تشـــيلي 11 ســـــبتمبر الآخر!!



في شهر سبتمبر الماضي، وتحديداً في يوم 11 منه، مرت ثلاثون عاماً علي انقلاب الجنرال «أوجستو بينوشيه» العسكري في تشيلي، والذي أطاح بحكم الرئيس «سلفادور الليندي» المنتخب ديمقراطياً، وذلك في واحد من أكثر الانقلابات دموية في تاريخ أمريكا اللاتينية المبتلية أصلاً بهذه الانقلابات، وهو انقلاب أدي إلي مقتل الرئيس المنتخب ومعاونيه الذين كانوا يدافعون عن مقر الرئاسة الشهير بقصر «لامونيدا». وفي 26 نوفمبر 2003 التقي المئات من ضحايا نظام «بينوشيه»، لتذكر الانقلاب بعد أكثر من ثلاثين عاماً علي وقوعه. وفـي هـذه المناسبة، صـدر كتـاب هام فـي نيويورك بالولايات المتحدة عن دار نشر OCEAN PRESS بعنوان «تشيلي: 11 سبتمبر الآخر» وحرر الكتاب كل من «بيلار أجويليرا» و«ريكاردو فريديس» وهما تشيليان مقيمان بالولايات المتحدة، وساهم في الكتاب أيضاً «أريل دورفمان» وهو تشيلي آخر مقيم بالولايات المتحدة، و«جوان جارا»، وهي بريطانية وأرملة الفنان التشيلي الراحل «فكتور جارا»، بالإضافة إلي إسهامات مترجمة عن الأسبانية لـ «بياتريس الليندي» إحدي كريمتي الليندي»، وترجمة لنص آخر كلمة وجهها «الليندي» للشعب التشيلي خلال مقاومة الانقلاب في 11سبتمبر 1973، وترجمة لكلمة رثاء لـ «الليندي» ألقاها الرئيس الكوبي «فيدل كاسترو» بعد الانقلاب بأيام، بالإضافة إلي ترجمة أشعار للشاعر التشيلي «بابلو نيرودا» الذي حاز جائزة نوبل في الآداب وتوفي بعد الانقلاب بأيام بسبب عدم توفير العناية الصحية اللازمة له عقاباً له من الانقلابيين علي مواقفه المؤيدة لـ «الليندي». وتأتي أهمية الكتاب ليس فقط من كونه يستحضر أحداث الانقلاب العسكري والتطورات التي أدت اليه في تشيلي أو في العلاقات الأمريكية/التشيلية، أو في مواقف الإدارة الأمريكية تجاه الرئيس «الليندي» منذ انتخابه وحتي وقوع الانقلاب ضده، وإنما أيضاً لأن اللافت والأبرز هو ما يحاوله الكتاب من إجراء مقارنة لأوجه التشابه والاختلاف بين أحداث 11سبتمبر 1973 في تشيلي واعتداءات 11سبتمبر2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي المقارنه التي سنبدأ بها مقالنا التحليلي عن هذا الكتاب المهم. فالمقارنة تتناول الأبعاد الشكلية والإجرائية بنفس القدر الذي تتناول فيه الموضوع. فهناك المشابهة بين قصر«لامونيدا» وتدميره وإحراقه بنيران الطائرات والصواريخ والمدافع والدبابات في سنتياجو وبين برجي تدمير مركز التجارة الدولي بواسطة طائرتين اختطفهما إرهابيون في نيويورك. وعلي صعيد المدي الزمني، فإن المواطنين التشيليين عانوا بدءاً من 11سبتمبر 1973 ولحوالي عقدين من الزمان من إرهاب الدولة في ظل حكم الانقلابيين وقبضتهم الحديدية بقيادة «بينوشيه». ولسنوات طويلة مثل يوم 11سبتمبر يوم حزن لملايين التشيليين. ولا نعرف إلي متي سيظل الأمريكيون يذكرون يوم 11سبتمبر احياءاً لذكري ضحايا ما حدث من هجمات إرهابية تمت عام 2001، ولكن ذلك بالتأكيد سيستمر طويلا لعائلات وأصدقاء الضحايا وهم بالآلاف. ودخولاً إلي المقارنة، فإن الكتاب يشير إلي أنه بالنسبة لملايين التشيليين من أقارب عشرات الآلاف من ضحايا حكم «بينوشيه»، فإن صورة الأمريكيين وهم يسيرون في شوارع نيويورك يحملون صور ذويهم وأصدقائهم الذين فقدوهم يوم 11سبتمبر 2001 كان مظهراً مألوفاً لأولئك التشيليين الذين تعودوا لعقود البحث عن المفقودين والتشوق إليهم دون معرفة مصيرهم، أو عند معرفة ذلك المصير يكون هو الإعدام او الموت تحت وطأة التعذيب أو النفي أوالتخفي والهرب. وفي الحالتين، بالنسبة للتشيليين في 11سبتمبر 1973 وبالنسبة للأمريكيين في 11سبتمبر 2001، فإن الدرس المستفاد من الأحداث والرسالة العامة المفهومة منها كانت واحدة: أن العالم لن يعود كما كان، وأن الكثير من العناصر مشتركة بين التاريخين، فالمشترك هو الاحساس بالرعب وغياب اليقين والوقوع ضحية الإرهاب. واستغرق الأمر وقتاً طويلاً للشعبين التشيلي والأمريكي لإدراك أن ما حدث كان واقعا وليس كابوسا. وكما ذكرنا آنفاً فقد استمر هذا الكابوس/الواقع حوالي عقدين من الزمان في تشيلي ولا نعرف كم سيستمر في الولايات المتحدة وفي العالم بأسره. ومن المفارقات الشكلية أنه في المرتين ـ أي في 11سبتمبر 1973 و11سبتمبر 2001 ـ كان اليوم هو ثلاثاء وكأن القدر بشكل انتقائي بدا عشوائيا في اختياره فرض علي بلد آخر نفس التاريخ واليوم مليئاً بالدم. إلا أن الفارق بين التاريخين له مغزاه: فالهجوم الإرهابي علي أقوي دولة علي الأرض سيكون له نتائج تؤثر علي البشرية جمعاء، وقد يمثل إرهاصات حرب عالمية ثالثة قد تغير تاريخ الإنسانية بأكمله. وبالمقابل، فإن قليلاً من البشر خارج حدود تشيلي يتذكرون ـ بل ويعرفون تحديداً وبالتفصيل ـ ما حدث في تشيلي في 11سبتمبر 1973 وما تلاه.

سلفادور الليندى
ويتضمن الكتاب اسهامات لتشيليين عاشوا في نيويورك كلاجئين عقب هروبهم من جحيم الانقلاب وحكمه في تشيلي، وبدا لهؤلاء أن هناك تشابها مثيرا للرعب بين ما واجهه التشيليون في ظل حكم الانقلاب وبين ما واجهه الأمريكيون في 11سبتمبر 2001، فالتشابه من الناحية الموضوعية كان عميقاً، ففي الحالتين جاء الرعب من السماء، وتحديداً من صواريخ سلاح الجو في حالة تشيلي عندما قصفت قصر « لامونيدا» الرئاسي ودار سكن أسرة الرئيس الليندي، ومن طائرات مدنية اختطفها وقادها ارهابيون واقتحموا بها مركز التجارة الدولي في نيويورك في حالة الولايات المتحدة الأمريكية. وكان هذا الرعب موجهاً لتدمير رموز للهوية الوطنية. كما ان التشابه عميق في الاحساس بالألم وغياب القدرة علي التركيز أو التوجه الواضح، فكما ذكرنا من قبل، فإن الآلاف الذين جابوا شوارع نيويورك وقبلها بثمانية وعشرين عاماً شوارع سنتياجو ومدن تشيلي الأخري كانوا يحملون صور ذويهم بحثاً عن معلومات عنهم سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، وبدأ الأمريكيون يعرفون مجدداً معني فقدان أعزاء لديهم لا خبر عنهم ولا يقين عن مصيرهم، ولكن هذه المرة ليس في فيتنام أو غيرها من بلدان الهند الصينية البعيدة جغرافياً ولكن في قلب مراكز «الحضارة» الأمريكية. وفي الحالتين أيضاً صاحب الكارثة إحساس متأصل بظلم الانسان لأخيه الانسان بشكل يزيد من مرارة وقع الحدث مقارنة بوقع كارثة طبيعية قد توقع خسائر بشرية أضخم ولكنها ليست من صنع بشر آخرين، سواء من نفس الجنسية والديانة أو من أبناء جنسية أو ديانة أخري. كذلك كان رد فعل البشر مماثلاً في الحالتين: فكل شعب ضحية 11سبتمبر الخاص به انتابه تساؤل ينم عن الصدمة: إن ما حدث لا يمكن أن يحدث لنا، فهو يعبر عن احساس بعدم التصديق. ويرتبط هذا الشعور بدرجة وحجم العنف المبالغ فيه الذي يتحول معه كل مانراه في قاعات دور العرض السينمائي من عنف إلي واقع وكابوس معاش. ويشعر كل شعب ضحية لهذه الأحداث بفقدان الإحساس بالبراءة ويتأكد رد الفعل هذا في حالة 11سبتمبر2001 حيث كان الأمريكيون يتصرفون دائماً باعتبار أن بلادهم تمثل حالة استثنائية، وبالتالي يتخيلون أنهم شعب مستثني من الأحزان والآلام والكوارث التي يمكن أن تلم بغيرهم من الشعوب «الأقل حظاً». كما أن حروب القرن العشرين جميعا لم تلامس الارض الأمريكية، وحتي حادثة «بيرل هاربور» الشهيرة خلال الحرب العالمية الثانية فإنها وقعت بعيداً عن التراب الأمريكي. أما عقب اعتداءات 11سبتمبر 2001، فقد شارك الأمريكيون غالبية سكان الأرض في حالة عدم التيقن من المستقبل. وفي رأي المشاركين في الكتاب من التشيليين المقيمين بالولايات المتحدة، فقد وجدوا جانباً واحداً مضيئاً فيما حدث في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001، وهو أنه مثل فرصة لبعض الأمريكيين لإعادة النظر في أمور كثيرة والتوجه نحو السلام والخير والمصالحة والعدالة ونحو إضفاء طابع إنساني علي المجتمع الأمريكي. ورأي هؤلاء التشيليون أن إحدي وسائل الشعب الأمريكي لتجاوز أحزانه ومخاوفه والحياة وسط غياب الأمن هو الإقرار بأن المعاناة ليست مقصورة عليهم وأنهم مثلهم في ذلك مثل بقية البشر، والإقرار المترتب علي ذلك بأن هناك بشراً آخرين في مناطق أخري من العالم ـ مثل شعب تشيلي ـ يعانون من مواقف مماثلة من الجراح والغضب. وربما تكون هذه هي حكمة القدر في أن يكون أول عدوان تتعرض له أراضي الولايات المتحدة في نفس يوم الانقلاب العسكري علي الديمقراطية في تشيلي، وهو انقلاب دعمته وغذته الإدارة الأمريكية حينذاك باسم الشعب الأمريكي وقيمه ومبادئه ومثله العليا، وهو أمر سنتعرض له لاحقاً بقدر من التفصيل في الجزء الثاني من هذا المقال التحليلي. وقد يكون 11 سبتمبر 2001 مدخلاً للأمريكيين ـ حسب المساهمين في كتاب «تشيلي: 11 سبتمبر الآخر» ـ خاصة الشباب منهم ليدركوا معني الشعور بأنهم ضحايا وليحاولوا أن يتخيلوا أنفسهم كمتعاطفين مع شعب آخر مر بما يشبه «جهنم إنسانية جماعية» أصبح بموجبها كل أحبابهم «مفقودين» بدون أجساد تدفن، ويقتربون بالتالي من فهم تنويعات أخري لأحداث 11 سبتمبر 2001 عبر العالم، وفي مقدمتها معاناة شعب تشيلي في 11 سبتمبر 1973 والسنوات التي تلته. ويؤكد التشيليون المشاركون في الكتاب محل العرض والتحليل هنا أنه بالرغم من أن الارهابيين المسئولين عن هجمات 11 سبتمبر2001 في الولايات المتحدة اعتبروا الأخيرة دولة شيطانية تجسد الشر في العالم، فإن الحزن ساد عبر العالم نظراً لهذه الأحداث، وانتشرت دعوات المساعدة وإعلان التضامن واعتبار ضحايا 11سبتمبر2001 ضحايا للبشرية في حربها ضد التطرف والإرهاب وليس فقط ضحايا للشعب الأمريكي. وجاءت هذه المواقف المتضامنة من شعوب كثيرة، بما فيها شعوب كانت ضحية لتدخلات أمريكية سابقة ضدها مثل الشعب التشيلي، إلا أن الأخير رفض وصف المجتمع الأمريكي ككل بالشيطاني أو وصمه بـ «الشر». وبالمقابل ـ ودائمًا حسب المساهمين في تحرير كتاب « تشيلي:11سبتمبر الآخر» ـ فإن الشعوب الأخري ـ وفي مقدمتها الشعب التشيلي ـ تنتظر وتتوقع رد الجميل من الشعب الأمريكي مقابل تضامن هذه الشعوب معها بعد أحداث 11سبتمبر2001، باعتباره شعب أقوي دولة علي الأرض، إلا أنهم يعتبرون الوقت مبكراً للحكم علي ما إذا كان الشعب الأمريكي ـ المكون أصلاً وإلي حد كبير من بشر فروا إلي الولايات المتحدة من دول عانت مجاعات وكوارث أو قمع وديكتاتوريات، والمليء عادة بقيم الأمل والتسامح ـ سيستطيع أن يشارك بقية الإنسانية في التعاطف الفعال والإيجابي تجاه ما يواجهه بقية البشر من محن طبيعية أو إنسانية المصدر، والمشاركة في إصلاح ما يعوق مسيرة الإنسانية التي تعاني من مآسٍ وتحديات وأضرار كثيرة، وذلك بهدف تجنب وجود عالم يسمح بتكرار ما حدث في 11سبتمبر مرة أخري، سواء 11سبتمبر1973 أو 11سبتمبر 2001. إلا أن وجهاً آخر للاختلاف بين الحدثين هو أن الحشود التي كانت تتجمع حول موقع مركز التجارة الدولي المدمر في نيويورك كانت تستفسر عن ذويها من قوات شرطة ودفاع وطني وجيش متعاطفة معها، أما الجموع المحتشدة حول استاد تشيلي وفي معسكرات الاعتقال الأخري في تشيلي للاستفسار عن مصير ذويها فكانت تواجه قوات الانقلاب التي تلوح بالتهديد للحشود من المدنيين بدلاً من الرد علي توسلاتهم، وكانت أعداد المختفين تتزايد في تشيلي بمرور الوقت بينما كانت في تناقص في حالة نيويورك، وزاد هذا المسلك من جانب الانقلابيين علي تصاعد إحساس الحشود بالعجز عن فعل أي شيء أياً كان نوعه لسد حاجتهم الإنسانية المعنوية والنفسية للاطمئنان علي ذويهم. وآخر وجه للتشابه بين الحالتين هو معاداة المسئولين عن الحدثين للعلم والحضارة و(التنوير)، وقد يكون هذا واضحاً في حالة 11 سبتمبر الأمريكي ـ كما يذكر محررو الكتاب الذي بين أيدينا ـ ولكنهم يوضحونه أيضاً في حالة 11 سبتمبر التشيلي مشيرين إلي تحريم «بينوشيه» ونظامه الانقلابي لتدريس مواد كاملة في المدارس والجامعات مثل «علم الاجتماع» باعتبارها مواد تحض علي اعتناق الشيوعية (!!!) وإغلاق لأقسام كاملة بالجامعات تدرس هذه المواد. كما تجدر الإشارة في ختام هذا الجزء إلي أن الرئيس الراحل «الليندي» أسمي العسكريين الذين قاموا بانقلاب 11 سبتمبر 1973 قبل أن يلقي مصرعه و في آخـر خطاب له للشعب التشيلي بـ «الإرهابيين» الذين يدمرون مظاهر الحضارة الإنسانية: الكباري والجسور وخطوط السكك الحديدية وخطوط إمدادات النفط والغاز، كما اعتبر أن هدفهم هو إعادة عقارب الساعة إلي الوراء ونشر الظلام، وهي نفس الاتهامات التي واجهها مدبرو ومنفذو اعتداءات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية.

بابلو نيرودا.. تركوه ليموت
بعيدًا عن المقارنات والتي قد يكون فيها بعض من العسف، يتعرض الكتاب لعلاقة الولايات المتحدة بالانقلاب في تشيلي وما سبق ذلك من محاولات جهات أمريكية لزعزعة استقرار حكم الرئيس سلفادور الليندي خلال الفترة منذ توليه الحكم عام 1970 وحتي انقلاب 11 سبتمبر 1973. فالكتاب يذكر أن الرعب الذي أصاب الشعب التشيلي خلال وبعد انقلاب 11 سبتمبر 1973 كان ـ إلي حد كبير ـ نتيجة للتدخلات الأمريكية المتواصلة في شئون تشيلي الداخلية، وهي تدخلات تضاعفت خلال حكم حكـومة الوحدة الشـعبية بزعامة الليندي ما بين عامي 1970 و1973. إلا أن هذه التدخلات سابقة علي تاريخ تولي هذه الحكومة لمقاليد السلطة، خاصة طوال عقد الستينيات من القرن العشرين وتوج بانقلاب 11 سبتمبر1973، وكان الدور الرئيسي في هذه التدخلات ـ طبقا للكتاب ـ من نصيب المخابرات المركزية الأمريكية، وركز المساهمون في هذا الكتاب علي كون المخابرات المركزية قد دعمت في واقع الأمر انقلاباً ذا طبيعة فاشية مناهضة لأبسط مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، بما يتناقض مع منظومة القيم التي من المفترض أن الولايات المتحدة تبشر بها علي الصعيد العالمي. ويسرد الكتاب أدلة كثيرة علي تمويل ودعم الولايات المتحدة لانقلاب 11 سبتمبر وتقديم النصح لقادته. ويسرد أيضًا التسلسل التاريخي لأنشطة واشنطن ضد حكـومة الليندي المنتخـبة منذ انتصار الليندي في انتخابات الرئاسة عام 1970 حين ذكر وزير الخارجية الأمريكي حينذاك هنري كيسنجر بصراحة أنه «لا يري سببًا للانتظار ومتابعة دولة تتجه للشيوعية لأن شعبها يفتقد الإحساس بالمسئولية»، وذلك في موقف يعبر عن عدم ثقة في نتيجة الديمقراطية عما يأتي للحكم بقوي مناهضـة للمصالح الأمريكية. فعندما تولي الليندي الحكم عام 1970 كانت هناك العشرات من الشركات الأمريكية العاملة في تشيلي منها شركات أمريكية عبر وطنية في مجالات النفط و صناعات السيارات وقطاع الموانئ وغيرها بإجمالي استثمارات تصل إلي مليار دولار، وكان في مقدمتهـــــا شــــركة ITT للهـــــــــاتف والتلغراف بقيمة استثمارات تصل إلي 200 مليون دولار. وقد فسر البعض عبارة كيسنجر المشار إليها آنفا بأنها كانت في واقع الأمر تعني أن الولايات المتحدة لا تستطيع الاكتفاء بموقع المتفرج وترك دولة من دول أمريكا اللاتينية تقرر مصيرها بنفسها، وتحديدا عدم السماح لدولة بأن تنتهج «الطريق السلمي نحو الاشتراكية» حسب تعبير الليندي الشهير، وقد توقع الليندي بكلماته هو نفسه: «أن رأس المال الأجنبي والإمبريالية اتحدا مع العناصرالرجعية لإيجاد البيئة الملائمة للجيش التشيلي للخروج عن تقاليده الخاصة باحترام الضمانات الدستورية». وقد سخر الليندي من الإدارة الأمريكية التي تدعي الديمقراطية ثم تحرض علي تمرد عسكري لإسقاط الديمقراطية. كما تضمن الكتاب اشعارا للشـاعرالتشـيلي العالمي الراحل بابلو نيرودا موجهة ضد الرئيس الأمريكي الأسـبق ريتشارد نيكسون عام 1971 تتهمه بالإرهاب وبارتكاب جرائم إبادة للجنس البشري GENOCIDE وبأنه أسقط صورة إبراهام لنكولن محرر العبيد و داعية الحرية. وعندما أعلن الليندي تأميم مناجم النحاس تحركت الولايات المتحدة لإيقاف قروض المؤسسات التمويلية الدولية وفي مقدمتها البنك الدولي للحكومة في تشيلي. وعلي الصعيد السياسي، كان هناك التحريض المستمر للجيش في تشيلي للقيام بعمل ما ضد السلطة المنتخبة لا لليندي، بالإضافة إلي العمل علي إعاقة عمل الحكومة من جانب الأحزاب اليمينية، وكذلك حبك المؤامرة تلو الأخري ضد حكومة الوحدة الشعبية المنتخبة، مثل التحريض علي الإضرابات وتشجيعها وغير ذلك. وبينما كانت الإدارة الأمريكية قد أوقفت قروضها المقدمة لحكومة تشيلي، فإنها استمرت في تقديم قروض للجيش التشيلي بغرض شراء أسلحة تضمنت قرضاً بقيمة 5 ملايين دولار في يونيو 1971، ثم تقديم 10 ملايين دولار أخري كقرض للجيش قبل انقلاب 11 سبتمبر 1973 بفترة وجيزة، بل كانت الولايات المتحدة تنظم مناورات مشتركة بين البحرية الأمريكية ونظيرتها التشيلية ـ حتي بدون الحصول علي موافقة حكومة الوحدة الشعبية، وتزامنت آخر مناورات مشتركة مع موعد الانقلاب في 11 سبتمبر حيث كانت المناورات تدور علي شواطئ تشـيلي بهدف توفير الدعم والحماية للانقلابيين، وكان هذا التقارب مع الجيش يهدف إلي توظيف الصلات الأمريكية مع الجيش لتوسيع الهوة بين الجيش والحكومة المنتخبة. وقد تزامن هذا الدور الأمريكي مع دور مماثل للولايات المتحدة في تنظيـم ودعـم انقلابات عسكرية في بوليفيا وأوروجواي هدفت إلي إسقاط الدساتير وحل البرلمانات المنتخبة في هذه الدول. والمتابع للحمـلة الأمريكية ضـد الليندي عليه أن يذكر أن اليسار التشيلي انتصر في الانتخابات عام 1970 بالرغم من حشد الموارد الأمريكية للحيلولة دون حدوث هذا الانتصار. وبالرغم من هذا النصر الانتخابي، فإن المخابرات المركزية الأمريكية والمؤسسات الأمريكية عبر الوطنية حاولت إعاقة تولي «الليندي» مقاليد السلطة من خلال عدة خطوات تضمنت تدبير اغتيال قائد الجيش ثم تحريض الرئيس السابق علي «الليندي» علي عدم تسليم السلطة للرئيس المنتخب. ولكن فشلت هذه الجهود وتولي «الليندي» الحكم في ظل اقتصاد مفلس، حيث انهار سعر النحاس وارتفعت معدلات البطالة، بلغت قيمة الديون الخارجية أربعة مليارات من الدولارات. كذلك تولي «الليندي» السلطة في ظل صحافة وإعلام وقضاء وبرلمان واقعين تحت سيطرة اليمين، وجيش أعلن رسمياً عن حياده السياسي ولكن لم يستمر هذا الوضع طويلاً. وجاءت هذه الديون نتيجة قروض أمريكية تم توجيهها لأغراض استهلاكية وليست إنتاجية، كما نشرت الولايات المتحدة نمط حياة استهلاكيًا في صفوف الشعب التشيلي. ومن صور التدخل الأمريكي قبل تولي الليندي مقاليـد السلطة، يروي كتاب «تشيلي: 11 سبتمبر الآخر» ما حدث يوم 27 يونيو 1970 عندما أقرت لجنة الأربعين التابعة لمجلس الأمن القومي برئـاسة هنري كيسنجر تخصيص مبلغ وقدره 300 ألف دولارأمريكي لدعم الدعايـة ضد الليندي. وبعد مرور شهر علي هذا التاريخ خصصت شركة ITT الأمريكية عبر الوطنية مبلغ 350 ألف دولار لدعم خصوم الليندي السياسيين. وفي 15 سبتمبر من نفس العـام، وجه الرئيـس الأمريكي حينذاك ريتشارد نيكسـون رئيس المخابرات المركزية في عهـده ريتشارد هولـمز للحيلولة دون تولي الليندي الرئاسة. وأعرب كيسنجر حينذاك عن اعتقـاده بأن الليندي أكـثر خطـورة علي مصالح الولايات المتحدة من فيدل كاستـرو زعيم كوبـا لأن الأول منتخـب ديمقراطياً مما قد يؤدي بدول أخري في أمريكا اللاتينية إلي اتباع نهجه اليساري الديمقراطـي. وبحلول أكتوبر 1970،كانت المخابرات المركزية الأمريكية قد أكدت في تقرير لها ضرورة اللجوء لتنظيم انقلاب عسكري لإسقاط حكم الليندي. وفي أغسطس من العام التالي، رفض بنك الاستيراد والتصدير الأمريكي تقديم قرض لتشيلي بقيمة 21 مليون دولار لشراء طائرات مدنية، وفي الشهرالتالي فرضت واشنطن حصاراً اقتصادياً علي تشيلي، كما رفض البنك الأمريكي للتنمية تقديم أي قروض لتشيلي منذ تولي الليندي الحكم. وفي أبريـل 1973 خصص مجلس الأمن القومي الأمريكي مبلغ 50 ألف دولار لإثارة قلاقل داخل حكومة الوحدة الشعبيـة في تشيلي. والمفارقة المثيرة للدهشة، أنه عقب نجاح انقلاب 11 سبتمبر 1973 واحتكارالعسكريين للسلطة وإلغاء المؤسسات الديمقراطية، استأنفت الولايات المتحدة ومؤسسات بريتون وودز القروض للحكومة الجديدة في تشيلي. ويجمع الكتاب المشاركون في كتاب «تشيلي:11 سبتمبر الآخر» علي أن ما شهده يوم 11 سبتمبر 1973 في تشيلي دمر آلاف الأحلام الجميلة لدي شعب تشيلي، رغم أنه كان من المتوقع أن يتحرك الجيش في انقلاب عسكري لإسقاط الرئيس الليندي المنتخب ديمقراطياً. ففي ذلك اليوم بدأت الموسيقات والبيانات العسكرية تذاع في الإذاعة التشيلية التي سيطر عليها الجيش، ومنذ نفس ذلك اليوم بدأت حملات واسعة لمداهمة المنازل في سنتياجو والمدن التشيلية الأخري بحجة البحث عن السلاح، وعندما لم يجد الجنود السلاح انتزعوا الآباء والأمهات والبنات والأبناء والزوجات والأزواج والإخوة والأخوات من أسرهم، كما تمت مصادرة أعداد ضخمة من الكتب ـ سواء من البيوت أو من المكتبات العامة أو من مكتبات الجامعات ـ وتم تجميع هذه الكتب وإحراقها في مشاهد تنم عن عداء متأصل للثقافة والفكر والحرية والإبداع والديمقراطية. وقد استكملت هذه المداهمات بحملة واسعة من الاعتقالات والقتل والتعذيب والنفي لعشرات الآلاف ـ بل لمئات الآلاف ـ من خيرة أبناء الشعب التشيلي، وفرار مئات الألوف الآخرين هرباً من تلك الحملات المتواصلة واختيارهم المنفي الاختياري والاغتراب بعيداً عن وطنهم. وتتكرر الإشارة في مواضع عديدة من الكتاب إلي أن معسكرات الاعتقال والاحتجاز التي ضمت شعراء وملحنين وفنانين ومبدعين في مختلف الميادين ومن اتجاهات فكرية وسياسية متنوعة وليس فقط من المنتمين لليسار. بحسب المشاركين في كتاب «تشيلي:11 سبتمبرالآخر». فانعكاسات الانقلاب وتداعياته مازالت محسوسة حتي الآن وتشيلي بشكل عام لم تواجه ماضيها أو تلعق جراحها بصورة كاملة. وقد حاول «بينوشيه» و نظامه إزالة ماضي تشيلي ومحو تاريخها من ذاكرة الشباب. وقد ظل الكثير من الشهود لفترة طويلة خائفين من الإدلاء بشهاداتهم أو التحدث عن تجاربهم، وربما كانوا لا يرغبون في تذكر ما جري. ولسنوات طويلة، كان اعتماد التشيليين والعالم بأسره هو علي شهادات من تمكنوا من الفرار والعيش في الغربة، فهؤلاء ـ وبالرغم من الضغوط والمعاناة ـ هم الذين سعوا لجمع الأدلة لإدانة الانقلاب الفاشي وفضح طبيعته المعادية للإنسانية. وفي عام 1997، ولأول مرة، شاهد طلاب الجامعة في سنتياجو صوراً لآثار الهجوم العسكري الشامل علي قصر«لامونيدو» الرئاسي يوم الانقلاب و الذي كان بداخله رئيس الدولة الشرعي وأربعون من معاونيه، وهو الأمر الذي دفع بهؤلاء الشباب إلي حالة من الغضب والهلع وعدم تصديق ما لقنوه عن تاريخهم في مناهج المدارس والجامعات بعد الانقلاب بعد أن علموا بتاريخهم الحقيقي «المقموع». وفي صفوف الشعب التشيلي نجد من لا يريد أن يعيش الرعب من جديد، وهناك من اختار أن يبقي في حالة من اللامبالاة، وهناك أيضا من اختار أن ينسي أو يتناسي ما جري. ولكن فشلت محاولات التعتيم علي ما جري من أحداث بسبب شهادة الشهود الذين عاشوا تلك الأحداث وفروا من تشيلي. والكتاب الذي بين أيدينا يدعو لمواجهة هذا الماضي واستخلاص الدروس منه والسعي لمعرفة الحقيقة كاملة مهما كانت مؤلمة، كما يدعو إلي تجاوز اللحظة التاريخية التي فرضت فيها الخيانة نفسها، وأيضا يدعو إلي استحضار حلم الليندي وتحويله إلي حقيقة، وهو الحلم الذي جسده في عبارة ذكرها في خطابه الأخير إلي الشعب التشيلي في 11 سبتمبر 1973 بأن: «التاريخ لنا والشعب سيحققه». حلم الليندي لم يتحقق. بل سقط الرجل الحالم نفسه وهو يدافع عن قصر «لامونيدا»، وعندها تحدث الجنرالات بزهو عن «استئصال سرطان الماركسية من تشيلي» وأعربوا عن سعادتهم بوفاة الليندي وعرضوا أفلاماً حينذاك لما تبقي من قصر «لامونيدا» ومقر سكن الليندي ـ وإن امتنعوا عن تكرار عرضها بعد ذلك لما ولدته من مشاعر غضب ضد الانقلاب وتعاطف مع الليندي ـ مما عكس طبيعة النظام الجديد الذي يفخر بإلحاق الدمار بالمنشآت المدنية والمباني التاريخية دون أي إحساس بالخزي من استخدام أعتي الأسلحة لتدمير قصر الرئاسة ومقر سكن الليندي. وبحلول نهاية يوم الانقلاب، كان قادته قد أعلنوا اعتبار يوم 11 سبتمبر عيداً للاستقلال لتشيلي، وهو الأمر الذي زاد من شعور الشعب التشيلي بالمذلة والمهانة. وأعلن الانقلابيون حل البرلمان المنتخب بأغلبيته والمعارضة الموجودة بداخله، وتم إلغاء كافة أنواع الانتخابات، وإلغاء الأحزاب السياسية وحظر قيامها، والإعلان عن حظر شامل للإضرابات، بل وللنقابات المهنية ذاتها، وتم فرض رقابة مشددة علي الكتب والصحف وكافة أنواع المطبوعات، وأخيراً، وليس آخراً، تم إغلاق الجامعات حتي إشعار آخر. ومن المفارقات أن الرئيس «الليندي» كان ينوي في نفس يوم وقوع الانقلاب توجيه خطاب إلي الشعب يعلن فيه اللجوء إلي تنظيم استفتاء شعبي لحسم نزاعه المتفاقم مع قيادات الجيش ـ خاصة بعد تولي «بينوشيه» قيادة الجيش في 23 أغسطس 1973 ـ بالطرق السلمية والديمقراطية بدلاً من تحويله إلي صراع يهدد تشيلي واستقرارها. والواقع أن مأزق «الليندي» كمن في أنه كان رئيسًا منتخبًا شعبياً ودستورياً التزم بالقيود الديمقراطية والقانونية، ولكنه كان يحتاج أيضاً لمواجهة تجاوزات الجيش المتمثلة في اقتحام المصانع ومواقع العمل وقمع الطبقة العاملة، وكان الجيش يستند في تبرير تلك الممارسات إلي قانون «سيطرة الجيش» ARMS CONTROL ACT . إلا أن قيادة الجيش التشيلي كان لها رأي آخر. وكان لهذا الرأي خلفياته: ففي 28 و29 يونيو 1973 جرت أول محاولة انقلاب عسكري ضد حكومة منتخبة في تشيلي منذ 42 عاماً، حيث استولي الانقلابيون علي وسط سنتياجو وهاجموا مبني وزارة الدفاع وقصر الرئاسة قبل أن تتمكن قوات مؤيدة للحكومة من محاصرتهم. وأعقب ذلك اتهام المعارضة الديمقراطية المسيحية لحكومة الوحدة الشعبية بأنها تنفذ «مؤامرة شيوعية يهودية»، ودعوة تلك المعارضة الجيش للقيام بانقلاب عسكري (!)، وتلي ذلك اغتيال المستشار البحري لـ «الليندي» وعمليات تخريب مجهولة المصدر ضد خطوط السكك الحديدية والأنابيب والجسور، بل وضد المدارس والمستشفيات، ثم وقوع اشتباكات بين القوات الجوية وعمال عدد من المصانع. وأخيراً، جاءت استقالة قائد الجيش ووزير الدفاع «كارلوس براتس» صاحب التوجهات المعتدلة والمؤيد للديمقراطية تحت ضغوط قطاع من ضباط الجيش ولتجنب انقسام الجيش بين اليمين واليسار ـ كما ذكر في خطاب استقالته ـ وتولي «أوجستو بينوشيه» صاحب التوجهات اليمينية والفاشية المعادية لليسار وللديمقراطية قيادة الجيش. ومن اللافت للنظر أيضاً في كتاب «تشيلي: 11 سبتمبر الآخر» أن الرئيس «الليندي» في آخر خطاب له لشعب تشيلي يوم الانقلاب ـ وبعد حدوثه ـ أكد أنه لاحاجة لما أسماه بـ «تضحيات غير ضرورية» في صفوف الشعب في إطار مقاومة الانقلاب لأنها ـ بحسب رأيه ـ ستكون بلا فائدة أو مقابل، ودعا بالمقابل إلي الاستعداد لمعركة صعبة ونضال متواصل توقع أن يستمر طويلاً ـ وصدق توقعه ـ بهدف مقاومة الفاشية وإلحاق الهزيمة بها حتي تعود تشيلي دولة حرة ذات سيادة محبة للسلام وملك لشعبها، ودعا «الليندي» بالتالي إلي وحدة الشعب وقواه الثورية. وقد تنبأ «الليندي» يومها أيضاً بأن شعب تشيلي وشعوب الأمريكتين ستواجه الانقلاب الفاشي وستسقطه وتسقط إرثه يوماً ما. وقد انضمت ميليشيات فاشية محلية في بعض أحياء الأثرياء بسنتياجو إلي الانقلاب بزيها المدني وبأسلحتها. ونجد في الكتاب صورة بالكلمات لجنود الانقلاب وهم يقفون في شوارع سنتياجو والمدن التشيلية الأخري لإجبار المواطنين علي الاصطفاف في طوابير طويلة أمام المخابز للحصول علي حصص محددة من الخبز ويتوعدون من يتذمر علي ذلك، وتم تهديد الجماهير بأن عليها ضرورة الاختفاء من الشوارع وإلا تعرضوا للقتل في ظل حظر للتجول. ويروي الكتاب أيام الخوف التي عاشها التشيليون وهم لا يعرفون حقيقة ما حدث لمن اختفي أو اعتقل من أهلهم أو رفاقهم في الدراسة والعمل. كما نشاهد في موضع آخر بالكتاب مشهد آخر لاقتحام الدبابات للحرم الجامعي في سنتياجو وتحويله إلي حمام دم وتدمير معامل ومكتبات الجامعة واعتقال أساتذة وطلاب الجامعة بتهمة «التطرف» وضربهم بالنعال والإلقاء بهم علي الأرض والزج بهم إلي معسكرات الاعتقال وغرف التعذيب. وفي تلك اللحظة، كان الانقلابيون قد استولوا علي كافة محطات الإرسال المستقلة التابعة للجامعات وقاموا بتدميرها. وتحول استاد سنتياجو إلي معسكر اعتقال كبير ارتكبت فيه فظائع بحق المحتجزين هناك وغابت المعلومات وانتشرت الشائعات مما زاد من حالة الغموض والهلع والفزع. ونقرأ في كتاب «تشيلي: 11 سبتمبر الآخر» شهادات هامة حول ما كان يحدث في استاد سنتياجو من جرائم قبل السماح لممثلي الصليب الأحمر ومنظمة العفو الدولية والسفارات الأجنبية بزيارة المكان. فكان هناك ضرب الطلقات الحية فوق رءوس المحتجزين، ثم في صدور من جرأوا علي ترديد الأغاني المؤيدة لحكومة الوحدة الشعبية، ودفع ذلك البعض هناك للانتحار والبعض الآخر لمحاولة الهرب وهو يعلم أن مصيره هو القتل برصاص جنود الانقلاب. ونجد أيضاً مشهد اقتحام منزل الشاعر الكبير «بابلو نيرودا» الذي كان يعاني من المرض، وتم تدمير وإحراق مكتبة الشاعر الكبير، ثم إحراق المنزل بأكمله. ولكن ذلك لم يمنع الشاعر الراحل من كتابة آخر أوراقه قبل وفاته التي اتهم فيها الرئيس الأمريكي الأسبق «ريتشارد نيكسون» بالمسئولية عما حدث لشعب تشيلي. ومن ناحية أخري، يروي لنا الكتاب قيام الانقلابيين بوضع آلاف الجثث لضحاياهم في مقابر جماعية غير معروف من بداخلها بعد إعدامات سريعة بالجملة، وتراصت طوابير من الجثث العارية التي غطت مشرحة سنتياجو، بعضها مقيد اليدين أو القدمين من الأمام أو من الخلف، وبعض الجثث تعرض للركل بأقدام جنود الانقلاب قبل الموت أو بعده، والكثير منها يظهر عليها آثار واضحة للتعذيب. وكانت القوائم المنشورة أمام مشرحة سنتياجو تحدد أرقاماً للبشر ومناطق مقتلهم وما إذا كانوا رجالاً أو نساء دون ذكر أسمائهم. ويصف الكتاب مشهد طوابير البشر الذين يودون الاطمئنان علي ذويهم وهم يشاهدون سيارات الجيش وهي تأتي بالمزيد من الجثث وتلقي بها في المشرحة وتذهب للإتيان بالمزيد منها. وقد تكرر هذا المشهد كثيراً في تشيلي تحت حكم «بينوشيه». وفي الختام نقول أنه لئن كانت ظاهرة الانقلابات العسكرية هي ظاهرة شديدة الانتشار في تاريخ بلدان أمريكا الوسطي والجنوبية منذ حققت هذه البلدان استقلالها السياسي في أوقات مختلفة من القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن التساؤل يطرح نفسه: لماذا إذاً هذا الاهتمام بانقلاب «بينوشيه» في تشيلي بالذات دون بقية الانقلابات الكثيرة في القارة التي يشار إليها دائماً باعتبارها «الفناء الخلفي» للولايات المتحدة الأمريكية، القوة الكبري منذ استقلالها في القرن الثامن عشر وحتي تحولها إلي قوة عظمي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن العشرين؟ والتساؤل مشروع بطبيعة الحال، والإجابة عليه متعددة الجوانب ومتشابكة الأبعاد. ويتصل الجانب الأول بأن انقلاب «بينوشيه» تم في أوج المواجهة بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي في زمن الحرب الباردة. وجاء الانقلاب في أعقاب هزيمة أمريكية في جولة سابقة من المواجهة بين المعسكرين تمثلت في الحرب الهندية/الباكستانية عام 1971 والتي أسفرت عن انتصار الهند ـ حليفة الاتحاد السوفيتي السابق حينذاك ـ علي باكستان التي كانت محسوبة علي الغرب، وعلي الأمريكيين علي وجه الخصوص. ويتعلق الجانب الثاني للرد علي هذا التساؤل بأنه بالرغم من أن الحكم الذي كان يقوده «الليندي» في تشيلي وكان ضحية انقلاب 11 سبتمبر 1973 كان يسارياً، فإنه لم يكن شيوعياً طبقاً للتعريف الدقيق للمصطلح، كما أنه كان في كل الأحوال منتخباً بشكل حر ووفقاً لمعايير الديمقراطية الليبرالية الغربية ولم يسع أبداً لتجميد هذه الديمقراطية أو إلغائها أو الإطاحة بها، بل إنه كان يمارس دوره في إطارها، ويعمل علي إنجاز التحول نحو الاشتراكية بالطرق السلمية والقانونية وفي إطار الشرعية الدستورية السائدة، وهو تحد مزدوج وشديد الصعوبة علي كل من حاوله في الدول المتقدمة والمتخلفة علي حد سواء. أما الجانب الثالث للرد علي التساؤل المذكور في بداية هذه الخاتمة فيرتبط بالمفارقة بين واقع الحال اليوم حيث تملك الإدارة الأمريكية «ترف» انتقاد حكومات، أو حتي التلويح بفرض عقوبات عليها بحجة عدم احترامها للتقاليد الديمقراطية الغربية، وبين المشهد السياسي التشيلي وقت وعقب وقوع انقلاب 11 سبتمبر 1973 عندما كانت الأولوية للإدارة الأمريكية ـ وبالرغم من كافة الشعارات المعلنة عن الحرية والديمقراطية ـ لاعتبار واحد هو: من يخدم المصالح الأمريكية أكثر، ديمقراطياً كان أم فاشياً، مدنياً كان أم عسكرياً، حتي ولو اقتضي الأمر ـ كما حدث بالفعل كثيراً ـ دعم الولايات المتحدة لنظم حكم غاية في الرجعية أو أخري غاية في ممارسة القمع السياسي أو الاضطهاد الديني، وذلك في سبيل هدف واحد طغي علي ما عداه في معادلة حساب التوازنات الكونية الأمريكية، ألا وهو مواجهة «الخطر السوفيتي الشيوعي» والتصدي له واحتواؤه ومحاولة الحاق الهزيمة به في أكبر عدد ممكن من المعارك الإقليمية والدولية. وأخيراً، فقد صدرت كتب عديدة وأعمال فنية وأدبية بمختلف اللغات تناولت ما حدث في 11 سبتمبر 1973، كان من أوائلها كتاب «الثورة المضادة في تشيلي» باللغة العربية للأستاذ «مجدي نصيف» عن دار الثقافة الجديدة بالقاهرة في سبعينيات القرن الماضي، وكان من أواخرها كتاب صدر في نوفمبر 2003 بالولايات المتحدة حول سجل انتهاكات انقلاب «بينوشيه» ونظامه لحقوق الإنسان، مروراً بالعمل السينمائي البارز للمخرج الشهير «كوستا جافراس» عن نفس الموضوع والمعنون MISSING إلا أن السمة الأكثر تميزاً في الكتاب الذي تناولناه هنا برؤية تحليلية ونقدية هي منظوره الثلاثي الأبعاد الذي جمع في الإسهامات التي بين دفتيه بين إجراء المقارنة لأوجه التشابه والاختلاف مع أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، وتتبع الدور الأمريكي في تشيلي منذ انتخاب «الليندي» وحتي الإطاحة به، والواقع الداخلي في تشيلي قبل الانقلاب وخلاله وبعده، وذلك من خلال منهاجية متكاملة في مستويات التناول ومتجانسة في المحتوي.
قليل من البشر خارج حدود تشيلي يتذكرون ـ بل ويعــرفون تحــديداً وبالتفصيــل ـ ما حــدثفي تشــيلي في 11ســبتمبر 1973 وما تــلاه
اللافـت والأبرز هــو مــا يحــاوله الكتـاب من إجــراء مقارنة لأوجه التشابه والاختلاف بين أحــداث 11ســبتمبر 1973 في تشــيلي واعتداءات 11سبتمبر2001 في الولايات المتحدة الأمريكية
أعلن الانقلابيون حل البرلمان المنتخب، وتم إلغاء كافة أنواع الانتخابات، وإلغاء الأحزاب السياسية وحظر قيامها، والإعلان عن حظــر شــامــــل للإضــرابات، بل وللنقـــابات المهنيـــة ذاتهــا
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة