رسـالة الدنيا وقصـائد الإرادة ..أبو القاسم الشـّابي يونية 2009

حسونة المصباحي

يقول الكاتب الفرنسـى جان جيرودو بأن الاحتفال بمئوية رجل عظيم يمكن اعتبـاره احتفـالا بواحدة مـن ولاداتنا. والاحتفال بمـرور مائة عـام على ميلاد شـاعرنا الأكبر أبى القاسـم الشابى هو فى حقيقة الأمر احتفال بولادات متعـددة. أوّلها ولادة الشـعر فى تونس. فقبل الشابي، لم يكن هناك شعر فى تونس بالمعنى الحقيقـى والعميق للكلمة. وكان الذين يسمون أنفسهم «شعراء» أو تطلق عليهم هذه الصفة، يبرزون غالب الأحيان فى المناسبات العامة، دينية كانت أم غير دينية. أما فى ما عدا ذلك فهم غائبون.



المحـتــوي

يقول الكاتب الفرنسـى جان جيرودو بأن الاحتفال بمئوية رجل عظيم يمكن اعتبـاره احتفـالا بواحدة مـن ولاداتنا. والاحتفال بمـرور مائة عـام على ميلاد شـاعرنا الأكبر أبى القاسـم الشابى هو فى حقيقة الأمر احتفال بولادات متعـددة. أوّلها ولادة الشـعر فى تونس. فقبل الشابي، لم يكن هناك شعر فى تونس بالمعنى الحقيقـى والعميق للكلمة. وكان الذين يسمون أنفسهم «شعراء» أو تطلق عليهم هذه الصفة، يبرزون غالب الأحيان فى المناسبات العامة، دينية كانت أم غير دينية. أما فى ما عدا ذلك فهم غائبون. ونحن لا نستشف فى جل ما كانوا يكتبونه أو ينشـدونه، ما يمكن أن يعكس أوضاعهم النفسية ولا أوضاع ومشاغل مجتمعهم. كما لا نجد فيه وصفا للطبيعة، أو للحالات الإنسـانية والاجتماعية، ولا تحضر فيه تلك الأغراض التى انشـغل بها الشـابى بشكل خارق لم يسبق له مثيل فى بلادنا. ففى جـل قصائد صاحب «أغانى الحياة» تحضر نفس الشاعر فى جميع تجلياتها، وتحضـر تونـس بواحاتهـا، وجبالها، ووديانهـا وغاباتها وآلامهـا، ونكباتها. ونحن لا نجد بين الذين سـبقوا الشابي، أو عاصروه أو حتى عند الذين جاءوا من بعده، شـاعرا تغنى بتونس مثلما تغنى بها هـو. فقد كانت تسـكنه مثل الجمرة الملتهبة. ومتمثلا بـين مختلف مناطقها منذ سـنوات الطفولة الأولي، كان يختزن مشاهدها فى ذاكرته ليعيد تشكيلها فيما بعد فى أشـعاره بشـكل آسـر، ففى سن السادسـة عشـرة، كتب قصيدته البديعة «تونس الجميلة» والتى فيها يقول:
أنـا يا تونس الجميلة فـى لجّ
الهوى قد سبحت أى سباحه
شرعتى حبك العميق وإني
قد تذوّقـت مـره وقراحـه
لست أنصـاع للواحى ولو مت
قامت على شـبابى المناحه
لا أبالـي.. وإن أريقـت دمائـي
فدماء العشاق دوما مباحه
ومع الشـابى ولد الشـاعر، «المنفرد بنفسه» بحسـب تعبير جان جاك روسو. ذلك الشـاعر الذى انطلق من ذاته، يكتب قصائـده فى مختلف الأغـراض من دون أن يكـون خاضعا لأى سـلطة، مهما كان نوعها، ومهما كانت سطوتها. هدفـه الوحيد هو إرضاء نفسـه. لذا هو لا يسـتجيب إلا لمطامحه الأدبية تلك التى تسمو بالكلمة عاليا، وتبيح للخيال أن يحلق بعيدا، غير عابئ بقوى الظلام التى تريد حبسه، وتكبيله، وتدمير قدراته الإبداعية الفذة. وفى جميع رسـائله إلى صديقـه محمـد الحليوى نجد الشـابى حانقا على أولئك الذين لا يحترمون «ذات الشـاعر» ولا «روح الشـعر» ويتحولـون إلـى مدّاحين يتذللون لأصحاب السـلطة والنفـوذ. وهو يصف هـؤلاء بـ«الأصنام الخشبية» الذين «يعقلون فى الشعب روح الحياة» ولا يعرفون كيف يعلمونه «محبة الحق والقوة والجمال».
ومثل كل الشـعراء الكبـار، كان أبو القاسـم الشـابى «يحتفى بذاتـه» لأنها رفيقتـه الوحيدة فـى الملمـات. وعندما تشـتد عليه الخطوب، ويشعر أن صوته لا يصـل إلـى أولئك الذين يرغب فى أن يفتح أعينهم علـى «الجمال» وعلى «نور الحياة»، هـو يوجه شـكواه إلـى ذاته الملتاعة المعذبة، قائلا:
شـرّدت عن وطنـى السـماوى الذي
ما كان يوما واجما، مغموما
شـرّدت عـن وطنـى الجميل... أنا
الشقي، فعشت مشطور الفؤاد، يتيما
فـى غربـة روحية ملعونـة
أشواقها تقضى عطاشا، هيما
يا غربة الـروح المفكر! إنه
فى الناس يحيا سائحا مسؤوما
وفى قصيدة أخري، يقول الشـابى متمنيا أن يرى فى الأفق بصيص أمل:
يا ليت شـعري! هل لليل النفس من صبح قريب؟
فتقـر عاصفة الظـلام ويهجع الرعد الغضوب
ويرتل الانسان أغنية مع الدنيا، طروب.

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions