مدينة من رخام



في 7 يوليو من عام 1905م توصل عالم الآثار الألماني كارل ـ ماريا كاوفمان Kaufmann 1872 ــ 1951 ومعه مساعده ايوالد فولز Falls إلي اكتشاف المدينة الرخامية بمنطقة مريوط غرب الإسكندرية والمعروفة باسم منطقة «بومنا» أي منطقة «القديس مينا» الذي يعد من أشهر الشهداء الأقباط في القرن الرابع الميلادي 286 ــ 309م. بدأ كاوفمان رحلته الاستكشافية في عالم الآثار بزيارته إلي الصحراء الليبية والتي رافقه فيها مساعده فولز للبحث عن آثار مسيحية في منطقة «سيرين» وهضبتها بليبيا، إلا أن مصاعب سياسية واجهت البعثة مع حاكم ليبيا، مما دفع البعثات الأثرية التي جاءت إلي الشرق أن تتجه صوب منطقة مريوط. معالم علي الطريق إلي المدينة الرخامية كان أهم ما استرشد به كاوفمان وفولز، الطريق الذي سلكه البابا بنيامين الأول البطريرك 38 623 ــ 662م إلي برية شيهيت، وأيضًا وصف الرحالة البكري ــ أحد الجغرافيين العرب ــ الذي زار المنطقة وشاهد بقايا المدينة القديمة عام 1086م وكان «كاترمير» Quatremere قد قام بترجمته إلي الفرنسية. كذلك اعتمد علي مخطوط محفوظ بالمكتبة الوطنية بباريس ويعود تاريخه إلي القرن الحادي عشر الميلادي. لم يكن وصول كاوفمان إلي المدينة صعبًا لدرجة ما، إذ إن الذين سبقوه في تلك المحاولة قد ألقوا ضوءًا واضحًا عليها، خاصة ما قام به الرحالة كارفر Carver. فأول رحالة ذكره التاريخ علي أنه زار كرم «بومنا» أو «أبو مينا» هو باخو Pacho وكان ذلك عام 1824م حين مر صدفة بالمنطقة وهو في طريقه من أبو صير إلي قصر القطاجي Qatagi، جاء بعد ذلك الرحالة يونكرز Junkers. في عام 1904 نشر الأدميرال «بلومفيلد» Blomfield مقالاً بعنوان مار مينا الإسكندري بمجلة جمعية آثار الإسكندرية تحدث فيها عن أواني القديس مينا الفخارية التي صُنعت في مدينة أبو مينا، ثم حدد أيضًا مكان كنيسة مار مينا الكبري علي أنها تقع في أقصي الجنوب. ثم طلب من جمعية آثار الإسكندرية التي تأسست عام 1893م أن تقوم بالبحث عنها. نظم أيضًا العالم الإيطالي د. بريشيا Breccia رحلة في عام 1904 لاستكشاف الصحراء الغربية بحثًا عن مدينة أبو مينا، وظل يجول هناك حتي تقابل مع البعثة الألمانية بقيادة كاوفمان، فكتب بريشيا يقول: ... واضطررنا للانسحاب بكل تواضع أمام البعثة التي كان يقودها الأسقف كاوفمان الذي جاء إلي مصر بغية الوصول إلي نفس الهدف، إذ إنه كان لدي هذه البعثة الكثير من الإمكانيات المادية والاستعدادات الطبية مما لم يكن في استطاعتي الحصول علي مثله. رغم كل المحاولات السابقة للوصول إلي هذه المنطقة والاستعدادات الضخمة التي كانت لبعثة كاوفمان ــ كما ذكر د. بريشيا ــ فإن البعثة واجهت صعوبات جمة في عملها حتي سقط كاوفمان مريضًا، وفكر مع أعضاء البعثة الألمانية في العودة إلي بلادهم بعد أن تملك منهم اليأس!! بداية الكشف عن المنطقة في تلك الأثناء حضر أحد الصبية البدو ومعه آنية كاملة من أواني القديس مينا ــ ذات الشهرة العالمية ــ وقدمها إلي «فولز» مساعد كاوفمان وأخبره أنه وجدها في أحد أفران الفخار القديمة بالقرب من المكان الذي ينقبون فيه. وأخيرًا أرشدهم أحد البدو إلي مكان يدعونه «قلعة الخليفة»، وهو كوم من الحجارة المتراكمة، وفي الحقيقة لم تكن قلعة الخليفة هذه بعد البحث والتنقيب سوي مكان كنيسة البابا ثاؤفيلس الأثرية. كان هذا اليوم ــ 7 يوليو 1905 ــ بمثابة أسعد أيام حياة كاوفمان. أما تفاصيل هذا الحدث فيسجله كاوفمان بنفسه في كتابه النفيس عن مدينة مينا بمريوط فيقول: بعد مسيرة 30 يومًا علي ظهر الإبل في دروب الصحراء الليبية وصلت البعثة الاستكشافية من وادي النطرون مخترقة صحراء أولاد علي، إلي مجمع آثار «أبو مينا»، عادوا بعدها إلي المعسكر وهم مجهدون، خائرو الهمة، معتقدون أنهم فشلوا في بلوغ هدفهم. وأقاموا مدة يومين في خيام يرفرف عليها العلمان المصري والألماني والتي وضعتها الحكومة المصرية تحت تصرفهم. وودعوا الدليل البدوي بعد أن أمضوا عامين تحت شمس ليبيا المحرقة علي أمل العثور علي المدينة الأثرية. قابلت البعثة العديد من الأطلال التي لم تمسسها يد قط في كرم «أبو مينا». وعندما سقط كاوفمان مريضًا في معسكر أبو مينا أهداه أحد أفراد قبيلة «أبو علي» شقفات أوستراكات عثر عليها أثناء تجواله لأول مرة في منطقة الآثار. فاعتقد كاوفمان أن هذا يؤدي إلي احتمال اكتشاف آثار «أبو مينا». وقد تعزز هذا الاحتمال عندما أهداه صبي بدوي قنينة قارورة عليها كتابات يونانية ثم قاده إلي المكان الذي عثر عليها فيه وكان عبارة عن بقايا فرن لعمل الفخار. وهنا كان اكتشاف المنطقة الأثرية. كانت ضخامة المدينة التي عثروا عليها قد فاقت كل توقعاتهم. وقد جاءت فرحتهم بالاكتشاف عقب الحالة السيئة التي كانوا عليها، وعلي الفور أسرعوا بقدر الإمكان بعمل الرسومات الكروكية للمنطقة والتقاط بعض الصور الفوتوغرافية والتي بلغت في الكتاب الذي وضعه كاوفمان عدد 102 صورة بالإضافة إلي 68 رسمًا كروكيا وهندسيا وبعض الصور التاريخية الأخري. المباني الدينية بالمدينة المقدسة سجل بعد ذلك كاوفمان وصفًا دقيقًا لما كانت عليه المباني الدينية في تلك المدينة المقدسة، فيقول: عند بدء التنقيب المنظم في أواخر نوفمبر 1905 أثارت انتباهنا ثلاث نقاط. أولاها منخفض علي شكل حوض شبه دائري يبلغ أصغر أقطاره أربعين مترًا في اتجاه الشمال بالقرب من مركز الأطلال، وهو حوض ماء يرتبط بالحمام المقدس لمدينة مينا وذلك لسد حاجة الزوار والرهبان من الماء. وفي موقع ثان بالقرب منه وجدت قمينة للفخار أعطت البعثة الاستكشافية احتمال إعادة اكتشاف مدينة مينا المطمورة. وهنا ظهرت للعيان بالقرب من المبني الضخم المكتشف سلسلة من القمائن وقنوات لتوصيل المياه وصهريج رائع. فكانت حصيلتنا من فخاريات القديس مينا وفيرة. ثم جاء الحدث الثالث والذي أكد اكتشاف المدينة المقدسة وهو وجود تراكم دائري من الأحجار غير منتظم يحتل مركز المدينة. وقد تطلب الأمر أولاً تدريب العمال علي مهمتهم الشاقة فلم نبدأ أعمال التنقيب إلا في نهاية ديسمبر. وبعد أن أزلنا طبقة عظيمة من الركام بدأنا في عمل حفر تجريبية بدءًا من الشرقية الرئيسية ثم طولاً من الشرق إلي الغرب وعرضًا من الجنوب إلي الشمال، وظهرت فورًا أجزاء معمارية، وقواعد أعمدة، وشقافات منقوشة وبعدها بعض تيجان الأعمدة الجميلة مزينة بالصلبان وباسم السيد المسيح، مما لا يدع مجالاً للشك أن الكاتدرائية العظيمة كانت في هذا المكان الذي يرقد فيه جسد القديس مينا. وأظهرت الحفائر التالية أنها كانت التوسعات التي أقامها الإمبراطور أرديوس Arcadius وأن المقصورة الشهيرة تقع إلي الغرب مباشرة تحت الكاتدرائية القديمة. وفي عمق كومة ارتفاعها من مترين إلي ثلاثة أمتار وجدت شقافات من الموزايكو، وزجاجات المصابيح، وأباريق مينا الصغيرة وعملات من القرن الخامس الميلادي. اكتشاف قبر القديس مينا يعتبر اكتشاف قبر القديس مينا من أكثر مراحل التنقيب إثارة. ففي بداية شهر يناير 1906 وبينما كان العمال يقومون بإزالة أكوام الأحجار في مبني أركاديوس اصطدموا، علي بعد 50 مترًا من نهاية أحد خطوط الحفر، بالدرجة العليا لأحد السلالم. ووجدت بالقرب منها مباشرة بقايا عمودين يحددان المدخل. وبالرغم من زوال كساء الدرجة العليا، إلا أن الدرجات أسفلها احتفظت بألواحها المرمرية في حالة جيدة كما احتفظت الجدران بطبقة سميكة من المصيص. وفي نفس وقت اكتشاف هذا الدرج وأثناء تخليصه من التراكمات أبلغنا البدو عن وجود بئر في الجوار مباشرة أمكننا من خلاله مشاهدة كل ما في العمق. فرأينا قبة تغطي نفقًا أو قاعة ممتلئة عن آخرها بالأحجار والأتربة. وتتكون القبة من قوالب صلبة تربطها ببعضها البعض طبقة سميكة من الملاط المونة. وفي أحد الأماكن طوق من الأحجار من الواضح أنه يناظر الحوائط الموجودة فوق سطح الأرض. رويدًا رويدًا انفرج أمامنا الرواق الجميل، الذي أعجب به كل من زار مدينة أبو مينا، وبدأ الأمل يراودنا بأننا بالقرب من قبر القديس مينا. وجمال ورونق تجهيزات الدهليز وقطع المرمر التي عثرنا عليها تشير إلي أننا نسير تجاه قبر القديس مينا نفسه. وطوال تقدمنا بحماس في هذا الدهليز كنا نفحص الجدران باحثين عن أي نقوش حتي وصلنا إلي منتصفه فقابلنا نقش علي الحائط الأيمن عبارة عن صلاة من العصر القبطي والعربي موجهة إلي القديس مينا. وقد وصف الرحالة العربي «البكري» القبر بأنه «القبر الرخامي الأكبر» لما كان يكسو جدرانه بألواح الرخام وأرضيته بالصفائح المعدنية. فقد كان يبلغ ارتفاع الحائط الغربي 5،2 متر وهو مغطي برقائق من الحجر الجيري مكسوة بالملاط وفي وسط الحائط يرتفع إطار كبير تبلغ أبعاده 8،1*8،1 متر للوح من المرمر تتوسطه أيقونة للقديس مينا بين جملين. وتعد هذه الأيقونة النموذج الفريد لصورة القديس والتي نقشت علي القوارير في العصر المسيحي الأول. وقد وجدت لهذه الأيقونة نسخ أخري بمنطقة الدخيلة إحداها موجودة حاليا بالمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية وأخري بالمتحف القبطي بالقاهرة والتي يظهر فيها القديس مينا بدون زيه العسكري وسط الجملين، كما وجد لها مثيل آخر منقوش علي العاج في إطار فاخر بمتحف الآثار القديمة بمدينة ميلانو بإيطاليا. في النصف الأخير من القرن الرابع الميلادي أقيمت كنيسة القبر وفيه تنفتح مغارة القبر إلي أعلي علي شكل نصف دائرة بحيث تحتفظ الأعمدة القديمة بمكانها. وكتوسعة لكنيسة القبر أقيمت كنيسة أركاديوس حتي تستوعب الأعداد الغفيرة من الزوار وكانت تحمل اسم «السيدة العذراء» ويبلغ طولها حوالي 60 مترًا، وهذا البناء الضخم يرتفع علي 56 عمودًا من المرمر كما طعمت جميع أجزائها وحوائطها بأنقي أنواع الرخام المستورد من الجزر اليونانية، ويتجه بابها الرئيسي نحو الجنوب. في عام 1907 اكتشفت البعثة الأثرية الألمانية الحمامات وكنيستها كما عثروا علي الحمام الضخم الذي كان يجاور الكنيسة، كما عثرت البعثة أيضًا علي آبار كثيرة متفرقة، ووجدت هناك عدة منازل وحوانيت، مما جدد صورة المنطقة الرخامية كمدينة كاملة متسعة. المجهودات المتتاليةللكشف عن المدينة توالت بعد ذلك المجهودات التي قام بها المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية 1925 ــ 1929م، والعالمان الألمانيان دايشمان وجيركان 1936م، والعالم البريطاني بركنز 1942م الذي أعاد دراسة كنيسة مار مينا الكبري علي أسس دقيقة معتمدًا علي ما جاء بالمدينة القديمة التي كانت للقديس وقد نشرها جيمس دريشر عام 1946 ثم أعمال المتحف القبطي 1951 ــ 1952م. ومنذ عام 1961 يقوم المعهد الألماني للآثار بالقاهرة بأعمال التنقيب في منطقة أبو مينا بصفة منتظمة برئاسة د. بيتر جروسمان. إلا أنه في عام 1943 نقرأ عن راهب يحمل اسم القمص مينا البراموسي المتوحد صار فيما بعد البابا كيرلس السادس البطريرك 116 عام 1959 وتوفي في 9 مارس 1971 يترك مكان توحده في طاحونة هواء بمنطقة مصر القديمة وينزل إلي الإسكندرية ويتوجه إلي المتحف اليوناني الروماني بها لمقابلة مفتش الآثار الأستاذ بانوب حبشي ويعرض عليه فكرة أن يقيم بصفة دائمة بالمنطقة الأثرية ويقيم بها الشعائر الدينية إحياءً لتاريخ هذه البعثة المقدسة، وفعلاً تكللت مجهودات الأستاذ بانوب حبشي بالنجاح، إذ وافقت هيئة الآثار المصرية علي ترميم الكنيسة الأثرية بمنطقة القديس مينا بمريوط. وفي 10 مايو 1959عندما تم اختيار هذا الراهب المتوحد ليكون بطريركًا للكنيسة القبطية باسم البابا كيرلس السادس استهل فترة بطريركيته هذه بزيارة المنطقة الأثرية بمريوط في يوم الجمعة 22 يونيو 1959 وأقام الشعائر الدينية بها. وفي يوم الجمعة 27 نوفمبر 1959 وضع حجر أساس الدير الحديث للقديس مينا بمريوط ثم في عام 1961 وضع حجر أساس كاتدرائية ضخمة بالدير الحديث، ثم استكمل هذا العمل بحماس شديد خليفته البابا شنودة الثالث البطريرك 117 حتي تم افتتاح هذه الكاتدرائية يوم 9 يناير 2005م باحتفال مهيب. ولكن هذا الكشف المسيحي العام ــ الذي أدرجته اليونسكو عام 1979 ضمن قائمة التراث العالمي ــ تهدده حاليا مياه الصرف الزراعي التي حولت المنطقة الأثرية إلي بركة من المياه!! مما حدا بدكتور جروسمان إلي القيام بردم هذه الاكتشافات الأثرية حتي يتم سحب هذه المياه وإعادة المنطقة إلي ما كانت عليه من جفاف. إنه بالحقيقة أثر مهم من آثارنا المصرية نعتز به ونحافظ عليه، إذ إنه مركز جذب الكثيرين من الأجانب الذين يدركون القيمة التاريخية والروحية لتلك المدينة المقدســـة.. المدينــة الرخامية.
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة