ابتــداع حـــركة الفن الفلسطينى ما بين الحداثة والمعاصرة يونية 2009

عــادلة العـايدى هنـيّة

تعد الكتابة عن الفن الفلسطينى بمثابة مهمة معقدة، نظرا لكون التأريخ له يعكس ملامح التشتت والتقطع التى وَصمت المجتمع الفلسطينى منذ وقوع النكبة عام 1948.



المحـتــوي

تعد الكتابة عن الفن الفلسطينى بمثابة مهمة معقدة، نظرا لكون التأريخ له يعكس ملامح التشتت والتقطع التى وَصمت المجتمع الفلسطينى منذ وقوع النكبة عام 1948.
وعليه، فإن عدد المطبوعات التى تناولت ذلك الموضوع ظل محدودا(1) وخاضعا لتباين التصورات التى تمليها المواقف السياسية الخاصة بمؤلفى تلك المطبوعات. فابتداءً بتخلق جوهر الممارسة الفنية الفلسطيني- تلك الخصوصية التى طال إنكارها شأن سائر أبعاد تلك الهوية السياسية التى انزوت لصالح هوية عربية مجردة- وارتباط ذلك الجوهر بتصوير المعاناة وآثار الاستلاب؛ وانتهاءً باكتمال ذلك المنحي، تلخصت تلك الممارسة فى الالتزام السياسى بل الثوري. وفى المقابل، قد تصور تلك الممارسة الفنية ذلك الطابع الهجين المميز لتيار ما بعد الكولونيالية، أو يمكن مقارنتها بمثيلتها لدى الأقليات الاجتماعية والعرقية داخل إسرائيل: كيهود السفرديم، والمهاجرين الجدد، والنساء، الخ.
غير أن الغالب على هذا التوثيق التاريخى هو الاعتماد على الأبحاث الرائدة للفنان كمال بلاطة(2)، الذى يعود إليه فضل الكشف عن الأثر الأساسى الذى تركه فنانو الأيقونات المقدِسيُّون على رواد فن التصوير قبل عام 1948، بالإضافة إلى فضله فى القول بأن التجربة البصرية إنما تتحدد بمقدار القرب من فلسطين، بمعنى تميُّز الفنانين القاطنين فيها وفى البلدان المتاخمة لها بنزعة تصويرية، بينما يتميز فنانو الشتات بميل إلى التجريد أو الى انتهاج ممارسة تصورية، تهدف إلى «حث الخطي» لاجتياز المسافة إلى فلسطين.
فى ميدان التصوير الفوتوغرافي، كشفت الدراسات الأخيرة للمؤرخ عصام نصّار(3) عما قام به المصورون من عمل ضخم فى مطلع القرن العشرين من أجل خلق لغة بصرية وطنية تخاطب الجمهور المحلي، بعيدا عن تلك الصور التى كان يلتقطها المصورون الأوروبيون الرحّل، الذين كانوا يسعون من خلالها الى إبراز مشاهد توراتية أو سياحية بقصد اجتذاب الجمهور الغربي.
كان جبرا إبراهيم جبرا، وهو واحد من أهم وجوه الحياة الأدبية العربية، قد بدأ حياته المهنية كرسام فى القدس، لكنه ارتحل الى العراق بعد النكبة. وهناك نشر رواياته عن القدس، وترجم أعمال شكسبير، وأسهم فى تشكيل الساحة الفنية العراقية المعاصرة، التى كانت واحدة من أكثر الساحات تأثيرا فى العالم العربي. كما نشر جبرا العديد من الدراسات حول الفن العربى فضلا عن كتاباته النقدية عن أعمال الفنانين الفلسطينيين فى الشتات(4)، وهو ما شكّل قاعدة تنظيرية ونقدية لا غنى عنها للبحاثة، بما تصوغه من رؤية للفن العربى بصفته فن عصرى وإنسانى وكوني.
هذا وقد صدرت عدة مؤلفات فى مناسبات متفرقة لمواكبة عدد غير مسبوق من المعارض الدولية المخصصة للفن الفلسطيني(5)، التى راحت تقام بانتظام منذ إبرام اتفاقات السلام عام 1993، والتى أضفت على الفلسطينيين صورة جديدة أكثر إيجابية. فضلا عن ذلك، تمت دعوة العديد من الفنانين الفلسطينيين بصفة شخصية للمشاركة فى التظاهرات الثقافية الكبرى على الصعيد الدولي. ويُستنبط من تلك المؤلفات اتجاهان متباينان: أولهما يسعى لإبراز المظالم الواقعة على الفلسطينيين، والثانى يركز على السمات الإنسانية المشتركة مع جمهور تلك المعارض، من خلال اختيار أعمال تصور الحياة اليومية الفلسطينية.
إن هذه الدراسة - على اقتضابها- تقرأ الممارسة البصرية الفلسطينية بصفتها عملية تــَحقُّقٍ باعثٍ للتحرر وعالمى الطابع، وهى ممارسة مدرجة فى واقع سياقات فكرية محلية وما بعد كولونيالية. الأمر الذى يعيد التبصُّر فى ملاحظات إدوارد سعيد(6) بشأن ضرورة قراءة الممارسات السردية الوطنية بصورة معاكسة للأنساق المحلية، وعلى ضوء نزعة إنسانية.
وهو ما يعنى تتبع مسارٍ من الممارسات التى وُلدت على أثر التلاقى مع الغرب ومواجهته فى آن، بصفته قوة استعمارية وثقافة مغايرة. وينفتح المسار على خلفية من الممارسات البصرية المكونة من إرث من الفنون الحضرية والفولكلورية، وهو ما أعقبه عودة الفنانين المحليين لاعتماد الأسلوب التصويرى الغربي، وتطويع مختلف التيارات الفنية الحديثة، وإبداء ردود الأفعال الناتجة عن تطوير التيارات الفنية البدائية، أو عن تحديث الممارسات الفنية ماقبل الكولونيالية، ليفضى المسار على الحقبة المعاصرة التى تهجر الصياغات الجمالية التى ابتدعها الأسلاف الحداثيون، لصالح تَبـَنٍ حماسى للعتاد الفنى الذى يفرضه تيار ما بعد الحداثة، بكل ممارساته التصورية، المكتفية بالحد الأدنى من التفاصيل، والمتعددة فى وسائطها التعبيرية.
وتبقى الخصوصية الفلسطينية كركيزة تنبنى عليها جميع تلك الممارسات، عن طريق تجذَر الإبداع الفنى فيما سماه ميشيل فوكو ممارسةَ

حرية تحكمها استثنائيةُ حالة استعمارية منطوية على مغالطة تاريخية.

 

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions