ســــــراب الديمقراطيــــــة.. أغسطس 2006

سلامة أحمد سلامة

مثل الرمال المتحركة في الصحراء، تتغير ملامح الخريطة السياسية للتحول الديمقراطي في المنطقة العربية بين وقت وآخر. فما بدا في لحظة طريقًا سالكًا ممهدًا أمام

المحـتــوي

مثل الرمال المتحركة في الصحراء، تتغير ملامح الخريطة السياسية للتحول الديمقراطي في المنطقة العربية بين وقت وآخر. فما بدا في لحظة طريقًا سالكًا ممهدًا أمام تقدم العملية الديمقراطية، إذا به يصل إلي حائط مسدود. وما بدا بعيدًا عن مجال الحركة أو غارقًا في الصمت إذا به ينتفض مستيقظًا إلي ما لم يكن أحد يتوقعه أو يتنبأ به. إذ لا يوجد في العالم العربي معيار للتقدم الديمقراطي يمكن الركون إليه. كما أن قوة الدفع تختلف من بلد عربي إلي آخر. وفي أحيان كثيرة تأتي في صورة نقلات مفاجئة من الحركة إلي السكون أو من السكون إلي الحركة تحت ضغط عوامل كثيرة ولأسباب يصعب تحديدها. وعلي اتساع المنطقة العربية لا تكاد تلحظ تغيرات إقليمية تنبئ بانفتاح حقيقي علي طريق الإصلاح. وباستثناء يقظة مباغتة في الأطراف دون المركز ــ في موريتانيا والكويت ــ فقد تراجعت التحولات السياسية أو أبطأت وانتهت إلي حالة من الجمود والمراوحة في المكان علي أحسن تقدير. وفي شهور الصيف الحارقة، تبدو الحاجة طبيعية تحت ضغط الخمول والاسترخاء، لإعادة النظر فيما تحقق وما لم يتحقق.. فعلي الرغم من مضي أكثر من عام تقريبًا علي تعديل المادة 76 من الدستور المصري، التي أثارت لغطًا كبيرًا وجدلاً واسعًا، إلا أنها لم تفض في النهاية إلي ما أيقظته في وجدان الشعب المصري من توقعات وآمال حول تداول السلطة، وما كان ينتظر أن ترتبط به من وضع نظام ديمقراطي لإحداث تغيير طبيعي في منصب الرياسة بالاختيار الحر المباشر بين أكثر من مرشح، وبما يضمن انتقالاً طبيعيا للسلطة، ويستجيب لمنطق التغيير وليس لمنطق التوريث. ثم ما أعقبها من انتخابات تشريعية شهدت من الانتهاكات في مراحلها الثلاث بقدر ما شهدت من مفاجآت أصابت الحزب الحاكم بصدمة لم يفق منها، بعد فوز الإخوان المسلمين بعدد كبير من المقاعد. وعلي مدي الشهور الأخيرة من انعقاد الدورة التشريعية تبخرت كثير من الوعود التي بذلت أثناء ما اعتبره البعض «ربيعًا للديمقراطية»، إذ جري تأجيل الانتخابات المحلية بحجة الإعداد لإصدار قانون جديد، كما تم تمديد العمل بقانون الطوارئ عامين آخرين. وفي هذه الأثناء لم تنجز حكومة الحزب الوطني من برنامجها غير اليسير من القوانين التي وعدت بها. واستخدمت أساليب أمنية اتسمت بالقسوة والعنف لردع حركات الاحتجاج الشعبي وما اعتبر بمثابة تجاوزات غير مقبولة من الصحافة، فأحيل عدد من الصحفيين إلي المحاكمة. وجري تمرير قانون السلطة القضائية بعد مناورات ومصادمات حادة مع القضاة، لم تستجب فيه الدولة لمطالبهم التي رأوا فيها تعزيزًا لاستقلاليتهم وحماية لهم من الوقوع تحت شبهة التواطؤ في تزوير الانتخابات، أو الخضوع لرغبات السلطة التنفيذية وأهوائها. ولئن بدا أن معركة القضاة لم تحسم بالطريقة التي ترضيهم، فقد كانت معركة إلغاء عقوبة الحبس في قضايا النشر واستبدال الغرامة والتعويض المالي بها أسرع حسمًا. حيث غلظت عقوبة الغرامة في عدد كبير من المواد، وتدخل الرئيس مبارك شخصيا بحكم سلطاته الواسعة، لإلغاء عقوبة الحبس في جرائم الطعن في الذمة المالية للأشخاص العامة والنيابية، بهدف إبعاد شبهة الفساد عن بعض الشخصيات البارزة في الحزب الحاكم، وكانت هذه المادة بالذات من أكثر المواد التي أغضبت الصحفيين وألجأت عددًا من الصحف الحزبية والمستقلة إلي الاحتجاب احتجاجًا علي التشدد التشريعي الذي لم يعد له مبرر مقارنة بالديمقراطيات الغربية والذي أبقي مع ذلك علي عقوبة الحبس في عدد لا بأس به من المواد. ومن الواضح أن التساهل النسبي الذي أبداه النظام مع الصحفيين، جاء ليعوض عن التشدد مع القضاة. إذ يبدو أن الثمن السياسي لو استجيب لكل مطالب القضاة كان سيكون أفدح كثيرًا وأبعد مدي في ضبط العملية السياسية علي غير هوي الحزب الحاكم. فضلاً عن أن وسائل إغراء الصحفيين واستدراجهم والتأثير عليهم ليست بالأمر العسير، ولها سوابق وممارسات معروفة في ظل القوانين المفروضة علي ملكية وإصدار الصحف وما تم الإبقاء عليه في قانون العقوبات. أما تغيير الدستور أو تعديله ليتلاءم مع مقتضيات التطور الديمقراطي، فمازالت النخبة الحاكمة عاجزة عن انتهاج سياسة واضحة المعالم، تتهيأ من خلالها مشاركة شعبية وحزبية واسعة النطاق لإدخال إصلاحات دستورية جوهرية تستجيب لمطالب كل القوي السياسية، ولا تجمد عند حدود العمل علي البقاء في السلطة، والانغماس في سيناريوهات الخلافة، والجمود علي الموجود خوفًا من شبح غياب الرئيس مبارك، ومن تزايد نفوذ التيارات الإسلامية، ووهن الأحزاب السياسية المعارضة وغيابها المشهود عن الشارع. وهناك شواهد تدل علي أن الجانب الأكبر من التعديلات الدستورية والقوانين المكملة في نظام الانتخاب، سوف تنصب علي إبقاء قوي سياسية بعينها محجوبة عن الشرعية، وهي القوي الإسلامية علي وجه التحديد. لم تختلف الاستجابة في سائر دول المنطقة كثيرًا عما يجري في مصر.. ربما اختلفت السيناريوهات في هذا البلد أو ذاك، ولكنها استهدفت في النهاية إبقاء الأوضاع علي ما هي عليه وإن كان ثمة تغييرات فبأقل ثمن سياسي ممكن.. ففي الجزائر تم تعديل الدستور ليضمن بوتفليقة إعادة انتخابه خمس سنوات أخري وفي تونس ومصر سعي القائمون علي رأس السلطة إلي إعادة انتخابهم بطرق مرسومة يمكن ضبط نتائجها، تتخذ في الظاهر شكل التعددية ولكنها تنتهي في نتائجها إلي إعادة انتخاب نفس الرئيس السابق. وربما كانت قصة الانتخابات الرياسية في اليمن هي أحدث طبعة في ملف الإصلاح الديمقراطي علي الطريقة العربية.. فقبل نحو عامين خرج الرئيس اليمني علي عبدالله صالح يطالب رفاقه من الزعماء العرب بأن يطرقوا باب الإصلاح، وإلا فإنهم يخاطرون بأن تجرفهم موجة الديمقراطية أمامها. وقال لهم قولته الشهيرة: «احلقوا رءوسكم الآن، وإلا جاء من يحلقها لكم». ولكي يثبت الأقوال بالأفعال، بادر إلي إعلان عزمه علي عدم ترشيح نفسه بعد نهاية مدة ولايته الحالية التي استمرت 28 عامًا. ولكن الذين يعرفون العالم العربي علي حقيقته لم يفاجأوا حين جاء موعد فتح باب الترشيح لمنصب الرياسة، ليعلن الرئيس علي عبدالله صالح أنه عدل

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions