الكــوربوريشـــــن مارس 2007

فكري أندراوس

من الصعب أن نتخيل العالم بدون وسائل المواصلات الحديثة، بدون الصناعات العديدة التي تنتج آلاف السلع ويستخدمها الملايين من البشر، بدون السينما والتليفزيون

المحـتــوي

من الصعب أن نتخيل العالم بدون وسائل المواصلات الحديثة، بدون الصناعات العديدة التي تنتج آلاف السلع ويستخدمها الملايين من البشر، بدون السينما والتليفزيون والكومبيوتر، وبدون الأجهزة الطبية والعقاقير، أو حتي بدون مطاعم الوجبات السريعة. لقد ساهمت «الكوربوريشن» في كل ذلك، وأكثر من ذلك بكثير. لقد ذهب البعض إلي القول بأن «الكوربوريشن» هي أهم اختراع في العصور الحديثة. هذا هو الوجه الوردي «للكوربوريشن»، ولكن كل ربح وراءه خسارة، وكل إنجاز يصحبه ضياع . الوجه الآخر «للكوربوريشن» هو موضوع هذا المقال. ما أعنيه «بالكوربوريشن» هو الشركات الكبري التي لها أسهم تُتداول في بورصة الأوراق المالية وتخضع لقوانين معقدة. هناك أنواع أخري كثيرة من «الكوربوريشن» ولكن هذا لا يعنينا في هذا المقال. بعض هذه «الكوربوريشن» لديها ميزانيات وتأثير أكبر من الكثير من دول العالم. العديد من هذه الشركات تدير أعمالاً وتملك شركات أخري في عديد من بلاد العالم، وهذا يختلف عن العولمة والتي تعني أساسًا تسهيل عمل تلك «الكوربوريشن» في العالم وإسقاط الحواجز المعيقة لذلك. مسئولية أصحاب «الكوربوريشن» أو مديريها تجاه الشركة مسئولية محدودة، فمثلاً قد تُفلِس الشركة لسبب أو لآخر، ولكن الأملاك الخاصة لأصحابها أو المسئولين عنها لا تُمَس. في هذا المقال سأستخدم «الكوربوريشن» أو «الشركة» ليؤديا نفس المعني، رغم ما في ذلك من تجاوز. لقد أصبحت تلك الشركات تتحكم فيما نأكل ونشرب ونلبس، ما نقرأ من أخبار، ما نشاهد علي شاشات التليفزيون وفي السينما، وباختصار أصبحت تلك الشركات تؤثر في العديد من أنشطة الإنسان في كل مكان. ولم يكن ذلك التأثير كله جيدًا، بل إن العديد منه لم يكن ضرورياً، بل حتي إن بعضه ذو أضرار جسيمة . لقد خلق البعض هذه «الكوربوريشن». لويس برانديس Lewis Brandis سنة 1933 وهو أحد قُضاة المحكمة الدستورية العليا بأمريكا شبَّه «الكوربوريشن» بالوحش «فرانكشتين» الذي خلقه أحد العلماء وانتهي الأمر بالمخلوق إلي قتل خالقه . لقد خُلِقَت «الكوربوريشن» الحديثة في أحضان النظام الرأسمالي والصناعي منذ حوالي 150 سنة وتحولت بمرور الزمن - رغم العديد من منافعها- إلي وحش يدمر البيئة ويستنزف العديد من الموارد الطبيعية ويكاثِر العديد من الأمراض المستعصية ويزيد من ثراء قلة ومن فقر الكثيرين. هذا ما كان عناه «لويس برانديس» سنة 1933، أما الآن فالوضع قد يكون أسوأ - وإن أصبح هناك دراية أكثر بما يحدث - وهناك اتجاه لتحسين مسار ذلك «الوحش» وترويضه ليخدِم دون أن يسْتَخدِم. في هذا المقال سنستعرض كيف بدأت هذه الشركات، كيف استخدمت النظام الديمقراطي لصالحها لتحقيق الربح وغالبًا دون سواه، بعض الأضرار التي سببتها تلك الشركات، كيف حاربها البعض بغرض ترويضها، ما هو دور تلك الشركات في الدول الفقيرة، كيف أثَّرَت الكوربوريشن علي الإعلام، وأخيرًا كيف أثَّرَت الكوربوريشن علي الاقتصاد . تنشأ «الكوربوريشن» نتيجة عقد بين مجموعة أشخاص وبين الحكومة لمزاولة أعمال معينة في حدود معينة وتخضع لأحكام الحكومة. أُنشِئت «الكوربوريشن» في القرن الثامن عشر لأجل المنفعة العامة مثل إقامة الطرق والكباري وشق القنوات ولم تنشأ لغرض الربح . بدأ الترخيص «للكوربوريشن» التي تعمل بغرض الربح بعد ذلك. مشاريع إنشاء وتشغيل السكك الحديدية في إنجلترا وأمريكا في منتصف القرن التاسع عشر كانت من أوائل «الكوربوريشن» التي أُنشِئَت بغرض الربح. كانت السكك الحديدية تخضع لأحكام الحكومة فيما تتقاضاه نظير خدماتها، ولم يكن ذلك محل رضا أصحابها رغم ما كانت تحققه من أرباح. بدأ أصحاب السكك الحديدية يلجئون للقضاء للتحرر من قيود الحكومة. وقد قال «توماس جيفرسون» أحد واضعي الدستور ورئيس أمريكا : «أتمني أن تُسحق هذه «الكوربوريشن» أثناء ولادتها. إنها تتحدي قانون الدولة». بعد الحرب الأهلية لتحرير العبيد في منتصف القرن التاسع عشر، والتي لم تكن بعض الولايات راضية عنها، أُضيف بندٌ للدستور الأمريكي ليكفل حقوق الإنسان المقصود هنا بإشارة حقوق الإنسان أي العبيد المحررين، البند المضاف هو البند رقم 14 بذلك يمنع تشريع أي قانون يحد من حرية الإنسان والتي أصبح يكفلها الدستور للجميع. حتي ذلك الوقت كانت صفة «الكوربوريشن» القانونية صفة غير شخصية - وإن كان لها كيانٌ قانوني. استغل المحامون الإضافة رقم 14 وطالبوا أن تحصل «الكوربوريشن» علي الصفة الشخصية الاعتبارية، حيث إنها تبيع وتشتري وتدفع ضرائب كأي إنسان. خلال سنين قليلة تمكنوا من تحقيق بعض من ذلك، بذلك تمكنت السكك الحديدية مثلاً من أن تتقاضي ما تراه مناسبًا نظير خدماتها دون أية مضايقة من مُشرِّعي الولايات. استغل الإضافة رقم 14 في أوائل عهدها 1890-1910 19 من السود و288 من الشركات الكبري. ما زالت الصفة الشخصية «للكوربوريشن» محل نقاش وعرض علي القضاء، حيث إنه إذا كان «للكوربوريشن» صفة شخصية فهل يعطيها هذا الحق في أن تدفع الملايين للمرشح الذي تريده أو بالأحري الذي تشتريه؟ وإذا كان لها صفة شخصية لماذا لا يفلس أصحابها أو المسئولون عنها إذا أفلست الشركة كما يحدث للأشخاص؟ سنة 1907 منع الكونجرس «الكوربوريشن» من تمويل الحملات الانتخابية؛ إلا إنه كانت هناك ــ ولا تزال ــ طرق كثيرة للتلاعب بذلك. ورغم إعطاء الصفة الشخصية الأعتبارية «للكوربوريشن» فمازال من حق الولاية أن تلغي قرار إنشاء «الكوربوريشن» أو أن تحولها للمحكمة أو أن تحوِّلها لقطاع عام، أحيانًا يحدث ذلك، ولكن غالبًا مع الشركات الصغيرة والتي ترتكب مخالفات قانونية جسيمة. كبرت الشركات وترعرعت وطرحت الأسهم في الأسواق وساهم فيها الكثير من صغار المستثمرين ومتوسطو الدخل. أصبح «للكوربوريشن» الكثير من النفوذ السياسي وأزاحت عن طريقها بعض المشاكل وجعلت آخرين - أو العالم أجمع - يتولونها! مثل تلوث البيئة وانتشار أمراض السرطان وأمراض ضعف المناعة وأشياء أخري من هذا القبيل، فالهدف الأول - والأخير في أحيان كثيرة - كان - وغالبا لايزال - هو الربح المادي. وحيث إن الهدف الأول لتلك الشركات هو تحقيق الربح،

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions