« ســــيرة في كتــــــــــــاب » نيكــولا ســاركوزي...مشـاهد الحـرب والحـب! يونية 2007

داليا توفيق سعودى

ديسمبر 1948. في ليلة ظلماء من شتاء قارس البرودة، أمام بوابة محطة المترو بساحة «ليتوال»، في عاصمة فرنسية مصت دماءها الحرب وتدفقت إليها أسراب المهاجرين

المحـتــوي

ديسمبر 1948. في ليلة ظلماء من شتاء قارس البرودة، أمام بوابة محطة المترو بساحة «ليتوال»، في عاصمة فرنسية مصت دماءها الحرب وتدفقت إليها أسراب المهاجرين من أوروبا الشرقية، وقف فتي عشريني طويل القامة، لافت الوسامة، قد بدت عليه مخايل الذلة بعد العز. ورغم ثيابه الخفيفة الرثة، ورأسه الحليق كالأيتام، ووحدته بلا عدّة أو مأوي أو ظهير، بدا الفتي مستبشراً كالقادم لتوه من الأعراف إلي الجنة. فلو لم يكن قد فر من المجر لربما كان الآن مجنداً في صفوف الجيش الأحمر، أو محتجزاً في جولاج كئيب في أقاصي سيبيريا. لكن ها هي فرنسا تستقبله، ولا يهم بعد برودة الاستقبال أو وحشة اللقاء. فالعبرة بقابل الأيام، وهو علي يقين من إصابة النجاح، كل النجاح. فقط لو كان بوسعه الإفلات من هذا الصقيع! ففي ذلك اليوم البعيد، كان بال ساركوزي نجيبوكساي يقف حافي القدمين... وحول بنصره، التمع خاتم ذهبي يحمل شعار النبلاء المنحدرين من أسرة ساركوزي المجرية العريقة، ذلك الشعار الذي يحمل صورة ذئب يقف منتصب القامة كأنه إنسان، شاهراً سيفاً في يده اليمني بينما خرج لسانه الطويل من بين أسنان حداد. مايو2007 . تري هل جالت تلك الذكري البعيدة بخاطر الأب وهو يحتفل بوصول ابنه نيكولا ساركوزي إلي قصر الاليزيه؟ يتشابه الأب والابن في كثير من الصفات: نفس الجبهة العريضة، والطموح الجامح، واحتداد الحواس.لكن نيكولا كان، من بين إخوته، الأكثر رفضا للأب الغائب، والأكثر عنفا في ثأريته، والأقل موهبة في التحصيل الدراسي. تنتمي أسرة الأب إلي سهول المجر، ويمتد تاريخها في الماضي إلي القرن السابع عشر. وهم في الأصل من أهل الريف البروتستانت، وقد ترقوا إلي مكانة النبلاء بعد أن أنعم بها الملك فرديناند الثاني علي الجد الأكبر للأسرة «ميهالي ساركوزي» لاستبساله في قتال الأتراك علي مشارف فيينا في 1628.فليس من المستغرب إذن اليوم أن يستقتل الحفيد نيكولا في رفض انضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي. وكثيرا ما يحكي بال ساركوزي عن حياته في قصر والده جيورجي، والأراضي الشاسعة التي كانوا يمتلكونها، وجيش الخدم الذي كان يعمل علي راحتهم، وعازفي الكمان الذين كانوا يحيون أوقاتهم وهم جالسون إلي مائدة الطعام. لكن تلك الذكريات البعيدة تبدو وكأنها مكتوبة بمداد الخيال علي أوراق الريح. والثابت في سجلات العائلة أن جيورجي ساركوزي الذي تقلد منصب عمدة «سزولنوك»، وهو في الثلاثين من عمره، قد أثبت كفاءة عالية في النهوض بالمدينة، وفي تحديث مرافقها.لكن الثابت أيضا أنه قد أدين في قضية «قروض سبيير» التي شكلت فضيحة محلية شهيرة في نهاية الثلاثينيات، وتضمنت تفاصيلها انتهاكات واختلاسات وفسادا ورشاوي. وبعد إقالته من منصبه، عمل جيورجي مدير إدارة في مصنع للنسيج علي أطراف بودابست. ومع تصاعد طموحات الرايخ الثالث بألمانيا الهتلرية، قرر ديكتاتور المجر ميكلوس أورتي التعاون مع النظام النازي، بإرسال قوات عسكرية في الحرب علي الاتحاد السوفيتي. ومن أسرة ساركوزي، كان بال، هو الوحيد الذي لم يتم تجنيده، فلقد كان لم يبلغ بعد السن القانونية، أما أخو اه أعمام نيكولا فلقد حاربا في سلاح الخيالة، جنبا إلي جنب مع الجنود الألمان، تحت اللواء الأحمر ذي الصليب المعقوف. وبعد اجتياح الجيش السوفيتي لبودابست في فبراير 1945، واستيلاء الشيوعيين علي الحكم، وتأميم الأراضي والممتلكات، يتوفي جيورجي ساركوزي، ويتم تهريب الابن، بال، إلي النمسا، ومنها يتجه إلي فرنسا، في رحلة عذاب مضنية، ليصل إلي باريس في تلك الليلة الباردة من ديسمبر 1948. لا يملك إلا خاتم نسبه الأرستقراطي، الذي يحمل شعار الذئب، بعد أن باع في الطريق كل شيء، كل شيء، حتي حذاءه... وفي باريس، راح المهاجرون المجريون يتكاتفون. فما إن يصل لاجئ جديد حتي يقدموا له المأكل والملبس، ويساعدوه في التحصل علي عمل. وبعد أن مل بال عمله الأول في توصيل البضائع، عمل رساما للبورتريهات، فلقد كان يجيد الرسم. وكان الشاب يتمتع بجرأة كبيرة، وسحر يتحدث عنه كل كتبة سيرة نيكولا ساركوزي بإسهاب ممل. وكانت له تطلعات وآمال لا حدود لها، في عوالم المال والشهرة والنساء . وبعد عام واحد من وصوله إلي باريس، تزوج بال ساركوزي من فتاة صغيرة، حلوة، كان مقدراً لها أن تفتح باب بيتهم حين أتي طالبا وساطة أختها لكي يحصل علي وظيفة مدرس رسم. وكانت أندريه ـ العروس ــ ابنة الطبيب الفرنسي ذي الأصول الإسبانية اليهودية، الدكتور بندكت مالاه، تحلم بدراسة القانون وممارسة المحاماة. لكن العريس الشاب رفض الفكرة وفرض شرط بقاء العروس بالبيت. ويوم الزفاف كانت هديته لها ثلاثمائة عام من تاريخ أسرة ساركوزي العريقة، وخاتم نسبه الأرستقراطي، الذي يحمل شعار الذئب. ولقد أسفرت الزيجة عن ثلاثة صبية هم جيوم 8سنوات، ونيكولا 5 سنوات، وفرانسوا رضيع. تلك كانت أعمارهم يوم صفق أبوهم باب البيت وراءه وتركهم بعد أن اتفق مع أمهم علي الطلاق عام1960، لكي يتزوج من ابنة السفير المجري. وعلي الفور، تعود أندريه إلي دراستها، وتحصل علي شهادة كلية الحقوق. وفي الوقت نفسه، راحت تجتهد في تربية الأولاد، تحت حمي الجد الدكتور بندكت مالاه. من بين الأبناء الثلاثة، نيكولا هو الأكثر شعورا بالوحدة، والأكثر تأثرا من جراء هجران الأب، وهو أيضا الأكثر عنفا وشراسة .كان كثير العراك مع أخيه الأكبر.و بالرغم من أن نيكولا كان الأقصر ــ فهو أقصر بكثير من جيوم أخيه الأكبر ــ فإنه كان الأكثر ضراوة وتوحشا. يصف سيرج دانلو، صديق نيكولا، معارك الطفولة بين الأخوين، قائلا: «من بين الاثنين، كان نيكولا هو الأشد خطرا.فلم يكن يتردد في الوثوب علي ظهر أخيه، ليمسك بخناقه، ويظل يضغط بساعده علي رقبة جيوم، حتي يحمر وجهه، ويطوح بقبضتيه في الهواء حتي يتخلص من نيكولا». Nivelle et Karlin, p 134. ولقد استخدم نيكولا ذراعه بطريقة أخري في موضع أخر. كان ذلك أمام محكمة الأسرة، بعد أن ادعي والده، الذي كان قد حقق ثروة طائلة في عالم الدعاية والإعلان، أنه لا يسعه تقديم أية نفقة لمطلقته وأولاده.فلما رفضت المحكمة الدعوي، جن جنون الصغير وانقض علي أبيه فأمسك

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions