلين وكهوف قندهار، ولا بين الجيش السوفيتى وجند طالبان، ولا بين أرقى القوانين الرومانية وفتاوى «المُلا عمر» بأن الأرض مسطحة وليست كروية، كما يزعم «أهل الكفر»!]. ......................
...................... 2 ـ وقد يكون من المطلوب ـ أيضا ـ استعادة ما ظهر من أن فنون «الإعلان الأمريكي» تفوقت بشدة على وعد «الفردوس الشيوعي»، وبرغم ذلك فإن إمبراطورية السوق ظلت تواصل الضغط ضد الخطر السوفيتى وتبالغ فيه، حتى وقت لم يعد باقيا فيه من هذا الخطر غير ترسانة نووية ضخمة مهددة بالشيخوخة بسبب نقص الموارد ـ ومن باب الحيطة فإن هذه الترسانة المتهالكة بقيت فى الظنون، باحتمال أن زعيما سياسيا يائسا أو جنرالا عسكريا مجنونا قد يقوم فى اللحظة الأخيرة بمغامرة ابتزاز حمقاء يقترب فيها بأصابعه من الأزرار الحمراء، واضعا الدنيا على حافة هاوية! ولم تجد الولايات المتحدة طمأنينة وهى تتابع مرور عشرين سنة من الركود الكبير قضاها الزعيم السوفيتى المريض «ليونيد بريجنيف» على القمة فى الكرملين. ولم تجد الولايات المتحدة طمأنينة حتى وهى تتابع المواكب الجنائزية لقادة سوفييت («بريجنيف» و«تشيرنينكو» و«أندروبوف») بعد أن وصلوا إلى القمة، وقد أخذت منهم السنون والعِلل ضرائبها، وراحوا يموتون واحدا بعد واحد. ففى تلك الأوقات كانت الترسانة النووية السوفيتية الضخمة سيفا معلقا، واحتمال وصول زعيم يائس أو جنرال مجنون إلى شفرة تشغيلها ـ واردا ومؤرقا! 3 ـ ومن المطلوب استعادة لحظة سقوط حائط برلين (9 نوفمبر 1989) ـ وسقوط الاتحاد السوفيتى نفسه بعد ذلك بسنتين، عندما آلت قيادته إلى رجلين، أولهما واقعى إلى درجة الاستسلام يهيئه الضعف واليأس (جورباتشوف)، والثانى خيالى إلى حد الأوهام ومعظمها يهيئه إدمانه للفودكا (يلتسين) ـ ومع ذلك ظلت الولايات المتحدة الأمريكية غير مصدقة للمشهد الذى تراه أمامها ويراه العالم بأسره. وظل البيت الأبيض ـ وفيه أيامها الرئيس «رونالد ريجان» ـ مأخوذا بهذه الصورة المذهلة لما يجرى داخل وخارج أسوار الكرملين. وكان أكثر ما فاجأ واشنطن أن الرجلين الباقيين على دفة الإمبراطورية الشيوعية (يلتسين وجورباتشوف) ـ كلاهما راح يستعين بها ضد رفيقه، ومن جانبها فقد كان مُناها الخلاص من الرجلين معا، وفى نهاية المطاف تكفل كلاهما بإنجاز المهمة وتحقيق المُنى. ومع أن المعلومات المتدفقة على المكتب البيضاوى ـ مكتب الرئيس فى واشنطن ـ كانت مؤكدة ومفصلة فى رصدها للسقوط الكبير ـ فإن كافة أجهزة الإدارة الأمريكية حول البيت الأبيض، وفيها وزارة الدفاع (البنتاجون)، ووزارة الخارجية، ووكالة الاستخبارات الأمريكية (C.I.A) ظلت تفرك جفونها تتأكد أن ما تراه هو الحقيقة، ثم كان أول همها وسعيها بعد أن ثبتت الرؤية إبداء اللهفة على مصير الترسانة النووية السوفيتية، والهرولة على عجل بعروض مساعدة على تأمينها (إزاء عمر افتراضى قارب أجله) ـ وخوفا من مجهول يمد أصابعه إلى زر أحمر مع لحظة مزاج انتحاري! 4 ـ ومن المطلوب استعادة حقيقة لا يصح أن تغيب عن الاعتبار، وهى أن الصراعات الكبرى بين إمبراطوريات التاريخ الكبرى ـ وحين تستحيل المواجهة المباشرة بالقوة ـ ترتبط نتائجها بمعادلة معروفة فى علم الصراع. فهى ليست معادلة نصر أو هزيمة بالمعنى التقليدى، وإنما هى اختبار صبر وقدرة على الاحتمال. (وتلك حكمة مأثورة فى الأدب العربى ترى «أن الشجاعة فى القتال بين اثنين يقع حسمها عندما يصرخ أحدهما أولا!»). أى أن المعول عليه فى ختام أى صراع بين طرفين منوط عند نهايته بمن يفقد إرادته قبل غيره، ومن يلحقه الوهن تاليا! وقد ترامت إلى أسماع واشنطن فى تلك الظروف صرختان بالألم صادرتان عن موسكو ـ تلاحقتا بفارق سنوات قليلة: * صرخة من «جورباتشوف» بأنه لم يعد يستطيع! * وصرخة ثانية من «يلتسين» بأنه فقد الأمل! ......................
...................... [بمعنى أن الطرف الأمريكى كان لديه ـ بدوره ـ ما يدعوه إلى الصراخ من مواجعه وآلامه، لكنه تحمل ولم يصرخ حتى سمع صرخة خصمه قبله، وبالفعل فقد حدث فى بداية التسعينيات ـ وكان «رونالد ريجان» قد ترك مكانه فى المكتب البيضاوى لنائبه «جورج بوش» (الأب) ـ أن الولايات المتحدة وجدت نفسها مثقلة ومستنزفة. ـ فقد تبين لها أنها مدينة للعالم بما يزيد على مجمل إنتاجها السنوى (5 تريليون دولار). ـ وتحققت من أن اقتصادها فى عمومه تأثر بالضرر (بما جعل سقوط «جورج بوش» فى انتخابات الرئاسة الثانية محققــا على أساس شعار أطلقه «بــيل كلينتـون» بـ «إنــه الاقتصــاد يا غبي»). ـ واكتشفت أن نظام التعليم الأمريكى تراجع فى جدول الأسبقية العالمية من المكانة الأولى إلى المكانة السابعة عشرة. ـ وتبدى لغيرها ـ ولها ـ أن لعبة السياسة ـ المعتمدة على الإعلان ـ بعد نصف قرن من الحرب الباردة ـ نزلت بمستوى الأداء وجعلته هو الآخر صورا متحركة تكلف مالا وتصنع خيالا. ولعل سطوة الإعلان وغوايته كانت من أهم العناصر التى هزمت رمادية «جورج بوش» (الأب)، إزاء الألوان الخلابة (والفاضحة فيما بعد) لحيوية وشباب «بيل كلينتون». ـ وأهم من ذلك كله فإن الولايات المتحدة ظهرت خارجة من الحرب الباردة وقد استنزفت كثيرا من أرصدتها السياسية (وأولها المصداقية)، كما استنزفت كثيرا من مدخراتها (وأهمها احتياطى الذهب فى فورت نوكس)، ثم إنها ـ وهذا هو الأخطر ـ أسرفت فى استعمال الطاقة حتى أصبحت مستوردة للبترول ـ بقرابة 80% من احتياجاتها. وكان ذلك يقتضى مراجعة، ويلح فى طلب حل، وإلا فإن «إمبراطورية السوق» معرضة لإشهار إفلاسها]. ......................
...................... 5 ـ ومن المطلوب ـ أيضا ـ استعادة مناخ التبرم والضيق والغيظ مما شعرت به الولايات المتحدة حِيال حلفاء لها فى أوروبا اعتبروا انهيار الاتحاد السوفيتى انتصارا لهم، دون أن يتنبهوا بالقدر الكافى لنوازع الولايات المتحدة فى تلك اللحظة الفارقة. ذلك أنهم وهم يحتفلون بانتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتى، لم يظهر عليهم (من وجهة النظر الأمريكية) إدراك لحقيقة أنهم يحتفلون بنصر لم يصنعوه، ولم يتحملوا تكاليفه، بل إنهم على العكس استفادوا على الحساب ـ من حيث إن الولايات المتحدة وفرت لهم طول الوقت عمليات إنقاذ متوالية ابتداءً من مشروع مارشال الذى أسعفهم فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحتى ضبط أسعار بترول رخيص أتاحته لهم الولايات المتحدة من أسواق الشرق الأوسط التى استحوذت عليها. ثم إن هذا الدعم ظل متاحا حتى أعقاب حرب أكتوبر 1973 عندما قفزت أسعار البترول، (وبعدها وقف الدكتور «هنرى كيسنجر» وزير خارجية الولايات المتحدة فى مؤتمر باريس لتدوير فوائض النفط العربى (1974) قائلا لدول أوروبا «إن مشروع مارشال قد انتهى الآن وانتهى معه تطوع الولايات المتحدة بضمان سعر بترول رخيص كان لازما لعملية إنعاش أوروبا) ـ وعلى أى حال فإن هذا المزاج الأمريكى الصارم لم يطل أمده ولم يلبث سعر البترول أن نزل من ذُراه العالية ليتيح ـ مرة أخرى ـ وفرة طاقة رخيصة لأوروبا الغربية فى وقت دخلت الحرب الباردة فيه إلى مرحلتها الحاسمة مع النصف الثانى من السبعينيات وطول الثمانينيات. وكانت بقية الدواعى الأمريكية إلى التبرم لدرجة الغيظ من الحلفاء الأوروبيين، «ظنها» أنهم عاشوا زمن الحرب الباردة فى أمان وفرته لهم مظلة نووية أمريكية تولت حمايتهم دون أن تكلفهم شيئا، وهذه المظلة لم تكفل لهم الأمن فحسب، وإنما كفلت لهم أن يتوفروا على صنع الثروة وتكديسها، وتجديد وسائل إنتاجهم وتطويرها، وتحسين خدماتهم والارتقاء بها وأولها التعليم. والآن هرعوا للاحتفال على حساب ما أنجزته أمريكا وحدها، ثم هم فوق ذلك يحاولون تلقينها درسا فى طرائق السلوك والتصرف، ويتبجحون بالرغبة فى اعتبار أنفسهم أقطابا دولية ـ أوروبية على قدم المساواة مع أمريكا. وكان معظم الضيق إلى حد الغيظ موجها إلى فرنسا وألمانيا، وأما القوة الأخرى فى الثالوث الأوروبى وهى بريطانيا، فقد برئت من اللوم لأنها ألحقت نفسها مبكرا جدا بالولايات المتحدة ـ سواء بقرابة اللغة أو بلغة المصالح. وكان الحلفاء الأوروبيون لأمريكا حاضرين دائما بردود تثير الخواطر أكثر مما تلطفها، فهم يعترفون بفضل المظلة النووية الأمريكية، لكنهم يضيفون أن هذه المظلة كانت أمنا لأمريكا بالدرجة الأولى، ثم إنها لم تكن بلا ثمن، لأن أوروبا أعطت الكثير وتحملت الأكثر سواء من غموض النوايا السوفيتية أو من تجاوزات القوة الأمريكية، ومع ذلك فإن أوروبا ـ فى الأول والآخر ـ كانت قابلة بدور متميز لأمريكا فى قيادة عالم ما بعد الحرب الباردة، ومنتهى طلبها شراكة فى المستقبل متكافئة وليس إملاءً إمبراطوريا متعاليا، فهم ليسوا دول عالم ثالث، وإنما هم دول أقدم وأعرق، وثقافات أسبق فى الزمن وأعمق، وخبرة أسلم وأعقل! ثم يضيف هؤلاء الحلفاء «أن أوروبا فى كل الأحوال لم تكن عبئا ثقيلا على الولايات المتحدة، ولم تكن هى التى أرهقت الموارد الأمريكية، وإنما أرهقها السباق الفضائى والنووى فيما أسماه «رونالد ريجان» «حرب النجوم»، ثم إن أوروبا لم تكن هى التى تسببت فى استنزاف مخزونات الذهب فى فورت نوكس، وإنما حسابات حرب فيتنام ورغبة الرئيس «جونسون» فى تمويل هذه الحرب بعيدا عن رقابة الكونجرس ـ وذلك ما أدى إلى تذويب السبائك الذهبية، وتسييل مخزونها المتراكم! 6 ـ ومن المطلوب أخيرا فى هذا المفصل الدولى الهام، ملاحظة أن التبرم الأمريكى والضيق وصل جنوب البحر الأبيض المتوسط وشرقه بحيث طال أطرافا عربية متعددة، تحسب أنها تحمست وتطوعت لتحقيق التفرد الأمريكى بقمة العالم: * فمن ناحية كانت هناك دول تظن أنها لعبت دورا هاما فى أفغانستان، حيث وقعت الضربة القاضية Coup de Grace ضد الاتحاد السوفيتى تحت رايات الجهاد الإسلامى المقدس الذى أرهق الجيش السوفيتى، ومرغ أنفه فى التراب وأوصل الدولة السوفيتية إلى قبرها تحت ذلك التراب. * ومن ناحية ثانية دول أخرى تظن أنها لعبت دورا أساسيا فى وقت تقدم المد الإسلامى الذى مثلته الثورة الإيرانية، وأقامت ضده سدا هائلا مدعوما ماليا ومخابراتيا حتى أوقفته وحصرته، وبالتالى فإن العقيدة الشيوعية لم تركع أمام القنابل النووية للولايات المتحدة، وإنما أرغمتها على الركوع ـ تلك السيوف المشهرة للجهاد الإسلامى الذى وهب ـ بدوره ـ نصر الله للولايات المتحدة! والآن كانت هذه الدول العربية على الناحيتين (الفريق الذى صد الزحف الشيوعى فى أفغانستان، أو الفريق الذى حصر التيار الإسلامى فى إيران) ـ تتقدم مطالبة بحقوق تعتبرها إنصافا وعدلا! ولم تكن الولايات المتحدة على استعداد للاعتراف للطرفين بما قدما، ورأيها ـ بأثر رجعي! ـ أن هؤلاء العرب لا يستحقون منها مكافأة، فقد فعلوا ما فعلوا ووقفوا حيث وقفوا دفاعا عن مصالحهم الذاتية، وعن أمنهم قبل الأمن الأمريكى، وبالتالى لا تصح لهم بعد ذلك مطالبة بمستحقات متأخرة أو متقدمة. ومن المفارقات أن بعض العرب لم يكونوا يطالبون بحق شراكة بإسهام ما قدموا، وإنما كان قصاراهم طلب الرعاية، وأول أملهم أن تكف الولايات المتحدة الأمريكية عنهم أذى إسرائيل وغرورها، مع العلم بأنهم لم يقصروا فى حق إسرائيل، فقد اعترفوا بها دون استثناء ـ واعترفوا كذلك بعلاقتها الخاصة بالولايات المتحدة، بل إنهم وبدون استثناء أيضا تعاملوا مع إسرائيل ـ بعضهم فى العلن وبعضهم فى السر ـ حتى تنفك العقد المتخلفة من القضية الفلسطينية بحيث تدارى أمام الناس وتستر، وحينئذ تكون العلاقات مع إسرائيل شمسا فى عِز الظهر وقمرا بلغ ذروته وصار بدرا (وأكثر). (والغريب أن القيادات العربية المعنية لم تدرك أنها بهذا النوع من «الأمل» تزكى إسرائيل وترفع من قدرها وأهمية دورها فى نظر الولايات المتحدة، لأن ما جاءوا يطلبونه بعد كل ما قدموا هو بعينه اعترافهم للولايات المتحدة بأنها لم تخطئ فى سياستها حين اعتمدت إسرائيل وكيلا لها فى المنطقة، وكانت على حق عندما استثمرت فى ذلك البلد ما استثمرته من مساعدات مدنية وعسكرية، لأن حساب التفوق الإسرائيلى أضيف فى النهاية إلى الأرصدة الأمريكية وزاد من قدرتها على ضبط تصرفات العرب رضى أو غصبا!). إن الحروب على طول التاريخ، احتاجت إلى سواتر أو ذرائع قانونية وأخلاقية أو شبه قانونية وأخلاقية، وأما فى حالة الإمبراطورية الأمريكية فإن استعمال القوة مع تركيزهـــا أو احتكارهـــــا ـ جــاء مكتفيـــا بما لديه، مستغنيا عن أية إضافات إنسانية «جمالية» ـ فوقه! فى مجال الخطاب، فإن أسلوب الكلمة الواحدة زاد واستفحل، لأن أى معترض على السياسة الأمريكية لاحقه وصف واحد يدمغه مرة بأنه «شيوعي»، أو «إسلامي»، أو«إرهابي» كما أن أى رافـــض لهيمنـــة واشــنطن أعيــدت تســــميته بـ: «هتـــلر» ـ أو «موســـوليني» ـ أو «ســـتالين» ـ أو«أســــــــامة بن لادن» 3 «المناقشــــــة الكبـــري» فى واشــــــــنطن بعد الاتفاق على ما يلزم الاتفاق عليه وبعده على المطلوب استعادته ـ فإن هناك لحظة تستحق التوقف أمامها لأنها ـ فى الحقيقة ـ توقيت ولادة هذا الإعصار الأمريكى العاتى الذى يضرب المنطقة العربية ويدوى الآن رعدا ويلمع برقا على آفاقها. وكان هذا التوقيت بالضبط لحظة سقوط حائط برلين (9 نوفمبر 1989)، وما تداعى بعده من بشائر أو مخاطر، وتدفق طوفانا ذابت فيه جبال الجليد فوق تضاريس الحرب الباردة مرة واحدة. كان «جورج بوش» (الأب) لحظتها ـ رئيسا للولايات المتحدة وقد وجد أمامه فرصة نادرة فى التاريخ، وعليه أن يتغلب على وساوسه الشخصية ويتقدم صفوف إدارته الجمهورية ويقود، وكان اعتقاد كثيرين أن «بوش» ظل حتى بعد سنتين من رئاسته يتحرك فى ظل سلفه «رونالد ريجان» الذى أدار المراحل الأخيرة من استراتيجية هزيمة الاتحاد السوفيتى بجرأة بلغت حد التهور بمشروع حرب النجوم، وذلك هو المشروع الذى أقنع «الكرملين» بعد طول مكابرة بأنه لم يعد قادرا على المضى إلى النهاية فى سباق السلاح، وأن الوقت حان لمواجهة الحقيقة حتى وإن كانت فى مرارة العلقم أو لسع النار. وفى ممارسة «جورج بوش» لمسئوليته فرصة نادرة وجدها أمامه، فإنه وجه الدعوة إلى مجلس الأمن القومى الأمريكى لعقد سلسلة من الاجتماعات، مهمتها مواجهة موقف مستجد وطارئ ـ حاسم وفاصل فى مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية ـ ومستقبل العالم. وكان بين حضور الاجتماع رجال مازالوا من أهم راسمى السياسات وصُناع القرارات فى واشنطن ـ من تلك اللحظة سنة 1989، وحتى هذه اللحظة (أبريل 2003)، وضمنهم: ـ «جيمس بيكر» وهو وقتها وزير الخارجية (وفيما بعد مسئول الحملة الانتخابية لبوش (الابن) وإن لم يقبل بالمشاركة فى إدارته). ـ و«برنت سكوكروفت» وهو وقتها مستشار الرئيس للأمن القومى (وقد آثر هو الآخر أن لا يشارك فى إدارة بوش (الابن) دون أن يفصح عن أسبابه). ـ و«ريتشارد تشيني» وهو وزير الدفاع حينئذ (والآن نائب الرئيس). ـ و«دونالد رامسفيلد» وهو أيامها وزير دفاع سابق مع «ريجان» (والآن وزير الدفاع مرة ثانية). ـ و«كولين باول» وهو رئيس أركان الحرب حينئذ (والآن وزير الخارجية). ـ و«ريتشارد بيرل» وهو نائب وزير الدفاع (والآن مسئول هيئة وضع السياسات الاستراتيجية فى مجلس الأمن القومى فى البيت الأبيض، ولقبه الشائع فى الإدارة هو «أمير الظلام» (Prince of Darkness)). ـ و«بول وولفويتز» وهو مساعد وزير الخارجية حينئذ (والآن مساعد وزير الدفاع). ـ و«ريتشارد أرميتاج» وهو سكرتير مجلس الأمن القومى حينئذ (والآن مساعد وزير الخارجية). ـ و«جيمس وولسلي» وهو مدير وكالة المخابرات المركزية حينئذ (والآن مستشار الرئيس لمكافحة الإرهاب). وغيرهم كثيرون كانوا فى المواقع المؤثرة والحساسة لإدارة «رونالد ريجان»، وانتقلوا منها إلى إدارة «جورج بوش» (الأب) ووصلوا أخيرا إلى إدارة «بوش» (الابن)، كأن الزمن لم يتغير، وكأن رئاسة «بيل كلينتون» لم تقع ولم تتصل ثمانى سنوات، ووصل «كارل روفر» وهو كبير مستشارى البيت الأبيض (وأقوى رجل فى المقر الرئاسى اليوم) ـ إلى حد وصف رئاسة «بيل كلينتون» بأنها كانت «فاصلا جنسيا»، تخلل عهدين لرئيسين اسمهما «بوش»! (مع ملاحظة أن ترجمة كلمة «بوش» Bush إلى العربية هي: الخميلة أو الغابة الصغيرة!). فى ذلك الوقت من رئاسة بوش (الأب): عقد مجلس الأمن القومى الأمريكى خمسة اجتماعات متوالية على مساحة ثلاثة شهور ما بين أواخر سنة 1989 وأوائل سنة 1990، ثلاثة منها داخل البيت الأبيض فى واشنطن، واثنان داخل المنتجع الرئاسى «كامب دافيد»، وفيما بين الاجتماعات تواصلت لقاءات «مجموعات العمل» الخاصة التى كُلِّفَت بالغوص إلى العمق فى تفاصيل القضايا التى تناولتها مناقشات الرئيس وكبار مساعديه، وهى اجتماعات ولقاءات أُطلق عليها فيما بعد وصف «المناقشة الكبري» «The Great Debate»، إقرارا بأهميتها عند مفترق طرق أساسى تتحدد فيه وتتقرر سياسات أمريكا فى القرن الحادى والعشرين. ولم تكن موضوعات هذه «المناقشة الكُبري» سرا، بل إن الكثير من أوراقها ومداولاتها مع شهادات بعض المشاركين الكبار فيها ـ خرج ليرسم صورة شبه كاملة لما دار حوله البحث وترتبت النتائج. وبصفة أولية فقد كانت لهذه الاجتماعات واللقاءات ـ نقطة بداية سبقت ونقطة وصول لحقت. * نقطة البداية التى سبقت ـ هى الإقرار بأن السياسة الأمريكية تمكنت بعد نصف قرن من تنفيذ التوجيه الرئاسى «رقم 68 لسنة 1950» (وهو توجيه صاغه الخبير الاستراتيجى الأشهر «بول نيتزي» وقدمه إلى «دين أتشيسون» وزير الخارجية الذى وضعه أمام الرئيس «هارى ترومان» مع طلب توقيعه واعتماده) ـ وكان نص مقدمة هذا التوجيه يقول: «إن الهدف الاستراتيجى لسياسة الولايات المتحدة يتحدد فى تدمير الاتحاد السوفيتى، وتحقيق تفوق عسكرى أمريكى كامل عليه!». * و«نقطة الوصول» التى لحقت ـ أن هناك الآن مشروع توجيه رئاسى جديد تولت صياغته لجنة خاصة رأسها «ريتشارد بيرل» وفيه بالنص: «إن الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن توصلت إلى تحقيق هدفها المطلوب بالتوجيه الرئاسى رقم 68 لسنة 1950، على امتداد أربعين سنة من الحرب الباردة، ووصلت إلى تفوق اقتصادى وعسكرى غالب ـ عليها عند هذا المفصل التاريخى أن تضع وتنفذ السياسات الكفيلة بضمان استمرار القوة الأمريكية غالبة، وبحيث تظل إرادتها غير قابلة للتحدى ودورها غير قابل للمنافسة!». وفيما بين نقطة البداية التى سبقت، وحتى نقطة الوصول التى لحقت، وفى التطلع إلى المستقبل ـ وهو هذه اللحظة أُفق واسع وليس مجرد نقطة على أفق ـ وجد المكلفون بالأمن القومى أنفسهم أمام مجموعة اعتبارات أساسية طرحت ضروراتها على المناقشة الكُبرى. وكانت هذه الاعتبارات الأساسية قائمة طويلة: 1 ـ منذ كان الرئيس «كارتر» فى البيت الأبيض سعى مستشاره «زبجنيو برجينسكي» إلى تشكيل هيئة من أربعمائة خبير يرأسهم «بول نيتزي» (ذاته)، مهمتها التحضير للسيناريوهات المحتملة لنهاية الاتحاد السوفيتى والاستعداد لعواقبها كيفما تجيء، وكان «برجينسكي» يرى نهاية الاتحاد السوفيتى قادمة (فى وقت ما من بداية القرن الحادى والعشرين!). وكانت معظم السيناريوهات المحتملة للنهاية تتحسب لمغامرة حرب مسلحة، أو مفاجأة انقلاب، أو محنة فتنة أهلية ـ لكنه لا يبدو أن أحدا توقع أن تجيء هذه النهاية بسكتة قلبية هادئة وسلمية، مستعدة للنهاية دون محاولة إنقاذ ولو بالصدمة الكهربائية، سواء قام بها الحزب الشيوعى أو الجيش الأحمر، والمثير لدهشة الجميع فى واشنطن أنه بدا فى بعض اللحظات وكأن كل الأطراف فى الداخل السوفيتى حريصون على «سرعة تكفين الميت ودفنه» ـ أكثر من حرصهم على إنعاش قلبه واسترجاع نبضه. وهنا فإن تلك التصورات المدروسة مقدما واحتمالاتها المتوقعة سلفا ـ لم يعد لها داع أو نفع، وكانت تلك أكبر المفاجآت فى قائمة الحقائق الأساسية المطروحة على المناقشة الكُبرى. 2 ـ ثم لاحظ الجميع فى واشنطن أن مستشار ألمانيا «هيلموت كول» تحرك بسرعة مستغلا فرصة سقوط حائط برلين، ليطرح مطلب «وحدة ألمانيا»، ومع أن الولايات المتحدة الأمريكية ظلت حتى اللحظة الأخيرة تأمل أن تكون مقاومة الوحدة الألمانية آخر معركة يخوضها الاتحاد السوفيتى قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ـ فإن المستشار «كول» فاجأ الكل حين عرض مبلغ ثلاثين بليون دولار على الاتحاد السوفيتى المُفْلس مقابل أن لا يعترض أو يعارض وحدة ألمانيا، وقد رضى «جورباتشوف» بالصفقة، وأمله أن هذه الجرعة من السيولة تخفف من وجع السقوط، وبالتالى فإن القول الفصل بعد الرِضى السوفيتى عاد إلى واشنطن. وطار «كول» إلى العاصمة الأمريكية التى لم يعد لديها عذر مقبول لرفض الوحدة الألمانية، وهى فى صميم القلب لا تريدها، مخافة أن تكون مقدمة لبعث ألمانيا ـ أو تجديد مشروع الرايخ الكبير ـ أو ترسيخ قوة أوروبا كمنافس محتمل وقادر على عرقلة السيطرة الأمريكية المطلوبة والمستهدفة. على أن البيت الأبيض اضطر للموافقة على مضض ـ لأنه لم تكن لديه سياسيا ذريعة مقبولة للاعتراض ـ وقد بقى رجاؤه أن الوحدة الألمانية ربما تخيف فرنسا أكثر مما تقلق أمريكا، وربما تزعج بريطانيا أكثر مما تهدد أمريكا، وذلك يؤدى إلى انقسام أوروبا أكثر من ترسيخ لقوتها، وإلى جانب ذلك (هكذا التقدير الأمريكي) ـ فإن ألمانيا الغربية سوف ترهق مواردها بأكثر مما تتصور فى تحقيق الوحدة، حين تتكلف ما هو فوق طاقتها لرفع مستوى ألمانيا الشرقية إلى مستوى ألمانيا الغربية، وهذه عملية استنزاف اقتصادى وسياسى مهولة، وهى بالتأكيد كافية لإرباك ألمانيا الموحدة عشرين سنة على الأقل (وذلك صحيح إلى حد كبير). والخلاصة هنا أن الولايات المتحدة وافقت على مضض، عارفة أن هناك ـ ربما ـ مشاكل قادمة مع ألمانيا (أو مع أوروبا) ـ لكن هذه المشاكل مؤجلة إلى مدى غير منظور. 3 ـ أن هناك دواعى للخلل خطرة تتعلق بالأحوال الأمريكية ذاتها، وكلها تقتضى علاجا يحتاج إلى جهود مركزة، فأوضاع الولايات المتحدة هذه اللحظة مضطربة فى مجالات عديدة: ـ فهى مرهقة اقتصاديا بقسوة، حتى أنها الآن أكبر مدين فى العالم. ـ وهى مجروحة ـ على الأقل نفسيا ـ من تأثير هزيمة فيتنام التى لم تشف بعد جراحها. ـ وهى مشوهة فى صورتها العالمية من كثرة الحملات التى وجهت إلى سياساتها فى العالم الثالث وفى أوروبا أيضا! ـ وأخيرا فهى مكشوفة فى هيبتها، وبعضه من سوء صورة عدد من رؤسائها، خصوصا بعد فضيحة «ووترجيت»، وقد ترتب عليها عزل رئيس أمريكى لأول مرة فى القرن العشرين (ريتشارد نيكسون). والمعنى أن الولايات المتحدة هذه اللحظة كانت أشد ما تكون فى حاجة إلى عملية ترميم شامل للقوة، لأن قيادة العالم نحو عصر من السلام الأمريكى Paxa Americana مهمة يصعب تحقيقها بالسلاح وحده، أو بسباق فضائى أو نووى ضد طرف منافس ـ أو بكل ما تقدر عليه فنون الإعلان مهما بلغت مهارتها ـ أو ببرامج للمساعدة تماثل مشروع «مارشال» الذى اشترت به الولايات المتحدة صدارتها لحلف الأطلنطى، كما فعلت بعد الحرب العالمية الثانية ـ والسبب حسابى بحت، ففى تجربة مشروع «مارشال» كانت المساعدات المقدرة لأوروبا الغربية حتى تستأنف تشغيل طاقاتها ـ مساعدات محدودة أو محددة، وهى فى مقدور أمريكا التى خرجت من الحرب العالمية الثانية بأكبر مخزون ذهب فى العالم ـ وأما الآن فإن مجتمع الدول كله ينتظر مكافآت الحرب الباردة، وأمريكا لا تستطيع الوفاء بها، وأخطر من ذلك فإن طالبى المساعدة ـ خصوصا فى العالم الثالث ـ لم ينشئوا بعد طاقاتهم القادرة على «تنمية ولادة للتنمية»، ومن ثم فإن حاجتهم إلى المساعدات ضخمة وأجلها ممتد، وكل ذلك غير مطروح لأنه غير متاح فى هذا الوقت! 4 ـ أن هناك شبح خطر يلوح على الأفق وهو خطر نفاد مصادر الطاقة المتوافرة للعالم هذه اللحظة، ودواعى هذا الخطر متعددة: ـ أبرزها أن البترول لا يزال عماد الطاقة المحركة فى أمريكا وفى العالم. ـ والبترول مورد يستنفد طبيعيا بتزايد استهلاكه سنة بعد سنة، خصوصا فى الولايات المتحدة، وهو بلد وقع فى «غرام الكهرباء والسيارة والطائرة»، وكلها «بالوعات شرهة للنفط». ـ وكانت الولايات المتحدة منذ صدمة ارتفاع أسعار البترول سنة 1973 ـ 1974 ـ تسعى إلى بدائل أخرى (كالطاقة النووية وحرارة الشمس، وقوة الريح، وتدافع الموج)، لكن هذه البدائل لم تصنع معجزاتها المتوقعة، رغم ما تدفق عليها من استثمارات. ـ والآن فإن الولايات المتحدة عليها واجب الاحتفاظ بما لديها من احتياطيات النفط، مقابل الاعتماد فى استهلاكها على ما تستورده عبر المحيطات، ومؤدى ذلك أنها سوف تستورد كل يوم 20 مليون برميل من النفط، وذلك عبء اقتصادى وأمنى وسياسى ثقيل. لكن الولايات المتحدة ليس أمامها غير أن تتحمل هذا العبء الثقيل، لأنه مسألة «حياة أو موت» ـ مع مواصلة البحث عن اختراق علمى يتوصل إلى مصدر آخر للطاقة ـ أو مصادر ـ لا تنفد. ومعنى ذلك أن الولايات المتحدة التى اعتمدت على «سباق السلاح» وعلى «التقدم التكنولوجي» فى الحرب الباردة، لم يبق أمامها الآن ـ وحتى تكسب معركة السيادة على العالم ـ إلا أن تدخل فى سباق من أجل السيطرة على النفط مهما تكن الوسائل! ـ ومن الواضح إلى درجة اليقين أن الشرق الأوسط بقى مصدر أكبر إمدادات النفط، وأكبر مكمن للاحتياطيات المحققة منه، فهذه المنطقة وفيها السعودية والعراق وإيران وإمارات الخليج ـ وبالقرب منها شطآن بحر قزوين ـ مخزن أكثر من سبعين فى المائة من النفط الموجود بيقين تحت سطح الأرض. والمشكلة العويصة أن هذه المنطقة هى فى ذات اللحظة أكثر بقاع العالم تأزما وتوترا: بسبب الصراع العربى الإسرائيلى وتعقيداته ـ وبسبب الثورة الإسلامية فى إيران وسخونتها ـ وبسبب تردى الأوضاع السياسية فى شبه الجزيرة العربية ـ وبسبب الوهن الذى لحق بالدول المؤثرة فى هذه المنطقة تقليديا. وكانت الولايات المتحدة فى مرحلة السبعينيات والثمانينيات ـ على استعداد للسكوت، لكن المسألة باتت أكثر تعقيدا، لأن استهلاك البترول يتزايد (دون بديل)، ولأن الاستمرار فى اضطراب الأسعار يربك الدول الصناعية (ويستنزف الفوائض والعوائد). ـ وعليه فإنه لا مفر من أن تكون منطقة الشرق الأوسط ـ وليس غيرها ـ مجال الاختبار الأمريكى الحاسم، مع ملاحظة أن أوروبا منافس على البترول باعتبارها قارة تتشكل من جديد على أساس سوق مشتركة، ثم إن آسيا مستهلك قادم يطالب بزيادة نصيبه من الطاقة، فهناك كتل بشرية هائلة تستعد لدخول سوق النفط بشهية متزايدة مثل الصين والهند. وعلى هذا الأساس كانت الولايات المتحدة تدرك أن الشرق الأوسط يحتاج إلى عمليتين متوازيتين: * الأولي: تسكين الأطراف المنتجة للبترول كل منها فى مربع لا تتجاوزه، وذلك يتطلب: ـ تثبيت الأوضاع فى السعودية ودول الخليج. ـ وترويض الجموح الإسلامى فى إيران. ـ والتعامل مع عراق خرج من حربه مع إيران مرهقا يطلب تعويضا عن حرب استنزفته ثمانى سنوات لوقف المد الإسلامى الصادر عن إيران، وحجز تأثيراته، خصوصا عن منطقة الخليج. * والثانية: إيجاد حل للصراع العربى الإسرائيلى، وهو بؤرة التوتر فى الشرق الأوسط ومحرك الغضب لدى الشعوب العربية، وهى فى قلب الشرق الأوسط (والمقصود تخفيف احتقان أعصابها). وحتى ربيع سنة 1990 (رئاسة «بوش» الأب) ـ كانت «المناقشة الكبري» مازالت جارية فى واشنطن تتجاذبها الاجتهادات والتقديرات، وفى ذلك الوقت ظهر فى مجلس الأمن القومى رأيان: 1 ـ رأى يمثله «الحمائم» من دعاة التحفظ (وزير الخارجية «بيكر» ـ ومستشار الأمن القومى «سكوكروفت» ـ ورئيس الأركان «باول»)، ومجمله «أن السيادة الأمريكية المطلقة على العالم مستحيلة، والأفضل منها قبول سيادة نسبية تسمح بوجود شركاء آخرين بأنصبة محدودة، خصوصا مع الأوروبيين ـ وفى إطار حلف الأطلنطى بعد إعادة تنظيمه بقيادة الولايات المتحدة بطريقة تتناسب أكثر مع ضرورات ما بعد الحرب الباردة. 2 ـ ورأى آخر يمثله «الصقور» دعاة الاندفاع، ومنطقهم «أن الولايات المتحدة لم تتحمل ـ وحدها ـ بمسئوليات الحرب الباردة وأعبائها، لكى تقبل الآن شراكة تزاحمها على جوائز النصر، خصوصا من أوروبا التى غازلت الاتحاد السوفيتى (كما فعلت فرنسا على عهد «ديجول» وخلفائه) ـ أو حاولت استرضاءه (كما فعلت ألمانيا بسياسة التوجه شرقا كما حدث أيام المستشار «ويلى برانت» ومن حذوا حذوه حتى «هيلموت كول»)». 3 ـ ثم إن الموقع الأكثر سخونة فى العالم الجديد وهو الشرق الأوسط مفتوح بالكامل أمام الولايات المتحدة، «بما فى ذلك أن كافة الأطراف فيه يطلبونها بالتخصيص ولا يعبأون بغيرها (باعتبار أن العرب يأملون فى ضغط أمريكى على إسرائيل فى حل لقضية فلسطين، ولا يعولون كثيرا على أوروبا، بل ويرفضون الاعتراف لها بدور مؤثر) ـ ثم إن النفوذ الأمريكى فى الخليج بأسره طارد لغيره ـ كما أن النفط وهو عماد أى مستقبل موجود فعلا فى حوزة شركات أمريكية عاملة فى المنطقة، والشاهد أن الدول المؤثرة فى الإقليم، وأهمها مصر وتركيا (وبالطبع إسرائيل) ـ تتسابق فيما بينها على الحظوة فى واشنطن ولا تطلب غير الرِضا والقبول». وإذن (كذلك رأى الصقور) ـ فإن الولايات المتحدة ليس لها الحق إذا ترددت، وليس لها العذر إذا تخلت. وكانت المناقشات فى مجلس الأمن القومى لاتزال محتدمة ـ بينما مختلف الأجهزة الأمريكية السياسية والأمنية فى المنطقة ـ بضرورات الاستمرار فى الإدارة ـ تمارس مهامها على مسئوليتها حتى يبلغها قرار نهائى. وطالت المناقشات بين الحمائم والصقور، وطال الجدل بين التحفظ والاندفاع، وحلت فى المنطقة حالة ارتباك شديدة بين سياسات تنتظر قرارات من واشنطن ـ وبين أجهزة سياسية وأمنية تتحرك وفق اجتهادها على الأرض فى منطقة الشرق الأوسط، وسط أجواء شديدة الفوران (بعد انتهاء الحرب الباردة، واختفاء العدو السوفيتى التقليدى الذى تصدى أربعين سنة وأكثر) ـ كل ذلك مع تصورات أطراف خطر لها أن أمامها فرصا متاحة لكسب أرض جديدة ومواقع أكثر تقدما. وفى هذه اللحظة بالتحديد وقع خطأ الحسابات فى بغداد، فجر يوم أول أغسطس سنة 1990 حين قررت القيادة العراقية ضم الكويت، ليصبح المحافظة التاسعة عشرة للعراق، ولم يكن القرار فى حقيقته مجرد قيام بلد عربى باجتياح حدود بلد عربى آخر (مهما كانت الذرائع)، وإنما كان جوهر الحقيقة أن خطا أحمر وقع تجاوزه، وفى مناخ لا يسمح لطرف بالتجاوز، وفى ساعة مفتوحة لكل الاحتمالات! كانت معظــم الســــيناريوهات المحتملة لنهــاية الاتحــاد الســوفيتى تتحسب لمغامرة حــرب مســلحة، أو مفاجـــأة انقلاب، أو محنة فتنة أهلية ـ لكنه لا يبدو أن أحـدا توقـــع أن تجــيء هـذه النهــــاية بســــكتـة قلبيـــــة هــــــــــادئة وســــــــلمية من الواضـح إلى درجـة اليقين أن الشرق الأوسط بقى مصدر أكبر إمدادات النفط، وأكبر مكمن للاحتياطيات المحققة منه، فهذه المنطقة وفيها السعودية والعراق وإيران وإمارات الخـليج ـ وبالقرب منهــا شـــطآن بحــر قـزوين ـ مخزن أكثر من سبعين فى المائة من النفط الموجود بيقين تحت سطح الأرض 4 ذلك الخط على الرمل سنة 1990 ......................
...................... [سمعت رئيسة الوزارة البريطانية «مارجريت ثاتشر» أكثر من مرة تحكى عن دورها الحاسم فى تشجيع الرئيس الأمريكى «جورج بوش» (الأب) على الوقوف بحزم فى وجه الغزو العراقى للكويت، وكيف أن ضغطها عليه بشدة وصل ـ إلى درجة التأنيب ـ عندما لاحظت تردده (كذلك قالت) ـ حتى يرسم خطه المشهور على الرمل قائلا: «إن ذلك لا يمكن قبوله!» (يقصد غزو الكويت). وفى رواية «مارجريت ثاتشر» أنها كانت يوم 2 أغسطس 1990 على موعد للقاء «جورج بوش» فى إطار مؤتمر مُغلق (أمريكى ـ بريطاني) ينسق الاستراتيجيات ويرتب الخطط بين البلدين، وكان المقرر عقد هذا المؤتمر فى منتجع «آسبن» على سفوح مرتفعات كلورادو، وعندما عَرِفَتْ «مارجريت ثاتشر» نبأ الغزو العراقى للكويت ساورها الظن بأن «جورج بوش» ربما يقرر البقاء فى واشنطن لمتابعة الأزمة الطارئة، وكذلك سارعت إلى الاتصال به تقول له (وفق روايتها) ما يكاد نصه أن يكون: «جورج ـ لا تؤجل مجيئك إلى هنا مهما نصحك مستشاروك، فلا يصح أن يظن الرأى العام العالمى أن «طاغية شرقيا» أرغم رئيس الولايات المتحدة على التزام مكتبه وتأجيل ارتباطاته، عليك أن تضع الأمور فى حجمها المناسب لها، فضلا عن أن ما جرى فى الشرق الأوسط موضوع لابد لنا أن نبحثه سويا، وقد كنت على استعداد أن أطير إلى واشنطن للقائك، لكنى عدلت لنفس السبب، وهو أن لا يظن أحد أنه أرغمنا جميعا على تغيير جدول أعمالنا». وتستطرد «مارجريت ثاتشر» «أن جورج جاء إلى آسبن، وجلسنا معا وأحسست أنه «مخضوض» وأن ركبه «سائبة» Wobbly، وبعد ساعة ونصف الساعة تمالك «جورج» نفسه وأكد لى «أنه سوف يضرب بكل قوته» ـ وأكدت له أننا معه!». وتستطرد «مارجريت ثاتشر» فى روايتها قائلة «أنها كانت تقدر مبكرا أن هناك فى الغرب خصوصا «أصدقاءنا عبر المانش فى باريس» (تقصد الرئيس الفرنسى «فرانسوا ميتران» أيامها) ـ سوف يدعون الحكمة، ويطلبون الانتظار، ناسين درس «هتلر» و«موسوليني» فى أوروبا (قبل الحرب العالمية الثانية) ـ لكى يستأنفوا إدمانهم لسياسة التهدئة، وأما هى فلم تكن ـ ولا تزال ـ من الرافضين لهذه السياسة إزاء العدوان، واعتقادها أن السكوت مرة معناه السكوت كل مرة وإلى آخر المشوار، لأن شهية الغزو تنفتح أكثر حين يهضم ما أكل ـ ويعود مطالبا بالمزيد!»]. ......................
...................... والواقع ـ كما أظهرت الوثائق والشهادات الحية لاحقا ـ أن «مارجريت ثاتشر» كانت مبالغة (أو على الأقل متفائلة) فى حجم الدور الذى لعبته فى تشجيع «جورج بوش» (الأب) على التصدى بالقوة لاحتلال الكويت. والحاصل أنه بصرف النظر عن كل الخطوط الحمراء التى اجتازها العراق فجر أول أغسطس 1990، حين اقتحم الأرض المحظورة لمواقع النفط فى الخليج ـ أن «جورج بوش» لم يكن مُفاجأ بالدخول العراقى إلى الكويت، بل لعل العراق ـ بذاته وصفاته ـ لم يكن تلك اللحظة بعيدا عن أفكار مستشارى البيت الأبيض ولا عن تصوراتهم لشكل المستقبل فى القرن الحادى والعشرين، الذى كان قرنا لابد له فى تقديرهم ـ وبأى ثمن ـ أن يظل قرنا أمريكيا تنفرد فيه أمريكا بالسيطرة على العالم ـ ولأول مرة ـ دون شريك. * ومن ناحية أن البيت الأبيض لم يفاجأ، فمن المؤكد الآن أن الأجهزة الأمريكية المعنية ـ وضمنها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، والمخابرات العسكرية، ومكتب استطلاع القيادة المركزية التى يقودها الجنرال «نورمان شفارتز كوبف» ـ كانت تتابع تحركات القوات العراقية، وترصد تقدم فرق الحرس الجمهورى لاتخاذ أوضاع هجومية حول منطقة البصرة، وكانت تلك الصورة كافية لتظهر بجلاء أن هناك نية، وأن هذه النية على وشك أن تتحول إلى خطة لاحتلال الكويت. واتصل رئيس الأركان «كولين باول» بالبيت الأبيض ـ يوم 25 يوليو 1990 ـ يتشاور مع مستشار الأمن القومى للرئيس «برنت سكوكروفت»، فيما إذا كان الأوفق تكليف السفيرة الأمريكية فى بغداد «أبريل جلاسبي» بطلب مقابلة عاجلة مع الرئيس العراقى، حتى تلفت نظره بتحذير مبكر إلى التزام أمريكى بحماية الكويت لكى يراجع حساباته، لكن «سكوكروفت» عاود الاتصال برئيس الأركان يبلغه بما استقر عليه الرأى بين مستشارى الرئيس وهو أن أى تحذير مبكر «للعراقيين» لا داعى له، وأن القرار هو الانتظار «حتى نرى ما سوف يفعلون ثم نتصرف بما نجده مناسبا!». ومن الغريب أن «أبريل جلاسبي» ـ ذات اللحظة ـ كانت تنقل إلى الرئيس «صدام حسين» رسالة مرتبكة لعلها (إذا جرى استبعاد نظرية المؤامرة) أن تعكس حالة اللاقرار التى كانت سائدة فى الإدارة الأمريكية إزاء مشهد سقوط الاتحاد السوفيتى، وبالطريقة التى جرى بها ذلك السقوط وتداعياته، وأولها كيف يمكن للإمبراطورية الأمريكية أن تستغله لحسابها؟! * ومن الناحية الثانية فإن العراق بذاته وصفاته لم يكن بعيدا تلك اللحظة عن أفكار مستشارى الرئيس «بوش» (الأب) وتصوراتهم لشكل المستقبل فى القرن الحادى والعشرين. والواقع أن العراق بذاته وصفاته كان متداخلا بشدة فى مسار مناقشات مجلس الأمن القومى واجتماعاته الخمسة (أواخر سنة 1989 وأوائل سنة 1990) ـ بل وكان حاضرا قبل ذلك فى مناقشات لجنة الأربعمائة خبير التى درست احتمالات سقوط الاتحاد السوفيتى وحاولت أن تتحسب لعواقب هذا السقوط. وبالتحديد فإن العراق كان داخلا فى عديد من الاعتبارات التى طرحتها المناقشات: ـ كان بالطبع داخلا فى قضية النفط وضرورة السيطرة الكاملة على منابعه وإنتاجه (فالعراق وحده يملك 113 بليون برميل من البترول المؤكد، أى 11% من الاحتياطى العالمى، ولديه فيما هو مرصود 70 حقلا لم يستثمر منها غير 15 ـ مما جعل وزارة الطاقة فى الولايات المتحدة ترفع حجم الاحتياطيات العراقية ـ فى تقديراتها السرية ـ إلى 220 بليون برميل أى أكثر من ضعف ما هو محسوب عالميا أو مرصود. ـ وكان العراق طرفا نشيطا فى ظاهرة الغضب الإقليمى، فقد خرج من حرب طالت ثمانى سنوات مع إيران، متصورا أن الغرب الذى ناصره فى التصدى للمد الثورى الإسلامى فى إيران (رغم أن هذا الغرب نفسه قاوم الاتحاد السوفيتى بسلاح الجهاد الإسلامى فى أفغانستان) ـ توقف عن مساعدته، ثم إن الدول العربية ـ خصوصا دول الخليج ـ وهى أول وأشد محرضيه على التصدى لإيران، تركته بعد أن أرهق طاقاته وانصرفت تركز على مصالحها. ـ وكان العراق داخلا فى قضية أمن إسرائيل، لأنه بسبب عدم وجود حدود بينه وبين إسرائيل ـ لم يلزم نفسه باتفاقية هدنة، ولم يدخل فى مفاوضات سلام، بل على العكس فإنه اتخذ أكثر المواقف تشددا إزاء أى محاولة لتسوية الصراع العربى الإسرائيلى، وفوق ذلك فإن ضغط العراق كان محسوسا على سوريا، لمنعها من اللحاق بمصر إلى عقد اتفاقية صلح مع الدولة اليهودية. ـ وكان العراق ـ أولا وأخيرا ـ طرفا رئيسيا فى قضية تكدس السلاح فى منطقة الشرق الأوسط، لأن الولايات المتحدة اعتبرت أن الثورة الإسلامية فى إيران التى أطاحت بنظام الشاه ـ وهو أقرب الأصدقاء إلى أمريكا وإسرائيل ـ ضربة قاسية لها، ومن ثم فإنها لم تدخر جهدا فى تسهيل تسليح العراق حتى يستطيع صد المد الإسلامى الإيرانى، ومعاقبة ثورة «الخُميني» وجموحها الجارف. ......................
...................... [والحاصل أن الاستراتيجية الأمريكية سعت إلى ضرب إيران بالعراق، والعراق بإيران، وقصدها استهلاك قوة بلدين لا يمكن الاطمئنان إليهما معا على المدى الطويل، وكانت تلك السياسة هى التى سميت فيما بعد بسياسة «الاحتواء المزدوج»، وقد عبر عنها «هنرى كيسنجر» بقوله: «هذه أول حرب فى التاريخ أتمنى أن لا يخرج بعدها منتصر، وإنما يخرج طرفاها وكلاهما مهزوم!». أى أن سياسة الولايات المتحدة فى تلك الحرب كانت زيادة تأجيج النار وتزويدها بوقود جديد كلما هدأ الحريق]. ......................
...................... [والغريب أن كثيرين لم يلتفتوا بالقدر الكافى إلى الداعى الذى دفع الإدارة الأمريكية فى عهد «بوش» (الابن) (8 نوفمبر 2002) إلى خطف تقرير العراق المقدم لمفتشى الأمم المتحدة عما بقى لديه من أسلحة الدمار الشامل، وكان السبب هو أن الإدارة الأمريكية أرادت أن تحذف من التقرير كل إشارة إلى أن أكثر من 25 شركة أمريكية عملاقة تولت توريد معظم هذه الأنواع من أسلحة الدمار الشامل إلى العراق أثناء حربها ضد إيران!]. ......................
...................... ـ وكان العراق بعد ذلك داخلا فى قضية القلق الإسرائيلى من درجة «المعرفة العربية» بأسرار صنع وإنتاج أسلحة الدمار الشامل (أكثر من الاهتمام بما هو موجود فعلا من هذه الأسلحة) ـ لأن هاجس إسرائيل الدائم كان إقصاء كل طرف عربى عن «علوم وتكنولوجيا» إنتاج الأسلحة المتطورة. وأمام اجتماعات مجلس الأمن القومى برئاسة «جورج بوش» (الأب) ـ كان هناك سيل من تحذيرات إسرائيلية تبدى القلق مما يجرى فى مصانع العراق ومعامله، وتلح على ضرورة اتخاذ إجراء حياله، باعتباره «خطرا محتملا فى المستقبل، حتى وإن لم يكن هذه اللحظة الدقيقة «خطرا متيقنا»!». وطوال الفترة ما بين دخول العراق إلى الكويت أول أغسطس 1990، وحتى خروجه منها فى فبراير سنة 1991، كان «جورج بوش» وأركان إدارته يشعرون أنهم على أول الطريق المؤدى بهم إلى تأكيد أن القرن الحادى والعشرين سوف يكون ـ قرنا أمريكيا! وكانت التجربة الإمبراطورية الجديدة ـ استعدادا للقرن الأمريكى الجديد (الحادى والعشرين) ـ فريدة من نوعها، فقد قابلت فرصتها، وساعدها أن الفرصة واتتها ـ ومع الفرصة قضية. فهى أولا قضية البترول مباشرة. وهى ثانيا قضية خلل فى الحسابات وقع فى المكان الخطأ والمناخ الخطأ والزمان الخطأ. بمعنى أن الولايات المتحدة كانت تفكر فى أمر العراق بالتحديد، ثم إنها حامت حوله وقابلت فرصتها عندما ظهر العراق أمامها على الناحية الأخرى من خط الرمل وليس معه غير كتل من الجماهير المحبطة باحثة فى التيه عن علم، ناظرة إلى النجوم على أمل ـ وكانت إدارة «جورج بوش» (الأب) مصممة أن لا يفلت منها طرف الخيط الذى أمسكت به، وهنا فإن جهدها تحرك على عدة محاور: * المحور الأول ـ الاستفادة من صدمة غالبية العرب ـ على المستوى الرسمى والشعبى ـ بمفاجأة غزو الكويت، وهنا فإنها بادرت إلى استغلال هذا الشعور لتثبت أرضية عربية تؤسس لمشروعية ضرب العراق. وكان المطلوب هو الإسراع بتجهيز هذه الأرضية قبل أن يتبدد أثر الصدمة، أو يراجع العراق تصرفه عندما يرى النذر، أو يتمكن من تحويل الأغلبية التى تعارض تصرفه إلى أغلبية تسكت عليه بأمل أن تتمكن القدرة العراقية المتضخمة من دور فاعل فى الصراع مع إسرائيل. * وكان المحور الثانى التأكد ـ وقد دخل العراق إلى الصندوق ـ أنه لن يخرج منه، وهنا فإن الضغط الأمريكى كان صارما للحيلولة دون حل عربى لأزمة غزو الكويت. وهنا جاءت ـ للإنصاف ـ محاولة ملك الأردن «حسين» (مع التسليم بأنه فيما سعى به كان يحاول الحفاظ على وحدة الأردن وعلى عرشه، وعلى مستقبل أسرته وربما فرصها فى عرش هاشمى فى العراق ذات يوم) ـ وكان أن الملك «حسين» (كذلك قال لى وأكد ـ وساندته فيما قال وأكد ـ وقائع ووثائق صحيحة)، توضح أنه توصل إلى إقناع القيادة العراقية يوم 5 أغسطس ـ بعد أن لمعت البوادر والنُذر ـ بأنها إذا لم تنسحب من الكويت فسوف تواجه ما لا طاقة لها به، وكان شرط العراق فى طلب الأمان ـ صدور تعهد أمريكى بأن الولايات المتحدة لن تطارد الجيش العراقى فى وطنه ـ إذا عاد وراء حدوده وترك الكويت. لكن البيت الأبيض مارس كل نفوذه لقطع الطرق ومنع أى مخرج عليها، وكان مؤتمر القمة العربى فى القاهرة يوم 10 أغسطس، وأجواؤه وملابساته بمثابة عملية إغلاق للصندوق حول العراق بالمفتاح وبالترباس! * وكان المحور الثالث تكثيف الحشود حول العراق، وكذلك راحت الفرق المدرعة وحاملات الطائرات وقواعد الصواريخ الأمريكية ـ تتسابق إلى اتخاذ مواقعها فى القواعد والتسهيلات العربية ابتداءً من يوم 6 أغسطس، أى من قبل انعقاد القمة العربية، وكان شكل الحشود قاطعا أنها الحرب ليس فقط لتحرير الكويت، ولكن ـ بالدرجة الأولى ـ لتدمير القوة العراقية والسيطرة على مقدرات ذلك البلد، وفى أواخر سنة 1990 كانت الحشود العسكرية الأمريكية البريطانية (ومعها تشكيلات متحالفة من كل مكان) تحكم حصارها حول العراق بطوق حديدى. وكان الملك «حسين» لايزال يبذل مساعى يعرف أكثر من غيره أنها يائسة، وجرى بينه وبين السيدة «مارجريت ثاتشر» رئيسة الوزارة البريطانية لقاء عاصف فى مقر رئاسة الوزارة فى لندن، فقد جلس الملك أمام المرأة الحديدية، يقول لها بعد المقدمات «أنه يريد أن يشرح لها النتائج التى يمكن أن تترتب على غزو العراق وتدميره» ـ وإذا «مارجريت ثاتشر» تهب فى وجهه صارخة: «اسمع.. أريدك أن توفر على نفسك حججك السياسية والقانونية، وتعرف أنك تضع رهانك على الطرف الخاسر، ثم صاحت فيه «أنت تراهن على الخاسر» «You are backing a loser» وكانت عيناها تبرقان بالغضب، وأحس ملك الأردن أنه أُهين، وقال بأدب محاولا ضبط غضبه «سيدتى.. لا يحق لك أن تتحدثى إلى بهذه اللهجة». وقصد الملك بعد لندن إلى الولايات المتحدة يلتقى الرئيس «جورج بوش» (الأب) فى ضيعته «كينيبنكبورت» بولاية «ماين»، وقال له وهما يمشيان قرب شاطئ البحر «إنه يخشى من اندلاع نار مدمرة فى المنطقة»، ورد عليه «بوش» (الأب) بقوله «إنه يعرف أن النار سوف تندلع، لكنه حريص على الملك لا يريد له أن يحرق أصابعه بلهبها». * وكان المحور الرابع هو تشكيل تحالف عالمى واسع لشن الحرب على العراق، وهنا أصدر مجلس الأمن مجموعة قرارات لَفَّت الصندوق العراقى بسلاسل من الفولاذ حتى لا يدخل إليه ولا يخرج منه شيء، وكان الطوق اقتصاديا وسياسيا ودعائيا بحبكة لم يسبق لها مثيل، وعندما توقفت كل أنابيب ضخ البترول العراقى عبر تركيا وسوريا والسعودية، فقد بدا أن العراق ـ داخل الصندوق الفولاذى ـ يتعرض لعملية خنق تمهد للضربة القاضية عندما يجيء دور السلاح. وكانت الولايات المتحدة قاسية مع الجميع، خصوصا هؤلاء الذين بان ترددهم من الأطراف الدوليين، وأولهم فرنسا (واضطر الرئيس «ميتران» إلى تغيير موقفه الذى مال إلى الاعتدال ولو قليلا، لأن ممثلى الشركات الفرنسية الكُبرى ذهبوا إليه شاكين أن سياسة فرنسا سوف تحرم شركاتها من أكبر العقود فى التاريخ، وهى عقود الامتيازات فى بترول العراق وعقود المقاولات لإعادة تعميره) ـ وكذلك شاركت القوات الفرنسية فى الحشد العسكرى الكبير المحيط بالعراق. * وكان المحور الخامس هو شن الحرب فعلا ابتداءً بتمهيد جوى تواصل أكثر من أربعين يوما، ولم تكن القيادة العراقية تتصور إمكانيات الحرب الإلكترونية عندما يطلق لها العنان، وكان ظنها أنها سوف تستطيع ممارسة مقاومة مؤثرة اعتمادا على ما لديها من إمكانيات. وحدث فى «فترة الريبة» قبل أن تفتح المدافع فوهاتها ـ أن رئيس وزراء بريطانيا الأسبق «إدوارد هيث» قصد إلى بغداد وقابل الرئيس «صدام حسين» وقال له ضمن ما قال «أنكم لا تعرفون حجم الأسلحة الأمريكية التى تستطيع الولايات المتحدة أن تستعملها ضدكم»، وكان الرد الذى سمعه «أن الولايات المتحدة تعرف حجم الأسلحة التى يستطيع العراق أن يقاوم بها». لكن الحرب عندما جاءت أظهرت أنه مهما كان ما تملكه دولة فى العالم الثالث (حتى وإن حصلت على معظمه من شركات أمريكية أو أوروبية) ـ محسوب كله فى إطار لا يتجاوزه، وأن ترسانات القوة العظمى (بالتحديد الولايات المتحدة) ـ تحتوى على ما هو قادر عليه! * وكان المحور السادس أنه عندما انكسرت مقاومة العراق، وبان أن الحرب البرية بعد الضربة الجوية مجزرة شنيعة ـ راح بعض ملوك ورؤساء الدول العربية (وهم أطراف تحالف فيها) يظهرون قلقهم من الاستمرار أكثر من ذلك فى مواصلة المذبحة. وتشاور الرئيس «جورج بوش» (الأب) مع كبار مستشاريه وبينهم هيئة الأركان المشتركة، وكان رأيهم ـ وفيهم «كولين باول» أن الحرب حققت أهدافها، لأن الضربة الجوية دمرت فعلا معظم السلاح العراقى، وأما بالنسبة للنظام فى بغداد، فإن ثورة محققة (شيعية فى الجنوب ـ كردية فى الشمال) سوف تتكفل ببقية المطلوب، وفى أرجح الاحتمالات فإن الجيش العراقى سوف يقوم بانقلاب على قيادة ورطته فى حرب غير متكافئة، وحينئذ تقوم فى بغداد حكومة جديدة ترضى بالشروط السياسية للمنتصر (بعد قبول النظام الحالى بالشروط العسكرية اللازمة لوقف إطلاق النار) ـ ثم إنه لن يكون فى وسع هذه الحكومة العراقية الجديدة أن تفعل شيئا، سوى أن تفتح الأبواب لعهد جديد مع الولايات المتحدة، وحينئذ يتحقق تغيير النظام، وبعده استدعاء أمريكى إلى قلب بغداد. * والمحور السابع أن آلة الإعلام الأمريكية الضخمة ـ وكذلك أجهزة العمل السرى راحت تحرض الجنوب الشيعى والشمال الكردى على الثورة، وبدا لعدة أسابيع أن النظام فى بغداد معزول، لكنه فى نفس تلك اللحظة وقعت معجزة لم تكن فى حساب أحد، ذلك أن الجيش العراقى الذى رأى وحدة الوطن العراقى توشك على الانفراط قبل أن يتحقق سقوط النظام ـ بذل جهدا خارقا للعادة فى مقاومة الثورة جنوبا وشمالا، وتمكن من السيطرة على الوضع. وفى ظرف شهور قليلة، بان أن الحرب لم تحقق كامل أهدافها، فقد وقع تدمير الاقتصاد العراقى، واستهلاك قوة الجيش العراقى وسلاحه، لكن النظام تمكن من البقاء، كما أنه على وجه القطع ظل يسيطر على قوة عسكرية لها شأن، مع التسليم بأنها توازى نصف حجمها السابق وربع سلاحها! ولم تكن هذه النتائج مرضية من وجهة النظر الأمريكية، لكن معظم العالم أصبح يعتقد أن العراق دفع ما فيه الكفاية كفارة عن خطأ الحسابات، ومع ذلك فإن الرئيس الأمريكى «جورج بوش» (الأب) ـ كان له اعتقاد مختلف ـ اعتمدته إدارته، باعتبار أن الأسباب التى استهدفت العراق أكبر من الكويت وأولى من المنطقة العربية، وأهم من بقية العالم. وعندما سقط «جورج بوش» (الأب) فى محاولته للحصول على مدة رئاسة ثانية، وأفسح مكانه فى البيت الأبيض لرجل غيره هو «بيل كلينتون»، فإن هذا الرئيس الجديد لم يكن فى فكره تغيير السياسات الأمريكية، وإنما كان فى مزاجه تغيير الأسلوب، وقد اختار أسلوبا آخر لتحقيقه. وكذلك ظلت إدارة «كلينتون» على طول ثمانى سنوات تضع العراق تحت نظرها، وتضيق عليه خطوة بعد خطوة معتمدة على سياسة الصندوق المغلق، أى استمرار حصاره اقتصاديا وسياسيا ودعائيا، تظن بذلك أن الخنق ـ حتى وإن كان بطيئا، أشد قسوة من القتل الذى يجيء سريعا ـ وزيادة عليه فإنها كانت بين الحين والحين توجه إليه ضربة صاروخية تذكره «بالمصير المحتوم». وفى أيام رئاسته الأولى وجه «بيل كلينتون» إلى العراق ضربة صواريخ، بحجة أن عملاء عراقيين حاولوا اغتيال الرئيس السابق «جورج بوش» (الأب) أثناء زيارة قام بها إلى الكويت، (وتلقى فى آخرها هدية توازى وزنه ذهبا). ثم تكررت ضربات الصواريخ، وآخرها ضربة «ثعلب الصحراء»، التى استمرت عدة أسابيع، وهدفها إعادة تحطيم ما أصلحه الشعب العراقى من مرافقه التى دمرتها عاصفة الصحراء، حتى يدرك أنه غير قادر على ترميم حياته فى ظل النظام الذى يحكمه (وكان ضمن ما استهدفه القصف الكبير من مرافق الحياة: محطات المياه والمجارى، ومحطات الكهرباء، والمصانع، ومولدات الطاقة وغيرها وغيرها). وبالتوازى مع ذلك جرى الضغط على مفتشى الأمم المتحدة، (ورئيسهم فى ذلك الوقت «ريتشارد بتلر») يعاونه مساعده الأول «سكوت ريتر» (الذى اعترف فيما بعد أنه كان ينسق كل تصرفاته مع إسرائيل، وأنه فى فترة عمله زارها سرا اثنتين وعشرين مرة) ـ لكى يحولوا دورهم من مهمة تفتيش ـ إلى محكمة تفتيش. وبالتوازى مع ذلك أيضا جرى تشجيع المعارضة السياسية للنظام العراقى، وكان معظم التشجيع فى المنافى البعيدة، لكنه بعد الأخذ بسياسة مناطق الحظر الجوى فى جنوب العراق وشماله (وقد فرضته واشنطن خارج إطار الأمم المتحدة) ـ جرى إنشاء مناطق آمنة بالذات فى الشمال الكردى، وعليها فإن المجال أصبح مفتوحا لجماعات مقاومة متعددة الهويات والأعلام والوسائل. وفوق ذلك كله راح الإعلام الأمريكى يشدد كل يوم ضغطه على الجهاز العصبى للنظام فى بغداد! كان الصندوق المغلق الذى وُضع فيه العراق ـ يزداد إحكاما كل يوم دون الســماح بثغرة تتسرب منها أنفاس هواء تسمح بحياة صحية أو نصف صحية. ومع ذلك فإن تلك المجموعة التى توافرت على دراسة الضرورات المُلِحة للإمبراطورية الأمريكية فى القرن الحادى والعشرين، والتى نشطت تحت لافتة «ضرورات قرن أمريكى جديد» ـ لم تكن عاطلة عن العمل، رغم أنها لم تعد مؤثرة على القرار السياسى من البيت الأبيض، فهذه المجموعة كانت جمهورية فى غالبية أعضائها ـ بينما الإدارة والبيت الأبيض فى حوزة الديمقراطيين ـ الآن. وفى الواقع العملى فإن تلك المجموعة أصبحت بالفعل وبالقول أداة ضغط (لوبي) تفرض على الإدارة القائمة (الديمقراطية) إيقاعا أسرع مما ترغب فيه هذه الإدارة (فالاستراتيجيات فى العادة متفق عليها والأساليب وحدها تقبل الاختلاف) ـ لكن مجموعة الضغط الجمهورية لا تتوانى فى تشديد ضغطها ـ لأنها تخشى من مستجدات تطرأ على الساحة الدولية تشوش أو تعطل. وبشكل محدد فإن القوى المؤثرة فى الولايات المتحدة ـ فى البيت الأبيض أو خارجه ـ ديمقراطيين وجمهوريين على السواء ـ ظلت متفقة على مشروع جدول أعمال. ـ إمبراطورية أمريكية واتتها الظروف «وواجبها المقدس» ـ والحال كذلك ـ أن ترث ما سبقها من إمبراطوريات، وأن تحتفظ بما ورثت، وتضيف إليه، ثم تضمن إحكام قبضتها على السابق واللاحق. ـ وعالم لابد من إعادة ترتيب أحواله وإقامة موازينه من جديد على أساس مختلف، يحتفظ للإمبراطورية الأمريكية بالكلمة العُليا فى كل شأن. ـ وبين أهم اللوازم سيطرة كاملة على موارد الطاقة لأنها محرك القوة والتقدم، حتى إشعار آخر. ـ وفى إطار ما هو ضرورى ولازم فإن الولايات المتحدة مستعدة بشروط أن تقبل بحق كبرى الدول الصناعية الغربية فى شراكة تكون لها نسبة مقررة فى القرار العالمى، ونصيب مقنن ـ فى موارد النفط، على أن تظل الكلمة الأخيرة فى الموضوعين لواشنطن. ـ يساعد على ذلك أن الضرورات واللوازم التى اقتضت أن يكون مجال الحركة الرئيسية مع مفتتح القرن الحادى والعشرين هو الشرق الأوسط ـ توافقت مع كون الولايات المتحدة حاضرة ومتمكنة منه فعلا، ثم إن النظم الحاكمة فى بلدان هذه المنطقة صديقة وموالية. ـ وفى التقدير الأمريكى أن الشريك الرئيسى المعتمد فى هذه المرحلة بالذات، ليس هؤلاء الأصدقاء الموالين من العرب، وليس بريطانيا كما يبدو على السطح ـ وإنما هو إسرائيل، فهى ـ وليس غيرها ـ بالواقع العملى موجودة على الأرض، وهى بحقائق القوة مؤثرة فى الساحة، وبالإضافة إلى ذلك فإن إسرائيل لظروف علاقتها مع الولايات المتحدة لا تتردد من وازع قانونى أو أخلاقى، وإنما هى بيقين داخلى عميق تدرك أن حياتها وبقاءها بعيدا عن الولايات المتحدة الأمريكية ـ مشروع غير قابل للبقاء ومحكوم عليه تاريخيا! ـ والشعوب العربية المعادية لإسرائيل ـ وأولها الشعب الفلسطينى الذى يدافع عن أرضه ووجوده ـ لابد لهم أن يتعلموا درس الواقعية السياسية ويقبلوا به (حتى لو أدى إلى خروجهم من المستقبل). ـ ومع أنه من وقتها سنة 1991 وحتى الآن (أكثر من عشر سنوات) ـ تغيرت الظروف، ودفع العراق كفارة الخطأ عدة مرات، وتحمل شعبه بأكثر مما تحمل أى شعب غيره ـ فإن العراق حتى وإن لم يعد خطرا داهما ـ مازال من الممكن استعماله شبحا تحوطه الأوهام! ـ وكان مما يزكى العراق لسياسة مطاردة الشبح وحرب الوهم، عنصران: أولها: أن العراق مستنزف بالحرب والحصار، وبالتالى فهو هدف مكشوف ومعرض! والثاني: أن العراق بلد موفور الغِنى بالثروات الكامنة فيه، وبالتالى فهو قادر على دفع «تكاليف عملية تدميره»، وقادر على دفع «فاتورة إعادة تعميره»، (دون أن يحتاج مثل غيره إلى معونات أو مساعدات!). وطوال رئاسة «بيل كلينتون» للولايات المتحدة الأمريكية كانت جماعة الضغط الجمهورى (اللوبي) ـ المطالبة بالإمبراطورية، والسيطرة على البترول، والتحالف مع إسرائيل، وتطويع الشعوب العربية، والتلويح بشبح «الخطر» من العراق ـ تزداد نشاطا، وتضم إليها مناصرين جُددا، يساعدون على توسيع دائرة نفوذها باستمرار (تحت نفس شعار: «ضرورات قرن أمريكى جديد»!). والشاهد أنه يمكن متابعة ورصد عدد من قادة هذه الجماعة وتتبع حركتهم عبر دوائر متشابكة ـ فهُم دائما نفس الوجوه ـ ودائما نفس الأصوات. ـ وكانت البداية من عضوية لجنة الأربعمائة الأصلية التى كلفت ببحث احتمالات سقوط الاتحاد السوفيتى تحت رئاسة «بول نيتزي». ـ ومنها إلى دائرة الانتشار والظهور فى مناصب كبيرة فى وزارات الدفاع والخارجية والطاقة ومراكز المخابرات المركزية الأمريكية (وعضوية مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى، وغيره من المراكز السياسية والاستراتيجية). ـ ومنها إلى دائرة الجلوس حول مائدة اجتماع مجلس الأمن القومى تحت رئاسة «جورج بوش» (الأب) ـ عندما طرحت الخطوط العامة الأولى للمشروع الإمبراطورى الأمريكى للقرن الحادى والعشرين. ـ وأخيرا إلى دائرة النشاط والمتابعة فى عهد الرئيس «بيل كلينتون» بعد أن خسر الجمهوريون انتخابات سنة 1992، (وكان ظنهم أن عاصفة الصحراء وحدها تكفل لهم أن يفوزوا فيها). * والحاصل أنه فى كل هذه الدوائر ـ تكررت نفس الأسماء: «ريتشارد تشيني» (نائب الرئيس الآن) ـ «دونالد رامسفيلد» (وزير الدفاع الآن) ـ «ريتشارد بيرل» (رئيس فريق التخطيط الاستراتيجى الآن) ـ «بول وولفويتز» (نائب وزير الدفاع الآن) ـ «ريتشارد أرميتاج» (نائب وزير الخارجية الآن) ـ وغيرهم كثيرون، وفيهم من رأسوا وكالة المخابرات المركزية مثل (جيمس وولسلي)، وفيهم من رأسوا شركات طاقة كبرى (مثل فرانك كارلوتشي)، ومع هؤلاء حشد من أعضاء بارزين فى الكونجرس ديمقراطيين وجمهوريين على السواء (مثل جوزيف ليبرمان وجون ماكين). وكان هؤلاء وزملاء لهم فى الفكر والفعل هم الذين أشرفوا على بناء تحالف حرب الخليج الثانية (سنة 1990 ـ 1991)، وهم الذين خططوا لمؤتمر مدريد لتحقيق صلح شامل بين العرب وإسرائيل (1992)، وهم الذين ساعدوا على تمهيد السبيل إلى لقاء بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل (المعروف باتفاقية أوسلو 1994). وكانوا هم الذين كتبوا خطابا مباشرا إلى الرئيس «كلينتون» بتاريخ 26 يناير 1998، يقولون فيه بالنص: «السيد الرئيس «إننا نكتب إليكم عن اقتناع بأن السياسة الأمريكية الحالية تجاه العراق لم تحقق أهدافها، وإنها فى الغالب سوف تواجه تهديدا فى الشرق الأوسط أشد خطورة مما واجهناه وقت الحرب الباردة، ونحن نظن أن خطابكم القادم فى شأن «حالة الاتحاد» يمكن أن يكون الفرصة الملائمة لإظهار عزم أمريكا على أن يكون القرن الجديد أمريكيا، ونأمل أن تنتهز هذه الفرصة لكى تعلن استراتيجياتك الكفيلة بتأمين مصالح الولايات المتحدة وأصدقائها وحلفائها فى العالم. إننا نهيب بالإدارة أن تضع كل جهود «الأمة» الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والعسكرية لتأكيد سيطرة الولايات المتحدة بخطوة أولى تضمن إزاحة «صدام حسين» عن حكم العراق، وأن تفعل ذلك من خلال الأمم المتحدة ـ أو منفردة إذا اقتصى الأمر». (وكان بين الموقعين على هذا الخطاب: «ريتشارد تشيني»، و«دونالد رامسفيلد»، و«ريتشارد بيرل»، و«بول وولفويتز»). وتردد «كلينتون» وتصوره أن المعركة ضد الإرهاب لابد أن تحقق انتصارها أولا، لكنه لم يلبث أن توصل مع جماعة «قرن أمريكى جديد» إلى حل وسط، وكانوا هم وبكلماتهم من تولوا صياغة وطرح «مشروع قانون تحرير العراق»، الذى قبله الرئيس «بيل كلينتون»، وأرسله إلى الكونجرس حيث تم إقراره سنة 1998، ليصبح نافذ المفعول، ملزما للرئيس الأمريكى. وفى إطار معركة انتخابات الرئاسة الأمريكية سنة 2000، كان «قانون تحرير العراق» وضرورة تنفيذه الفورى، قضية أثيرت أكثر من مرة فى المناظرات بين المرشحين: الجمهورى «جورج بوش»، والديمقراطى «آل جور» دون أن يذكر أحد أن استهداف العراق لم يكن إلهام مبدأ وإنما إلحاح مصالح، ولم يكن قضية عدالة وإنما سبق إصرار على القتل، لأن العراق خلال حقبة التسعينيات ـ وبعد تحرير الكويت ـ لم يخرج مرة واحدة فى تصرف، ولم يعصِ أو يخالف، بل كان أمله أنه بالإذعان والامتثال يستطيع أن يخرج من خنق الحصار ويتخلص من كارثة العقوبات. والحقيقة أن القضية لم تعد قضية العراق، وإنما كان العراق بداية خيط وقع العثور عليه لإمبراطورية القرن الحادى والعشرين. وكان «جورج بوش» (الابن) هو الأعلى صوتا، خلال الحملة الانتخابية إزاء «آل جور»، عندما يجيء ذكر موضوع العراق، ففى هذه النقطة بالذات كان ادعاء «بوش» أنه الأقدر على استكمال المهمة لأنه عاشها (عائليا)، قبل أن يلتزم بها (سياسيا)، وكانت الإيحاءات بعد ذلك تومئ إلى أن «آل جور» تعايش فى البيت الأبيض الوقت نفسه مع «مونيكا لوينسكي» ـ دون أن يعرف بما يجرى فى المكتب البيضاوى، أو أنه عرف ولم يتجاسر على النظر إلى رئيسه فى عينيه، وهو فى الحالتين لا يصلح، فإذا لم يكن عرف فهو لا يقدر على الإمبراطورية، وإذا لم يكن تجاسر فهو لا يستطيع مواجهة العالم. وفاز «جورج بوش» بالرئاسة، وإن لم يكن فوزه بمفاضلة أخلاقية أو سياسية (أو شعبية)، وإنما كان فوزه بحيل انتخابية وتلفيقات قانونية ـ وراءها خطط إمبراطورية، وسياسات مشى فى إطارها أحد عشر رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية على مدى نصف قرن من الزمن، تحرك فيها كل منهم بأسلوبه ـ وبمزاج إدارته ـ وفى أجواء زمنه (بصرف النظر عن مبادئ الأخلاق وضوابط القانون، لأن الإمبراطوريات لا تحتاج إلى حدودها وقيودها!). وقد مشى هؤلاء الرؤساء جميعا على نفس الطريق: 1 ـ الرئيس «فرانكلين روزفلت» (فى البيت الأبيض من سنة 1932 إلى سنة 1945) ـ تولى قيادة الحرب العالمية الثانية إلى ظرف ظهرت فيه الإمبراطورية الأمريكية «وريثا شرعيا» مطالبا بالإمبراطوريات الأوروبية التقليدية. 2 ـ الرئيس «هارى ترومان» (فى البيت الأبيض من سنة 1945 إلى سنة 1952) ـ وهو الذى وضع توقيعه على التوجيه الرئاسى رقم 98 لسنة 1950) بتحديد الهدف الاستراتيجى للولايات المتحدة الأمريكية «بتدمير الاتحاد السوفيتى، وتحقيق تفوق عسكرى أمريكى غير قابل للتحدى وغير قابل للمنافسة». 3 ـ الرئيس «دوايت أيزنهاور» (فى البيت الأبيض من سنة 1952 إلى سنة 1960) ـ وهو الذى أشرف على عملية احتواء الإمبراطورية السوفيتية وحصرها ـ (وهى الإمبراطورية الطالعة المتجددة) ـ وراء الستار الحديدى وتطويقها بسلسلة من الأحلاف العسكرية فى أوروبا وجنوب شرق آسيا، مع محاولة أولى فى الشرق الأوسط لبناء نظام عسكرى غربى يكمل حلقة الحصار تحت اسم «حلف بغداد»، وقد تعطلت المحاولة (بسبب الحركة الفوارة للقومية العربية). 4 ـ الرئيس «جون كيندي» (فى البيت الأبيض من 1961 إلى سنة 1963) ـ وهو الذى جرب أسلوبا آخر فى الاحتواء يعتمد على جاذبية النموذج الأمريكى تحت شعار إدارته المشهور ـ «الحدود الجديدة». 5 ـ الرئيس «ليندون جونسون» (فى البيت الأبيض من 1964 إلى سنة 1968) ـ وهو الذى عاد إلى أسلوب الاحتواء العنيف مرة أخرى فى الشرق الأقصى (بحرب فيتنام)، وفى الشرق الأوسط (بحرب سنة 1967)، مصمما على أن حركة التحرر الوطنى مهما قالت ومهما حاولت هى عنصر مقاوم للإمبراطورية الأمريكية، وبالتالى فهى صديق أو احتياطى (ولو بالمصادفة) للإمبراطورية السوفيتية. 6 ـ الرئيس «ريتشارد نيكسون» (فى البيت الأبيض من سنة 1968 حتى سنة 1975)، وهو الذى اعتمد بمشورة من وزير خارجيته «هنرى كيسنجر» سياسة وفاق تقصد إلى تثبيت الإمبراطورية السوفيتية فى شرق أوروبا ـ حتى تتمكن الولايات المتحدة أن تعطى نفسها حرية عمل فى الشرق الأوسط وفى أفريقيا وآسيا، مع محاولة تكريس الخلاف بين الإمبراطورية السوفيتية وبين الصين وهى القوة الصاعدة فى الشرق الأقصى. 7 ـ الرئيس «جيرالد فورد» (فى البيت الأبيض أكثر قليلا من سنة واحدة من 1975 إلى 1976) لم تعطه الفرصة لعمل شيء يُذكر له. 8 ـ الرئيس «جيمى كارتر» (فى البيت الأبيض من سنة 1976 إلى سنة 1980) وهو الذى ركز جهده بتأثير مستشاره للأمن القومى «زبجنيو برجينسكي» ـ على قوس المتاعب على الحزام الشمالى للشرق الأوسط، فتصدى للثورة الإسلامية فى إيران، وفتح معركة استنزاف الإمبراطورية السوفيتية فى أفغانستان بسلاح الجهاد الإسلامى التى جر إليها العالم العربى كله فى خدمة سياساته وتنفيذ أغراضه. 9 ـ الرئيس «رونالد ريجان» (فى البيت الأبيض من سنة 1981 إلى سنة 1988)، وكان هو الذى خطا بسباق السلاح خطوته الحاسمة نحو حرب النجوم، ثم استطاع أن يحول أفغانستان إلى مصيدة حقيقية للدب الروسى، وقاد الحرب الشهيرة ضد إمبراطورية الشر. 10 ـ الرئيس «جورج بوش» (الأب) (فى البيت الأبيض من سنة 1988 إلى سنة 1992)، وهو الذى سقطت فى عهده الإمبراطورية الروسية ـ الشيوعية ـ وفى أجوائها حقق بحرب الخليج اختراقا هائلا فى الشرق الأوسط، حين تمكن من اصطياد العراق فى فخ الكويت، وإذا المنطقة كلها حليف للولايات المتحدة وشريك، ثم تنازل التحالف والشراكة إلى درجة أدنى مع ارتهان العرب للسياسة الأمريكية، على أمل حل للصراع العربى الإسرائيلى ـ يكبح جماح إسرائيل ويكف أذاها! 11 ـ وقُرب النهاية جاء الدور على «بيل كلينتون» (فى البيت الأبيض من سنة 1992 إلى سنة 2001)، وهو الذى حاول ـ رغم تسمية رئاسته «فاصل جنسي» بين رئاسة «بوش» (الأب) و«بوش» (الابن) ـ إكمال المهمة بقانون تحرير العراق، وجرب تصفية بقايا الصراع العربى الإسرائيلى، ولم تكن قد بقيت منه إلا سلطة وطنية مُحاصرة باليأس ما بين غزة ورام الله. 12 ـ أحد عشر رئيسا حتى جاء الدور أخيرا على الرئيس الثانى عشر «جورج بوش» (الابن)، وهو الآن فى البيت الأبيض يزيل آثار المعركة الطويلة التى أسقطت الإمبراطورية الباقية الأخيرة ـ إمبراطورية الشر ـ ويجمع الشظايا المتناثرة هنا وهناك، خصوصا على أرض الشرق الأوسط حتى يرسى صرح البناء الإمبراطورى. وبالطبع فإن «جورج بوش» (الابن) لم يكن وحده، وإنما اتسع المسرح من حوله لتحقيق المشروع الإمبراطورى ـ الذى يبقى ويحكم فى العالم إلى الأبد (هكذا العزم والقصد). ......................
...................... [كان طريق هذا الطابور من رؤساء الولايات المتحدة طويلا وكان حافلا بالإنجازات الكُبرى، وبالأخطاء الفادحة، وبالسقطات والحماقات، وحتى بالفضائح المجلجلة ـ لكن اثنى عشر رئيسا مشوا جميعا على هذا الطريق الإمبراطورى ـ كل واحد منهم بمقدار جهده وباتساع فرصه، بعضهم سار أمتارا وبعضهم جرى أميالا، بعضهم تراجع خطوة وبعضهم تراجع شوطا ـ لكن كلا منهم حاول، لأن المشروعات الإمبراطورية الكُبرى لا تحيد عن أهدافها مهما صادفها، ولا تطيل الوقوف أمام الصدمات بدعوى العجز عن استيعابها، ولا تمارس فعلها بالأهواء الشخصية ـ فى غيبة استراتيجية وطنية أو قومية ـ وذلك هو الدرس الذى لم تتعلمه ولم تحفظه السياسة العربية، حيث كل رجل فى حد ذاته بداية ونهاية ـ لأنه مستودع الحكمة الأكبر ـ ومصدر القرار الأوحد ـ وفى يده المصير!]. ......................
...................... طــوال الفترة ما بين دخـــول العراق إلى الكــويت أول أغســطس 1990، وحتى خروجه منها فى فبــرايــر سـنة 1991، كان «جورج بوش» وأركان إدارته يشعرون أنهم عــلى أول الطـــريق المؤدى بهــم إلى تأكيـــد أن القــرن الحــادى والعشــرين ســوف يكـــــون قـــــرنا أمريكيــــا! عندما سقط «جورج بوش» (الأب) فى محاولته للحصول على مدة رئاسة ثانية، وأفسح مكانه فى البيت الأبيض لرجل غيره هو «بيل كلينتون»، فإن هذا الرئيس الجديد لم يكن فى فكره تغيير السياسات الأمريكية، وإنما كان فى مزاجه تغيير الأسلوب، وقد اختـار أســــــلوبــا آخـــــر لتحقيــقــــه طوال رئاسة «بيل كلينتون» كانت جماعة الضغـط الجمهــورى ـ المطالبة بالإمبراطـــورية، والســـيطرة على البتــرول، والتحالف مع إســرائيل، والتلويح بشبح «الخطر» مـــن العــــــراق ـ تـــزداد نشـــــــاطا، وتضـــــم إليهــا مناصــرين جُــددا، (تحت شــعار: «ضرورات قرن أمريكى جديد»!) جــــاء الــــــدور أخيـــرا عــــــلى «جــورج بــوش» (الابن)، وهــــو الآن فى البيت الأبيض يزيل آثار المعركة الطــويلة التى أسقطت الإمبراطورية الباقية الأخيرة ـ إمبراطورية الشــر ـ ويجمــع الشظايا المتناثرة هنــا وهناك، خصوصا على أرض الشرق الأوسط حتى يرسى صرح البناء الإمبراطورى 5 من الحظيــــرة إلى المســــــيرة! ولم يكن ما يجرى فى الولايات المتحدة خافيا على قوى العالم الكبرى، فقد تقابلت كلها فى ظروف سبقت المشروع الإمبراطورى الأمريكى، ورأت مقاصده واحتكت مرات به، وكان الاحتكاك فى بعض هذه المرات حادا، يكاد أن يحدث شررا ـ وربما يشعل نارا. والآن سنة 2000 وبداية قرن جديد ـ كانت القوى الكُبرى فى العالم تتابع دخول إدارة أمريكية جديدة إلى السلطة، عارفة مسبقا أنها سوف تكون رئاسة خشنة: ـ كان أنصار المشروع الإمبراطورى الأمريكى فى صميم العملية الانتخابية وعلى مواقع توجيهها وقد تحقق الفوز لمرشحهم فيها بما يشبه المعجزة. ـ وقد دخلوا من «الخارج» إلى «الداخل» واحتلوا أهم المواقع داخل البيت الأبيض، وعلى رأس الإدارة، وحول مائدة «القرار» فى مجلس الأمن القومى وفى أيديهم أهم مفاتيح القوة الأمريكية، وبالتالى فإن الفرصة «الآن» ـ و«هنا». ـ ومما يسهل المهمة عليهم أنهم مع «رئيس» مستعد بما لديه لأن يتأثر ويسمع ويندفع، وقد أقنعوه (وهو صحيح) أن استكمال مشروعهم ضمانه لمدة ثانية فى رئاسته، بحيث ينجح فى انتخابات سنة 2004 نجاحا ساحقا لا تشوبه الريب ولا تحوطه الشكوك. وفوق ذلك فإن جماعة الإمبراطورية كانت تقدر أن مشروعها لفرض سلام أمريكى على العالم( Pax Americana) لن يواجه معارضة جدية حتى من تلك القوى التى ترى «الحالة الأمريكية المستجدة» وتفهم معانيها: ـ القوى الأوروبية الكُبرى سوف يضايقها ما تراه وتفهم أنها الإمبراطورية وليس ـ كما كانت هذه القوى تأمل ـ مشروع نظام عالمى جديد، لكنه ليس فى مقدور هذه أن تفعل الكثير، وإذا أخذ فى الاعتبار أن بريطانيا مضمونة (بسبب شراكتها فى بترول الشرق الأوسط) ـ فإن فرنسا وألمانيا لديهما فى أوروبا ما يشغلهما، وأوله رغبة دول الشرق التى تحررت من قبضة الاتحاد السوفيتى أن تزحف إلى الغرب طالبة عضوية الأطلنطى وبعده السوق الأوروبية المشتركة. ـ والاتحاد الروسى الوريث للاتحاد السوفيتى لديه ما يكفيه من المشاكل، ومع أن ترسانته النووية المتهالكة مازالت قادرة على الردع، فإن السياسة الأمريكية تستطيع تركيب صمام أمان على الموقف الروسى بضبط فاعليته. وكانت المجموعة الإمبراطورية الأمريكية تعرف من تجارب سابقة أن لحظة المُنى فى موسكو هى تلك اللحظة التى تبدى فيها واشنطن بادرة تدل على أنها مازالت تعتبر الاتحاد الروسى قوة عظمى (أو قوة متساوية) ـ وكذلك كان أول سعى الرئيس الأمريكى الجديد (الثانى عشر فى ترتيب الرؤساء البناءين للإمبراطورية) هو الذهاب إلى مقابلة «فلاديمير بوتين»، ثم خروجه بعد المقابلة يقول: «إنه نظر فى عينى «بوتين» وعند تلاقى نظراتهما أحس على الفور بشعاع ضوء يوحى بالثقة، وهكذا وقع بينهما الغرام من أول لحظة، واقترح عليه أن ينادى كل واحد منهما الآخر باسمه الأول «فلاديمير وجورج»! ـ والدول الآسيوية الكُبرى (الصين واليابان) مشغولة بشئونها، وهى اقتصادية بالدرجة الأولى، وهى لن تعطل نفسها باعتراض على المشروع الأمريكى الإمبراطورى، حتى بمنطق فلسفة (كونفوشيوس وبوذا) يحضها دائما على نظام فى الأولويات والمراتب قادر على التحمل وعلى الانتظار. وفى هذا كله لم يكن هناك حساب يذكر (لسوء الحظ) لرد فعل من العالم العربى على مشروع إمبراطورى يرسى ويرفع أهم ركائزه على أرض عربية ـ ومواقع عربية ـ وموارد عربية. وعلى نحو ما فإن الولايات المتحدة أخذت العالم العربى مسألة مفروغا منها دون كبير عناء، والسبب أن معظم الدول العربية دخلت «حظيرة» التحالف من وقت حرب تحرير الكويت، ثم إنها مشت من الحظيرة إلى «المسيرة»، وهى عملية صنع السلام مع إسرائيل التى زادت عليها الحركة من مؤتمر مدريد سنة 1991، ولا تزال مستمرة عليها، لأنها المفاوضات بلا بديل آخر، أى مفاوضات إلى الأبد والاعتماد فيها على الولايات المتحدة وليس على غيرها، وبالتالى فإنه ما بين «الحظيرة» و«المسيرة» لا خوف على العرب ولا خوف منهم! كذلك كانت حسابات جماعة المشروع الإمبراطورى الأمريكى عندما دخل أقطابه إلى المكتب البيضاوى فى البيت الأبيض، وحين جلسوا حول مائدة مجلس الأمن القومى، وحين أمسكوا بأهم مفاتيح القوة الأمريكية الهائلة، وراحوا يحركونها لحساب مشروعهم التاريخى. كانت حساباتهم فى بعض النواحى صحيحة، وكانت الحسابات فى نواح أخرى خاطئة، وكان أول دواعى الخطأ هو العجلة ونفاد الصبر، باعتقاد جماعة الإمبراطورية أنهم أمام نافذة مفتوحة ـ على فرصة غير محدودة. وعندها زادت احتمالات الخطأ، ومعه تزايدت أسباب الخطر. لـم يكـــن هنـــاك حســــاب يذكـــر (لســوء الحــظ) لـرد فعــل مـن العــالم العـــربى على مشـــروع إمبراطـــورى يرســــى ويرفـــع أهـــم ركائـزه عــلى أرض عـربيــة ـ مــواقــع عربيــــــة ـ ومــوارد عربيــــــة
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة