«حَكَمْتَ.. فَعَدَلْتَ....... فَأَمِنْتَ»



فى ظهيرة اليوم السابع من شهر ديسمبر عام 2005 كان «عمرو نبيل» مصور وكالة أسوشيتدبرس AP يؤدى مهمته ــ لا فى ميدان قتال كما فعل مرارًا وإنما فى تغطية الانتخابات البرلمانية المصرية. التى اعتقد المتفائلون يومها أنها ستصبح نموذجا للديموقراطية «يحتذى فى منطقتنا العربية كلها». وكانت تلك العبارة ــ لو تذكرون ــ فى صلب التصريح الرسمى الذى أعلن عن إطلاق العملية الانتخابية «وفق قانون جديد يوفر فرصة غير مسبوقة للممارسة الديموقراطية..» يومها فقد «المصور» عينه ــ أو كاد ــ بعد أن اعتدى عليه من أراد منعه من تصوير تجاوزات أمنية فاقت يومها كل حد. وكانت تهدف ــ ببساطة ــ إلى منع الناخبين من الوصول إلى صناديق الاقتراع. لضمان أن يظل «للدولة» أو بالأحرى لجماعتها الحاكمة الأغلبية المطلقة.
يومها أيضا دفع أصحاب القرار بالبلطجية ذاتهم ليقتحموا جامعة عين شمس بالهراوات والسيوف والجنازير لتأديب طلبة جامعيين فكروا فى ممارسة حق ديمقراطى حجبته عنهم قوة السلطة.
يومها، ولحسابات انتخابية ضيقة لم يدرك أصحابُ القرار/ السلطة خطورة اللجوء إلى «الهراوة والسكين» لضمان الأغلبية، والذى كان من شأنه أن يشيع فى المجتمع مفهوم: أن القوة/ العنف هى السبيل «الوحيد» لكى تصل إلى هدفك؛ حقًا كان أو باطلاً (وقد كان). يومها أيضا أُهدرت أحكام القضاء، وأهدرت، فى غير موضع «كرامة القضاة». وأيضا لم يدرك صاحب القرار/السلطة خطورة أن يتعمق لدى المواطن العادى شعورٌ باليأس من اللجوء إلى التقاضى «سبيلاً سلميًا لحل المنازعات». كما أنه لم يكترث ــ ربما ــ بحقيقة أنه عندما تُغلُ يد القضاءِ فى رد المظالم لأصحابها يصبحُ الأمن الاجتماعى مهددًا. كما يصبح «مفهومُ الدولة» ذاته فى خطر.
المشهد.. وإن اختلفت التواريخ والتفاصيل والألوان، تكرر فى غير قطر عربى. وأصبحت العبارة صحيحة من جهة أن ماجرى كان على الدوام «نموذجا يحتذي».
فقد سمير قصير حياته، وفقد آخرون حريتهم.. وسقط «الميكروفون» من يد «أطوار بهجت» مراسلة «العربية» فى العراق، ضحية للتعصب والطائفية. وراح طارق أيوب مراسل «الجزيرة» فى بغداد شهيدا بصاروخ أمريكى زعموا أنه ضل الطريق. قائمة الضحايا، كما تعلمون طويلة، وإن لم تكن بطولها قائمة المتهمين؛ الاحتلال، والإرهاب، والتعصب، والطائفية، ومن بعد كل ذلك ــ أو ربما قبله ــ «الدولة» حين تقصر فى واجباتها أو تمعن فى طغيانها، فتصبح الأكثر تهديدا لأمن المواطن.


تذكرت كل ذلك، حينما اقتربت من المناقشات المتعلقة بتقرير التنمية الإنسانية العربى الجديد 2009، والمقرر أن يصدر بعد أيام، والذى يبحث فى قضايا «أمن الإنسان فى البلدان العربية».
وهذا التقرير هو المجلد الخامس من سلسلة التقارير التى يرعاها برنامج الأمم المتحدة الإنمائى. وهو كما التقارير التى سبقته، ليس تقريرا تقليديا ــ كما توضح مقدمته ــ يجرى إصداره والمصادقة عليه عبر المسالك البيروقراطية المعهودة فى الأمم المتحدة، وإنما هو دراسة بحثية يضعها من وجهة نظر مستقلة، عدد من المفكرين والباحثين وراسمى السياسات فى البلاد العربية. يطرحون من خلاله تحليلا شاملا لبيئاتهم المعاصرة.
يدعو التقرير إلى مناقشة عدد من القضايا التى تمس أمن الإنسان فى عالمنا العربي، مثل المخاطر الاقتصادية والفقر والبطالة. والضغوط على الموارد الديموجرافية والبيئية، ومشكلات الأمن الغذائي، والتعصب الاثنى والطائفى. وربما قبل كل ذلك وفى صدارته «الاحتلال والتدخل العسكرى الأجنبيان». ولكنه ــ وذلك مما يحسب قطعا لكاتبى التقرير ــ لايغفل عن حقيقة أن «فقدان أمن الإنسان لا تخلو منه حتى البلدان التى تتمتع باستقرار نسبي، حيث تقوم الدولة المتسلطة، مستندةً إلى الدساتير المنقوصة والقوانين المجحفة، بحرمان المواطنين حقوقهم فى أغلب الأحيان». فيطرح السؤال ــ الذى أراه الأهم ــ حول «أداء الدولة فى ضمان أمن الإنسان أو تقويضه».
يُذكرنا كاتبو التقرير بذلك التقرير الأول الذى صدر عام 1994. مشيرين إلى أن جوانب القصور التى حدد معالمها التقرير الأول، ربما تكون بعد مرور سبع سنوات، قد ازدادت عمقا. الأمر الذى يدفع بالسؤال المحرج لأن يطرق أبوابنا بقوة: لماذا كانت العقبات التى تعترض سبيل التنمية فى المنطقة عصيّةً على الحلّ إلى هذه الدرجة؟
ربما لا يقول التقرير بوضوح إن «الإنسان الحر فى مجتمع عادل هو شرط أصيل للتنمية» وإن كنت لا أراه يبتعد عن ذلك المعنى كثيرا عندما يشير إلى أن جواب السؤال يكمن فى هشاشة البنى السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية فى المنطقة، وفى افتقارها إلى سياسات تنموية تتمحور حول الناس، وفى ضعفها حيالَ التدخل الخارجي، ثم فى تضافر هذه العناصر لتقويض أمن الإنسان، ولأن إحساس الإنسان بأمنه هو من مستلزمات التنمية الإنسانية، فقد كان أن أدى غياب أمن الإنسان على نطاق واسع فى البلدان العربية إلى إعاقة مسيرة التقدم فيها.


وبعد أن يحاول التقرير أن يضع مفهوما نظريا «متكاملا» للمقصود بأمن الإنسان، ينتقل فى فصوله السبعة لمناقشة أبعاد المخاطر المختلفة التى رأى كاتبوه أنها تهدد ذلك الأمن فى منطقتنا. فحين يتحدث عن الضغوط الديموجرافية مثلا، يذكرنا بما يغيب عن معظم سجالاتنا ونقاشاتنا التى تنحصر عادة فيما هو سياسى بالمعنى الضيق لمفهوم السياسة ــ والتى تستدرج عادة إلى معارك رخيصة، تحكمها فى الأغلب مواقف مسبقة، ومصالح ضيقة، وعصبية قبلية جاهلية، فننسى مثلا مايذكرنا به التقرير من تقديرات تشير إلى أن الدول العربية ستضم نحو 395 مليون نسمة بحلول العام 2015 (مقارنةً بـِ 317 مليوناً فى العام 2007 ، و150 مليوناً فى العام 1980). وفى منطقة تعانى نقصًا متزايدًا فى المياه والأراضى الصالحة للزراعة، فإن معدلات النمو السكاني، على الرغم من تناقصها، تظل لها أهميتها.
كما تشير التقديرات أيضا إلى مايمكن أن تمثله ندرة المياه إذ يقدر الحجم الإجمالى السنوى لموارد المياه السطحية المتوافرة فى البلدان العربية بنحو 277 بليون متر مكعب سنويًا، لا ينبع منها فى العالم العربى سوى 43 فى المائة فضلا عن أن مخزون مكامن المياه الجوفية المتجددة والذى يمثل فى أغلب الأحيان السبيل الوحيد للحصول على المياه العذبة يُستهلك بأسرع مما تستعيد مخزونها.
وبعد أن ينبه التقرير إلى ماتواجهه المنطقة من تحديات متعاظمة تهدد أمن السكان نتيجة للضغوط الديموجرافية والبيئية. يخلص إلى أن الصراعات المترتبة على المنافسة على الموارد الطبيعية المتناقصة قد تفضى إلى رفع نسبة التوتر فى العلاقات بين الجماعات والسكان والدول، العربية وغير العربية. وستنجم هذه التحديات عن الضغوط السكانية والديمغرافية، والإفراط فى استغلال الأرض، ونقص المياه والتصحّر والتلوث والتغيرات المناخية.
من ناحية أخري، يتوقف كاتبو التقرير عند مايبدو من ثراء لدى الدول النفطية. ويخشون أن تعطى الثروة النفطية الخيالية لدى البلدان العربية صورة مضلَّلة عن الأوضاع الاقتصادية لهذه البلدان، لأنها قد تخفى مواطن الضعف البنيوى فى العديد من الاقتصادات العربية وما ينجم عنها من زعزعة فى الأمن الاقتصادى للدول والمواطنين على حد سواء.


قد لا يتسع المجال هنا، بحكم المساحة، ــ وبحكم التخصص ــ لمناقشة مختلف القضايا التى يعالجها التقرير؛ مثل البطالة، والعنف ضد النساء، والأشكال الحديثة للاتجار بالبشر ، ومحنة اللاجئين والمهجرين، فضلا عن الضغوط الديموجرافية، وأوضاع الخدمات الصحية، وحروب المياه التى باتت على الأبواب، وغير ذلك من مسائل أظنها تحتاج إلى مناقشات موسعة من الخبراء والمتخصصين، ولكننى سأتوقف عند الصفحات التى أفردها كاتبو التقرير لمناقشة علاقة «الدولة .. والهوية .. والتنوع .. والمواطنة» بأمن الإنسان.
تتمحور العلاقة الملتبسة تلك فى السؤال الابتدائى الذى يطرحه التقرير: «هل الدولة العربية جزء من الحل، أم جزء من المشكلة؟».
وللإجابة عن هذا السؤال، يناقش التقرير أداء البلدان العربية وفقاً لمقاييس ملازمة للدول التى تمتلك مقومات الشرعية. ويحلل ما إذا كانت تلك الدول تحوز القبول من جانب مواطنيها، وتساند حقهم فى الحياة والحرية وتضمن لهم هذا الحق، وتحميهم من العدوان. أم لا؟ ويعتمد التحليل على أربعة معايير:
1ــ مدى قبول المواطنين لدولتهم.
2ــ التزام الدولة بالاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.
3ــ كيفية إدارة الدولة حقَّها الحصريّ فى استخدام القوة والإكراه.
4ــ مدى قدرة الضوابط والموازين المؤسسية على الحيلولة دون إساءة استخدام القوة.
ويخلص التقرير (إلى مانعرفه جميعا دون أن نعترف به ربما ) من أن حالاتٍ من التقصير فى تطبيق هذه المعايير كثيرا ما تجتمع لتجعل الدولة خطرًا يهدد أمن الإنسان، بدلا من أن تكون سندا له.
أكثر مااستوقفنى حين تسنى لى الاطلاع على أوراق من التقرير، هو إدراك كاتبيه لحقيقة أننا مازلنا بعد أكثر من نصف قرن من الزمان ندفع ثمن الإرث الاستعمارى القديم، فدولنا «كيانات مصطنعة» هكذا يقول التقرير بوضوح. إذ إنها غالباً ما تضم خليطاً من الجماعات الإثنية والدينية واللغوية التى دُمجت، كأقليات، فى مرحلة ما بعد الاستعمار. وفى حين استطاعت قلةٌ من البلدان العربية أن تحقق انتقالا سهلا وسليمًا نحو الاندماج، فإن تياراً قوياً تنامى فى دول أخرى بهدف حجب التنوع فى أوساط السكان، وصهر التغاير الثقافى واللغوى والدينى تحت إمرة سلطة واحدة. وفشلت أغلبية البلدان العربية فى تطوير الحكم الديمقراطى الرشيد ومؤسسات التمثيل القادرة على ضمان الاندماج وتحقيق العدالة فى توزيع الثروة بين مختلف الجماعات، فضلا عن احترام التنوع الثقافى.
كان من نتائج ذلك أن الجماعات ذات الهُويات المختلفة فى عدد من الدول العربية سعت إلى تحرير نفسها من نطاق الدولة/ الأمة التى تستظلّها. هذا الرفض لشرعية الدولة التى ورثتها وأدامتها الدولة العربية المعاصرة رافقته صراعات كان من شأنها بالضرورة أن تهدد أمن الإنسان.
يرصد التقرير كيف أن الولاءات الإثنية والدينية والقَبَلية كانت هى المحاور التى التفّت وحُشدت حولها الجماعات المختلفة للمناداة بالاندماج أو الانفصال. وأفضى هذا الحشد والتجييش إلى آثار مدمرة ومزعزعة للاستقرار انتقصت من أمن الإنسان وسلامة الدولة على حد سواء.
ورغم أن التقرير يقول بأن هذه الصراعات كانت هى المسؤولة عن الجانب الأعظم من الإصابات البشرية فى البلدان العربية، إلا أنه يبقى من الأهم مايذكره من أن «الهوية»، بحد ذاتها، لم تكن بالضرورة سبب النزاع، أو حتى المصدر الرئيسى للتوتر بين مختلف الجماعات فى المنطقة. بل إنه من الضرورى ملاحظة أن الصدامات التى تنطلق، فى ظاهرها، من اعتبارات تتعلق بالهوية، كثيراً ما تنشأ من تعثر سبل الوصول إلى السلطة السياسية أو الثروة، ومن غياب قنوات التمثيل والمشاركة السياسية، ومن قمع التنوع الثقافى واللغوى.
ويبقى بغض النظر عن التفاصيل، ما يشير إليه التقرير من أن مفهوم «المواطَنة» الذى هو المفهوم المعيارى الذى كان له الإسهام الأكبر فى إدارة التنوع الإثنى والثقافى واللغوى فى التاريخ السياسى الغربي، لم يتبلور بعد بصورة كاملة فى البلدان العربية.
كما تبقى النقطة المحورية هنا أن الدول العربية لم تصل بعد إلى الحكم الديمقراطى الرشيد، الكفيل وحده، بحكم طبيعته بمعالجة هذه المسألة، ناهيك عن اعتماد الديمقراطية الحقيقية المتمثّلة فى احترام حقوق المواطنين «أقلية كانت أو حتى أغلبية».


يناقش التقرير أيضا كيف أثرت إجراءات قيل إنها للحفاظ على أمن الوطن على «أمن المواطن» ذاته، فيشير إلى ماشهدته بلدان عربية عديدة من فترات طويلة جداً من الأحكام العرفية، التى تحولت فيها الإجراءات التى يفترض أن تكون مؤقتة إلى أسلوب دائم لتوجيه الحياة السياسية
ويرصد كاتبو التقرير، كيف أنه فى أعقاب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، سَنَّت معظم البلدان العربية قوانين لمكافحة الإرهاب، تقوم على تعريف غير محدد لمفهوم «الإرهاب». ومنحت هذه الإجراءات الأجهزة الأمنية فى الدولة صلاحيات واسعة فى بعض المجالات ولكنها قد تشكل تهديداً للحريات الأساسية فى مواضع أخرى. كما تهدد هذه القوانين حرية التعبير، وتزيد من الصلاحيات الممنوحة لتفتيش الممتلكات والتنصت والاعتقال. كما تسمح بالإحالة إلى المحاكم العسكرية. وعلى العموم، فقد أخفقت هذه القوانين فى تحقيق التوازن المطلوب بين أمن المجتمع من جهة والحريات الفردية من جهة أخرى. ويخلص كاتبو التقرير إلى أن التهديد الأكثر جدّيةً لأمن المواطَن فى بعض البلدان العربية يتمثّل فى أنّ السياق الذى تجرى فيه مكافحة الإرهاب يعطى الدولة الذرائع لانتهاك الحقوق والحريات الفردية دون الاحتكام إلى القانون.
ويتناول التقرير أيضا كيفية تعامل الدول العربية مع الحركات الإسلامية السياسية. فكثيراً ما تتذرّع الدول بالمخاطر التى تمثّلها هذه الحركات لتبرير الانقضاض على الحقوق السياسية والمدنية. فى حين أن السبيل الأمثل للحفاظ على الاستقرار وأمن المواطنين إنما يكمن فى إدخال الحركات المسالمة فى إطار النشاط السياسى المشروع.
يتحدث التقرير كذلك عن القوانين التى تتناول حرية الرأى والتعبير بطريقة غامضة، مع الجنوح إلى التقييد لا إلى التسامح (يشير التقرير فى هذا السياق إلى ميثاق القنوات الفضائية العربية) كما يلاحظ كيف أن «ما تضْمنه الدساتير العربية للمواطنين تتولى تشذيبه فى كثير من الحالات القوانين العادية، وما تبيحه تلك القوانين تحوله الممارسة إلى مخالفة فى أغلب الأحيان».
ويرصد التقرير مفارقة أن المخاطر التى تتهدد استقلال القضاء لا تأتى من الدساتير التى تُعلي، على العموم، من شأن هذا المبدأ، بل من السلطة التنفيذية. ويقول إن كل السلطات القضائية العربية تعانى من انتهاك استقلالها بصورة أو بأخرى جراء هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية. يضاف إلى ذلك أن محاكم أمن الدولة والمحاكم العسكرية قد تقوض استقلال القضاء، لأنها تمثل إنكاراً لمفهوم العدل الطبيعى وانتقاصاً من ضمانات المحاكمة العادلة. ومن نتائج ذلك نشوء فجوة ملموسة - فى حماية الأمن الشخصى للمواطنين - بين النصوص الدستورية من جهة والممارسات القانونية الفعلية من جهة أخرى. وقد جاهد العديد من القضاة فى بعض البلدان العربية لتأكيد معنى الاستقلال القضائي، غير أنهم يبذلون جهودهم تلك فى بيئة حافلة بالتحديات. (هل تذكرون المحاولات المستمرة لنادى القضاة المصرى والتى باءت فى النهاية بالفشل).


أهم مايتعرض له التقرير ــ فى رأيى هو حديثه عن الضوابط المؤسسية للحيلولة دون إساءة استخدام السلطة فيقرر «إن قوى الأمن والقوات المسلحة التى لا تخضع للرقابة العامة تمثّل تهديداً جديًا لأمن الإنسان»، وذلك ما تشهد به تجربة بلدان عربية عديدة. فمعظم رؤساء هذه الدول يستأثرون بسلطات مطلقة لا حسيب عليها ولا رقيب.
وتعمل دوائر الأمن العربية فى أجواء تتمتع فيها بالحصانة من المساءلة لأنها من الأدوات التى تعمل بشكل مباشر لصالح رئيس الدولة، وتعتبر مسؤولة أمامه وحده. وتتعزز سلطاتها الهائلة بتدخل السلطة التنفيذية فى استقلال القضاء بطرق مختلفة (راجع ماكتبه المستشار طارق البشرى فى هذه المجلة: مارس 2003 ويونيو 2005) وبالسيطرة التى يمارسها الحزب الحاكم فى أغلب الدول على السلطة التشريعية، وبتكميم وسائل الإعلام. وفى ظل هذه الظروف تنتفى الرقابة التشريعية والشعبية الحقيقية.
تأتى فى هذا السياق مسألة تركيز السلطة، وعدم وجود آليات «حقيقية» لتداولها. ويذكرنا التقرير هنا بالتعديلات التى أدخلت على دساتير عربية عدة بهدف التمديد لرئيس الدولة. ولعل المفارقة أنها المسألة «الوحيدة» التى يتفق فيها الحكام العرب رغم ما يبدو من اختلافهم حول كل قضية أخرى.
إن قياس أداء البلدان العربية وفق المعايير المتعارف عليها دوليا، يؤكد أن العلاقة بين الدولة وأمن الإنسان ملتبسة. ففيما يتوقع من الدولة أن تضمن حقوق الإنسان، نراها فى عدة دول عربية تمثل مصدراً لتهديده. ومن ثم يبقى سؤال التقرير: «هل الدولة العربية جزء من الحل، أم جزء من المشكلة؟» مطروحا.. بل ومطلوبا.


ويبقى من أهم ما فى التقرير (لاحظــــوا أنه «دولي»)، ماذكره فى الفصل الخاص بالاحتلال والتدخل العســــكرى. وكيف أنهمــــــا كـــــانا على مدى تاريخ المنطقة، عاملين أساسيين من أهم العوامل التى تهدد أمن الإنسان.
ويعرض التقرير تقييماً تفصيلياً للأضرار الناجمة عن الانتهاكات التى ترتكب ضد حقوق الإنسان، مع التركيز على آثار التدخل الأميركى فى العراق، واستمرار السيطرة الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فى ذلك الحملة الأخيرة على غزة، والأوضاع الصعبة التى يعانيها الشعب المحاصر فى الصومال.
ويلاحظ التقرير أن دوام الاحتلال والتدخل طوال هذه الفترة يدل على انكشاف المنطقة لسياسات الأطراف الخارجية. وتعتمد احتمالات تسوية النزاعات الرئيسية فى المنطقة، إلى حد كبير، على إرادة الأطراف غير العربية، مما يعكس مدى المسؤولية الملقاة على عاتق الأمم المتحدة بوصفها الضامن الحيادى الوحيد لأمن الإنسان والأمن الوطنى فى المناطق المحتلة، وهو الدور الذى همشته دول كبرى وحرمت الأمم المتحدة من أدائه.


أيا ماكان الأمر، ورغم أن كاتبى التقرير آثروا ــ إدراكا لحساسية الموضوع الذى يتعرضون له ــ ألا يخلعوا «قفاز الدبلوماسية الحريري» فاختاروا ألفاظهم ـ كما بدا لى بعناية ودقة و«حذر»، إلا أن ما وجد طريقه فى نهاية المطاف لصفحات التقرير من حقائق لم يكن ممكنا إغفالها، يظل مهما ومطلوبا، كما يظل السؤال الذى يطرحه علينا ونحن نكاد نختتم عقدا كاملا من القرن الحادى والعشرين، سؤالا محوريا: لماذا كانت العقبات التى تعترض سبيل التنمية فى المنطقة عصيّةً على الحلّ إلى هذه الدرجة؟
ربما غضب الجميع ــ أو هكذا أظن ــ من فقرة هنا أو من رقم هناك، فالحقائق دائما موجعة. ولكن لابد لنا جميعا أن نحسب للقائمين على هذا التقرير أنهم وضعوا قضايانا على الطاولة.. ثم تركوا لنا مهمة مناقشتها.
ونحن فى «وجهات نظر» حين نفتح الباب للمناقشة، أتذكر للأسف أن التقرير الأول الصادر قبل ست سنوات كاملة حذر من «التزاوج بين الفساد والسلطة» ومن ثم أتذكر مقولة أحمد كمال أبو المجد: «أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة»... ولعل منكم من يتفق معى فى أن المفتاح كله ربما يكمن فى هذه العبارة.
كما لعل مفتاح «الأمن» الذى نتحدث عنه يكمن هو الآخر فى تلك العبارة العبقرية البسيطة التى قالها أعرابى قبل أربعة عشر قرنًا كاملة ــ لخليفة المؤمنين: «حكمت، فعـــدلت، فأمنت.. فنمت يا عمر»


لمـــاذا كانــت العقبـــات
التى تعترض سبيل التنمية فى المنطقة عصيّةً على الحل
إلــى هـــذه الدرجـــــة؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة